كتاب الطهارة التقريرات

اشارة

سرشناسه : خميني، روح الله، رهبر انقلاب و بنيانگذار جمهوري اسلامي ايران، 1368 - 1279

عنوان و نام پديدآور : كتاب الطهاره/ تاليف الامام الخميني

مشخصات نشر : تهران: موسسه تنظيم و نشر آثار الامام الخميني(س)، 1380.

مشخصات ظاهري : ج 4

شابك : 964-335-460-1(دوره) ؛ 964-335-485-x(ج.1) ؛ 964-335-459-811000ريال:(ج.2) ؛ 964-335-380-x13000ريال:(ج.3) ؛ 964-335-381-811000ريال:(ج.4)

يادداشت : عربي

يادداشت : فهرستنويسي براساس اطلاعات فيپا.

يادداشت : كتابنامه

موضوع : طهارت

موضوع : فقه جعفري -- رساله عمليه

شناسه افزوده : موسسه تنظيم و نشر آثار امام خميني(س)

رده بندي كنگره : BP185/2/خ75ك2 1380

رده بندي ديويي : 297/342

شماره كتابشناسي ملي : م 80-2199

مقدمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّٰه رب العالمين و الصلاة و السلام على محمّد و آله الطاهرين. أمّا بعد، فإنّ من أهمّ وظائف مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) نشر أفكاره و آرائه الفقهية العلمية المدوّنة طيّ سنين حين تدريسه بقم المقدّسة و النجف الأشرف، و قد وفينا بتصحيح و طبع جميع مؤلّفاته المكتوبة بقلمه الشريف من مباحث الطهارة و الصلاة و المكاسب المحرّمة و البيع و غيرها من الكتب الفتوائية و الاستدلالية.

و طبعنا أيضاً كتبه الأُصولية و الفلسفية و العرفانية و الأخلاقية كما قد طبع أثره القيّم في المسائل السياسية «صحيفة الإمام».

ثّم اعلم أنّ كتاب الطهارة هو أوّل ما دوّنه الإمام الراحل بأنامله الكريمة، و لكن من المؤسف له أنّ الإمام (قدّس سرّه) لم يكتب أوائل هذا الكتاب كمباحث المياه و الوضوء و الغسل الجنابة بقلمه الشريف، بل اكتفى بإلقائها على المحقّقين من تلامذته، فما كان منهم- حفظهم اللّٰه إلّا أن قيّدوه بالكتابة، حفظاً له من الضياع، و ضنّاً به عن الاندراس.

و من هذه التقريرات العالية في المتن و النظم- مع علوّ درجة المقرّر في

العلم هي تقريرات آية اللّٰه العظمى الشيخ محمد فاضل اللنكراني دامت بركاته في بحث المياه من كتاب الطهارة و هي من أوّل مباحث الطهارة على نسق كتاب «شرائع الإسلام» للمحقق الحلّي أبي القاسم جعفر بن الحسن (602 676) إلى أواخر بحث الوضوء تقريباً.

و نوعد الطلّاب و الفضلاء أن ننظّم إن شاء اللّٰه من سائر تقريرات الإمام كتاباً آخر يكمل به المباحث و يصير كتاب الطهارة كتاباً جامعاً كاملًا.

ثمّ من أهمّ خصائص هذا التقرير مضافاً إلى دقّة نظر مقرّرة و حسن تنظيمه و جودة عباراته عرضه على الإمام الخميني (قدّس سرّه) و نظره فيه كما يبدوا ذلك من تعليقة بخطّه الشريف في موضع من الكتاب «1».

منهج التحقيق

أمّا عملنا في تنظيم و نشر الكتاب، فهو:

1 تقطيع المتن و تزيينه بعلامات الترقيم المتعارفة.

2 إضافة عناوين بهدف تسهيل عملية مراجعة الكتاب و مطالعته، و نظراً لكثرة ما أضفناه من العناوين فقد جرّدناها من العضادتين [] و بهذا اختلطت عناوين المؤلّف مع عناويننا.

3 استخراج الآيات القرآنية مع الإشارة إلى مصادر الأحاديث الأصلية كالكتب الأربعة.

4 استخراج الأقوال و الآراء الفقهية و الأُصولية و اللغوية و الرجالية و التفسيرية و الحكمية و غيرها، على قدر ما عثرنا عليه منها؛ سواء منها الصريحة و غيرها.

و في الختام تتقدّم المؤسّسة بالشكر الجزيل و الثناء العاطر إلى كلّ الإخوة الفضلاء الذين ساهموا في تحقيق هذا الكتاب، راجيةً لهم التسديد و الموفّقية في خدمة ديننا الحنيف.

و آخر دعوانا أن الحمد للّٰه ربّ العالمين، و هو حسبنا و نعم الوكيل.

مؤسّسة تنظيم و نشر آثار الإمام الخميني (قدّس سرّه) فرع قم المقدّسة 29/ 1/ 1380

______________________________

(1) راجع الصفحة 164، الهامش 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 3

بسم

اللّٰه الرحمن الرحيم الحمد للّٰه ربّ العالمين، و الصلاة و السّلام علىٰ خير خلقه محمّد و علىٰ آله الطيّبين الطاهرين، و لعنة اللّٰه علىٰ أعدائهم أجمعين إلىٰ يوم الدين

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 5

كتاب الطهارة و المراد منه مجموع المباحث المناسبة مع الطهارة و إن لم تكن عرضاً ذاتيّاً لأفعال المكلّفين. فالبحث عن حكم المياه الذي هو أحد الأركان لهذا الكتاب كما سيجي ء يُعدّ من مسائل هذا الكتاب، مع عدم ارتباطه بفعل المكلّف إلّا بواسطة أو وسائط.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 7

في المياه

و فيها مسائل:

اشارة

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 9

المسألة الاولىٰ في تعريف الماء المطلق

و قد عرّفه المحقّق في «الشرائع» بأنّه عبارة عن كلّ ما يستحقّ إطلاق اسم الماء عليه من غير إضافة «1».

و لا يخفىٰ أنّ الإضافة علىٰ قسمين:

قسم يكون للمضاف إليه مدخليّة في حقيقة المضاف. و بعبارة اخرىٰ: يكون كالفصل له.

و قسم لا يكون كذلك، بل الإضافة إنّما هي لأجل تعلّق المضاف إليه بالمضاف ظرفاً، كماء الحمّام، و ماء النهر، و ماء البحر، و ماء الكوز.

و لا يخفىٰ دخول القسم الثاني في الماء المطلق؛ إذ كلّ ماءٍ له إضافة أو إضافات.

و يلحق بالمضاف ما يكون مركّباً من الماء و شي ء آخر، و لكن له اسم واحد من دون إضافة.

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 10

المسألة الثانية في أحكام الماء المطلق و أقسامه

الماء المطلق طاهرٌ مطهّر
اشارة

قال المحقّق في «الشرائع» «و كلّه طاهر مزيل للحدث و الخبث، و باعتبار وقوع النجاسة فيه ينقسم إلىٰ جارٍ و محقون و ماء بئر» «1».

و الأولى أن يقال: الماء إمّا جارٍ أو لم يكن كذلك، و غير الجاري إمّا يكون ماء بئر أو لا يكون كذلك؛ و ذلك لأنّ التقسيم إلى الثلاثة- كما في «الشرائع» لا يكون حاصراً لجميع الأقسام؛ لعدم شموله للماء القليل غير المحقون، كما هو واضح.

و المهمّ في المقام إثبات ما ادّعاه من القضيّة الكلّيّة و هي: أنّ كلّ ماء مطلقٍ طاهرٌ و مطهّر للحدث و الخبث؛ إذ لو ثبتت هذه القضية بنحو العموم، لوجب الرجوع إليها في موارد الشكّ في مطهّريّة ماءٍ أو في كيفيّة تطهيره، و هذه الموارد كثيرة، كما سيجي ء في ضمن المباحث الآتية.

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 11

الاستدلال بالكتاب علىٰ أنّ الماء طاهر مطهِّر

و كيف كان، فقد استُدلّ «1» لإثبات ذلك بالكتاب:

قال اللّٰه تعالىٰ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيٰاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنٰا مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً طَهُوراً لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمّٰا خَلَقْنٰا أَنْعٰاماً وَ أَنٰاسِيَّ كَثِيراً «2».

بتقريب: أنّ الطهور صيغة مبالغة من الطاهر، و حيث إنّ الطهارة في مقابل النجاسة غير قابلة للشدّة و الضعف، فلا محيص أن يكون المراد به المطهّريّة للأحداث و الخبائث، و هذا المعنىٰ بضميمة أنّ كلّ ماء فهو نازل من السماء، و أنّ مقام الامتنان يقتضي التعميم لكلّ ماء، يُثبت المطلوب، و هو أنّ كلّ ماءٍ مطلقٍ طاهرٌ و مطهِّر.

أقول: الطهارة في اللغة عبارة عن النظافة و النزاهة «3»؛ أي بحسب نظر العرف و العقلاء؛ من دون فرق بين أن يكون في نظر الشارع نجساً، أم لم يكن

كذلك.

و من الواضح أنّ المراد بالطهور الطهارة بهذا المعنى اللغوي، و هو قابل للشدّة و الضعف و الزيادة و النقصان، فيصحّ أن يقال: إنّ الماء النازل من السماء في غاية النظافة و شدّة النزاهة. و الوجه فيه: كونه مُزيلًا للخبائث و الأقذار، فهو الأصل في النظافة.

______________________________

(1) المعتبر 1: 37، الحدائق الناضرة 1: 172، جواهر الكلام 1: 62.

(2) الفرقان (25): 48 49.

(3) راجع الصحاح 2: 727، لسان العرب 8: 211، المصباح المنير: 379.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 12

و بالجملة: فمقتضى الآية الشريفة كون الماء نظيفاً في الغاية و هذا لا يدلّ علىٰ كونه طاهراً شرعاً، فضلًا عن كونه مطهِّراً لغيره، و لو سُلّم كون «الطَّهور» بمعنى الطاهر في نفسه المطهِّر لغيره- كما صرّح به بعض أهل اللغة «1» فلا تدلّ الآية أيضاً على المطلوب؛ إذ مقتضاها مطهِّريّة الماء النازل من السماء بنحو الإجمال، و لو سُلّم فمفادها التعميم لكلّ ماءٍ نازل من السماء، و لا دليل علىٰ كون جميع المياه نازلة من السماء.

و قد استُدلّ «2» له- أيضاً بقوله تعالىٰ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمٰاءِ مٰاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ «3».

و هذه الآية- علىٰ ما نُقل نزلت في وقعة بدر؛ و ذلك لأنّ الكفّار سبقوا المسلمين إلى الماء، فاضطُرّ المسلمون للنزول علىٰ تلّ من رملٍ سيّال لا تثبت به الأقدام، و أكثرهم خائفون لقلّتهم و كثرة الكفّار؛ لأنّ أصحاب النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) كانوا ثلاث مائة و ثلاثة عشر رجلًا، و معهم سبعون جَمَلًا يتعاقبون عليها، و فَرَسان إحداهما للزبير بن العوّام، و الأُخرى للمقداد بن الأسود، و كان المشركون ألفاً، و معهم أربع مائة فرس، و قيل: مائتان، فبات أصحاب النبيّ

(صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) تلك الليلة علىٰ غير ماءٍ، فاحتلم أكثرهم، فتمثّل لهم إبليس و قال: تزعمون أنّكم على الحقّ و أنتم تصلّون بالجنابة و علىٰ غير وضوء، و قد اشتدّ عطشكم، و لو كنتم على الحقّ ما سبقوكم إلى الماء، و إذا أضعفكم العطش قتلوكم كيف شاؤوا، فأنزل اللّٰه تعالىٰ عليهم المطر و زالت تلك العلل «4».

______________________________

(1) معجم مقاييس اللغة 3: 428، المصباح المنير: 379.

(2) منتهى المطلب 1: 4/ السطر 29، الحدائق الناضرة 1: 172، جواهر الكلام 1: 62.

(3) الأنفال (8): 11.

(4) مجمع البيان 4: 808 810، تفسير نور الثقلين 2: 127 128.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 13

و من ملاحظة مورد النزول، يظهر الجواب عن الاستدلال بالآية لتلك القضيّة الكلّيّة، مضافاً إلى اشتراكها مع الآية المتقدّمة في بعض الأجوبة. هذا مقتضى الكتاب.

الاستدلال بالسنّة علىٰ أنّ الماء طاهرٌ مطهِّر

و أمّا الروايات: فلا يستفاد منها أيضاً العموم؛ لأنّ أظهرها في الدلالة ما روي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال

قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): الماء يطهِّر و لا يطهَّر «1».

و لا يخفىٰ أنّ الرواية- بقرينة قوله: «لا يطهَّر» ليست إلّا بصدد بيان كونه مطهِّراً في الجملة؛ في قبال عدم إمكان تطهيره بشي ء آخر أو بماء آخر، لا بصدد بيان كون الماء مطهّراً علىٰ نحو الإطلاق.

نعم لا ينبغي إنكار ما وقع في بعض الروايات من إطلاق لفظ «الطهور» على الطاهر المطهّر «2»، و لكنّه لا يستفاد منه ما نحن بصدده، فراجع.

و الذي يسهّل الخطب بحيث لا يحتاج إلىٰ تكلّف إقامة الدليل، كون المطلب إجماعيّاً لو لم يكن ضروريّاً «3».

______________________________

(1) الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب

الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

(2) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(3) مدارك الأحكام 1: 26، الحدائق الناضرة 1: 172، جواهر الكلام 1: 62.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 15

الماء الجاري
اشارة

و الكلام فيه يقع في مقامات:

المقام الأوّل في تحقيق موضوع الماء الجاري و بيان حقيقته
اشارة

و قد عرّفه جماعة- بل قيل: إنّه المشهور: بأنّه هو النابع السائل على الأرض- و لو في الباطن سيلاناً معتدّاً به. و قد صرّح به في كلام صاحب الجواهر «1»، و يظهر من الشيخ في طهارته «2».

و قد يُفسّر- كما عن «المسالك»: بأنّه هو النابع غير البئر؛ سواء كان جارياً على الأرض، أم لم يكن كذلك «3»، و تسميته- حينئذٍ جارياً إمّا حقيقة عرفيّة خاصّة، أو من باب التغليب؛ لتحقّق الجريان في كثير من أفراده، و عليه فمثل العيون التي لا تدخل تحت عنوان البئر، و لم يكن ماؤه جارياً على الأرض فعلًا، يكون من الجاري.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 72.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 69.

(3) مسالك الأفهام 1: 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 16

أقول: لا إشكال في عدم إطلاق الماء الجاري على الماء الخارج من الإبريق اتّفاقاً. نعم يقال: الماء جارٍ منه، باعتبار معناه الحَدَثي، و لا يقال: الماء الجاري، و هذا يدلّ علىٰ عدم كون هذا المشتقّ تابعاً لفعله في الإطلاق، بل يعتبر فيه خصوصيّة زائدة، كإطلاق التاجر- مثلًا فإنّه لا يقال لمن صدرت منه التجارة دفعة؛ من دون أن يتّخذها حرفة و صنعة: إنّه تاجر، بل يعتبر في صدقه اشتغاله بالتجارة بحيث صارت حرفة له.

و بالجملة: المشتقّات علىٰ قسمين:

قسم يصحّ إطلاقه بمجرّد تحقّق مبدئه و حدوثه من الفاعل، كالضارب و القاتل و نحوهما.

و قسم لا يكفي مجرّد حدوث المبدأ و صدوره في صحّة جريه و إطلاقه، كمثال التاجر، و الظاهر أنّ عنوان الجاري في المقام من هذا القبيل؛ إذ يصحّ- كما عرفت أن يقال: جرى الماء من الإبريق، و لا يصحّ أن يقال:

إنّه الماء الجاري، كما يظهر بمراجعة العرف.

و حينئذٍ فهل يعتبر في صدقه النبوع من الأرض و السيلان بالفعل، كما عرفت من «الجواهر»، أو يعتبر أن يكون له مادّة مع الجريان «1»؛ سواء كانت مادّته تحت الأرض كالعيون، أو فوق الأرض كالماء الجاري على الأرض، الحاصل من ذوبان الثلج على الجبال، أو يعتبر فيه النبع من الأرض؛ سواء كان جارياً على الأرض أم لم يكن كذلك، كما عرفت من «المسالك»، بل يظهر من بعضهم أنّه المشهور بينهم «2»؟

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 69.

(2) انظر الروضة البهيّة 1: 252، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 131.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 17

و يمكن أن يورد على الأوّل: بأنّ مادّة الجريان لم يؤخذ فيها النبوع، كما يظهر بمراجعة اللغة «1»، و قد عرفت أنّه يقال: جرى الماء من الإبريق و نحوه، و هذا بمكان من الوضوح.

و حينئذٍ فإن كان إطلاق الجاري من قبيل إطلاق التاجر؛ بحيث لم يعتبر فيه اشتغاله بالتجارة فعلًا، بل يكفي في صدقه اتّخاذه صنعة و حرفة، فاللازم عدم اعتبار التلبّس بالمبدإ بالفعل في معنى الجاري، و حينئذٍ فلا وجه لإضافة قيد السيلان بالفعل و اعتباره في تحقّقه، بل لا بدّ من الالتزام بكفاية ملكة الجريان في صدقه و إن لم يكن جارياً بالفعل، كما أنّه يطلق «التاجر» على التاجر المحبوس، غير المشتغل بالتجارة في بُرهة من الزمان.

و بالجملة: فلفظ الجاري: إمّا أن يكون تابعاً لفعله في الصدق، و إمّا أن يكون من قبيل التاجر.

فعلى الأوّل لا مجال لأخذ قيد النبوع من الأرض فيه.

كما أنّه على الثاني لا وجه لاعتبار الجريان بالفعل في صدقه و تحقّقه، فالجمع بين الأمرين ممّا لا تساعد عليه اللغة.

اللّهمّ

إلّا أن يقال بموافقة العرف معه، و حينئذٍ فلا وجه لما يظهر من بعض الكلمات من دلالة اللغة و العرف علىٰ هذا المعنىٰ «2»، و كأنّ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) تفطّن لعدم كون اللغة مساعدة علىٰ هذا المعنىٰ، و لأجله ادّعىٰ كونه هو المتبادر عند العرف، و تثبت به اللغة «3».

______________________________

(1) معجم مقاييس اللغة 1: 448، المصباح المنير: 97 98، مجمع البحرين 1: 82.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 29 30.

(3) جواهر الكلام 1: 72.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 18

في اعتبار المادّة للماء الجاري

و كيف كان، فالظاهر في معنى الجاري اعتبار أن يكون له مادّة تحت الأرض، فالماء الجاري من مادّة حاصلة على الأرض- كالثلج على الجبال لا يقال له: إنّه الماء الجاري، كما يظهر بمراجعة العرف، و لا يبعد القول بعدم لزوم الجريان علىٰ وجه الأرض بالفعل، بل يكفي كونه قابلًا و مستعدّاً للجريان؛ بحيث لو لم يمنع عنه مانع يكون كسائر المياه الجارية علىٰ وجه الأرض، و مقتضى ذلك كون ماء البئر ماءً جارياً أيضاً، و لعلّ استثناء صاحب المسالك- كما تقدّم «1» لعدم مساعدة العرف عليه.

ثمّ إنّه هل يعتبر في النبع من الأرض أن يكون علىٰ وجه يخرج الماء دفعة، أو يكفي أن يكون خروجه بنحو الرشح؟ الظاهر هو الثاني.

كما أنّه لا يعتبر أيضاً أن يكون خارجاً من عينٍ؛ بمعنى أن يكون له منبع تحت الأرض يخرج منه الماء، بل يكفي الخروج من تحت الأرض و لو لم يكن له منبع تحتها؛ بأن كان ذلك لتبدّل الأبخرة بالماء تدريجاً و خروجه منه، و ذلك ظاهر لمن راجع العرف، و إن كان الظاهر من كلمات بعض أهل اللغة اعتبار الخروج من العين في تحقّق النبع

«2».

نعم ما ذكرناه من كفاية كون خروج الماء بنحو الرشح، إنّما هو فيما إذا كان الماء المجتمع من الرشحات متّصلًا بها.

و عليه فالماء الجاري علىٰ وجه الأرض، الحاصل من رشحات واقعة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 15.

(2) المصباح المنير: 591، القاموس المحيط 3: 89 90، مجمع البحرين 4: 394.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 19

فوق الجبال؛ بأن كان الماء مترشّحاً علىٰ مكان من فوقها، ثمّ يصير مجتمعاً في ذلك المكان الأسفل، ثمّ يجري علىٰ وجه الأرض، لا يكون ماءً جارياً قطعاً.

حكم الشكّ في صدق عنوان الماء الجاري

ثمّ إنّه لو شككنا في شي ء من المياه أنّه يصدق عليه عنوان الماء الجاري أم لا،؟ فقد يكون منشأ الشكّ اشتباه مفهوم الجاري و إجماله، و قد يكون اشتباه الأُمور الخارجيّة.

فعلى الأوّل- الذي يكون من موارد الدوران بين الأقلّ و الأكثر؛ لأنّ المفروض أنّ الماء النابع السائل علىٰ وجه الأرض، يصدق عليه الجاري قطعاً، و إنّما الشكّ في كون مفهومه أوسع من هذا المقدار، فالترديد لا محالة بين الأقلّ و الأكثر لا بدّ من الرجوع إلىٰ أحد العمومين الآتيين:

أحدهما: ما ورد عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) من أنّه قال

خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه «1».

ثانيهما: الأخبار الكثيرة الواردة عن العترة الطاهرة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين في حكم الماء القليل «2» التي سيجي ء نقلها.

و توضيحه: أنّه إن قلنا بانصراف عنوان الماء القليل عن الماء الجاري، فالواجب الرجوع- فيما يشكّ في كونه جارياً إلى العموم المروي عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) المشهور بين الفريقين، و الحكم بكونه طاهراً مع الملاقاة للنجس

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1:

135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(2) وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 20

و إن لم يكن كُرّاً، و إن لم نقل بالانصراف- كما هو الظاهر فالواجب الرجوع في مورد الشكّ إلىٰ ما ورد في حكم الماء القليل؛ إن كان مورد الشكّ قليلًا و لم يبلغ حدّ الكرّ، و إلى عموم ما ورد في الماء الكُرّ «1» لو كان كُرّاً، فيجري عليه أحكام الكُرّ و إن كانت مباينة مع حكم الماء الجاري، كما أنّه لو شكّ في ماء البئر أنّه جارٍ أو غير جارٍ، يجب الرجوع إلىٰ ما ورد في حكم ماء البئر من الروايات الآتية «2».

و بالجملة: فأدلّة الماء الجاري قاصرة عن إثبات حكمه لمورد الشكّ، بل اللازم الرجوع في كلّ مورد إلىٰ ما يكون ذلك المورد داخلًا تحت موضوعه قطعاً، و منطبقاً عليه عنوانه بتّاً.

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

(2) يأتي في الصفحة 123.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 21

المقام الثاني في عدم انفعال الماء الجاري بملاقاته للنجس
اشارة

و هو فيما إذا كان كُرّاً موضع وفاق، و في القليل منه يظهر من العلّامة خلاف ذلك؛ حيث ذهب إلىٰ أنّه لا فرق بين القليل من الجاري و القليل من غيره «1».

في أدلّة عدم انفعال القليل من الماء الجاري

و ما يستفاد منه إطلاق الحكم لصورة القلّة؛ و عدم الاختصاص بما إذا كان كرّاً، روايات:

منها: صحيحة حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا توضّأ منه و لا تشرب «2».

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 17.

(2) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 22

فإنّها تدلّ بإطلاقها علىٰ جواز التوضّي و الشرب من الماء الجاري فيما إذا غلب علىٰ ريح الجيفة و لو كان قليلًا غير بالغ حدّ الكرّ.

و منها: رواية أبي خالد القمّاط: أنّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول في الماء يمرّ به الرجل، و هو نقيعٌ، فيه الميتة و الجيفة، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

إن كان الماء قد تغيّر ريحه أو طعمه، فلا تشرب و لا تتوضّأ منه، و إن لم يتغيّر ريحه و طعمه فاشرب و توضّأ «1».

و مورد السؤال في هذه الرواية و إن كان هو الماء النقيع؛ أي المجتمع في موضع، إلّا أنّ العدول في مقام الجواب عن بيان حكم هذا المورد بخصوصه، و التعبير بالقضيّة الكلّية، و هي قوله (عليه السّلام)

إن كان الماء ..

إلىٰ آخره، ربما يدلّ على المطلب، كما هو غير خفيّ.

و منها: صحيحة محمّد بن إسماعيل عن الرضا (عليه السّلام) قال

ماء البئر واسع لا يُفسده

شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه؛ لأنّ له مادّة «2».

فإنّه لا ريب في أنّ المراد بقوله (عليه السّلام)

لا يُفسده شي ء

ليس الإخبار عن أنّه لا يَفسُد بما هو مُفسد في نظر العرف، بل المراد به بيان الحكم، و هو اعتصامه و عدم انفعاله.

و حينئذٍ فإمّا أن يقال: بكون التعليل بأنّ «له مادّة» تعليلًا لهذا الحكم، فالرواية تدلّ معه علىٰ حكم الماء الجاري لمكان التعليل؛ لأنّه يستفاد منها: أنّ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 40/ 112، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 4.

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 23

العلّة في الاعتصام و عدم الانفعال، كون الماء متّصفاً بأنّ له مادّة، و من المعلوم وجود هذه العلّة في الماء الجاري لو لم يكن بنحو أقوى و بطريق أولىٰ، كما لا يخفى.

و إمّا أن يقال: بكونه تعليلًا لما يترتّب علىٰ ذهاب الريح و طيب الطعم، و هي طهارة الماء؛ لأنّه لا يناسب أن يكون تعليلًا لنفس ذهاب الريح و طيب الطعم، فتأمّل.

و عليه فتدلّ الرواية أيضاً على اعتصام الماء الجاري و لو كان قليلًا غير بالغ حدّ الكرّ؛ لأنّه يستفاد منها أنّ العلّة في طهارة الماء بعد فرض عدم تغيّره أو ذهابه إنّما هو كونه ذا مادّة، و المفروض اشتراك الجاري مع البئر في هذا الأمر، فالعلّة قد دلّت علىٰ عموميّة الحكم لكلّ ما هي موجودة فيه:

و منها: رواية سماعة قال: سألته عن الماء الجاري يُبال فيه؟ قال

لا بأس به «1».

و هذه الرواية- باعتبار كون السؤال فيها

عن حكم الماء الجاري بعد البول فيه تدلّ بجوابها على اعتصامه و عدم انفعاله، و هذا بخلاف أكثر الروايات التي أوردها صاحب الوسائل في هذا الباب «2»، فإنّ مفروض السؤال فيها إنّما هو البول في الماء الجاري، و الحكم بعدم البأس فيها لا يدلّ على الاعتصام و عدم الانفعال «3».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 34/ 89، وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 4.

(2) وسائل الشيعة 1: 143، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5.

(3) يمكن أن يقال بأنّ الفرق بينها و بين سائر الروايات غير واضح؛ لأنّ الظاهر أنّ مفروض السؤال في هذه الرواية أيضاً إنّما هو البول في الماء الجاري كما يشعر أو يدل عليه التعبير في الجواب بقوله (عليه السّلام): «لا بأس به»؛ فإنّ عدم البأس إنّما يلائم مع الحكم التكليفي لا الحكم الوضعي [المقرر دام ظلّه].

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 24

و منها: رواية سماعة أيضاً، قال: سألته عن الرجل يمرّ بالميتة في الماء؟ قال: «يتوضّأ من الناحية التي ليس فيها الميتة» «1».

و دلالتها علىٰ ما نحن بصدده واضحة.

و منها: صحيحة داود بن سرحان، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما تقول في ماء الحمّام؟ قال

هو بمنزلة الماء الجاري «2».

و الاستدلال بهذه الرواية على اعتصام الماء الجاري مطلقاً؛ و عدم انفعاله و لو لم يبلغ حدّ الكُرّ، يتوقّف علىٰ ثلاث مقدّمات:

إحداها: أنّ التنزيل إنّما هو في الاعتصام، لا في الانفعال؛ لأنّه المشهور و المعروف بالنسبة إلى الماء الجاري، و لو لم نقل بإطلاق اعتصامه حتّى في القليل.

ثانيتها: أنّ المنزّل إنّما هي الحياض الصغيرة التي كانت مورداً لابتلاء الناس بها، لا المخزن المتّصل بها، و

لا المجموع منه و من تلك الحياض الصغيرة.

أمّا الأوّل: فواضح. و أمّا الثاني: فلأنّ تنزيله منزلة الماء الجاري يكون- حينئذٍ بلا وجه؛ لعدم المناسبة بينهما و عدم تحقّق المشابهة و المماثلة، بخلاف ما إذا كان التنزيل بالنسبة إلى الحياض الصغيرة فقط، فإنّ وجه الشبه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 408/ 1285، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 5.

(2) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 25

- حينئذٍ كون كلّ منهما مشتملًا علىٰ مادّة يخرج الماء منها، هذا مضافاً إلىٰ أنّ المخزن المتّصل بالحياض ليس مورداً للابتلاء حتّى يُسأل عنه، و إنّما كان محلّ الابتلاء خصوص تلك الحياض الواقعة في الحمّام.

ثالثتها: كون ماء تلك الحياض غير بالغ حدّ الكرّ غالباً، و هو كذلك علىٰ ما هو المتعارف الموجود في الخارج، و يؤيّده وقوع السؤال عنه في الأخبار الكثيرة «1»، مع أنّه لو كان بالغاً حدّ الكُرّ لم يحتجْ إلى السؤال لوضوح حكم الكرّ.

و بعد ثبوت هذه المقدّمات، يُستفاد من الرواية عدم الفرق في الماء الجاري بين القليل و الكثير، و ينقدح بطلان ما أُورد- أو يمكن أن يُورد على الاستدلال بالرواية «2»، فراجع و تأمّل.

كلام العلّامة في المقام و نقده

و مستند العلّامة (قدّس سرّه) فيما ذهب إليه من التفصيل «3»، مفهوم الأخبار الكثيرة الدالّة علىٰ أنّ الماء إذا بلغ قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «4»، فإنّ مفادها: أنّ العلّة المنحصرة و السبب الوحيد لعدم تنجّس الماء، هو بلوغه قدر الكُرّ، فينتفي مع انتفائها، من دون فرق بين الجاري و غيره.

و تحقيق الجواب يتوقّف علىٰ بيان حال المفهوم، و

أنّه هل يصلح لأن يعارض المنطوق أم لا؟ و إن كان هذا البحث خارجاً عن البحث الفقهي.

فنقول: قد اشتهر بين المتأخّرين من الأُصوليّين: أنّ تعليق الحكم علىٰ

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(2) انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 75.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 17.

(4) راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 26

شرط أو وصف أو غيرهما من القيود، يفيد كون ذلك الشرط أو الوصف أو القيد الآخر، علّة منحصرة لثبوت ذلك الحكم؛ بحيث ينتفي الحكم بمجرّد انتفاء ما عُلّق عليه، كانتفاء كلّ معلول بانتفاء علّته المنحصرة.

و هذا المعنى المعروف منافٍ لما يقتضيه التتبّع في الاستعمالات العرفيّة، فإنّ الظاهر أنّه بحسبها لا يفيد تعليق الحكم علىٰ مثل الشرط إلّا مجرّد دخالته في الحكم، أمّا كون ذلك الشرط علّة فلا يُستفاد منه، فضلًا عن أن يكون علّة منحصرة؛ ألٰا ترى أنّه لو قيل: إذا طلعت الشمس فالحرارة موجودة، لا يستفاد منه كون طلوع الشمس علّة منحصرة لحدوث الحرارة و إلّا لزم أن تكون هذه القضيّة كاذبة مخالفة للواقع- و هو خلاف الواقع فبعد فرض الصدق و عدم كون الاستعمال مجازياً- كما هو واضح يدلّ ذلك علىٰ أنّ التعليق بالشرط لا يفيد إلّا مجرّد دخالته في الحكم، و هذا هو الموافق لحكم العقل أيضاً فإنّه يحكم بأنّ المتكلّم المختار إذا أخذ في موضوع حكمه قيداً، فاللازم الحكم بدخالة القيد في الحكم المذكور؛ صوناً لكلامه عن اللَّغويّة عكس باب الإطلاق، فإنّ العقل يحكم في ذلك الباب بأنّه إذا فرض كون المتكلّم في مقام البيان، و لم يأخذ قيداً في متعلّق

الحكم، فاللازم الحكم بكون موضوع حكمه نفس الطبيعة بلا قيد، و كما أنّ تقييد الموضوع بدليل آخر لا يُنافي ذلك الإطلاق، بل الواجب حمله عليه، فكذلك ثبوت الحكم فيما نحن فيه مع قيد آخر لا ينافي تعليقه على القيد الأوّل، فتدبّر.

و في المقام لا يستفاد من تلك الأخبار إلّا مجرّد أنّ بلوغ الماء قدر كُرّ، له دخالة في الاعتصام و عدم التنجّس، و لا يُنافي ذلك أنّ اتّصافه بكونه جارياً أيضاً موجب لعدم الانفعال.

نعم المستفاد من تلك الأخبار: أنّ ذلك الحكم لا يترتّب علىٰ طبيعة الماء

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 27

من دون مدخليّة أيّ قيد؛ لما عرفت من أنّه يلزم أن يكون أخذ القيد لغواً، منافياً لشأن المتكلّم الملتفت المختار.

فانقدح من جميع ذلك: أنّ المفهوم لا يصلح لأن يعارض المنطوق أصلًا، فلا تعارض بين الأدلّة في المقام، بل الواجب الأخذ بإطلاق أدلّة الماء الجاري، و الحكم بعموميّة الاعتصام و شموله للقليل منه أيضاً.

ثمّ إنّه لو قيل: بإفادة تعليق الحكم علىٰ شرط و نحوه، كونَ ذلك الشرط علّةً وحيدة لترتّب الجزاء، و سبباً منحصراً لثبوت الحكم؛ بحيث ينتفي بانتفائه ففي مثل المقام، يقع التعارض بين الأدلّة، و ليست لإحدى الطائفتين حكومة على الأُخرىٰ؛ لأنّ الحكومة معناها كون دليل الحاكم ناظراً إلىٰ دليل المحكوم و مفسِّراً له؛ بحسب الموضوع أو المحمول أو المراتب المتقدّمة أو المتأخّرة، كما حقّقناه في محلّه «1».

و لا ريب في عدم تحقّق هذا المعنىٰ هنا؛ و ذلك لأنّ مقتضىٰ أدلّة الجاري ثبوت حكمه بالنسبة إلىٰ جميع مصاديقه، و مقتضى هذه الأدلّة انفعال الماء غير البالغ حدّ الكرّ كذلك؛ أي بالإضافة إلىٰ جميع أفراده، فلا محالة يقع التعارض بينهما في خصوص

مادّة الاجتماع و هي الماء القليل الجاري من دون أيّ تفسير و تعرّض من أحدهما بالنسبة إلى الآخر.

كلام الشيخ الأعظم في المقام

و يظهر من الشيخ (قدّس سرّه)- في كتاب الطهارة أنّه بعد فرض كون التعارض بينهما بالعموم و الخصوص من وجه، يكون الأولىٰ تقييد إطلاقات الجاري؛ حيث

______________________________

(1) الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 234 235.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 28

قال: «و التقييد في إطلاقات الجاري إخراج للفرد النادر؛ لأنّ ما لا يبلغ مع ما في المادّة- بل بنفسه كُرّاً قليل، بخلاف تقييد الماء بغير الجاري في أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة، فإنّه إخراج للفرد المتعارف.

و دعوىٰ: أنّ الخارج عن أحد الإطلاقين هو الجاري القليل، و لا يتفاوت الحال بين خروجه عن إطلاقات الجاري أو عن تلك الإطلاقات.

مدفوعة: بأنّ الخارج من أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة- في مثل قوله (عليه السّلام) بعد السؤال عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء

إنّه الكُرّ من الماء

، و قوله

إذا كان الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء

و نحو ذلك هو مطلق الجاري، فيكون المقسم في هذه الأدلّة هو الماء الراكد، و هذا أبعد من تقييد الجاري بما يبلغ حدّ الكُرّ، كما لا يخفى على المنصف «1»».

كلام للمحقّق الهمداني في المقام

و علّل ذلك- أي كون الخارج عن إطلاقات أدلّة الاعتصام هو مطلق الجاري، لا خصوص القليل منه في «المصباح»: بأنّ تخصيص المفهوم بما عدا القليل الجاري، يستلزم تقييد الماء في منطوق القضية بالراكد؛ إذ لا يُعقل شمول المنطوق للكثير الجاري و عدم شمول المفهوم لقليله؛ لأنّ المفاهيم من قبيل اللُّبّيات؛ منشؤها الاستلزامات المحقّقة بين المناطيق و مفاهيمها، فلا يُعقل التصرّف فيها- و لو بالتخصيص إلّا بالتصرّف في المنطوق «2».

أقول: أمّا ما ذكره في «المصباح» تعليلًا لكون الخارج من أدلّة إناطة

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 78.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 41.

كتاب الطهارة (تقريرات،

للإمام الخميني)، ص: 29

الاعتصام بالكثرة، هو مطلق الجاري، فلم يعلم له وجه؛ إذ ليس المفهوم بحيث لا يجوز التصرّف فيه إلّا بالتصرّف في المنطوق؛ لأنّه ليس إلّا ظهوراً للمنطوق، و يمكن رفع اليد عنه كلّيّة، أو بالنسبة إلىٰ بعض أفراده.

أ لا ترى أنّه لو قيل: أكرم العلماء العدول، الدالّ بمفهومه- بناءً علىٰ ثبوت مفهوم الوصف علىٰ عدم وجوب إكرام العالم الفاسق، ثمّ ورد: أكرم الفقهاء- مثلًا الشامل بإطلاقه لما إذا كان الفقيه فاسقاً، فمجرّد وقوع التعارض بين ذاك المفهوم و هذا المنطوق، هل يستلزم أن لا يكون منطوق الأوّل شاملًا للفقيه؛ لتقيّد مفهومه- مثلًا بما عدا الفقيه؟! و من المعلوم خلافه.

و أمّا ما أفاده الشيخ (قدّس سرّه): من دوران الأمر بين إخراج الفرد النادر و بين إخراج الفرد المتعارف، و الثاني أبعد من الأوّل.

ففيه: أنّ مجرّد ذلك لا يوجب الأخذ بإطلاق أدلّة إناطة الاعتصام بالكثرة، ما لم يكن ذلك مقتضى الجمع العرفي، فإنّ اللازم في أمثال هذه الموارد اتّباع ما هو المتفاهم عند العرف، و قلّة الأفراد و كثرتها لا توجب مزيّة لأحدهما على الآخر.

و بالجملة: فالظاهر أنّه بعد ثبوت المفهوم- بمعنى العلّيّة المنحصرة لتلك الإطلاقات يقع التعارض بينها و بين أدلّة الجاري بالعموم و الخصوص من وجه، و لا خصوصيّة في المقام تقتضي تعيّن الأخذ بأحد الإطلاقين، فالواجب إعمال قواعد التعارض فيه، فنقول:

إن قلنا بدخول مثل هذا القسم من التعارض و هو التعارض بالعموم و الخصوص من وجه في موضوع الأخبار العلاجيّة؛ لأنّهما يُعَدّان بنظر العرف من «المتعارضين» أو «المتخالفين»، فالواجب الأخذ بإطلاقات أدلّة

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 30

الجاري؛ لكونها موافقة لفتوى المشهور، و ثبت في محلّه: أنّ أوّل المرجّحات

هي الشهرة من حيث الفتوىٰ «1».

و إن قلنا بخروج مثله عن مورد أخبار العلاج؛ لأنّ المتفاهم من عنوان «المتعارضين» هو ما كان الدليلان متعارضين بتمام مدلولهما، فمقتضى القاعدة التساقط و الرجوع إلىٰ عموم النبوي المعروف بين الفريقين المتقدّم سابقاً «2»، و هو قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء، إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه

، و لو نوقش فيه من حيث السند، فمقتضى القاعدة الرجوع إلىٰ قاعدة الطهارة.

______________________________

(1) التعادل و الترجيح، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 175.

(2) تقدّم في الصفحة 19.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 31

المقام الثالث في انفعال الجاري باستيلاء النجاسة عليه
اشارة

قال المحقّق في «الشرائع» «و أمّا الجاري فلا ينجس إلّا باستيلاء النجاسة علىٰ أحد أوصافه» «1».

و إثبات أصل الاستثناء كأنّه لا يحتاج إلىٰ تكلّف إقامة الدليل عليه؛ لكونه كالبديهي و الضروري؛ لقيام الشهرة العظيمة بل الإجماع المحقّق علىٰ وفقه «2»، مضافاً إلى الروايات الكثيرة الواردة في هذا الباب.

و إنّما الإشكال و الكلام في بعض ما يتفرّع عليه، و المناسب أوّلًا نقل جملة من الروايات حتّى يظهر حال تلك الفروع، فنقول:

الروايات الدالّة على انفعال الماء بالتغيّر بالنجاسة

منها: صحيحة حريز بن عبد اللّٰه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 4.

(2) الخلاف 1: 195، المسألة 152، تذكرة الفقهاء 1: 15، مفتاح الكرامة 1: 61/ السطر 15، جواهر الكلام 1: 75 76.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 32

توضّأ منه و لا تشرب «1».

و المراد بقوله

فإذا تغيّر الماء

يحتمل أن يكون هو مطلق التغيّر، فيشمل التغيّر باللون أيضاً، و عليه فيكون عطف قوله

و تغيّر الطعم

من قبيل عطف الخاصّ على العامّ.

و يحتمل أن يكون المراد به هو التغيّر بالريح فقط؛ بقرينة الصدر، و هو الأظهر.

و منها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

في الماء الآجن يُتوضّأ منه إلّا أن تجد ماءً غيره فتنزّه منه «2».

قال في المجمع: «أَجِن الماء- من بابي قعد و ضرب تغيّر لونه و طعمه، فهو آجن» «3»، و سيأتي توجيه هذه الرواية بما لا يُنافي سائر الروايات.

و منها: رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)؛ أنّه سُئل عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ؟ فقال

إن تغيّر الماء فلا تتوضّأ منه، و إن لم تغيّره أبوالها

فتوضّأ منه، و كذلك الدم إذا سال في الماء و أشباهه «4».

و منها: غير ذلك من الروايات الكثيرة المذكورة في «الوسائل» في الباب الثالث من أبواب الماء المطلق «5»، و بعض الروايات المذكورة فيها في الباب

______________________________

(1) الكافي 3: 4/ 3، تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، الإستبصار 1: 12/ 19، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 217/ 626، الإستبصار 1: 12/ 20، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 2.

(3) مجمع البحرين 6: 197.

(4) تهذيب الأحكام 1: 40/ 111، الإستبصار 1: 9/ 9، وسائل الشيعة 1: 138، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 3.

(5) راجع وسائل الشيعة 1: 137 142، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 33

الأوّل، كالنبوي المتقدم «1»، أو في الباب التاسع، كصحيحة شهاب بن عبد ربّه المنقولة من كتاب «بصائر الدرجات»، فراجع «2».

حول التغيّر الموجب للنجاسة

ثمّ إنّ المعتبر في التغيّر الموجب لنجاسة الماء، أن يحصل بسبب ملاقاة الماء مع النجس، كما هو المتبادر عند العرف، نظير ما دلّ على انفعال الماء القليل، فإنّ المتفاهم منها عند العرف تحقّق الانفعال بعد الملاقاة مع النجس، و حينئذٍ فمجرّد تغيّر الماء بمجاورة الميتة مثلًا لا يوجب انفعالًا، و هل يعتبر أن يكون التأثير مستنداً إلىٰ خصوص ما وقع من النجس في الماء، أو أنّ الملاقاة معتبرة في الجملة؛ حتّى لو كان بعض التأثير مستنداً إلى الجزء الخارج من الماء يتحقّق الانفعال؟

الظاهر هو الثاني؛ لأنّه بعد فرض أنّ احتمال كون التأثير مسبّباً عن المجموع، احتمالٌ عقلائي متحقّق في الخارج غالباً، لو كان الحكم مختصّاً

بغير هذه الصورة لزم الاستفصال من الإمام (عليه السّلام)، فتركه دليل على العموم.

نعم لو علم كون التغيّر مستنداً إلىٰ خصوص الجزء الخارج؛ بحيث لم يترتّب على الملاقاة شي ء من التأثير أصلًا، فاللازم الحكم بعدم الانفعال. لكن هذا الفرض بعيد للغاية، و لذا لا يكون ترك الاستفصال دليلًا علىٰ شمول الحكم لهذه الصورة أيضاً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 19.

(2) بصائر الدرجات: 238/ 13، وسائل الشيعة 1: 161، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 34

و بالجملة: فالظاهر اعتبار الملاقاة في الجملة؛ و لو لم يكن الجزء الداخل علّة تامّة للتغيّر، بل كان مستنداً إلى المجموع.

ثمّ إنّ التغيّر قد يحصل بوقوع عين النجاسة في الماء، و قد يتحقّق بوقوع أثر النجاسة في ضمن المتنجّس. و هذا علىٰ قسمين:

قسم يكون مع المتنجّس شي ء من أجزاء النجس، كما إذا تغيّر لون ماء قليل بدم، ثمّ القي هذا الماء على الماء الجاري، و تغيّر بسببه.

و قسم لا يكون كذلك كما إذا اختلط الماء المتغيّر ريحه بسبب الملاقاة للميتة مثلًا مع الماء الجاري، و تغيّر بسببه.

و قد يحصل بوقوع أثر النجاسة و لو في ضمن غير المتنجّس، كما لو أخذ شي ءٌ ريحَ الجيفة مثلًا بسبب المجاورة أو الملاصقة، ثمّ وقع ذلك الشي ء في الماء، و تغيّر بسبب وقوعه فيه. فهنا أربع صور:

و لا إشكال في ثبوت الحكم في الصورة الأُولىٰ.

كما أنّه لا ينبغي الإشكال في ثبوته في الصورة الثانية؛ لأنّ المفروض أنّ التغيّر مستندٌ إلىٰ بعض أجزاء النجاسة. و بعبارة اخرىٰ: قد تغيّر الماء بسبب الملاقاة مع النجس.

و أمّا الصورتان الباقيتان، فثبوت الحكم فيهما محلّ إشكال؛ لأنّ مفاد الأخبار أنّ الحكم ثابت فيما لو

استند التأثير إلىٰ شي ء من الأعيان النجسة؛ لأنّها هي الصالحة لتنجيس شي ء آخر، و في هاتين الصورتين لا يكون كذلك:

أمّا في الصورة الأخيرة فواضح. و أمّا في الصورة الأُخرىٰ فلأنّ المفروض عدم كون شي ء من أجزاء النجس مع المتنجّس، بل التغيّر مستند إليه فقط.

ثمّ إنّه يعتبر مع ذلك أن يكون الأثر لنفس النجاسة الواقعة في الماء، فلو كان النجس الملاقي واسطة في انتقال أثر النجس الآخر إلى الماء، لم يكفِ

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 35

في الحكم المذكور، كما إذا اختلط المُسْكر الآخذ لريح الجيفة بسبب الملاقاة أو المجاورة مع الماء الجاري؛ بحيث تغيّر ريحه بسببه، و غلب ريح الجيفة علىٰ ريحه، فإنّ الظاهر عدم تحقّق الانفعال بمجرّد ذلك؛ لأنّ المتبادر من الأخبار انتقال أثر الشي ء النجس الملاقي إلى الماء؛ بحيث كان الأثر أثراً له لنفسه لا عارضاً له من شي ء آخر، كما يظهر بعد الرجوع إلى العرف.

ثمّ إنّ مقتضى إطلاق الأخبار، الحكم بنجاسة الماء المتغيّر بسبب الملاقاة للنجس؛ و لو كان التغيّر بأحد الأوصاف التي لا تكون وصفاً للنجس، كما إذا وقع الدم في الماء الجاري فتغيّر لونه، و صار أصفر مع كون الدم الواقع أحمر، فإنّ الظاهر الانفعال و التأثّر؛ لأنّ الملاك تغيّر الماء بملاقاته للنجس، و تأثيره فيه بما يكون أثراً له، لا لنجس آخر؛ من دون فرق بين أن يكون العارض أحد أوصاف النجس الملاقي، أو وصف شي ء آخر لٰا يكون نجساً أصلًا، فضلًا عمّا إذا كان كذلك.

المعتبر في الوصف المتغيّر بالنجاسة

ثمّ إنّه هل يكفي في الحكم المذكور، مجرّد تغيّر الماء عن وصفه الثابت له فعلًا و لو كان وصفاً عرضيّاً له؛ بحيث لو تغيّر بسبب الملاقاة للنجس عن وصفه العرضي، و

صار متّصفاً بالوصف الثابت لطبيعة الماء، كما إذا تغيّر الماء الأحمر بسبب وقوع المسكر الصافي أو البول الصافي فيه، و صار صافياً كسائر المياه الباقية على الوصف الطبيعي، يكون مشمولًا لتلك الأدلّة و محكوماً بالتأثّر و الانفعال، أو أنّه يعتبر في الحكم المذكور، تغيّر الماء عن الوصف الذاتي الثابت لطبيعة الماء، فلو تبدّل وصفه العرضي إلى الوصف الذاتي بسبب الملاقاة للنجس، كما في المثال المذكور، أو إلىٰ وصف عرضيّ آخر، كما إذا تغيّر في

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 36

المثال إلى اللون الأخضر فرضاً، لم يترتّب عليه الحكم بالنجاسة؟ وجهان، بل قولان.

و المستند للقول الثاني: النبويّ المتقدّم

خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه «1».

فإنّه يدلّ علىٰ أنّ طبيعة الماء مجرّدة عن كافّة القيود، طاهرة لا ينجّسها شي ء من النجاسات، لا أن يكون التجرّد مأخوذاً في الموضوع، بل حيث إنّه جعل موضوع الحكم نفس الطبيعة بلا أخذ قيد فيه مع كون المتكلّم فاعلًا مختاراً يُستفاد منه أنّ الموضوع نفس الطبيعة، و حينئذٍ فتدلّ الرواية علىٰ طهارتها إلىٰ أن يتغيّر اللون أو الطعم أو الريح، الثابت لتلك الطبيعة؛ بسبب الملاقاة مع النجاسة.

و بالجملة: فالضمير في قوله

إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه

يرجع إلىٰ ما جعل موضوعاً للطهارة، و هي نفس طبيعة الماء، فتدلّ الرواية علىٰ أنّ الماء لو تغيّر بعض صفاته الثابتة لطبيعته بسبب الملاقاة يترتّب عليه الحكم بالنجاسة.

فالمناط: خروج الماء عن أحد أوصافه الأصليّة الثابتة لطبيعته و صيرورته معروضاً لبعض العوارض الخارجيّة.

و مستند القول الأوّل: إطلاق ما يستفاد من بعض الروايات، فإنّ ظاهره أنّ المناط تغيّر الماء عن الحالة التي كان عليها قبل

الملاقاة بسببها؛ و لو رجع إلى الحالة الثابتة لنفس طبيعة الماء، فإنّ رواية أبي بصير المتقدّمة «2»، التي سئل فيها عن الماء النقيع تبول فيه الدوابّ، ربما يستفاد منه ذلك، فإنّ الظاهر أنّ المياه الواقعة في أطراف المدينة، كانت خارجة عن أوصافها الأصليّة غالباً،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 19.

(2) تقدّم في الصفحة 32.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 37

لا سيّما مع ملاحظة الحرارة الشديدة و كثرة الاحتياج إليها، و حينئذٍ فلو كان التغيّر إلىٰ تلك الأوصاف غير قادح، لزم أن يفصّل الإمام (عليه السّلام) بينه و بين التغيّر إلىٰ وصف آخر، فتركُ الاستفصال و التفصيل دليل على العموم.

و يرد على القول الثاني: أنّه لو تغيّر الماء عن الوصف العرضي الثابت له فعلًا إلىٰ وصف عرضيّ آخر، كما إذا تغيّر الماء الأحمر بسبب الملاقاة للنجاسة و صار أصفر مثلًا يلزم علىٰ هذا القول عدم كون هذا التغيّر مؤثّراً في النجاسة، كما وقع التصريح به، مع أنّ الالتزام بهذا مشكل جدّاً، بل ربما يكون مخالفاً للإجماع، و مع ذلك فالأظهر هو هذا القول.

حول كلام الشيخ بأنّ المناط تغيّر الماء بأثر النجاسة

ثمّ إنّ من العجيب ما وقع من الشيخ الأعظم- في هذا المقام من «كتاب الطهارة» حيث إنّه استدلّ لعدم اختصاص الحكم بما إذا تغيّر الماء بسبب ملاقاة عين النجاسة، و شموله لما إذا تغيّر بسبب الملاقاة للمتنجّس المتغيّر بعين النجاسة، كما إذا اختلط الماء المتلوّن بالدم مثلًا مع الماء الجاري: بأنّ المناط تغيّر الماء بأثر النجاسة، لا تغيير عين النجاسة للماء، و استشهد لذلك بصحيحة ابن بزيع، و نقلها هكذا

لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه «1».

ثمّ احترز بعين النجاسة عن أثر المتنجّس، و استدلّ له بظهور الأدلّة في الاختصاص بالنجس،

ثمّ استشهد لذلك بصحيحة ابن بزيع، و نقلها هكذا

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 38

لا يُفسده شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه

، و لم يقتصر علىٰ مجرّد النقل كذلك، بل صرّح: بأنّ فيها قرينة علىٰ إرادة نجس العين من الموصول «1».

و لا يخفىٰ أنّ المنقول في الجوامع و المذكور في كتب الحديث، إنّما هو علىٰ النحو الأوّل، و ليس من الموصول فيها عين و لا أثر، فاللازم الحمل على الخطاء في الحفظ، كما يدلّ عليه نقله أوّلًا بدون الموصول، و مثْل ذلك يُنبئ عن أنّه لا ينبغي الاتّكال على القوّة الحافظة في مقام نقل الروايات، خصوصاً فيما يتعلّق منها بالأحكام الشرعيّة الإلهيّة و القوانين العامّة العمليّة.

حول عدم كفاية التغيّر التقديري

ثمّ إنّ المعتبر في انفعال الماء الجاري بالتغيّر، أن يكون التغيّر حسّيّا فعليّاً؛ بمعنى حصول التغيّر بالفعل علىٰ نحو يكون محسوساً، فلا يكفي التغيّر التقديري- كما عن المشهور «2» لأنّ الحكم مترتّب في ظواهر الأدلّة على الماء المتغيّر، فترتّبه موقوف علىٰ تحقّقه؛ من دون فرق بين أن يكون المانع عن حصول التغيّر، اتّحادهما في الأوصاف ذاتاً بمقتضىٰ طبيعتهما النوعيّة، كالماء مع البول، أو يكون المانع حصول وصف عرضي للماء، كالماء الأحمر الملاقي للدم، أو زوال وصف النجاسة، كما لو زال ريح البول بهبوب الرياح مثلًا، أو نقص وصفها، و غير ذلك من الفروض.

و بالجملة: فالمدار هو حصول التغيّر بنظر العرف، لا الأعمّ منه و من التغيّر التقديري.

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 80 82.

(2) الحدائق الناضرة 1: 181، جواهر الكلام 1: 77.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 39

توجيه القول بكفاية التغيّر التقديري

و ربما يوجّه القول بالتعميم: بأنّ المؤثّر في الانفعال، إنّما هو اختلاط الماء مع مقدار معيّن من النجاسة، و التغيّر كاشف عنه و أمارة عليه، لا أنّه موضوع و مؤثّر، فإذا أُحرز وجود ذلك المقدار بأمارة أُخرى يترتّب عليه الحكم بالنجاسة «1».

و فيه: مضافاً إلىٰ منافاة هذا الوجه لما يستفاد من ظواهر الأدلّة، فإنّ ظاهرها أنّ الموضوع و المؤثّر في الانفعال إنّما هو التغيّر لا غير، و جعله كاشفاً و أمارة على الموضوع يحتاج إلىٰ مئونة زائدة، و لم يدلّ عليه الدليل أصلًا أنّ من المعلوم أنّ ما يوجب استقذار العرف إنّما هو حصول التغيّر في الماء، كما نشاهده بالوجدان، و إلّا فاللازم الالتزام بتساوي الماء المتغيّر مع الماء غير المتغيّر الصالح له لولا المانع من حيث الاستقذار و التنفّر، و هو معلوم الخلاف، فإذا ثبت الفرق بينهما في نظر العرف، تحتمل مدخليّة هذه المرتبة من الاستقذار في ثبوت الانفعال، و معه لا يمكن رفع اليد عن الظواهر بدون وجود دليل قطعيّ أو أقوى علىٰ خلافه.

و ربما يستبعد ما ذكرنا: من أنّ المدار هو التغيّر الحسّي، و يقال في وجهه: إنّه لو فرض حوضان من الماء متساويان: أحدهما ماؤه صافٍ لطيف، و الآخر كدر كثيف، فلو فرض وقوع ثُلث ميتة في الأوّل؛ بحيث صار موجباً لتغيّره لكمال صفاته، و وقوع ميتة كاملة في الثاني، و لم يتغيّر بسببه لكثافته، فهل يمكن الالتزام بانفعال الماء الأوّل و عدم انفعال الثاني؟! و هل هو إلّا القول بمدخليّة

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 182، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 52.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 40

الكثافة في الاعتصام؟! و من الواضح منافاته لما هو المعهود من مذاق

الشرع «1».

و فيه: مضافاً إلىٰ أنّه مجرّد استبعاد، و لا يجوز رفع اليد عن ظواهر الأدلّة بسببه أنّ التفصيل بين الماءين، و الحكم بوجود الفرق في البين، موافق للاعتبار أيضاً، فإنّ الاستقذار الحاصل بالنسبة إلى الماء الأوّل، أشدّ من الاستقذار المتحقّق بالإضافة إلى الثاني، و حينئذٍ يحتمل مدخلية تلك المرتبة الشديدة في الحكم بالنجاسة، فلا يجوز رفع اليد عن الظواهر مع هذا الاحتمال إلّا بدليل أقوى، و المفروض انتفاؤه.

و ربما يقال: إنّ المعتبر في الانفعال هو التغيّر الواقعي النفس الأمري و لو كان مستوراً عن الحِسّ «2».

و فيه: أنّه إن كان المراد التغيّر بحيث يكون يعرفه العرف، فهو راجع إلىٰ ما ذكرنا، و إن كان المراد التغيّر الواقعي و لو لم يعدّ تغيّراً في نظر العرف، فاللازم الحكم بنجاسة البحر لو وقع فيه قطرة دم؛ إذ لا يُعقل انفكاك التأثير عن هذه القطرة بحسب الواقع، غاية الأمر أنّ العرف لا يراه متغيّراً.

و بالجملة: الظاهر أنّه لا إشكال في أنّ المدار هو التغيّر الفعلي؛ أي الذي يعدّ بنظر العرف تغيّراً، و الأدلّة التي استُدلّ بها علىٰ عدم الاختصاص، راجع أكثرها إلىٰ مجرّد الاستبعاد، كما عرفت بعضها «3»، و من المعلوم أنّه لا يجوز رفع اليد عن الظواهر بمجرّد ذلك.

______________________________

(1) البيان: 44، مدارك الأحكام 1: 30.

(2) الحدائق الناضرة 1: 181.

(3) تقدّم تخريجه في الصفحة 39.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 41

المعتبر حصول التغيّر و لو لم يكن ظاهراً لمانع

ثمّ لا يخفى أنّ الحكم بالنجاسة عند التغيّر، أعمّ من أن يكون التغيّر ظاهراً أو غير ظاهر. و بعبارة اخرىٰ: المناط هو حصول التغيّر و لو لم يكن ظاهراً لمانع، و هذا بخلاف ما إذا كان المانع مانعاً عن حصول أصل التغيّر، كالأمثلة المتقدّمة.

و نظير

هذا طلوع الفجر، فإنّ مقتضى الآية «1» و الرواية «2»: أنّه عبارة عن تميّز الخيط الأبيض من الخيط الأسود، و في الليالي المقمرة التي يكون ضياء القمر باقياً إلىٰ طلوع الفجر، لا يتحقّق التميّز أصلًا؛ لمنع بياض القمر و ضيائه عن التميّز، لا أنّه متحقّق و البياض يمنع عن رؤيته، ففي تلك الليالي يتأخّر الصبح الشرعي عن الليالي السابقة و اللاحقة بمقدار عشر دقائق، أو أزيد بيسير، أو أنقص كذلك.

______________________________

(1) البقرة (2): 187.

(2) راجع وسائل الشيعة 4: 209، كتاب الصلاة، أبواب المواقيت، الباب 27.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 42

تطهير الماء الجاري المتغيّر
اشارة

في كيفيّة تطهير الماء الجاري المتغيّر احتمالات أربعة: زوال التغيّر مطلقاً، و زواله مع الاتّصال، و زواله مع الامتزاج بما يخرج من المادّة، أو مع الاستهلاك أيضاً.

قد يقال: كما عن الشهيد (قدّس سرّه)-: بكفاية زوال التغيّر بأيّ وجه اتّفق «1» و ربما يوجّه: بأنّ مقتضىٰ صحيحة ابن بزيع المتقدّمة «2»: أنّ الطهارة متفرّعة علىٰ طيب الطعم و ذهاب الريح، و الأمر بالنزح إنّما هو لأجل كونه سبباً عاديّاً لزوال التغيّر، و إلّا فليس له خصوصيّة؛ للعلم بأنّه لو خرج ماء البئر من غير طريق النزح علىٰ وجه يزول به التغيّر، تترتّب عليه الطهارة.

و بالجملة: فالمستفاد من الرواية: أنّ تمام المؤثّر في حصول الطهارة، إنّما هو طيب الطعم و ذهاب الريح علىٰ ما هو مقتضى الإطلاق، فلو كان شي ء آخر دخيلًا في ترتّب الحكم لوجب على المتكلّم بيانه، و حيث لم يبيّن يستكشف عدم مدخليّة شي ء آخر، و حينئذٍ فلو حصل طيب الطعم و ذهاب الريح الذي هو عبارة عن زوال التغيّر من غير طريق النزح، يترتّب عليه الحكم بالطهارة «3».

إشكال المحقّق الهمداني

و أورد عليه في «المصباح» بما حاصله: أنّ التمسّك بالإطلاق لعدم مدخليّة شي ء في ترتّب الحكم المعلّق عليه، إنّما هو بالنسبة إلى القيود التي لو

______________________________

(1) اللمعة الدمشقيّة: 23، الروضة البهية 1: 252.

(2) تقدّمت في الصفحة 37.

(3) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 58 59.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 43

لم يبيّنها المولى لكان نقضاً لغرضه، و في أمثال المقام ممّا يكون المطلق ملازماً للقيد؛ بحيث لا يمكن الانفكاك بينهما أصلًا، فلا يجوز التمسّك بإطلاقه لنفي اعتبار القيد؛ إذ لا يترتّب علىٰ عدم البيان نقض للغرض، كما لا يخفى.

و حينئذٍ فلا يجوز التمسّك بإطلاق زوال

التغيّر لنفي اعتبار الامتزاج، مع كون زوال التغيّر مسبَّباً عادة عن الامتزاج بعد النزح.

و بعبارة اخرىٰ: النزح مقدّمة لتحقّق شيئين: طيب الطعم و ذهاب الريح، و حصول الامتزاج، و في الرواية قد اكتفىٰ بذكر الأوّل؛ لكون الثاني ملازماً له عادة «1».

و يمكن أن يوجّه ذلك القول بوجه لا يرد عليه شي ء: و هو أنّ صدر الرواية قد عُلِّق الحكم بالنجاسة فيه علىٰ مجرّد التغيّر، ثمّ ذكر ما يوجب ارتفاعها، و هو حصول طيب الطعم و ذهاب الريح، الذي هو عبارة أُخرى عن زوال التغيّر.

فمدلولها دوران الطهارة و النجاسة مدار التغيّر و زواله، فالمتبادر منها عند أهل العرف، هو كون التغيّر علّة تامّة لحصول النجاسة ترتفع عند زواله، و إن كان المحتمل عند العقل أن يكون التغيّر واسطة في ثبوت النجاسة، لا في عروضها حتّى يكون الأمر دائراً مدار وجوده و عدمه، و حينئذٍ فلا يكون مجرّد زواله موجباً لارتفاع النجاسة و لكن المتبادر عند العرف من مثل هذا الكلام الذي عُلِّق الحكم فيه علىٰ شي ء و ارتفاعه علىٰ زواله، مع احتمال أن لا يكون مجرّد زواله موجباً لارتفاعه دوران الحكم وجوداً و عدماً مدار وجود ذلك الشي ء و عدمه.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 59.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 44

و بالجملة: فمفاد صدر الرواية بنظر العرف كون التغيّر علّة تامّة لثبوت النجاسة، فترتفع بمجرّد زوالها، و لا يتوقّف ارتفاعها علىٰ شي ء آخر أصلًا.

و هذا بناءً علىٰ رجوع التعليل الواقع في ذيل الرواية إلىٰ صدرها أعني قوله

واسع لا يفسده شي ء

واضح لا إشكال فيه.

و أمّا بناءً علىٰ رجوعه إلى القضيّة المتصيَّدة من ذيل الرواية؛ أعني الطهارة المترتّبة علىٰ طيب الطعم و ذهاب الريح، فيمكن أن

يقال باستفادة اعتبار الامتزاج في حصول الطهارة؛ لأنّه لو القي هذا الكلام المشتمل علىٰ هذه العلّة على العرف، يفهم منه أنّ مجرّد كونه ذا مادّة لا يوجب ذلك، بل حيث إنّ المادّة موجبة لجريان الماء منها بعد النزح تدريجاً، يصير الماء طاهراً؛ لحصول الامتزاج مع ما يخرج من المادّة.

و من هنا انقدح فساد ما ذكره في «المصباح»: من أنّه لو عاد التعليل إلىٰ تلك القضيّة المتصيَّدة من الفقرة الثانية، يمكن التمسّك بها لإثبات أنّ مجرّد زوال التغير كافٍ في ارتفاع النجاسة «1»، فتدبّر.

ترتب الإشكال على الاستدلال بصحيحة ابن بزيع

ثمّ إنّه ربما يمكن أن يورد على الاستدلال بالصحيحة المتقدّمة «2» الواردة في حكم ماء البئر لبيان حكم سائر المياه المشتركة معه في كونه ذا مادّة. و تقريبه أن يقال: إنّ التعليل الوارد فيها: إمّا أن يكون راجعاً إلىٰ صدر الرواية، و هو قوله (عليه السّلام): «واسع لا يُفسده شي ء»، و إمّا أن يكون راجعاً إلى

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 59.

(2) تقدّمت في الصفحة 37.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 45

القضيّة المطويّة في الذيل، و هي: حدوث الطهارة بعد زوال التغيّر.

فعلى الأوّل: يكون مقتضى التعليل اشتراك ما يكون له مادّة من المياه مع البئر في الحكم المعلَّل فقط و هو عدم الانفعال فيمكن أن يكون الحكم المذكور بعده مختصّاً بماء البئر؛ إذ ليس ذلك الحكم أيضاً معلّلًا حتّى يدور مدار التعليل الذي لا يكون منحصراً.

و على الثاني: لا دليل علىٰ جريان الحكم المذكور في الصدر في غير ماء البئر، فلا يمكن استفادة عدم انفعال الماء الجاري مطلقاً قليله و كثيره من هذه الرواية، كما تقدّم.

و يمكن أن يُختار كلٌّ من شقّي الترديد، و يحكم بالتعدّي عن مورد الرواية، بالإضافة إلىٰ

ما تكون متضمّنة له صدراً و ذيلًا:

أمّا بناءً على الأوّل: فلأنّه و إن كان التعليل إنّما هو لخصوص الفقرة الأُولىٰ، إلّا أنّ الأمر بالنزح حتّى يطيب الطعم و يذهب الريح، متفرّع على الحكم المعلّل بذلك التعليل.

و بعبارة اخرىٰ: وجوب النزح إلىٰ ذلك المقدار، إنّما هو من أحكام الماء المتغيّر الذي له مادّة، كما يدلّ علىٰ ذلك التفريع، فيجري في جميع المياه المتغيّرة التي لها مادّة، كما هو واضح.

و أمّا بناءً على الثاني: فلأنّه و إن كان التعليل راجعاً إلىٰ ترتّب الطهارة علىٰ زوال التغيّر، إلّا أنّ المرتكز في أذهان العرف أنّ ما به تحصل الطهارة لا يمكن أن يكون نجساً في نفسه. و من المعلوم أنّ امتزاج الماء الخارج من المادّة مع الماء الواقع فيه، إنّما يحصل تدريجاً؛ بمعنى أنّ كلّ ما يخرج منه بالنزح أو غيره يجري من المادّة بمقداره، و حينئذٍ فالماء الخارج من المادّة الموجب لزوال التغيّر و ارتفاع النجاسة طاهر؛ لعدم إمكان أن يكون النجس مطهّراً علىٰ ما هو

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 46

المرتكز عند العرف؛ سواء كان قليلًا أو كثيراً، و الأوّل هو المتعارف في أكثر الآبار، فتدلّ الرواية على اعتصام الماء الجاري و عدم انفعاله مطلقاً؛ و لو كان التعليل راجعاً إلى الذيل كما عرفت.

بل يمكن أن يقال: بجواز التعدّي عن مورد الرواية و لو لم يكن فيها تعليل أصلًا؛ لأنّ الخصوصيّة التي بها يمتاز ماء البئر عن الماء الجاري، لا يمكن أن تكون مؤثّرة في الحكم المذكور في الرواية؛ لأنّها ليست إلّا عبارة عن كون ماء البئر واقعاً في قعر الأرض. و من المعلوم عدم مدخليّة هذه الخصوصيّة في الحكم أصلًا؛ ضرورة أنّه لو فرض

أنّ ماء البئر نبع؛ بحيث صار مساوياً لوجه الأرض، هل يشكّ أحد في ارتفاع حكمه السابق لخروجه عن عنوان البئريّة، و هل هو إلّا كاحتمال دخالة الرجوليّة في قوله: «رجل شكّ بين الثلاث و الأربع» مثلًا، بل المقام أولىٰ كما لا يخفى.

حول اعتبار الاستهلاك في ارتفاع النجاسة

ثمّ إنّه لو قلنا باعتبار الامتزاج، كما عرفت أنّه الظاهر من الصحيحة «1»، فهل يعتبر الاستهلاك أم لا؟

قد يقال: بأنّ المستفاد من الصحيحة عدم اعتباره «2»؛ لأنّ ارتفاع النجاسة قد عُلّق فيها علىٰ زوال التغيّر. و من المعلوم أنّ زوال التغيّر في البئر ليس حاصلًا دفعة، بل الزوال إنّما يتحقّق بإخراج الماء منه تدريجاً مع الجريان

______________________________

(1) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 95 و 101.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 47

من المادّة بمقداره كذلك.

و حينئذٍ فالنجاسة باقية ما دام التغيّر باقياً، فلو فرض أنّ زوال التغيّر يحصل بإخراج ماء قليل مستهلك في البواقي، كما يكون الأمر كذلك في الدفعات الأخيرة، فالمطهّر حينئذٍ يكون هو المقدار الخارج من المادّة بالمقدار القليل الخارج من البئر.

فلو كان استهلاك الماء المتغيّر شرطاً في حصول الطهارة، يلزم الحكم بالنجاسة مطلقاً؛ لأنّ المطهّر يكون مستهلكاً في البواقي دون العكس، فمفاد الرواية حينئذٍ عدم اعتباره.

و لكن لا يخفى أنّ هذا مبني علىٰ كون المياه الخارجة من المادّة الممتزجة بالماء المتغيّر نجسة ما دام التغيّر باقياً.

و هو في محلّ المنع؛ لما عرفت سابقاً: من أنّ المعتبر في انفعال الماء الذي له مادّة أعمّ من الجاري و ماء البئر أن يكون التغيّر مسبَّباً عن ملاقاته لشي ء من الأعيان النجسة، و لا تكفي المجاورة و لا

حصول أثر النجاسة في الماء بواسطة المتنجّس أو غيره «1».

و في المقام لا يكون الأمر كذلك؛ لأنّه لا وجه للقول بنجاسة الماء الخارج من المادّة، إلّا ملاقاته مع الماء المتغيّر المتنجّس بواسطة ملاقاة النجس، فالسبب في نجاسته هو المتنجّس، و قد عرفت أنّه لا يكون المتنجّس سبباً لنجاسة غيره بالتغيّر «2».

فالمياه الخارجة من المادّة الواقعة في موضع المياه الخارجة من البئر،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 33.

(2) تقدّم في الصفحة 33.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 48

لا دليل علىٰ كونها نجسة. و حينئذٍ تُحتمل دخالة الاستهلاك في حصول الطهارة للماء المتغيّر؛ إذ المطهِّر علىٰ هذا التقدير هو جميع المياه الخارجة من المادّة، لا خصوص ما يزول به التغيّر.

نعم لو تمّ الإجماع علىٰ أنّ الماء الواحد له حكم واحد كما قد يُدّعىٰ في أكثر الكلمات «1» لكان القول بعدم اعتبار الاستهلاك مستنداً إلى الوجه المتقدّم، له وجه، و بدونه لا وجه له أصلًا.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 102 و 115 و 116، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 199.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 49

ماء الحمّام
المراد بماء الحمّام

قال المحقّق في «الشرائع» «و يلحق بحكمه يعني الماء الجاري ماء الحمّام إذا كان له مادّة» «1».

أقول: لا ريب في أنّ المراد بماء الحمّام: هي الحياض الصغيرة المعدّة للاستعمال، و كذا في أنّ المراد بقوله: «إذا كان له مادّة» هو اتّصاله بها، لا مجرّد كونه ذا مادّة.

و مستند اللحوق الأخبار الكثيرة الواردة في الباب، و عمدتها صحيحة داود بن سرحان المتقدّمة في الماء الجاري، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما تقول في ماء الحمّام؟ قال

هو بمنزلة الماء الجاري «2».

و حينئذٍ فلا ينفعل قليله و كثيره.

و النسبة بين هذه الأدلّة و

أدلّة انفعال الماء القليل «3»؛ و إن كانت عموماً من وجه، إلّا أنّ الظاهر تقديم أدلّة ماء الحمّام عليها؛ لكونها حاكمة عليها،

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 4.

(2) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 1.

(3) راجع وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 50

خصوصاً بعد ما عرفت من أنّ المتعارف في تلك الحياض الصغيرة كون مائها قليلًا غير بالغ حدّ الكرّ غالباً «1».

في اعتبار كرّيّة المادّة

ثمّ إنّه هل يعتبر أن يكون ما في المادّة كُرّاً أم لا؟ و على التقدير الثاني، فهل يعتبر بلوغ المجموع من الموجود في الحياض و ما في المادّة كرّاً أم لا؟ و على التقدير الأوّل، فهل يُعتبر ذلك مطلقاً، أو تشترط الكُرّيّة في رفع النجاسة، و أمّا الدفع فيكفي مطلقاً و لو لم يكن كُرّاً؟ وجوهٌ بل أقوال.

قد يقال باعتبار بلوغ الكُرّيّة مطلقاً «2»، و ربما ينسب هذا القول إلى المشهور «3».

و يُوجّه: بأنّ الإطلاق في قوله (عليه السّلام)

هو بمنزلة الماء الجاري «4»

و إن كان موجباً للحكم بعدم انفعاله و اعتصامه بالمادّة مطلقاً سواء كانت المادّة بالغة حدّ الكُرّ أو غير بالغة إلّا أنّه منزّل علىٰ ما هو المتعارف، و من المعلوم أنّ الماء الموجود في المادّة في أغلب الحمّامات، ربما يزيد علىٰ عشرين كُرّاً، فضلًا عن كُرّ واحد، كيف لا، مع أنّ وضع الحمّامات المتعارفة علىٰ وجه لو أُضيف إلى الماء الموجود في المادّة كُرّ أو أزيد، لا يؤثّر في تبريد مائها.

و من قال: إنّ زيادتها على الكُرّ إنّما هو في أوائل الاستعمال، و أمّا في أواخره فربما ينقص عن الكُرّ «5».

______________________________

(1)

تقدّم في الصفحة 25.

(2) قواعد الأحكام 1: 4/ السطر 20، مسالك الأفهام 1: 13، مدارك الأحكام 1: 34.

(3) مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 17، جواهر الكلام 1: 95.

(4) تقدّم في الصفحة 49.

(5) جواهر الكلام 1: 97.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 51

فكأنّه غفل عن وضع الحمّامات و بنائها، خصوصاً في المدينة و أشباهها ممّا لم تكن الحمّامات فيها كثيرة في الأزمنة السابقة.

و ربّما بالغ الموجّه؛ بحيث ذكر: أنّه لولا الإجماع علىٰ عدم اعتبار ما زاد على الكُرّ في اعتصام ماء الحمّام و عدم انفعاله و عاصميّة المادّة، لأشكل استفادة الاكتفاء بها من هذه الأخبار «1».

أقول يرد عليه أوّلًا: أنّا لانسلّم أن تكون الحمّامات المتعارفة في المدينة و أشباهها علىٰ ذلك النهج؛ لعدم احتياجها إلى التسخين في أغلب أوقات السنة، بل التبريد مطلوب فيها غالباً، و ادّعاؤه إنّما نشأ من أجل كونه متوطّناً في بلدٍ كان الحمّام فيه موصوفاً بالوصف الذي ذكره، و ذلك لا يوجب أن تكون الحمّامات المتعارفة في سائر البلاد على النحو المذكور؛ لما عرفت من أنّ الحمّامي لا يحتاج في المدينة و أشباهها إلّا إلىٰ تحصيل أصل الماء في أغلب الأوقات، و الاحتياج إلى التسخين إنّما يتّفق في بعض أشهر السنة، و حينئذٍ يمكن أن يكون الماء الموجود في مادّة بعض الحمّامات أقلّ من الكُرّ، خصوصاً في أواخر الاستعمال، كما يظهر من صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «2».

و ثانياً: لو سلّمنا ذلك أي كون الوضع في الحمّامات المتعارفة على النحو الذي ذكره فلا نسلّم تنزيل الإطلاقات عليها، بل يستفاد من الصحيحة المتقدّمة «3» التعميم؛ و ذلك لأنّ تنزيل ماء الحمّام منزلة الماء الجاري دون الكثير و تشبيهه به، إنّما هو لخصوصيّة موجودة

في الماء الجاري بها يمتاز عن سائر المياه، و إلّا فلو كان المقصود مجرّد اعتصام ماء الحمّام و عدم انفعاله،

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 63 64.

(2) جواهر الكلام 1: 97.

(3) تقدّم في الصفحة 49.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 52

لم يكن وجه لتنزيله منزلة الجاري الظاهر في مشابهته معه فقط؛ إذ يتحقّق ذلك المقصود بالتشبيه بالكُرّ.

فالوجه في انتخاب الماء الجاري و جعله مشبَّهاً به، إنّما هو خصوصيّة منحصرة بالماء الجاري، و هي: تقوّي الماء بالمادّة و تجدّده و خروجه منها تدريجاً.

و حينئذٍ فيكون المراد: أنّه كما أنّ الماء الجاري له خصوصيّة موجبة لعدم انفعاله من دون فرق بين أن يكون ما في المادّة كُرّاً أو أنقص كذلك ماء الحمّام لا ينفعل بمجرّد الملاقاة؛ لكونه معتصماً بالمادّة التي يخرج منها الماء تدريجاً، و يمتزج مع الماء الموجود في الحياض الصغيرة، و يصير مانعاً عن كثافته.

و بالجملة: المستفاد من التنزيل أنّ الوجه في عدم انفعال ماء الحمّام، هو تجدّد مائه و تقوّيه بمادّته نظير الماء الجاري، و هذا لا فرق فيه بين الكثير و القليل؛ إذ قد عرفت أنّ الوجه في عدم الانفعال ليس كونه كثيراً، و إلّا لما كان وجه لتنزيله منزلة الجاري، بل الوجه ما ذكرناه و هو متحقّق في كلتا الصورتين.

بل نقول: إنّه لو نزّل الإمام (عليه السّلام) الحمّام الخاصّ الموجود في مادّته مائة كُرّ أو أزيد منزلة الماء الجاري، كان يستفاد منه ما ذكرنا من عدم اعتبار الكرّيّة في المادّة؛ لأنّ الوجه في ذلك التنزيل لا يمكن أن يكون هي الكثرة، بل الوجه ما ذكرنا، فلا فرق بين صورتي الكثرة و القلّة.

ثمّ إنّه لو تنزّلنا عن ظهور الصحيحة فيما ذكرنا، فلا أقلّ

من أن يصير ذلك مانعاً عن رفع اليد عن الإطلاق، و تنزيله علىٰ ما هو المتعارف.

و بالجملة: فلا دليل لرفع اليد عن الإطلاق، و حمله علىٰ غير ما هو بصدده، كما هو ظاهر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 53

حول اعتبار كرّيّة مجموع ما في الحياض و المادّة

ثمّ إنّه بعد عدم اعتبار أن يكون ما في المادّة كُرّاً، فهل يُعتبر أن يكون المجموع منه و من الحياض، بالغاً حدّ الكُرّ، أم لا؟

مقتضىٰ ما ذكرنا ممّا يستفاد من الصحيحة العدم أيضاً كالماء الجاري، و لكنّ المشهور بين مقاربي عصرنا اعتبار ذلك في الرفع، و اعتبار كون المادّة بنفسها كُرّاً في الرفع «1»، فإن ثبت إجماع علىٰ كلا الأمرين أو أحدهما فهو، و إلّا فمقتضى الدليل ما ذكرنا.

و كأنّهم زعموا الإجمال في أدلّة ماء «2» الحمّام، و لأجله تمسّكوا بذيل أدلّة الماء القليل «3»، الدالّة بإطلاقها علىٰ أنّ كلّ ماء لم يبلغ حدّ الكُرّ، فهو ينجس بمجرّد الملاقاة؛ نظراً إلىٰ أنّ المراد بالماء المأخوذ موضوعاً في هذه الأدلّة، و إن كان هو الماء الواحد كما هو واضح إلّا أنّ هذا الموضوع متحقّق في ماء الحمّام؛ إذ الماء الموجود فيه بعد فرض اتّصاله بالمادّة يعدّ متّحداً معه.

أو يقال: إنّه لو كان الماء المجتمع بقدر الكُرّ لا يتأثّر بملاقاة النجاسة، فالماء الذي يجري بعض أجزائه على البعض الآخر بشدّة و قوّة، فهو أولىٰ بعدم التأثّر و الاعتصام.

و لا يخفىٰ أنّ الأوّل مخالف لما هو المرتكز في أذهان العرف، و إلّا فاللازم الحكم بنجاسة ما في المادّة بمجرّد انفعال ماء الحمّام.

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 64/ السطر 24.

(2) راجع وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(3) راجع وسائل الشيعة 1: 150 164، كتاب الطهارة،

أبواب الماء المطلق، الباب 8 و 9.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 54

و الثاني الراجع إلىٰ دعوى الأولويّة ممنوع، و إلّا فاللازم الحكم بعدم تأثّر ماء الحوض مثلًا إذا كان أقلّ من الكُرّ، و فرض اتّصاله بالماء الموجود في إبريق خارجاً عنه، فتدبّر.

و التحقيق أن يقال: إنّ المقام خارج عن أدلّة الماء القليل منطوقاً و مفهوماً و إلّا فاللازم الحكم بانفعال الماء الموجود في الإبريق مثلًا بمجرّد اتّصال ما يخرج منه بالنجس؛ لعدم كون المجموع بالغاً حدّ الكُرّ، و الوحدة العرفيّة فيه أشدّ من ماء الحمّام مع مادّته.

و بالجملة: الانفعال في نظر العرف إنّما هو في مقام السراية؛ بحيث لو وقع قذر في ناحية من الماء مثلًا استقذروه من ناحيته الأُخرىٰ، و في مثل المقام من موارد عدم تساوي السطوح؛ و كون بعض الماء في السطح الأعلى و البعض الآخر في السطح الأسفل، لا يتحقّق السراية أصلًا، كما أنّه لو خرج من الأسفل بشدّة، و لاقى الخارج مع القذر، لا يعدّ سراية أصلًا.

و حينئذٍ فلو تنجّس الماء الموجود في الحياض يطهر بمجرّد اتّصاله بالمادّة، و إن كان الماء الموجود فيها أنقص من الكُرّ؛ إذ لا ينقص ذلك الماء الموجود في المادّة عن الماء الموجود في الإبريق، و لا تزيد نجاسة الماء علىٰ سائر النجاسات، كما هو واضح.

فظهر عدم اعتبار الكُرّيّة لا في المادّة، و لا في المجموع، لا في الدفع، و لا في الرفع لو لم يثبت إجماع على الخلاف.

ثمّ إنّ الحكم في ماء الحمّام سواء قلنا: بأنّ المستفاد من أدلّته عدم اعتبار الكُرّيّة؛ لا في المادّة، و لا في المجموع، كما عرفت أنّه الأقوىٰ، أو اعتبارها في المادّة أو في المجموع هل يختصّ

به أو يعمّ غيره؟ و الذي يسدّ باب التعميم، هو احتمال أن يكون الحكم حكماً تسهيليّاً وارداً في مقام التوسعة؛ إذ الظاهر أنّ

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 55

وضع الحمّام في محيط صدور الروايات، كان علىٰ غير ما هو المتعارف في بلادنا؛ لكون الماء في تلك البلاد قليلًا في غاية القلّة، فيلزم من الحكم بالانفعال و عدم الاعتصام حرج عظيم و عسر شديد، و مع هذا الاحتمال الذي يمكن ادّعاء قوّته، لا مجال لدعوى التعميم؛ إذ هو متفرّع علىٰ إلغاء الخصوصيّة بنظر العرف، و معه لا تكون الخصوصيّة مُلغاة أصلًا، و الروايات الواردة في ماء الحمّام «1» لا تُستفاد منها علّة طهارته و اعتصامه؛ لكون عُمدتها هي صحيحة داود بن سرحان المتقدّمة «2»، و قد عرفت أنّ مفادها: أنّ التنزيل إنّما هو في خصوصيّة في الجاري بها يمتاز عن غيره «3»، و أمّا أنّ تلك الخصوصيّة مناطٌ و علّة للحكم المذكور فيها؛ حتّى يتعدّىٰ من مورده إلىٰ سائر الموارد التي لم يرد فيها تنزيل، فلا تدلّ عليه أصلًا، و الاستبعادات التي ذكروها لاختصاص الحكم بماء الحمّام «4» لا تقاوم هذا الاحتمال، فراجع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7.

(2) تقدّم في الصفحة 49.

(3) تقدّم في الصفحة 51.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 65.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 57

الماء القليل
في انفعال الماء القليل
اشارة

قد تحقّقت الشهرة العظيمة على انفعال الماء القليل بمجرّد الملاقاة مع النجاسة «1» بل لم يخالف فيه أحد من الأصحاب عدا ابن أبي عقيل علىٰ ما استثناه البعض «2» و تبعه بعض من المتأخّرين «3».

مضافاً إلى الأخبار الكثيرة المستفيضة «4» بل المتواترة علىٰ ما قيل «5» الدالّة على انفعال ما

دون الكُرّ، بل ربما قيل بأنّها تبلغ مائتين علىٰ ما جمعها بعضهم «6» بل حكي أنّها تبلغ ثلاث مائة «7».

______________________________

(1) راجع مفتاح الكرامة 1: 72/ السطر 20، جواهر الكلام 1: 105.

(2) المعتبر 1: 48، مختلف الشيعة 1: 13، جواهر الكلام 1: 105.

(3) الوافي 6: 18، مفاتيح الشرائع 1: 81، انظر مفتاح الكرامة 1: 73/ السطر 26.

(4) راجع وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8.

(5) معالم الدين، قسم الفقه 1: 126، انظر مفتاح الكرامة 1: 73/ السطر 22، جواهر الكلام 1: 105.

(6) رياض المسائل 1: 144، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 70.

(7) مفتاح الكرامة 1: 73، الهامش 1، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 107.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 58

حول الروايات الدالّة علىٰ عدم انفعال القليل

و مستند المخالفين بعض الروايات الواردة في موارد مختلفة، و الأولى نقل هذه الطائفة من الروايات؛ ليظهر حالها من حيث الدلالة علىٰ مطلوبهم و عدمها، ثمّ بيان أنّه لو تمّت دلالتها، فهل الترجيح معها أو مع غيرها؟

فنقول:

1 ما رواه الشيخ في «التهذيب»، عن محمّد بن علي بن محبوب، عن محمّد بن الحسين، عن علي بن حديد، عن حمّاد بن عيسىٰ، عن حريز، عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: قلت له: راوية من ماء سقطت فيها فأْرة أو جُرذ أو صَعْوة ميتة؟ قال

إذا تفسّخ فيها فلا تشرب من مائها و لا تتوضّأ و صبّها، و إن كان غير متفسّخ فاشرب منه و توضّأ، و اطرح الميتة إذ أخرجتها طريّة، و كذلك الجرّة و حُبّ الماء و القِربة و أشباه ذلك من أوعية الماء.

قال و قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إذا كان الماء أكثر من راوية لم ينجّسه شي ء؛ تفسّخ

فيه أو لم يتفسخ، إلّا أن يجي ء له ريح تغلب علىٰ ريح الماء «1».

و فيه: مضافاً إلىٰ ضعف السند أنّ مضمون هذه الرواية لم يكن مفتىً به لأحد من الأصحاب؛ لأنّه لم يعهد من أحد منهم التفصيل في مثل ماء الراوية بين صورة التفسّخ و عدمه، و تفسير التفسّخ بالتغيّر الموجب للنجاسة حتّى في الكُرّ و الماء الجاري و أمثالهما ينافيه ذيل الرواية الدالّ علىٰ عدم الانفعال إذا كان أكثر من راوية؛ بلا فرق بين التفسّخ و عدمه، ثمّ استثناء صورة التغيّر، فإنّه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 412/ 1298، الإستبصار 1: 7/ 7، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 59

لو كان التفسّخ بمعنى التغيّر، لم يكن وجه للتصريح بالتعميم، ثمّ استثناء بعض الأفراد، بل لم يكن- حينئذٍ فرق بينه و بين ماء الراوية و أشباهها من حيث الحكم، فلا وجه لتفريق صور المسألة، كما هو واضح.

هذا مضافاً إلى احتمال أن يكون ماء الراوية و أشباهها بقدر الكُرّ أو أزيد، كما يظهر من تفسيره في «المنجد» بأنّها المزادة من ثلاثة جلود «1»، و الاعتبار أيضاً يساعد عليه بعد ملاحظة قلّة الماء في الحجاز المقتضية لتوسعة أوعية الماء.

و بالجملة: فالرواية لا تدلّ علىٰ مطلوبهم أصلًا.

2 ما رواه محمّد بن يعقوب، عن عدّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد، عن الهيثم بن أبي مسروق، عن الحكيم بن مسكين، عن محمّد بن مروان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): قال

لو أنّ ميزابين سالا: أحدهما ميزاب بول و الآخر ميزاب ماء، فاختلطا ثمّ أصابك، ما كان به بأس «2».

و فيه: مضافاً إلىٰ مجهوليّة أكثر رواته أنّ

الظاهر أنّ المراد بميزاب الماء هو ميزاب ماء المطر، فتخرج الرواية عمّا نحن فيه.

و يؤيّده: أنّه نقل الكليني مثل هذه الرواية عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، مع إضافة الماء إلى المطر «3».

3 صحيحة علي بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السّلام)،

______________________________

(1) المنجد: 289.

(2) الكافي 3: 12/ 2، تهذيب الأحكام 1: 411/ 1296، وسائل الشيعة 1: 144، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 5، الحديث 6.

(3) الكافي 3: 12/ 1، تهذيب الأحكام 1: 411/ 1295، وسائل الشيعة 1: 145، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 60

قال

سألته عن رجل رعف فامتخط، فصار بعض ذلك الدم قِطَعاً صغاراً، فأصاب إناءه، هل يصلح له الوضوء منه؟ فقال: «إن لم يكن شيئاً يستبين في الماء فلا بأس، و إن كان شيئاً بيِّناً فلا تتوضّأ منه. قال: و سألته عن رجل رَعَفَ و هو يتوضّأ، فتقطّر قطرة في إنائه، هل يصلح الوضوء منه؟ قال: لا «1».

و فيه: أنّ الظاهر من قوله

فأصاب إناءه

، العلم بإصابة الدم الإناء، لا خصوص الماء الموجود فيه، و يؤيّده بل يدلّ عليه ذيل الرواية، و وجه السؤال عن صلاحيّة الوضوء منه احتمال إصابته الماء، فأجاب (عليه السّلام): «بأنّه لو كان الدم فيه مستبيناً فلا يصلح، و لو لم يكن بيِّناً فلا بأس».

و بالجملة: فليس مورد الرواية صورة العلم بملاقاة الماء للنجس، كما هو المفروض في المقام.

و لو فرض كون مورده ذلك فالرواية دالّة على الانفعال في صورة الاستبانة، و هو خلاف مدّعاهم، فالرواية إنّما تصلح دليلًا لمثل الشيخ (قدّس سرّه) القائل بعدم كون ما لا يدركه الطرف

من النجس مؤثّراً في الانفعال، بخلاف ما تدركه العين «2»، لا للقائل باعتصام الماء القليل مطلقاً.

4 ما رواه في «الكافي» عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن عبد اللّٰه بن المغيرة، عن ابن مسكان، قال: حدّثني محمّد بن ميسر، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل الجُنُب ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، و يريد أن يغتسل منه، و ليس معه إناء يغرف به، و يداه قذرتان؟ قال

يضع يده ثمّ يتوضّأ ثمّ يغتسل،

______________________________

(1) الكافي 3: 74/ 16، تهذيب الأحكام 1: 412/ 1299، الإستبصار 1: 23/ 57، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 1.

(2) المبسوط 1: 7، الاستبصار 1: 23، ذيل الحديث 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 61

هذا ممّا قال اللّٰه عزّ و جلّ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1» «2».

و فيه: مضافاً إلىٰ جهالة بعض رواته؛ لاشتراك محمّد بن ميسر بين ثلاثة «3» أنّ المراد من قوله

يضع يده

، ليس إدخال اليد في الماء؛ إذ لم يعهد ذلك في الاستعمالات، كما يظهر بالتتبّع في مواردها، بل الظاهر أنّ المراد به رفع اليد و الإعراض عنه و الانصراف منه.

ثمّ لو سُلّم أنّه قد يستعمل بالمعنى الأوّل، فهو فيما إذا كان متعلّقه كلمة «فيه» و أشباهها، و أمّا لو كان كلمة «عنه»، فكونه بالمعنى الذي ذكرنا من الواضحات التي لا يعتريها ريب، و حينئذٍ فمع عدم ذكر المتعلّق كما في الرواية يحتمل كلا الأمرين، فلا تصلح للاستناد إليها لما ادّعوه أصلًا. هذا مضافاً إلىٰ أنّ المستفاد من رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) الواردة في الجُنب يحمل الركوة أو التور فيدخل

إصبعه فيه «4»، أنّ الاستشهاد بقوله تعالىٰ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، إنّما هو لإهراق الماء في صورة قذارة يده، فيؤيّد أنّ الاستشهاد به في هذه الرواية أيضاً إنّما هو للإعراض عن الماء و رفع اليد عنه.

ثمّ لو سُلّم كون المراد من وضع اليد إدخاله في الماء، و أنّ التمسّك بالآية إنّما هو لرفع اعتبار الكُرّيّة في صورة الاضطرار، فغاية مدلول الرواية التفصيل

______________________________

(1) الحجّ (22): 78.

(2) الكافي 3: 4/ 2، تهذيب الأحكام 1: 149/ 425، الإستبصار 1: 128/ 436، وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 5.

(3) فإنّه مشترك بين محمّد بن ميسر بن عبد العزيز الثقة، و محمّد بن ميسر بن عبد اللّٰه الإمامي المجهول، و محمّد بن ميسر المهمل.

راجع تنقيح المقال 3: 194.

(4) تهذيب الأحكام 1: 38/ 103، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 62

بين صورة الاختيار و الاضطرار، و هو ممّا لم يقل به أحد من المتخاصمين، مضافاً إلىٰ أنّ الرواية تكون حينئذٍ من أدلّة الانفعال؛ إذ تدلّ علىٰ أنّ حكم الماء القليل في حدّ نفسه هو التأثّر بملاقاة النجاسة، غاية الأمر أنّ الحرج قد أوجب ارتفاعه في صورة انحصار الماء و قذارة اليدين و عدم إناء يغترف به، بل نفس السؤال عن حكم المسألة، يدلّ علىٰ أنّ انفعال الماء القليل كان مغروساً في أذهانهم، كما أنّ التقييد بعدم وجود إناء يغترف به، يدلّ علىٰ أنّه لو كان الإناء موجوداً فحكمه الاغتراف به.

و بالجملة: يظهر من السؤال عن فروع المسألة في هذه الرواية و أمثالها «1» أنّ انقسام الماء إلىٰ قسمين، و

تأثّره في إحدى الصورتين، كان معهوداً في البين، و كان هو الداعي إلى السؤال عن تلك الفروع.

ثمّ لا يخفى أنّ المراد بقوله (عليه السّلام)

و يتوضّأ

هو غسل اليد، فإنّه كثيراً ما يجي ء بهذا المعنىٰ، كما في «الوافي» «2».

و ممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الاستدلال بما عن «قرب الإسناد» و كتاب «المسائل» لعلي بن جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن جُنُب أصاب يده جنابة، فمسحه بخرقة، ثمّ أدخل يده في غسله قبل أن يغسلها، هل يُجزيه أن يغتسل من ذلك الماء؟ قال: إن وجد ماءً غيره فلا يجزيه أن يغتسل، و إن لم يجد غيره أجزأه» «3».

هذا مضافاً إلى الأخبار الكثيرة الدالّة علىٰ عدم جواز الغسل من الماء الذي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، أحاديث الباب 8.

(2) الوافي 6: 21/ 3670.

(3) مسائل علي بن جعفر: 209/ 452، قرب الإسناد: 180/ 666.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 63

أصابته قذارة يد الجُنُب، فراجعها «1».

5 ما رواه الشيخ بإسناده عن سعد بن عبد اللّٰه، عن موسى بن الحسن، عن أبي القاسم بن عبد الرحمن بن حمّاد الكوفي، عن بشير، عن أبي مريم الأنصاري، قال: «كنت مع أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حائط له، فحضرت الصلاة، فنزح دلواً للوضوء من رَكيٍّ له، فخرج عليه قطعة عذرة يابسة، فأكفأ رأسه و توضّأ بالباقي» «2».

و فيه:- مضافاً إلىٰ جهالة ابن حمّاد و بشير أنّ مضمون الرواية لا يناسب شأن الإمام (عليه السّلام)؛ و لو قلنا بعدم انفعال الماء القليل، خصوصاً بعد وجود ماءٍ آخر غير الماء الموجود في الدلو، بل لا يقع نظيره من كثير من أفراد الناس، كما هو غير خفيّ، مضافاً إلى احتمال أن

تكون العذرة عذرة ما يؤكل لحمه، و غير ذلك من الاحتمالات، كاحتمال أن يكون المراد بالباقي ما بقي في البئر، لا في الدلو، و كاحتمال أن يكون الدلو كُرّاً.

6 ما رواه الكليني عن علي بن محمّد، عن سهل بن زياد، عمّن ذكره، عن يونس، عن بكار بن أبي بكر، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يضع الكوز الذي يغرف به من الحُبّ في مكان قذر، ثمّ يدخله الحُبّ؟ قال

يصبّ من الماء ثلاثة أكفّ، ثمّ يدلك الكوز «3».

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 152، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 3 و 4 و 9 و 10 و 11.

(2) تهذيب الأحكام 1: 416/ 1313، الإستبصار 1: 42/ 119، وسائل الشيعة 1: 154، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 12.

(3) الكافي 3: 12/ 6، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 17.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 64

و فيه:- مضافاً إلى الإرسال و جهالة بعض الرواة «1» أنّ المراد بقوله

ثمّ يدخله الحُبّ

أنّه يريد إدخاله الحُبّ، و إلّا فلو كان المراد به ظاهره، لم يكن وجه لصبّ الماء عليه و دلك الكوز، كما هو واضح.

هذا مضافاً إلىٰ عدم الدليل علىٰ أنّ ماء الحُبّ كان أقلّ من الكُرّ، بل الظاهر كونه كثيراً؛ لما عرفت سابقاً: من أنّ أواني المياه و الأوعية المعدّة لها في مكّة و المدينة، كانت كبيرة «2»؛ لعدم وجود الماء الجاري و الراكد الذي بمنزلته نوعاً، كما لٰا يخفى.

7 صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألته عن الحبل يكون من شعر الخنزير يُستقىٰ به الماء من البئر، هل يتوضّأ من

ذلك الماء؟ قال

لا بأس «3».

و فيه: أنّ الظاهر أنّ المراد من قوله: «ذلك الماء» هو ماء البئر، لا الماء الموجود في الدلو.

توضيحه: أنّ الدلو الذي يكون من جلد الخنزير و الحبل الذي يكون من شعره، إنّما كان مستعملًا في سقي البساتين، كما يظهر من بعض الروايات «4»، و أمّا

______________________________

(1) رواها الشيخ الطوسي بإسناده، عن محمّد بن علي بن محبوب، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن أبي عمير، عمّن رواه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام). و الرواية مضافاً إلى الإرسال ضعيفة بجهالة محمّد بن الحسين بن أبي خالد.

راجع تنقيح المقال 3: 106/ 10582.

(2) تقدّم في الصفحة 59.

(3) الكافي 3: 6/ 10، تهذيب الأحكام 1: 409/ 1289، وسائل الشيعة 1: 170، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 2.

(4) تهذيب الأحكام 1: 413/ ذيل الحديث 1301، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 16.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 65

ما يُنزح به الماء للوضوء و الشرب فكان من أجزاء مأكول اللحم، و حينئذٍ فمع كون نجاسة أجزاء الخنزير من الضروريّات عندهم، و من المعلوم أنّ ماءهم كان منحصراً في الآبار، يحتاج الناس إلى السؤال عن حكم ماء البئر مع وقوع أجزاء الخنزير النجسة عليه، فالحكم بعدم البأس إنّما هو راجع إلىٰ عدم نجاسة ماء البئر.

و يدلّ علىٰ ذلك رواية حسين بن زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت له شعر الخنزير يُعمل حبلًا، و يستقى به من البئر التي يُشرب منها؟ فقال

لا بأس به «1».

فإنّ الظاهر أنّ مورد السؤال هو جواز الشرب و الوضوء من ماء البئر، الملاقي لشعر الخنزير المجعول حبلًا، لا

جوازهما من ماء الدلو الذي يكون حبلة شعر الخنزير، الموجب لوقوع بعض قطرات الملاقي له في الدلو و مائه، كما هو واضح.

8 مرسلة ابن أبي عمير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في عجين عُجن و خُبز، ثمّ عُلم أنّ الماء كانت فيه ميتة؟ قال

لا بأس أكلت النار ما فيه «2».

و فيه: أنّ الرواية تدلّ على الانفعال، غاية الأمر أنّه جعل المطهّر النار، فهي من أدلّة الانفعال، لا من أدلّة العدم.

9 ما رواه الكليني، عن الحسين بن محمّد، عن معلّىٰ بن محمّد، عن الوشّاء، عن حمّاد بن عثمان، عن عمر بن يزيد، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

______________________________

(1) الكافي 6: 258/ 3، وسائل الشيعة 1: 171، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1304، الإستبصار 1: 29/ 75، وسائل الشيعة 1: 175، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 18.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 66

أغتسل في مغتسل يُبال فيه، و يغتسل من الجنابة، فيقع في الإناء ما ينزو من الأرض؟ فقال

لا بأس به» «1».

و فيه: أنّه لم يعلم كون المراد صورة العلم بنجاسة الموضع الذي ينزو منه الماء إلى الإناء، بل الظاهر أنّ مورد السؤال صورة الشكّ.

10 موثّقة عمّار عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

سألته عن الرجل، هل يتوضّأ من كوز أو إناء غيره إذا شرب منه علىٰ أنّه يهوديّ؟ فقال: نعم. فقلت: من ذلك الماء الذي يشرب منه؟ قال: نعم «2».

و فيه:- مضافاً إلى اضطراب متن السؤال أنّه لا دليل علىٰ كون المراد صورة اليقين بكون الشارب يهوديّاً، بل الظاهر السؤال عن مورد الشكّ.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ مسألة نجاسة أهل

الكتاب من المسائل الخلافيّة، و الروايات الواردة فيها كلّها تدلّ علىٰ طهارته؛ و جواز الأكل و الشرب معه في إناء واحد، و جواز مساورته بلا تخصيص بالماء «3»، فهذه المسألة لا ارتباط لها بالمقام.

11 رواية ابن مسكان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألتُه عن الوضوء ممّا ولغ الكلب فيه و السنّور، أو شرب منه جمل أو دابّة، أو غير ذلك، أ يتوضّأ منه

______________________________

(1) الكافي 3: 14/ 8، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 7.

(2) تهذيب الأحكام 1: 223/ 641، الإستبصار 1: 18/ 38، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 3.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 66

(3) تهذيب الأحكام 1: 223/ 641، الإستبصار 1: 18/ 38، وسائل الشيعة 1: 229، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 3، الحديث 3، و 24: 208، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 53، و: 211، الباب 54، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 67

أو يغتسل؟ قال

نعم، إلّا أن تجد غيره فتنزّه عنه «1».

و فيه: أنّ الظاهر أنّ المياه التي كانت محلّا لولوغ الكلب و شرب الجمل و الدابّة هي المياه الكثيرة الواقعة في خارج البلد، كما هو واضح، و لو سُلِّم فغاية مدلولها إطلاق الحكم بالإضافة إلى الكثير و القليل، و لا دليل علىٰ ورودها في خصوص الثاني، فهي قابلة للتقييد بما يدلّ على اعتبار الكُرّيّة في اعتصام الماء.

12 رواية الأحول- يعني محمّد بن النعمان قال: قلت لأبي

عبد اللّٰه (عليه السّلام): أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به؟ فقال

لا بأس «2».

رواها الكُليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن ابن أُذينة، عنه «3».

و رواها الصدوق في العلل، عن أبيه، عن سعد بن عبد اللّٰه، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل، عن الغير، أو الأحول «4» أنّه قال: دخلت علىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، فقال

سل عمّا شئت

، فارْتجتْ عليّ المسائل، فقال لي

سل ما لك.

فقلت: جُعلتُ فداك

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 226/ 649، وسائل الشيعة 1: 228، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 2، الحديث 6.

(2) تهذيب الأحكام 1: 85/ 223، وسائل الشيعة 1: 221 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1 و 2.

(3) الكافي 3: 13/ 5.

(4) كذا في الوسائل 1: 161 (طبعة المكتبة الإسلامية) لكن في المصدر: عن العنزا عن الأحول.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 68

الرجل يستنجي، فيقع ثوبه في الماء الذي استنجىٰ به؟ فقال

لا بأس.

فسكت فقال

أَ وَ تدري لِمَ صار لا بأس به؟

قال: قلت: لا و اللّٰه. فقال

لانَّ الماء أكثر من القذر «1».

و فيه: أنّ التمسّك إن كان بما رواه الكُليني عن الأحول؛ ممّا ورد في خصوص ماء الاستنجاء؛ بتقريب: أنّه لا خصوصيّة لماء الاستنجاء؛ لعدم الفرق بينه و بين سائر المياه القليلة الملاقية للنجس.

ففيه: أنّه لا يسوغ إلغاء الخصوصيّة من الأخبار الواردة في طهارة ماء الاستنجاء، بعد ملاحظة كثرة الابتلاء به، خصوصاً في الحجاز، و خصوصاً في الأزمنة السابقة التي لم يكن لهم خلاء أصلًا، هذا مضافاً إلى

اختصاصه بأحكام لا تجري في غيره، كجوازه بثلاثة أحجار و بالخرقة، و غير ذلك من الأحكام المختصّة بالاستنجاء، و حينئذٍ فيحتمل قويّاً أن يكون لمائه أيضاً حكم مختصّ به لا يجري في غيره، و إلى الفرق بين المقام و بين ماء الاستنجاء؛ من حيث إنّ مورده ما إذا ورد الماء على النجاسة، بخلاف المقام.

و ممّا ذكرنا ظهر: أنّه لا يجوز التمسّك لعدم انفعال الماء القليل بأخبار الاستنجاء، كما أنّه لا يجوز التمسّك بها لحكم ماء الغسالة مطلقاً، كما سيجي ء توضيحه «2».

و كذلك لا يجوز التمسّك للمقام بأدلّة ماء الحمّام؛ بناء علىٰ عدم اعتبار الكُرّيّة؛ لا فيه، و لا في مادّته، و لا في المجموع، كما عرفت أنّه الحقّ؛ لعدم جواز إلغاء الخصوصيّة، كما عرفت في مبحث ماء الحمّام «3».

______________________________

(1) علل الشرائع: 287/ 1.

(2) يأتي في الصفحة 209.

(3) تقدّم في الصفحة 54 55.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 69

و إن كان التمسّك بما رواه الصدوق عن الأحول، الدالّ علىٰ أنّ الوجه في طهارة ماء الاستنجاء، كون الماء أكثر من القذر.

ففيه:- مضافاً إلىٰ كونها مرسلة أنّها لا تصلح لأن تعارض ما يدلّ على الانفعال، بعد كونها واحدة، و في مقابلها أكثر من مائة، كما هو واضح.

هذه هي مجموع الروايات التي يمكن الاستدلال بها على اعتصام الماء القليل.

نعم هنا روايات اخر ربما يستدلّ بها، لكن من الواضح أنّ الاستدلال بها إنّما هو لتكثير الدليل، و إلّا فلا دلالة- بل و لا إشعار فيها أصلًا، كما هو ظاهر لمن راجعها.

ثمّ إنّك عرفت عدم دلالة شي ء من الروايات علىٰ مطلوبهم، و لو سُلِّمت الدلالة- في بعضها فهي لا تصلح للمعارضة، بعد دلالة الروايات الكثيرة البالغة مائتين أو ثلاث مائة-

علىٰ ما قيل «1» على الانفعال و عدم الاعتصام، و هل تكون مع ذلك معتبرة و مناط الاعتبار- و هو بناء العقلاء موجوداً فيها؟! و هذا بمكان من الوضوح.

مضافاً إلىٰ أنّ الشهرة من حيث الفتوىٰ- التي هي أوّل المرجّحات، كما في مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة «2»، بل عند العقلاء أيضاً موافقة لتلك الروايات؛ إذ لم يخالف فيه أحد من الأصحاب إلّا ابن أبي عقيل من المتقدّمين «3»، و الفيض القاساني من المتأخّرين «4»، و لا اعتبار بهما بعد الشذوذ و النُّدرة.

______________________________

(1) انظر مفتاح الكرامة 1: 73، الهامش 1، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 107.

(2) الكافي 1: 54/ 10، وسائل الشيعة 27: 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 9، الحديث 1.

(3) انظر المعتبر 1: 48، مختلف الشيعة 1: 13، جواهر الكلام 1: 105.

(4) الوافي 6: 18، مفاتيح الشرائع 1: 81.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 70

حول استدلال الفيض الكاشاني علىٰ عدم انفعال القليل

ثمّ إنّه قد استدلّ الثاني منهما في «الوافي» علىٰ عدم اعتبار الكُرّيّة بوجوه ضعيفة؛ عُمدتها: أنّه لو كان معيار نجاسة الماء و طهارته، نقصانه عن الكُرّ و بلوغه إليه، لما جاز إزالة الخبث بالقليل منه بوجه من الوجوه، مع أنّه جائز بالاتّفاق؛ و ذلك لأنّ كلّ جزء من أجزاء الماء الوارد على المحلّ النجس إذا لاقاه، كان متنجّساً بالملاقاة، خارجاً عن الطَّهوريّة في أوّل آنات اللقاء، و ما لم يُلاقِهِ لا يعقل أن يكون مطهّراً، و الفرق بين وروده على النجاسة و ورودها عليه- مع أنّه مخالف للنصوص لا يُجدي؛ إذ الكلام في ذلك الجزء الملاقي و لزوم تنجّسه، و القدر المستعلي لكونه دون مبلغ الكُرّية، لا يقوى علىٰ أن يعصمه بالاتّصال عن الانفعال، فلو كانت

الملاقاة مناط التنجّس لزم تنجّس القدر الملاقي لا محالة، فلا يحصل التطهير أصلًا.

و أمّا ما تكلّفه بعضهم من ارتكاب القول بالانفعال هنالك من بعد الانفصال عن المحلّ الحامل للنجاسة، فمن أبعد التكلّفات، و من ذا الذي يرتضي القول بنجاسة الملاقي للنجاسة، بعد مفارقته عنها و طهارته حال ملاقاته لها، بل طهوريّته «1»؟! انتهىٰ موضع الحاجة من كلامه زيد في علوّ مقامه.

و فيه: أنّ هذه الحجّة- لو تمّت فإنّما تختصّ بخصوص موردها، و هو فيما إذا كان الماء القليل مستعملًا في التطهير، و أمّا في غيره، مثل ما إذا وقع النجس في إناء من الماء، فلا تجري فيه، فيكون الدليل أخصّ من المدّعىٰ، هذا مضافاً إلىٰ عدم تماميّتها في نفسها، فإنّا سنبيّن في مبحث الغسالة إن شاء اللّٰه تعالىٰ

______________________________

(1) الوافي 6: 19.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 71

أنّه يكفي في الطَّهوريّة كون الماء طاهراً قبل الملاقاة، و أنّ تنجّسه بالملاقاة لا يضرّ بذلك أصلًا «1».

تفصيل الشيخ الطائفة في انفعال الماء القليل

ثمّ إنّه حُكي عن الشيخ (قدّس سرّه) التفصيل في انفعال الماء القليل بين كون النجس ممّا لا يدركه الطرف و بين غيره؛ بعدم الانفعال في الأوّل دون الثاني «2».

و فيه: أنّه إن كان مستنده في ذلك صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة «3»، الدالّة على التفصيل بين استبانة الدم في الماء، فلا يصحّ الوضوء منه و بين عدم الاستبانة فيصحّ.

فقد عرفت أنّ مورد السؤال فيها، هو العلم بإصابة الدم الإناءَ مع الشكّ في إصابته الماء «4»، فلا ارتباط لها بالمقام أصلًا.

و إن كان مستنده هو انصراف الأدلّة- الدالّة علىٰ نجاسة ذلك النجس عمّا إذا بلغ في القلّة بمقدار لا يدركه الطرف.

ففيه: أنّه إن كان المراد بقوله

لا يدركه الطرف

هو فرضه

كالعدم بالنظر المسامحي العرفي، كما يظهر من التمثيل له بقوله

كرأس الإبر.

فيرد عليه: منع الانصراف؛ إذ لا دليل عليه.

و إن كان المراد به أنّه لا يدرك بنظر العرف أصلًا، بل الاطّلاع عليه يحتاج إلى الوسائل غير العاديّة، فالانصراف مسلّم لا ينبغي الارتياب فيه، و له نظائر

______________________________

(1) راجع ما يأتي في الصفحة 203 204.

(2) المبسوط 1: 7، الاستبصار 1: 23، ذيل الحديث 12.

(3) تقدّم في الصفحة 59 60.

(4) تقدّم في الصفحة 60.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 72

كثيرة: كالحكم بطهارة المتنجّس بالدم إذا زالت عينه و لو بقي لونه، فإنّ العقل يحكم بأنّ بقاء اللون كاشف عن بقاء أجزاء الدم؛ لامتناع انتقال العرض- كما حقّق في محلّه «1». و مع ذلك فهو بنظر العرف زائل غير باقٍ، و لذا يحكم عليه بالطهارة، و كالحكم بطهارة الشي ء المجاور للميتة الآخذ ريحها، فإنّه لا يعدّ الريح من أجزاء الميتة عرفاً، مع أنّه يكون من أجزائها عقلًا، كما قُرّر في موضعه.

فانقدح من جميع ما ذكرنا: أنّ الأقوىٰ هو انفعال الماء القليل مطلقاً، إلّا فيما كان النجس الملاقي غير ظاهر بنظر العرف أصلًا.

حول اعتبار ورود النجاسة في انفعال الماء القليل

ثمّ إنّه هل يعتبر في انفعال الماء القليل، أن تكون النجاسة واردة عليه، أو ينفعل مطلقاً؛ سواء كان الماء وارداً على النجاسة، أو كانت النجاسة واردة عليه؟

و ليعلم الفرق بين هذا المقام و بين ماء الغُسالة- الذي سيجي ء النزاع فيه إن شاء اللّٰه تعالىٰ «2» فإنّ النزاع هنا في الماء الوارد على النجاسة؛ سواء كان مستعملًا للتطهير أو لغيره، و سواء ورد الماء على النجاسة و تجاوز عنها، أو استقرّ معها، كما إذا اختلط الماء بالدّم الذي يكون في الإناء- مثلًا من دون أن يتحقّق

التغيّر بوجه.

و هناك في الماء المستعمل للتطهير؛ سواء ورد الماء على النجاسة، أو كان موروداً بالإضافة إليها، فالنسبة بين المقامين العموم و الخصوص من وجه.

______________________________

(1) الشفاء، الإلهيّات: 359، كشف المراد: 143، شرح المواقف 5: 27.

(2) يأتي في الصفحة 199.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 73

كلام السيّد و ابن إدريس في المقام

و قد ينسب- في المقام اعتبار ورود النجاسة على الماء إلى السيّد و ابن إدريس (قدّس سرّهما) «1» و منشأ النسبة ما ذكره السيّد في «الناصريات» و ما يظهر من «السرائر» من اختياره لما ذكر فيها و الأولى نقل عبارة السيّد حتى يظهر حال النسبة، فنقول:

قال: «المسألة الثالثة: لا فرق بين ورود الماء على النجاسة و بين ورود النجاسة على الماء.

و هذه المسألة لا أعرف فيها نصّاً لأصحابنا، و لا قولًا صريحاً، و الشافعي يفرّق بين ورود الماء على النجاسة و ورودها عليه، فيعتبر القُلّتين في ورود النجاسة على الماء، و لا يعتبر في ورود الماء على النجاسة «2»، و خالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة، و يقوى في نفسي عاجلًا- إلىٰ أن يقع التأمّل في ذلك صحّةُ ما ذهب إليه الشافعي.

و الوجه فيه: أنّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة، لأدّى ذلك إلىٰ أنّ الثوب لا يطهر من النجاسة إلّا بإيراد كُرّ من الماء عليه، و ذلك يشقّ، فدلّ علىٰ أنّ الماء إذا ورد علىٰ النجاسة لا تعتبر فيه القُلّة و الكثرة، كما تعتبر فيما ترد النجاسة عليه» «3». انتهىٰ كلامه رفع مقامه.

و ذكر الحلّي بعد نقل هذه العبارة ما هذا لفظه: «قال محمّد بن إدريس

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 131.

(2) الامّ 1: 13، بداية المجتهد 1: 26، المجموع 1: 136.

(3) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهية: 215/

السطر 9 14.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 74

و ما قوي في نفس السيّد هو الصحيح المستمرّ علىٰ أصل المذهب و فتاوي الأصحاب» «1».

أقول: لا يخفى أنّ ما ذكره السيّد من الوجه، دليل علىٰ أنّ مراده إنّما هو ماء الغُسالة؛ لوضوح عدم جريانه في جميع صور المسألة، بل في خصوص مورد الاجتماع بينها و بين ماء الغُسالة، و قد عرفت أنّ النزاع هنا أعمّ منه، و يحتمل أن يكون مراده الفرق بين الماء الأعلى الوارد على النجاسة، كماء الإبريق الجاري عليها، و بين الماء المتساوي من حيث السطح مع النجاسة أو الأسفل منها، فلا ينفعل الماء الأعلى باتّصاله بالنجاسة، بخلاف غيره من المساوي أو الأسفل.

و يؤيّد ذلك ما ذكره الحلّي: من أنّه الموافق لأصل المذهب و فتاوي الأصحاب، فتدبّر.

الاستدلال علىٰ عدم انفعال القليل بقاعدة الطهارة

و كيف كان، فقد يستدلّ في المقام علىٰ أنّه لا ينفعل الماء القليل مطلقاً، بل يتوقّف علىٰ كون الماء موروداً للنجاسة: بقاعدة الطهارة، بعد دعوى: أنّه ليس فيما يدلّ على انفعال الماء إذا لم يكن بالغاً حدّ الكُرّ، ما يدلّ بعمومه علىٰ شمول الحكم لمثل المقام؛ لأنّ أغلب الأدلّة واردة في مورد ورود النجاسة على الماء، و ما كان من قبيل قوله (عليه السّلام)

إذا كان الماء قدر كُرّ لا ينجّسه شي ء «2»

لا يستفاد

______________________________

(1) السرائر 1: 180 181.

(2) الكافي 3: 2/ 2، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 75

منه إلّا انفعال الماء القليل في الجملة، و القدر المسلّم منه غير مثل المقام «1».

و فيه: المنع من عدم استفادة العموم من هذه المفهومات.

توضيحه: أنّ الموضوع في المناطيق إنّما هو نفس طبيعة

الماء بلا دخالة قيد فيها أصلًا، و الحكم المترتّب عليه: إنّما هو عدم تنجّسه بملاقاة شي ء من النجاسات؛ فيما إذا كان بالغاً حدّ الكُرّ، فإطلاق الموضوع إنّما يفيد عدم مدخليّة شي ء في ترتّب هذا الحكم عليه، كما أنّ مقتضىٰ وقوع النكرة في سياق النفي، إنّما هو عدم تأثير شي ء من النجاسات فيه بلا اختصاص بخصوص بعضها، و استفادة عموميّة الحكم و عدم الفرق بين صورة ورود النجاسة على الماء و العكس، إنّما هو من إطلاق الماء أو من إطلاق الشي ء. هذا في المنطوق.

و أمّا المفهوم فمن الواضح بقاء لفظ

الماء

و

الشي ء

فيه علىٰ إطلاقهما. نعم لا يبقى مجال للقول بشمول الحكم لجميع النجاسات؛ لأنّ استفادة التعميم في المنطوق إنّما هو من وقوع النكرة في سياق النفي، و من المعلوم أنّ نقيض السالبة الكلّيّة إنّما هي الموجبة الجزئيّة و سيأتي الكلام فيه «2».

و بالجملة: فحيث إنّ عموميّة الحكم؛ و شموله لصورتي ورود الماء على النجاسة و ورودها عليه، إنّما تكون في المنطوق مستفادة من الإطلاق، و هو بعينه باقٍ في طرف المفهوم، فلا مجال للحكم بعدم دلالة المفهوم على التعميم.

نعم لو كان معنى الإطلاق راجعاً إلىٰ معنى العموم- كما ذكره بعض في الأُصول «3» لكان الإطلاق من هذا الحيث كالعموم بالنسبة إلىٰ جميع

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 1: 328، جواهر الكلام 5: 131، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 86 87.

(2) يأتي في الصفحة 201.

(3) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 511، درر الفوائد، المحقّق الحائري 1: 210.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 76

النجاسات، فكما أنّه يرتفع بإيجاب البعض، كذلك هذا أيضاً يرتفع بإيجاب البعض.

و لكن الظاهر عدم صحّة هذا المعنىٰ؛ لأنّه ليس معنى الإطلاق إلّا الإرسال و

عدم التقيّد بالقيد، لا العموم لجميع الأفراد أو الحالات. و تفصيل الكلام في محلّه «1».

و يدلّ على التعميم أيضاً: أنّ المتبادر عند المتشرّعة من هذه الأدلّة، أنّ الوجه في انفعال الماء القليل ليس إلّا مجرّد الملاقاة مع النجس؛ من دون أن يكون فرق عندهم بين الصورتين أصلًا، بل لا يخطر ببالهم احتمال الفرق.

هذا مضافاً إلى المؤيّدات المذكورة في الكتب الفقهيّة المفصّلة، فراجعها «2».

عدم تنجس العالي بملاقاة أسفله للنجاسة

ثمّ إنّه لا إشكال- ظاهراً في عدم تنجّس الماء العالي بمجرّد ملاقاة الأسفل منه لشي ء من النجاسات مع جريانه، مثل ماء الإبريق الجاري علىٰ يد الكافر أو للتطهير.

و الوجه فيه- مع أنّ موضوع أدلّة الانفعال هو الماء القليل الواحد، و الوحدة متحقّقة في هذه الصورة: أنّ الظاهر انصرافها عن هذه الصورة، خصوصاً بعد ملاحظة صحّة استعماله للتطهير، كما هو المتداول إلى الآن، لا سيّما في مثل المدينة المنوّرة، التي كانت المياه القليلة مورداً لاحتياج الناس

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 231 232 و 313، تهذيب الأُصول 1: 461 و 525.

(2) جواهر الكلام 1: 133، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 88.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 77

و ابتلائهم غالباً؛ لقلّة الماء الكثير.

و بالجملة: لا ينبغي الارتياب في عدم شمول تلك الأدلّة لمثل هذه الصورة، بعد ملاحظة استعمال الماء القليل للتطهير من زمن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلىٰ يومنا هذا، و لو كان الحكم شاملًا لمثل المقام، لما كان يمكن التطهير بالماء القليل بوجه.

و قد يقال: إنّ الوجه في عدم تنجّس الماء العالي: هو أنّ المتفاهم عند العرف من تلك الأدلّة أنّ المناط في تنجّس الجزء غير الملاقي، هي سراية النجاسة من الجزء الملاقي إليه، و لذا قد ثبت الفرق بين

المائع الملاقي للنجس و الجامد الملاقي له، فإنّه لو تنجّس أحد أطراف الثوب لم يحكم بنجاسة سائر الأطراف، بخلاف مثل الماء، فإنّه بمجرّد نجاسة بعض أجزائه يحكم بنجاسة الجميع، و ليس ذلك إلّا لعدم كون المناط موجوداً في الثاني دون الأول.

و بالجملة: فالثوب و الماء أمران مشتركان من حيث الوحدة و الكثرة، فمن جهة يكون كلٌّ منهما واحداً، و من جهة أُخرى يكون كثيراً، فالفرق بينهما من حيث الوحدة و الكثرة؛ بدعوىٰ أنّ الوجه في عدم نجاسة جميع الثوب و أطرافه هو كون كلّ جزء منه موضوعاً مستقلا للطهارة و النجاسة، بخلاف الماء «1» لا يعلم له وجه أصلًا.

و الدعوىٰ ممنوعة جدّاً، بل الفرق بينهما هي سراية النجاسة إلىٰ جميع الأجزاء في الماء، دون الثوب و أمثاله.

هذا، و يرد عليه: أنّه لو كان المناط في النجاسة هو مجرّد السراية، يلزم الحكم بطهارة الماء القليل، الملاقي بعض أجزائه للنجس، المتساوي إجزاؤه من

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 89 90.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 78

حيث السطح؛ إذا لم تتحقّق السراية بنظر العرف أصلًا، كما إذا كان طوله كثيراً؛ بحيث لو وقع قذر عرفي في أحد طرفيه لم يستقذر العرف الطرف الآخر أصلًا.

و الحقّ أن يقال: إنّ الأمر كذلك لو كانت كيفيّة التنجيس موكولة إلىٰ نظر العرف، و لم يكن للشارع فيها بيان أصلًا، و لكن مراجعة الأدلّة خلافه، فإنّ قوله (عليه السّلام)

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «1»

ظاهر في أنّ الموضوع هو الماء الواحد، فيكون الحكم في جانب المفهوم مترتّباً علىٰ هذا الموضوع أيضاً، فهذا الدليل بنفسه يدلّ علىٰ تنجّس الماء الواحد؛ إذا لاقىٰ بعضُ أجزائه شيئاً من النجاسات. هذا مضافاً إلى الروايات

الكثيرة الدالّة علىٰ هذا المعنىٰ «2»، فراجع.

و ما ذكرنا و إن كان مستلزماً للقول بعموميّة الحكم و شموله لصورة تخالف أجزاء الماء الواحد بالعلوّ و السفل، إلّا أنّك عرفت انصراف الأدلّة عن مثل هذه الصورة «3»، و إلّا لما أمكن التطهير بالماء القليل بوجه، فالمسألة ليست عُرفيّة محضة؛ حتّى يقال بأنّ المناط عند العرف هو مجرّد السراية؛ للزوم خروج مثل الصورة المتقدّمة، و لا شرعيّة صرفة؛ حتّى يقال بلزوم تعميم الحكم لجميع الموارد، فتدبّر.

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2 و 6 (مع تفاوت يسير).

(2) انظر وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8.

(3) تقدّم في الصفحة 76.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 79

كيفية تطهير الماء القليل النجس
قابليّة الماء للتطهير

و قبل الخوض في كيفيّة التطهير، لا بدّ أوّلًا من بيان أنّ الماء، هل يكون قابلًا للتطهير كسائر الجامدات المتنجّسة، أو يكون كالأعيان النجسة غير قابل للتطهير؟

فنقول: لولا الدليل الشرعي علىٰ قابليّة الماء للتطهير و خروجه عن النجاسة إلى الطهارة، لكان مقتضىٰ ما هو المرتكز في أذهان العرف في باب التطهير عدم قابليّة الماء له؛ و ذلك لأنّ الشي ء القابل للتطهير هو ما كان باقياً بعد وصول الماء إلىٰ جميع أجزائه النجسة، كما هو المغروس في أذهان أهل العرف، فالثوب المتنجّس- مثلًا قابل للتطهير بعد وصول الماء إلى الموضع النجس منه؛ لعدم انتفائه بعد وصول الماء اليه و بقاء الحقيقة.

و بالجملة: فمناط قابليّة الشي ء للتطهير هو بقاؤه بحقيقته بعد التطهير، و إلّا فمثل الدم أيضاً قابل بعد إلقائه في الماء و استهلاكه فيها، مع أنّه ليس كذلك؛ لعدم بقائه على الحقيقة الدميّة، و المفروض كونها موضوعاً للحكم

بالنجاسة.

و بعد ملاحظة ذلك يظهر: أنّ الماء لا يكون قابلًا للتطهير؛ لعدم تحقّق مناط القابليّة فيه؛ لأنّ تطهيره إنّما هو بوصول الماء إلىٰ جميع أجزائه، و لا يكفي مجرّد اتّصاله بالكُرّ و الجاري و أمثالهما- كما سيجي ء «1» و وصول الماء إلى

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 81.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 80

جميع الأجزاء لا يتحقّق إلّا بعد استهلاكه فيه «1» و الاستهلاك موجب للطهارة حتّى في الأعيان النجسة كما عرفت.

و بالجملة: فمقتضى القاعدة المعروفة عند العقلاء و العرف في باب التطهير، هو أن لا يكون الماء قابلًا للتطهير، لكن مقتضىٰ ما ورد من الشرع، كون الماء كالجامدات المتنجّسة قابلًا للتطهير، و ذلك مثل صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة «2»، الدالّة علىٰ عروض الطهارة علىٰ ماء البئر المتغيّر، بعد ذهاب التغيّر و طيب الطعم و زوال الريح، معلّلًا: بأنّ له مادة.

و أمّا ما ورد في النبوي: من «أنّ الماء يطهّر و لا يطهَّر» «3»، فالمراد منه أنّ الماء مطهّر لغيره، و لا يقبل التطهير بالغير، لا أنّه لا يقبل التطهير أصلًا حتّى بماء آخر؛ لأنّ الموضوع هي نفس طبيعة الماء، فإذا حكم عليها بالطَّهوريّة فمعناه كونه مطهِّراً لغيره، و الحكم عليها بأنّها لا تطهَّر، يرجع أيضاً إلىٰ عدم قابليّتها للتطهير من جانب الغير؛ لأنّ الموضوع له أيضاً هي نفس الطبيعة، و هذا واضح.

______________________________

(1) يمكن أن يقال بأنّ وصول الماء إلىٰ جميع أجزاء الماء المتنجّس يتحقّق بمجرّد الامتزاج من دون الاستهلاك، فلو القي الكرّ مثلًا على الماء القليل المتنجّس ثمّ اختلطا يتحقّق بمجرّد الامتزاج ما هو المعتبر في تطهير الماء من وصول الماء إلى جميع أجزاء النجسة، و الامتزاج لا يوجب انعدام حقيقة

الشي ء كالاستهلاك.

و بالجملة فلا يرى فرق بين الماء المتنجّس و الجامدات المتنجّسة إلّا من حيث توقّف تطهيره على الامتزاج بماء آخر و هو لا يوجب أن لا يكون قابلًا للتطهير. [المقرر دام ظلّه].

(2) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12، و تقدّم في الصفحة 37.

(3) الكافي 3: 1/ 1، وسائل الشيعة 1: 134، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 81

اعتبار الامتزاج في تطهير الماء المتنجّس

ثمّ إنّه بعد الفراغ من كون الماء قابلًا للتطهير، يقع الكلام في كيفيّة تطهير الماء المتنجّس.

فنقول: عُمدة ما ورد من الروايات في هذا الباب: هي صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة «1».

و قد تتوهّم: دلالتها علىٰ كفاية مجرّد اتّصال الماء المتنجّس بالماء المعتصم، كالجاري و الكُرّ، و لا يعتبر الامتزاج، فضلًا عن الاستهلاك «2»؛ بتقريب: أنّه لا إشكال في أنّه لا خصوصيّة للنزح المأمور به فيها، بل يكون مقدّمة لزوال التغيّر الموجب لنجاسة الماء، و التعليل الوارد فيها لا يوجب الاختصاص بالمياه التي لها مادّة؛ لأنّ الخصوصيّة التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة- و هي النبع و الجريان من عروق الأرض لا مدخليّة لها أصلًا، و حينئذٍ فمدلول الرواية: أنّ زوال التغيّر موجب لارتفاع النجاسة المسبَّبة عنه؛ لاتّصاله بماء معتصم، و لا يستفاد منها اعتبار أزيد من الاتّصال.

و يرد عليه: أنّ زوال التغيّر المسبّب عن النزح، إنّما يتحقّق بإخراج الماء منه تدريجاً، ثمّ الخروج عن المادّة بمقداره و امتزاجه بالمياه الموجودة فيه، و إلّا فمجرّد الاتّصال بالمادّة، لا يوجب زوال التغيّر من الماء الذي كان متغيّراً؛ إذ تقليله لا يوجب تضعيف التغيّر، و

إنّما يرتفع بالإخراج و الخروج من المادّة تدريجاً مع امتزاجه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 37.

(2) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 58 59 و 108.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 82

و بالجملة: فللنزْح خصوصيّتان: إحداهما الإخراج بالدلو و أمثاله، ثانيتهما أنّه موجب للخروج من المادّة بمقداره و امتزاجه بالماء الموجود في البئر.

و الأوّل لا إشكال في عدم دخالته بنظر العرف أصلًا، بل لا يكون أصل الإخراج معتبراً عندهم، فلو خرج ماء كثير من المادّة أحياناً؛ بحيث صار موجباً لزوال التغيّر ترتفع النجاسة.

و الثاني لا دليل علىٰ عدم دخالته و كونه مُلغى، بل يحتمل قويّاً مدخليّته في زوال النجاسة.

فظهر: أنّ مقتضى الرواية اعتبار الامتزاج في الجملة، و قد عرفت- فيما سبق عدم دلالتها على اعتبار الاستهلاك «1»؛ لأنّ زوال التغيّر إنّما يتحقّق تدريجاً، فالمياه الخارجة من المادّة ما لم يحصل زوال التغيّر، تكون نجسة، فزوال النجاسة بزوال التغيّر، إنّما يتحقّق بمقدار الدلو أو الدلوين اللذين يحصل بهما زوال التغيّر.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ التغيّر الموجب لحدوث النجاسة، قد يكون ضعيفاً؛ بحيث لا يحتاج زواله إلىٰ أزيد من نزح دلو أو دلوين، فمقتضىٰ إطلاق الرواية- و شمولها لمثل هذه الصورة التي يكون الاستهلاك من ناحية المطهّر، فضلًا عن العكس عدم اعتبار استهلاك الماء المتنجّس في الماء المعتصم أصلًا.

هذا كلّه بناءً علىٰ إلغاء خصوصيّة كون الماء ذا مادّة، كما ذكره المتوهّم «2».

و أمّا بناء علىٰ عدمه، فيختصّ الحكم بالمياه التي تكون لها مادّة، كالجاري و البئر، فلا بدّ من استفادة حكم تطهير المياه الراكدة المتنجّسة من دليل آخر.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 46.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 144 146، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 78.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص:

83

حول الاستدلال علىٰ عدم اعتبار الامتزاج في التطهير

و قد يستدلّ علىٰ كفاية مجرّد الاتّصال بالماء المعتصم- من دون توقّف على الامتزاج بما ورد من قوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء يراه ماء المطر فقد طهر «1»

، و قوله (عليه السّلام)- مشيراً إلىٰ غدير من الماء

إنّ هذا لا يصيب شيئاً إلّا و طهّره «2».

بتقريب: أنّ مقتضىٰ إطلاقهما و شمولهما للماء المتنجّس، أن يُكتفىٰ في تطهيره بمجرّد رؤيته ماء المطر أو إصابة الماء المعتصم له. و من الواضح أنّ تحقّق هذا لا يتوقّف على الامتزاج، بل تصدق الرؤية و الإصابة بمجرّد الاتّصال؛ لأنّ المفروض كون الماء واحداً عقلًا و عرفاً، فاتّصاف بعض الأجزاء بكونه مرئيّاً للمطر أو مصاباً للماء المعتصم، يكفي في صدق كون الماء متّصفاً بهذا الوصف «3».

و يرد عليه: أنّ الظاهر أنّ المراد منهما هو تلاقي كلّ جزء من الأجزاء النجسة مع ماء المطر أو الماء المعتصم الآخر، كما هو الحال في الجامدات النجسة، فكما أنّ الثوب المتنجّس بجميع أجزائه لا يطهر بمجرّد رؤية ماء المطر، أو إصابة الماء المعتصم لبعض أطرافه، فكذلك الماء المتنجّس بجميع أجزائه، لا يعرض له الطهارة بمجرّد رؤية بعض أجزائه أو إصابته.

و ما يقال: من أنّه لا فرق بين الطهارة و النجاسة، فكما أنّ عروض

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 3، وسائل الشيعة 1: 146، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 6، الحديث 5.

(2) مختلف الشيعة 1: 15، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 8.

(3) جواهر الكلام 1: 149 150، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 144 145، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 96.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 84

النجاسة للماء غير البالغ حدّ الكرّ، لا يتوقّف علىٰ ملاقاة جميع

أجزائه مع النجاسة، بل يتّصف بها بمجرّد ملاقاة بعض أجزائه معها، فكذلك زوالها لا يتوقّف على اتّصال جميع أجزائه النجسة بالماء المعتصم «1».

مدفوع: بأنّ قياس الطهارة على النجاسة مع الفارق، كما يظهر بمراجعة العرف، فإنّهم لا يرتفع استقذارهم من الماء- الذي وقع فيه بعض القذارات الصوريّة بمجرّد اتّصاله بماء آخر، كما أنّهم لا يستعملون الماء الذي وقع القذر في بعض أطرافه.

و بالجملة: فمقتضى الروايتين عدم حصول الطهارة بمجرّد إصابة الماء لبعض أجزاء الماء المتنجّس، بل تتوقّف علىٰ إصابته لجميع أجزائه، و لذا لو لم يكن في هذا الباب إلّا هاتان الروايتان، لأشكل استفادة كون الماء قابلًا للتطهير منهما؛ لأنّ مفادهما هو اعتبار الاستهلاك بالنسبة إلى الماء النجس؛ لأنّه مساوق لوصول الماء المطهّر إلىٰ جميع أجزائه، و قد عرفت أنّ المناط في كون الشي ء قابلًا للتطهير، هو بقاؤه بحقيقته بعده «2»، و الاستهلاك منافٍ لذلك.

و ربما يستدلّ «3» لكفاية مجرّد الاتّصال بما ورد في ماء الحمّام: من أنّه

كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً «4».

و فيه: أنّ نجاسة ماء النهر إنّما هي بعد تغيّره بأحد أوصافه الثلاثة، و قد عرفت أنّ الماء المتغيّر لا يمكن ارتفاع تغيّره بمجرّد اتّصاله بماء آخر، بل زوال

______________________________

(1) كشف اللثام 1: 310، جواهر الكلام 1: 134 135.

(2) تقدّم في الصفحة 79.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 144، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 96.

(4) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 85

التغيّر مسبّب عن امتزاج الماءين و اختلاط أجزائهما كما لا يخفى «1».

و ربما يوجّه هذا القول أيضاً بما يمكن أن يورد على القائلين باعتبار الامتزاج،

و عدم كفاية مجرّد الاتّصال: و هو أنّ المراد بالامتزاج هل هو امتزاج الكلّ بالماء العاصم، أو امتزاج بعضه؟

و الأوّل محال؛ لاستلزامه تداخل أحد الجسمين في الآخر. و علىٰ تقدير إمكانه فالاطّلاع علىٰ هذا النحو من الامتزاج ممتنع عادة.

و الثاني تحكّم صِرف لو أُريد به أزيد من الامتزاج الحاصل من الاتّصال، و لو أُريد به غيره فهو المطلوب «2».

و فيه: أنّه لم يرد لفظ «الامتزاج» و عنوانه في نصّ أو معقد إجماع؛ حتّى يورد عليه بما ذكر، بل قد عرفت أنّ العمدة في هذا الباب هي الصحيحة المتقدّمة «3»، و المستفاد منها- بعد دلالتها على اعتبار الامتزاج، كما ظهر سابقاً هو الامتزاج بحيث يوجب زوال التغيّر و لو كان متغيّراً بتغيّر ضعيف؛ لأنّ مقتضىٰ إطلاقها- كما عرفت «4» أنّه لو حصل تغيّر ضعيف للماء- و لو كان في غاية الضعف و زال بسبب امتزاجه بالماء الطاهر العاصم، يكفي مجرّد زواله في ارتفاع نجاسة جميع الماء، فالمقدار المعتبر من الامتزاج، هو ما يكون مؤثّراً في زوال التغيّر و لو كان متغيّراً بتغير ضعيف.

و يؤيّده: أنّ ما ذكرنا هو المجمع عليه بين الأصحاب؛ بمعنى عدم وجود

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 81.

(2) الحدائق الناضرة 1: 334 335، مقابس الأنوار: 82/ السطر 15، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 147، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 109.

(3) تقدّم في الصفحة 81.

(4) تقدّم في الصفحة 82.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 86

القائل بأزيد من هذا المقدار «1»، ما عدا بعض المتأخّرين حيث احتمل- بل استظهر اعتبار الاستهلاك «2»، و قد عرفت أنّ مرجعه إلىٰ عدم كون الماء قابلًا للتطهير، و أنّه و الأعيان النجسة في صفّ واحد «3»، كما هو غير

خفيّ.

ثمّ إنّ المرجع لو شكّ في حصول الامتزاج بالمقدار المذكور، هو استصحاب النجاسة و عدم تحقّق الطهارة.

عدم اعتبار علوّ المطهِّر

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا يظهر: عدم اعتبار أن يكون المطهّر عالياً، كما ربما يوهمه عبارة «الشرائع»: «و يطهر بإلقاء كُرّ عليه فما زاد دفعة» «4»؛ لما عرفت: من أنّ المستند هي الصحيحة «5»، و موردها ما إذا كان المطهِّر سافلًا، كما أنّ قوله

ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً «6»

يدلّ علىٰ ذلك.

في اعتبار قيد الدفعة

ثمّ إنّك بعد ما عرفت- من أنّه كلّما تحتمل مدخليّة قيد في تطهير الماء القليل، يكون مقتضى استصحاب النجاسة اعتباره تعلم أنّه لو احتمل اعتبار قيد

______________________________

(1) انظر الحدائق الناضرة 1: 335، جواهر الكلام 1: 146، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 142.

(2) الحدائق الناضرة 1: 336، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 143.

(3) تقدّم في الصفحة 79.

(4) شرائع الإسلام 1: 4.

(5) تقدّم في الصفحة 85.

(6) تقدّم في الصفحة 84.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 87

الدفعة في مقابل التدريج كما في عبارة «الشرائع» المتقدّمة و غيرها «1» يكون مقتضاه اعتباره لو لم يدلّ دليل علىٰ خلافه، و منشأ احتمال اعتبار قيد الدفعة: أمّا توقّف حصول الامتزاج المعتبر في التطهير عليه، و إمّا بقاء الماء على العاصميّة المعتبرة في التطهير قطعاً، و إمّا احتمال المدخليّة تعبّداً زائداً على اعتبار الامتزاج و العاصميّة.

و قد عرفت: أنّ عُمدة ما يمكن أن يستفاد منه حكم المقام، هي صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة؛ بتقريب: أنّ مقتضاها أنّه لو زال التغيّر من قِبَل المياه الخارجة من المادّة، الممتزجة بالماء الموجود في البئر، ترتفع النجاسة، و تعرض له الطهارة. و لا يخفىٰ أنّ الماء إنّما يخرج من المادّة تدريجاً لا دفعة. هذا حكم مورد الصحيحة.

و أمّا عموميّته و شموله لمثل المقام، فيتوقّف علىٰ إلغاء الخصوصيّة

من التعليل الوارد فيها، و هو قوله (عليه السّلام)

لأنّه له مادّة

؛ بتقريب: أنّ الخصوصيّة التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة، هي كون مائها واقعاً في عروق الأرض نابعاً من تحتها، و من المعلوم أنّه لا مدخليّة لهذه الخصوصيّة في نظر العرف أصلًا، فالجهة المشتركة بينها و بين تلك المياه- و هي الاعتصام هي المعتبرة في رفع النجاسة و زوالها. و هذا واضح لمن راجع أهل العرف.

و إن أبيت إلّا عن اختصاص الحكم بالمياه التي لها مادّة كالبئر و الجاري، فاللازم الحكم باعتبار الدفعة، بل كلّ ما يحتمل مدخليّته في رفع النجاسة لو لم يكن في البين ما ينفي الاحتمال. نعم لو استند لعدم اعتبار هذا القيد إلىٰ ما ورد

______________________________

(1) تحرير الأحكام 1: 4/ السطر 30، الدروس الشرعيّة 1: 118، انظر الحدائق الناضرة 1: 337.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 88

في ماء الحمّام، لكان ذلك مبنيّاً علىٰ دعوى عدم الخصوصيّة لماء الحمّام، و عموميّة الحكم الوارد فيه. و قد عرفت ما فيها «1».

حول طهارة الماء المتنجّس بإتمامه كُرّاً

ثمّ إنّه وقع الاختلاف بين الأصحاب- رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم في أنّه هل يطهر الماء القليل المتنجّس بإتمامه كُرّاً أم لا؟

فذهب السيّد «2» و ابن إدريس «3» و بعض آخر إلىٰ حصول الطهارة له بذلك «4»، و أنّه لا فرق بين الدفع و الرفع فيما إذا بلغ الماء حدّ الكُرّ، بل ربما ينسب هذا القول إلىٰ أكثر المحقّقين «5».

و هذه الطائفة بين قائل بأنّه لا فرق بين إتمامه كُرّاً بالطاهر أو بالنجس «6»، و بين قائل بأنّه لا بدّ من أن يكون المتمّم طاهراً «7».

و اختار أكثر المتأخّرين عدم ارتفاع النجاسة بالإتمام كرّاً مطلقاً «8».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 54.

(2)

المسائل الرسية، ضمن رسائل الشريف المرتضىٰ 2: 361.

(3) السرائر 1: 63.

(4) المراسم: 36، المهذّب 1: 23، الجامع للشرائع: 18.

(5) جامع المقاصد 1: 133 134.

(6) المسائل الرسية، ضمن رسائل الشريف المرتضى 2: 361، المراسم: 36، السرائر 1: 63، الجامع للشرائع: 18.

(7) المبسوط 1: 7، الوسيلة إلىٰ نيل الفضيلة: 73.

(8) المعتبر 1: 51، نهاية الإحكام 1: 257، ذكرى الشيعة 1: 85 86، كشف اللثام 1: 310 311، مستند الشيعة 1: 50، جواهر الكلام 1: 150.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 89

دليل السيّد علىٰ مذهبه

و حُكي عن السيّد الاحتجاج علىٰ مذهبه: بأنّ البلوغ يستهلك النجاسة، فتستوي ملاقاتها قبل الكثرة و بعدها «1».

و توضيح كلامه بتقريب منّا أن يقال: إنّ المستفاد من الأدلّة- الدالّة على اعتبار البلوغ حدّ الكُرّ في اعتصام الماء و عدم انفعاله: أنّ المناط في ذلك، هي الكثرة المانعة عن سراية النجاسة، الواقعة في بعض أطراف الماء إلىٰ غيره من سائر الأطراف، فكما أنّه لو وقع بعض القذارات العرفيّة في بعض أطراف الماء، يكون الاستقذار من غيره من الأطراف دائراً مدار تحقّق السراية بنظر العرف، كذلك بلوغ الماء حدّ الكرّ، يصير مانعاً عن تأثير النجاسة الملاقية لجميع أجزاء الماء.

و بالجملة: فالمناط المستفاد من الدليل هي الكثرة، و لا فرق فيها- في عدم الانفعال بين صورة تحقّق الملاقاة قبل البلوغ أو بعده؛ إذ الكثرة متحقّقة في المقامين.

و يرد عليه: أنّ اللازم- بناء علىٰ هذا ملاحظة النسبة بين الماء و بين النجاسة الملاقية له؛ بمعنى أنّه لو كانت قطرة من البول- مثلًا مؤثّرة في الماء الذي ينقص من الكُرّ بقليل، فالقطرتان منه تؤثّران فيما يقارب الكُرّين، كما أنّه لو لم يؤثّر منٌّ من البول في الماء البالغ حدّ الكُرّ

فاللازم عدم تأثير النصف منه لو نقص الماء عن الكُرّ بقليل.

و الحاصل: أنّه لو بُني على استفادة هذا المناط من أدلّة اعتبار البلوغ حدّ

______________________________

(1) المسائل الرسية، ضمن رسائل الشريف المرتضىٰ 2: 361، الحدائق الناضرة 1: 345.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 90

الكُرّ في الاعتصام، يلزم مثل ما ذكر من التوالي الفاسدة.

و التحقيق أن يقال: إنّ المناط في ذلك غير معلوم، و الانفعال و ضدّه لا يتبيّنان علىٰ ما ذكر كيف، و قد حكم الشارع بانفعال الماء لو وقع فيه ما يكون بنظر العقلاء نظيفاً في غاية النظافة، مثل يد الكافر بناءً علىٰ نجاسته، و قد ورد في الرواية

أنّ ما يبلّ الميل ينجس حبّا من الماء «1»

، و من المعلوم عدم تحقّق السراية أصلًا، و مع هذا لا يجوز رفع اليد عن ظاهر قوله (عليه السّلام)

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «2»

حيث إنّ ظاهره: أنّ الماء البالغ ذلك الحدّ لا ينجس لو لاقى النجاسة بعد البلوغ، و تعميم الحكم لصورة تحقّق الملاقاة قبل البلوغ، يحتاج إلى استفادة المناط المشترك بين الصورتين، و قد عرفت عدم إمكانها.

الاستدلال بصحيحة ابن بزيع فيما كان المتمِّم طاهراً

و يمكن أن يستدلّ علىٰ طهارة الماء القليل المتنجّس المتمَّم كرّاً، في خصوص ما إذا كان المتمّم- بالكسر طاهراً، بعد ادّعاء قصور الأدلّة- الدالّة على انفعال الماء القليل عن شمول مثل الصورة؛ لأنّ موضوعها هو الماء القليل الملاقي للنجس، و هو غير متحقّق في المقام؛ لأنّ الماء المتمّم- بالكسر حال القلّة غير ملاقٍ للنجس، و حال الملاقاة لا يتّصف بوصف القلّة؛ إذ بالملاقاة يتبدّل الموضوع، و يندرج في عنوان الكُرّ: بصحيحة محمّد بن إسماعيل المتقدّمة «3» بناءً علىٰ ما احتملنا في معناها، و نفينا عنه

البعد سابقاً من أنّ

______________________________

(1) الكافي 6: 413/ 1، وسائل الشيعة 3: 470، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 38، الحديث 6.

(2) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

(3) تقدّم في الصفحة 37.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 91

المراد بالتعليل الوارد فيها- و هو قوله

لأنّه له مادّة

ليس خصوص ما له مادّة من المياه؛ حتّى يختصّ الحكم المذكور فيها بالبئر و الجاري و أشباههما، بل المراد هو التقوّي بالماء المعتصم الخارج من عروق الأرض؛ لأنّ الخصوصيّة التي بها تمتاز المادّة عن سائر المياه المعتصمة- و هي كونها في ظرف مخصوص نابعةً من تحت الأرض لا مدخلية لها في الحكم المذكور فيها.

و حينئذٍ فيصير مفاد الرواية: أنّه لو امتزج الماء الطاهر المعتصم بالماء النجس بحيث زال تغيّره- و لو كان متغيّراً بتغيّر ضعيف تعرض له الطهارة، و تزول عنه النجاسة «1»، و حينئذٍ فإذا ثبت قصور أدلّة الماء القليل عن شمول مثل المقام، و المفروض أنّه لا دليل على النجاسة غيرها، فمقتضىٰ قاعدة الطهارة- بل استصحابها كون الماء الطاهر المتمّم- بالكسر طاهراً بعد الملاقاة أيضاً، و هو معنى اعتصامه و عدم تأثّره، و مقتضى عموم الصحيحة لكلّ ماء معتصم- كما عرفت تقريبه أنّ الماء المتمّم لكونه معتصماً- لقاعدة الطهارة بعد قصور أدلّة الانفعال يصير موجباً لطهارة الماء المتمَّم- بالفتح لو امتزج معه بالمقدار المعتبر منه.

و ما يقال: من أنّه لا وجه للقول بكون الماء المتمّم- بالكسر معتصماً بعد فرض كونه قليلًا؛ إذ من الواضح تأثّره بالنجاسة و انفعاله بها كسائر المياه القليلة «2».

مدفوع: بأنّ المراد بالاعتصام ليس عدم قابلية الماء للتأثّر بالنجاسة أصلًا، بل المراد منه هنا أنّه يكون بحيث لا يقبل

التأثّر بالماء الذي أُريد تطهيره بهذا الماء، فلا ينافي صلوحه للتأثّر من ناحية النجاسات الأُخرىٰ. و هذا واضح جدّاً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 87.

(2) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 170 171.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 92

هذا غاية ما يمكن أن يقال تأييداً لمرام السيّد (قدّس سرّه).

و يتوجّه عليه: المنع عن قصور أدلّة الماء القليل عن شمول مثل المقام؛ ممّا يتبدّل موضوع القلّة بالملاقاة، و يندرج في موضوع الكُرّ؛ و ذلك لأنّ الموضوع للحكم بالنجاسة بسبب الملاقاة هو الماء القليل؛ بمعنى أنّ الملاقاة- بعد كونه قليلًا علّة لعروض النجاسة، كما أنّ ماء الكُرّ لو خرج عن الكُرّية بسبب ملاقاة النجس، لا يخرج عن الطهارة؛ لأنّ الموضوع هو الماء الكُرّ الملاقي، و هو متحقّق، كما أنّ الموضوع هنا هو الماء القليل الملاقي، و هو حاصل.

و بعبارة اخرىٰ: الملاقاة هنا علّة لتحقّق الكرّية و لترتّب الانفعال، و الكُرّيّة مانعة عن تأثير النجاسة، فالحكم المترتّب على الكُرّ- و هو عدم الانفعال متأخّر بمرتبة واحدة عن الانفعال المترتّب على الملاقاة؛ لكونه في رتبة موضوع الحكم بعدم الانفعال، و هي الكرّيّة.

و بالجملة: لا شبهة في أنّ الملاقاة إنّما حصلت في حال القلّة و بمجرّدها يصير الماء نجساً، و لا يبقىٰ معه مجال للحكم بعدم الانفعال المترتّب على الكُرّيّة المتأخّرة عن الملاقاة، و هذا واضح لا ينبغي الارتياب فيه.

الاستدلال بقاعدة الطهارة فيما كان المتمّم طاهراً

و قد يستدلّ للقول بالطهارة في خصوص الصورة المتقدّمة- و هي ما لو كان المتمّم ماءً طاهراً بقاعدة الطهارة؛ بتقريب: أنّ استصحاب نجاسة الماء المتمَّم- بالفتح يعارضه استصحاب طهارة الماء المتمّم- بالكسر لانعقاد الإجماع علىٰ عدم اختلاف ماء واحد- ممتزج بعضه ببعض في الطهارة و النجاسة، و بعد

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)،

ص: 93

التعارض و التساقط يكون المرجع قاعدة الطهارة «1».

و أنت خبير: بأنّه لا مجال للاستصحاب، بعد ما عرفت: من أنّ أدلّة انفعال الماء القليل لا تقصر عن شمول مثل المقام؛ ممّا يخرج الموضوع بالملاقاة عن حدّ القلّة، و يندرج في موضوع الكُرّ؛ لأنّ موضوعها هو الماء القليل الملاقي للنجس، و هو متحقّق في المقام؛ لأنّه لا شبهة في أنّ الملاقاة، إنّما هي من صفات الماء في حال القلّة؛ إذ المفروض أنّه بعد تحقّق الملاقاة يتحقّق موضوع الكُرّيّة، فالتلاقي وصف للماءين بلا إشكال.

و حينئذٍ فإمّا أن يقال: إنّ التلاقي وقع مع الكُرّ، فيتوجّه عليه: أنّ المفروض أنّ المجموع متّصف بالكُرّيّة، و لا يعقل أن يلاقي بعض أجزاء الكُرّ هذا الماء الموصوف بالكُرّيّة، و هذا واضح جدّاً.

و إمّا أن يقال: بأنّ التلاقي وقع بين الماءين الموصوفين بالقلّة، فيلزم تحقّق موضوع تلك الأدلّة؛ إذ المفروض ملاقاة الماء القليل للنجاسة، و هو موضوع للحكم بالانفعال، فإذا لم تكن الأدلّة قاصرة عن شمول المقام، فاللازم نجاسة الماء بجميع أجزائه.

فلا يبقى مجال لاستصحاب الطهارة حتّى يعارضه استصحاب النجاسة، و يرجع بعد التساقط إلىٰ قاعدة الطهارة.

و قد أجاب صاحب المصباح (قدّس سرّه) عن الاستدلال بما حاصله:

تقديم استصحاب النجاسة على استصحاب الطهارة لأجل حكومته عليه؛ لأنّ من آثار بقاء نجاسة الماء المتمّم تنجيس ملاقيه، و ليس من آثار بقاء طهارة الماء المتمِّم تطهير ملاقيه، و هو الماء المتنجّس «2».

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 153، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 115.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 116.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 94

و أنت خبير: بأنّه بعد الاعتراف بقصور أدلّة انفعال الماء القليل عن شمول ما يخرج بالملاقاة عن موضوعها، لا وجه

للحكومة أصلًا؛ إذ ليس حينئذٍ من آثار بقاء نجاسة الماء المتمّم تنجيس ما لاقاه؛ ممّا صار بسببه كُرّاً؛ إذ ليس الدليل علىٰ تنجيسه إلّا أدلّة الماء القليل و انفعاله، و قد اعترف بعدم شمولها للمقام.

و بالجملة: لا دليل علىٰ منجّسيّة الماء المتمَّم- بالفتح بعد فرض القصور و لو كانت النجاسة متيقّنة، فضلًا عمّا لو أُحرزت بالاستصحاب، فكما أنّه ليس من آثار بقاء طهارة الماء المتمّم- بالكسر تطهيره للماء المتنجّس، كذلك ليس من آثار بقاء نجاسة المتمَّم تنجيس ملاقيه، و لو لا الإجماع علىٰ عدم اختلاف ماء واحد في الحكم «1»، لقلنا ببقاء كلّ من الماءين علىٰ حاله من الطهارة و النجاسة، كما أنّه في غير معقد الإجماع- و هو صورة الامتزاج لا بدّ أن يقال باختلاف حكمهما بناءً علىٰ هذا القول.

و الحاصل: أنّه علىٰ فرض ادّعاء القصور لا مجال للإشكال على الاستدلال أصلًا لو فرض تحقّق الإجماع أيضاً.

ثمّ إنّه ذكر المجيب في طي كلامه: أنّ الشكّ في بقاء نجاسة الماء المتنجّس و طهارة الماء الطاهر، كلاهما مسبّبان عن الشكّ في سببيّة الكُرّيّة للرفع، و الأصل عدمها «2».

و لا يخفىٰ أنّ الشكّ في بقاء نجاسة الماء المتنجّس و إن كان مسبَّباً عن الشكّ في سببيّة الكُرّيّة للرفع، إلّا أنّ الشكّ في بقاء طهارة الماء الطاهر، ليس مسبّباً عن الشكّ المذكور أصلًا، كما أنّ ما ذكره: من أنّ الأصل عدم سببيّة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 48.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 116.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 95

الكُرّيّة للرفع، مبنيّ علىٰ كون الكُرّيّة و سببيّتها له مجعولة من جانب الشارع، و أمّا بناءً على القول بكشفه عنها و بيانه للناس فلا يتمّ، فتدبّر.

دليل آخر للسيّد في المقام

ثمّ إنّ ممّا احتجّ

به السيّد (قدّس سرّه): هو أنّه لولا الحكم بالطهارة مع البلوغ، لما حكم بطهارة الماء الكثير إذا وجد فيه نجاسة؛ لإمكان سبقها علىٰ كثرته «1».

و فيه: أنّ المراد بالحكم بالطهارة إن كان هو الحكم بالطهارة الواقعيّة، و كون الماء طاهراً واقعاً، فالأمر كذلك، إلّا أنّ من المعلوم خلافه؛ إذ لا يُعهد الحكم بالطهارة واقعاً من أحد من الأصحاب، و إن كان المراد هو الحكم بالطهارة في مرحلة الظاهر؛ استناداً إلى استصحاب الطهارة، أو قاعدتها، فمن الواضح عدم الدلالة علىٰ مطلوبه (قدّس سرّه)؛ إذ بعد جريان الاستصحابين و التساقط لا بدّ أن يرجع إلىٰ قاعدة الطهارة.

جواب صاحب المصباح عن استدلال السيّد

و قد أجاب عن هذا الاستدلال صاحب المصباح:

أوّلًا: بأنّ حكمهم بطهارة الماء الكثير الذي وجد فيه نجاسة إنّما هو لجريان استصحاب طهارة الماء، و عدم ملاقاته للنجاسة إلىٰ زمان صيرورته كُرّاً، و لا يعارضه أصالة عدم بلوغه كُرّاً إلىٰ زمان الملاقاة؛ إذ لا يحرز بها كون الملاقاة قبل الكُرّيّة إلّا على القول بحجيّة الأُصول المثبتة، و لا نلتزم بها «2».

______________________________

(1) المسائل الرسية، ضمن رسائل الشريف المرتضى 2: 362.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 114.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 96

و أنت خبير: بأنّ الموضوع للحكم بالانفعال هي الملاقاة في حال عدم بلوغ الماء حدّ الكُرّ، لا حصول الملاقاة قبل الكُرّيّة؛ و ذلك لأنّ عُمدة أدلّة الانفعال، هو مفهوم الأخبار المستفيضة، الدالّة علىٰ أنّ الماء إذا بلغ حدّ الكرّ لا ينجّسه شي ء «1»، فإنّ مفهومها أنّه إذا لم يبلغ الماء حدّ الكُرّ ينجس بالملاقاة، و واضح أنّ الموضوع في هذا الحكم هو الماء غير البالغ حدّ الكُرّ، و حينئذٍ فكما أنّه يجري استصحاب عدم تحقّق الملاقاة إلىٰ زمان صيرورته كُرّاً، و

لا حاجة إلىٰ إثبات كون الملاقاة بعد تحقّق الكرّيّة، كذلك يجري استصحاب عدم بلوغه كُرّاً إلىٰ زمان الملاقاة، و يترتّب عليه الحكم بالنجاسة، و لا يحتاج إلىٰ إحراز كون الملاقاة قبل الكُرّيّة؛ لعدم كونه موضوعاً للحكم بالنجاسة، كما عرفت.

و بالجملة: فالظاهر في هذا الفرض تعارض الاستصحابين و تساقطهما، و الرجوع إلىٰ قاعدة الطهارة.

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 97

الماء الكرّ
اعتصام الكُرّ إلّا مع التغيّر

أمّا اعتصامه و عدم انفعاله بشي ء من النجاسات بمجرّد الملاقاة، فهو مشهور بين الأصحاب «1»، بل لم يخالف فيه أحد منهم إلّا المفيد و سلّار؛ حيث إنّه يظهر منهما اختصاص ذلك بما عدا ماء الأواني و الحياض «2»، و سيأتي بيان ضعف هذا القول إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و أمّا نجاسته بسبب التغيّر الحاصل في أحد أوصافه الثلاثة، فلا كلام فيه، و قد تقدّم في الماء الجاري مفصّلًا «3» فراجع.

إنّما الكلام هنا في تعيين موضوع الحكم بعدم الانفعال، و أنّه هل يختصّ بخصوص الماء المجتمع في محلّ واحد مع تقارب أجزائه، أو يعمّه و ما كان مجتمعاً في محلّ واحد، و لكن لم تكن أجزاؤه متقاربة، كالماء الكُرّ الذي يكون عمقه قليلًا و طوله أو عرضه كثيراً، أو يعمّهما و ما لم تكن أجزاؤه مجتمعة في

______________________________

(1) راجع الحدائق الناضرة 1: 226، جواهر الكلام 1: 153 154، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 159، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 117.

(2) المقنعة: 64، المراسم: 36.

(3) تقدّم في الصفحة 31.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 98

محلّ واحد، بل كان بعض أجزائه في محلّ و بعضها الآخر في محلّ آخر، و لكن الاتّصال بينهما موجود كالغديرين الموصولين

بساقية؟ ثمّ الاتصال له مراتب من حيث القوّة و الضعف، هذا مع تساوي السطوح، أو يعمّ جميع الصور المتقدّمة و ما إذا لم تكن السطوح متساوية.

و هذا علىٰ أقسام: منها ما كان الماء الموجود في المحلّ الأعلى واقفاً غير خارج منه، و منها ما كان الماء الموجود فيه جارياً على السطح الأسفل، و الجريان قد يكون بنحو الانحدار، و قد يكون بغير هذا النحو، و هو إمّا مطلقاً، أو بالنسبة إلىٰ خصوص السافل دون العالي، فهذه فروض و صور كثيرة.

و لا يخفىٰ أنّ الدليل في هذا الباب إنّما ينحصر بالأخبار المستفيضة الدالّة علىٰ أنّه

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «1»

، و من الواضح أنّ المراد بها هو الماء الواحد، فالمناط صدق الوحدة بنظر العرف، و حينئذٍ فلا يبعد أن يقال بعدم اختصاص المناط بالصورة الأُولىٰ؛ لعدم الفرق بينها و بين الصورة الثانية في صدق الوحدة و تحقّقها عند العرف، كما يظهر بالرجوع إليهم.

و أمّا الصورة الثالثة فصدق الوحدة بهذا النظر يدور مدار قوّة الاتّصال و ضعفه، كما أنّ الأمر في الصورة الرابعة أيضاً كذلك.

و أمّا الصورة الخامسة فبعض مصاديقها و فروضها و إن كان يعدّ واحداً، إلّا أنّ البعض الآخر لا يكون كذلك، فلا يقال على الماء الموجود في الإبريق المتّصل بماء سافل: إنّه كُرّ إذا كان المجموع بالغاً ذلك الحدّ، فلا ينجس بملاقاة النجس، كما أنّه لا يقال علىٰ منٍّ من الماء الموجود في الحوض- مثلًا: إنّه كرّ؛ لاتّصاله بالماء الموجود في الحُبّ- مثلًا مع فرض كون المجموع كذلك، و هذا

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2 و 6، (مع تفاوت

يسير).

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 99

لا ينافي ما ذكرناه سابقاً: من أنّه لو وقعت النجاسة في الماء السافل، لا توجب تنجّس الماء العالي، بخلاف العكس؛ و ذلك لما عرفت: من أنّ مناط تنجّس جميع أجزاء الماء مع ثبوت وصف الملاقاة بالإضافة إلىٰ بعضها، هي سراية النجاسة، و لا يعقل تحقّقها بالنسبة إلى الماء العالي، بل هي متحقّقة في الماء السافل إذا كانت الملاقاة ثابتة للعالي، كما لا يخفى «1».

و بالجملة: فلا تكون هنا ضابطة كلّيّة تتعيّن بها مصاديق الموضوع للاعتصام و عدم الانفعال، بل المدار هو صدق الوحدة بنظر العرف، و هو قد يختفي في بعض الموارد، و سيأتي حكم موارد الشكّ «2»، فانتظر.

كلام الشيخ الأعظم في المقام و ما يرد عليه

ثمّ إنّه يظهر من الشيخ (قدّس سرّه) في «كتاب الطهارة» تقوّي كلّ من العالي و السافل بالآخر؛ استناداً إلىٰ تحقّق الاتّحاد بنظر العرف. ثمّ قال: «و يؤيّد الاتّحاد قوله (عليه السّلام)

ماء الحمّام كماء النهر يطهِّر بعضه بعضاً «3»

، جعل (عليه السّلام) المادّة بعضاً من ماء الحمّام مع تسنيمها عليه، و قوله (عليه السّلام) في صحيحة داود بن سرحان

هو بمنزلة الماء الجاري «4»

، فإنّ الظاهر رجوع الضمير إلى المجموع من المادّة و ما في الحياض» «5».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 54، 76.

(2) يأتي في الصفحة 101.

(3) الكافي 3: 14/ 1، وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، ذيل الحديث 7.

(4) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1170، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، ذيل الحديث 1.

(5) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 172 173.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 100

أقول: أمّا الرواية الأُولىٰ فليس فيها تأييد لمرامه (قدّس سرّه) أصلًا، إذ كون

المادّة بعضاً من ماء الحمّام، لا يدلّ على اتّحادها مع ما في الحياض الصغيرة، إلّا بعد إثبات أنّ ماء الحمّام واحد؛ لأنّه يمكن أن تتّصف المادّة بكونها بعضاً من ماء الحمّام، و لا تتّصف بكونها بعضاً من الماء الواحد.

و بالجملة: فمفاد الرواية أنّ المادّة بعض من ماء الحمّام، و المدّعىٰ كونها متّحدة مع ما في الحياض، و أين هذا من ذاك؟! و الاستشهاد عليه: بأنّ التشبيه بماء النهر يدلّ علىٰ كون ماء الحمّام واحداً أيضاً كماء النهر.

يدفعه: أنّ التشبيه إنّما هو في خصوص تطهير بعضه بعضاً، لا في سائر أحكام ماء النهر.

و أمّا الرواية الثانية فلا إشكال في أنّ مرجع الضمير هو الماء الموجود في الحياض، لا المجموع منه و من المادّة؛ لأنّه كان مورداً لابتلاء الناس، فالسؤال إنّما وقع عن خصوصه.

مضافاً إلىٰ أنّ تنزيل المجموع بالماء الجاري ممّا لا يصدر من البليغ العادي، فضلًا عن الإمام (عليه السّلام)؛ لعدم المشابهة بينهما حينئذٍ أصلًا.

و هذا بخلاف ما لو كان المراد منه هو الماء الموجود في الحياض فإنّ التنزيل علىٰ هذا التقدير تنزيل لطيف؛ لأنّ معناه: أنّه كما يكون الماء الجاري مستمدّاً من المادّة متقوّياً بها، كذلك يكون ماء الحمّام مستمدّاً من مادّته متقوّياً بها و معتصماً بسببها، فلا يتأثّر بملاقاة النجس.

ثمّ إنّه لا يمكن التمسّك لتقوّي السافل بالعالي بالأخبار الواردة في ماء الحمّام؛ لأنّه متوقّف: أوّلًا علىٰ إلغاء الخصوصيّة منها، و ثانياً علىٰ عدم اعتبار

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 101

الكُرّيّة في مادّته، و قد عرفت أنّه لا مجال لإلغاء الخصوصيّة «1»، و علىٰ تقديره فالمتمسّك ممّن يعتبر الكُرّيّة في مادّة الحمّام.

هذا كلّه حكم معلوم الكُرّيّة.

حكم الشكّ في الكُرّيّة

و أمّا لو شكّ في مورد أنّه

كُرّ، فهل القاعدة تقتضي انفعاله و ترتيب آثار الماء القليل عليه، أو طهارته و عدم الانفعال بمجرّد الملاقاة و إن لم يترتّب عليه سائر آثار الكُرّ من تطهير الماء القليل المتنجّس به و غيره؟ وجهان بل قولان.

قد يقال في وجه القول الثاني:

إنّ المستفاد من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

خلق اللّٰه الماء طهوراً لا ينجّسه شي ء إلّا ما غيّر لونه أو طعمه أو ريحه «2»

أنّ مقتضى الطبع الأوّلي للماء هي الطاهريّة و المطهّريّة، فما يدلّ علىٰ تخصيص الحكم بما إذا كان الماء قليلًا، فهو راجع إلىٰ كون القلّة مانعة، و مع الشكّ يبنىٰ علىٰ عدمه «3».

كما أنّه قد يقال في وجه القول الأوّل:

إنّ المستفاد من قوله (عليه السّلام)

الماء إذا بلغ قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «4»

أنّ طبيعة الماء تقتضي النجاسة بعد الملاقاة، و البلوغ إلىٰ ذلك المقدار مانع عنه،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 55.

(2) المعتبر 1: 41، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

(3) انظر مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 164.

(4) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، ذيل الحديث 1 و 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 102

فإذا شكّ في تحقّقه فالأصل عدمه «1».

و أنت خبير: بأنّ مفاد مجموع الروايات الواردة في هذا الباب بنظر العرف، هو تنجّس الماء القليل بالملاقاة و اعتصام الماء الكثير؛ من دون أن يكون واحد منهما مانعاً و الآخر مقتضياً، و حينئذٍ فمع الشكّ يجب الرجوع إلىٰ قاعدة الطهارة.

مختار الشيخ في المقام

ثمّ إنّ الشيخ (قدّس سرّه) بعد ما استظهر من الأدلّة: أنّ الملاقاة مقتضية للانفعال و الكُرّيّة مانعة عنه، ذهب إلىٰ أنّ اللازم الرجوع إلىٰ أصالة الانفعال عند الشكّ في

الكُرّيّة- كمّاً أو كيفاً أو في مصداق أنّه كُرّ أم لا، كما إذا شكّ في كُرّيّة ماء مشكوك المقدار غير مسبوق بالكُرّيّة؛ أمّا الأوّلان فلأنّ الشكّ فيهما في التخصيص؛ لعموم ما دلّ على انفعال الماء، خرج منه الكُرّ، مثل قوله (عليه السّلام)- في الماء الذي يدخله الدجاجة الواطية للعذرة

إنّه لا يجوز التوضّي منه إلّا أن يكون كثيراً قدر كُرّ من الماء «2»

و قوله (عليه السّلام)- فيما يشرب منه الكلب

إلّا أن يكون حوضاً كبيراً يستقىٰ منه «3»

و حينئذٍ فمع الشكّ في الكُرّيّة- من حيث الكمّ أو الكيف يكون الشكّ في تخصيص زائد، و يجب معه الرجوع إلى العامّ «4».

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 159 و 184، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 122.

(2) تهذيب الأحكام 1: 419/ 1326، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 226/ 650، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 3.

(4) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 160.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 103

و أنت خبير: بأنّ المخصِّص المتّصل إذا كان مجملًا يسري إجماله إلى العامّ، فلا يجوز الرجوع إليه؛ لأنّه لم ينعقد معه ظهور للعامّ حتّى يكون حجّة، إلّا فيما عارضه حجّة أقوى علىٰ خلافها، و الظهور مع المخصّص المتّصل إنّما ينعقد بعد التخصيص.

و بالجملة: في هذه الصورة لا يجوز الرجوع إلى العامّ؛ لأنّه من التمسّك بالشبهة المصداقيّة، و تحقيق الكلام في محلّه «1».

ثمّ إنّه كما أنّ الموضوع في منطوق قوله (عليه السّلام)

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء

إنّما هو الماء البالغ حدّ الكُرّ، فلا يترتّب عليه حكمه مع عدم إحراز موضوعه، كذلك

الموضوع للانفعال في المفهوم، إنّما هو الماء الموصوف بعدم بلوغه ذلك الحدّ، فلا يترتّب هذا الحكم أيضاً مع عدم إحراز موضوعه.

و بالجملة: فلا مرجّح لإحدى القضيّتين على الأُخرىٰ أصلًا، فلا وجه لما أفاده من الرجوع إلىٰ أصالة الانفعال.

و أمّا ما ذكره (قدّس سرّه) من الوجوه الدالّة على الانفعال في القسم الأخير- و هو ما إذا شكّ في ماء أنّه كُرّ أم لا؛ لاشتباه الأُمور الخارجيّة «2» فلا يخلو عن نظر، بل منع، فراجعها، و تأمّل في جوابها.

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 247، تهذيب الأُصول 1: 474.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 160 161.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 104

تطهير الكُرّ المتنجّس
اشارة

قال المحقّق في «الشرائع» «و لا يطهر بزواله- يعني التغيّر من نفسه، و لا بتصفيق الرياح، و لا بوقوع أجسام طاهرة فيه تزيل عنه التغيّر» «1».

أدلّة كفاية مجرّد زوال التغيّر

أقول: قد يقال هنا بأنّ زوال التغيّر- و لو من غير ناحية المطهّر المعتصم يكفي في ارتفاع النجاسة «2»؛ لما يستفاد من الأخبار الكثيرة من كفاية زوال التغيّر بأيّ وجه اتّفق:

منها: صحيحة حريز بن عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

كلّما غلب الماء علىٰ ريح الجيفة فتوضّأ من الماء و اشرب، فإذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا توضّأ منه و لا تشرب «3».

فإنّ مقتضى الرواية أنّ المناط في جواز الوضوء و الشرب، هو غلبة الماء علىٰ ريح الجيفة؛ سواء كانت الغلبة حاصلة من الأوّل، أو حصلت بعد التغيّر.

و فيه: أنّ ظاهر الرواية هي غلبة الماء- بما هو ماء علىٰ ريح الجيفة، فإذا زال التغيّر من ناحية شي ء آخر، لم تحصل غلبة الماء بما هو ماء، بل

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 5.

(2) الجامع للشرائع: 18، نهاية الإحكام 1: 258، انظر جواهر الكلام 1: 166، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 178.

(3) تهذيب الأحكام 1: 216/ 625، الإستبصار 1: 12/ 19، وسائل الشيعة 1: 137، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 105

حصلت بواسطة شي ء آخر، فحكم هذا المورد غير مذكور في الرواية أصلًا، إلّا أن يقال بثبوت المفهوم لها.

و منها: موثّقة سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألته عن الرجل يمرّ بالماء و فيه دابّة ميتة قد أنتنت؟ قال

إذا كان النتنُ الغالبَ على الماء فلا تتوضّأ و لا تشرب «1».

فإنّ مفادها: أنّ المناط في عدم

جواز الوضوء و الشرب هو كون النتن غالباً على الماء، و بعد زوال التغيّر لا يتحقّق هذا المناط، فلا وجه لبقاء النجاسة.

و يرد عليه: أنّه يحتمل قويّاً أن تكون الرواية واردة في مقام بيان حكم الحدوث، فلا تعرّض فيها لحكم البقاء- حينئذٍ أصلًا.

و منها: رواية عبد اللّٰه بن سنان، قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) و أنا حاضر عن غدير أتوه و فيه جيفة؟ فقال

إذا كان الماء قاهراً و لا توجد منه الريح فتوضّأ «2».

فإنّ مقتضىٰ إطلاقها عدم الفرق بين ما إذا كان الماء قاهراً من الأوّل، أو بعد كونه مقهوراً للنجاسة.

و فيه: ما عرفت في الجواب عن الاستدلال برواية حريز المتقدّمة: من أنّ ظاهر الرواية هو كون الماء- بوصف كونه ماءً قاهراً علىٰ ريح النجاسة، و بعد فرض كونه مقهوراً حين الحدوث، لا يعقل أن يعرض له القاهريّة إلّا بواسطة شي ء آخر، و معه لا يصدق أنّ الماء من حيث هو ماء قاهر عليها،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 216/ 624، الإستبصار 1: 12/ 18، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 6.

(2) الكافي 3: 4/ 4، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 106

فالرواية غير متعرّضة لحكم المقام؛ لو لم نقل بكون مدلولها هو بقاء النجاسة و عدم ارتفاعها.

و منها: رواية علاء بن الفضيل، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الحياض يُبال فيها؟ قال

لا بأس إذا غلب لون الماء لون البول «1».

فإنّ مفادها: أنّ العلّة المنحصرة لعدم البأس، هي غلبة لون الماء علىٰ لون البول، و هي متحقّقة فيما لو زال التغيّر

و لو بنفسه.

و فيه:- مضافاً إلىٰ ضعف السند «2» أنّ الظاهر كون الرواية متعرّضة لحكم الحدوث فقط، و لا دلالة فيها علىٰ حكم البقاء بوجه.

فظهر: أنّ الاستدلال بهذه الروايات في غير محلّه.

نعم يمكن أن يستدلّ لذلك بصحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة «3»، الواردة في ماء البئر؛ لأنّ مقتضىٰ قوله (عليه السّلام)

ماء البئر واسع لا يُفسده شي ء إلّا أن يتغيّر

أنّ علّة حدوث الفساد و زوال الطهارة هو مجرّد عروض وصف التغيّر للماء.

و مقتضى قوله (عليه السّلام)

فينزح حتّى يذهب الريح و يطيب الطعم

أنّ مجرّد

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 415/ 1311، الإستبصار 1: 22/ 53، وسائل الشيعة 1: 139، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 7.

(2) رواها الشيخ الطوسي بإسناده، عن محمّد بن علي بن محبوب، عن محمّد بن عبد الجبار، عن محمّد بن سنان، عن العلاء بن فضيل، و ليس في رجال السند من يتأمّل فيه إلّا محمّد بن سنان.

رجال النجاشي: 328/ 888، رجال الطوسي: 386/ 7، الفهرست: 143/ 609.

(3) الإستبصار 1: 33/ 87، وسائل الشيعة 1: 141، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 3، الحديث 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 107

زوال التغيّر يؤثّر في ارتفاع النجاسة؛ إذ ليس للنزح خصوصيّة، بل الملاك صيرورة الماء بحيث ذهب ريحه و طاب طعمه.

فالمستفاد من الرواية- صدراً و ذيلًا: أنّ التغيّر يدور مداره النجاسة حدوثاً و بقاءً، فهي العلّة التامّة لحدوث النجاسة، و بارتفاعها تزول كما هو الشأن في كلّ معلول بالنسبة إلىٰ علّته.

و أنت خبير: بأنّه و إن لم يكن للنزح خصوصيّة في ارتفاع النجاسة أصلًا- كما عرفت مراراً إلّا أنّه قد ذكرنا سابقاً: أنّ المناط في كون الشي ء قابلًا للتطهير، هو بقاؤه

بعد ارتفاع النجاسة و عروض الطهارة؛ بحيث لو لم يكن دليل علىٰ أنّ الماء قابل أيضاً للتطهير، لقلنا بعدم القابليّة إلّا بعد الاستهلاك، الذي مرجعه إلى انتفاء الموضوع و زوال الحقيقة، و لكنّه بعد قيام الدليل على الخلاف، و أنّ الماء يكون كالجامدات المتنجّسة قابلًا للتطهير، لا يمكن رفع اليد عمّا هو المرتكز في أذهان العرف و العقلاء- في باب التطهير من أنّ تطهير كلّ شي ء إنّما هو بوصول الماء إلىٰ أجزائه النجسة.

و يؤيّده: أنّه لو ورد أنّ المتنجّس بالدم- مثلًا يطهر بإيصال الماء إليه حتّى يزول، لا يمكن أن يقال: إنّ الملاك في ارتفاع النجاسة هو زوال الدم بأيّ وجه اتّفق بالماء أو بغيره بل للماء خصوصيّة في باب التطهير.

و بالجملة: معنى الرواية علىٰ ما عرفته سابقاً- لأنّ تطهير البئر إنّما يحصل بخروج الماء الجديد العاصم من المادّة و امتزاجه بالمياه الموجودة في البئر؛ إذ الظاهر أنّ التعليل الوارد فيها، يرجع إلى القضيّة المطويّة في الذيل، و هي عروض الطهارة بعد ذهاب الريح و طيب الطعم، و معه لا يكون الوجه مجرّد زوال التغيّر، بل زواله بنحو خاصّ و هو امتزاج المياه الخارجة من المادّة مع المياه

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 108

الموجودة في البئر، و قد تقدّم تفصيله «1»، فلا نطيل بالإعادة.

هذا، و لو سُلّم أنّ ماء البئر تزول نجاسته بمجرّد زوال التغيّر و ارتفاعه بأيّ وجه اتّفق، فما الدليل علىٰ أنّ حكم الماء الكثير غير البئر أيضاً يكون كذلك؟ و هل تسريته ترجع إلىٰ غير القياس الصرف، أم لا ترجع إلّا إليه، كما هو واضح؟

و قد يستدلّ «2» بقوله (عليه السّلام)

إذا بلغ الماء كُرّاً لم يحمل خَبَثاً «3»

؛ لأنّ ظاهره

أنّ البلوغ إلىٰ ذلك الحدّ مانع عن حمله للخبث مطلقاً، و قد ثبت تقييده بما إذا تغيّر بأحد أوصاف النجاسة، و في غير هذا المورد لم يثبت تقييده، فيجب الاقتصار على المقدار المتيقّن، و المرجع في غيره هو الإطلاق.

و فيه:- مضافاً إلىٰ أنّ سند الرواية مخدوش؛ لما ذكره المحقّق (قدّس سرّه) في «المعتبر» في مقام الاعتراض على ابن إدريس، المستدلّ بها في مسألة إتمام الماء القليل النجس كُرّاً «4»: من أنّ الرواية لم نروها مسندة، و بعض من رواها فإنّما ذكرها مرسلة، و المرسَل لا يُعمل به أصلًا «5» لأنّ دلالتها على المدّعىٰ ممنوعة؛ إذ الظاهر أنّ المراد منها، هو ما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام)

إذا كان الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء» «6»

و لا فرق بين المدلولين أصلًا.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 81.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 126.

(3) عوالي اللآلي 1: 76/ 156، و 2: 16/ 30، مستدرك الوسائل 1: 198، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 6.

(4) السرائر 1: 63.

(5) المعتبر 1: 52.

(6) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 109

حول استصحاب النجاسة الوارد على أصالة الطهارة

ثمّ إنّه قد يستدلّ لذلك بقاعدة الطهارة، بعد الاعتراض على استصحاب النجاسة الوارد علىٰ أصالة الطهارة، كما حُقّق في محلّه «1».

و محصّل الاعتراض: أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب أن تكون القضيّة المشكوكة متّحدة مع القضية المتيقّنة؛ من حيث الموضوع و المحمول، و هنا ليس كذلك، فإنّ الموضوع في القضية المتيقّنة هو الماء الموصوف بالتغيّر، فإسراء حكمه إلى الماء الذي زال تغيّره إسراء حكم من موضوع إلىٰ موضوع آخر «2».

و أجاب عنه صاحب المصباح (قدّس سرّه): بأنّ المعروض

للنجاسة هو نفس الماء، و التغيّر علّة لعروضها، و الشكّ إنّما نشأ من احتمال أنّ عروض النجاسة، كما يكون مسبّباً عن حدوث التغيّر، كذلك بقاؤها يكون مسبّباً عن بقائه بحيث تدور مداره، أو أنّ التغيّر ليس علّة إلّا لحدوث النجاسة، و بقاؤها مستند إلى اقتضائها الذاتي، فلا يجوز في مثل المقام نقض اليقين بالشكّ؛ و رفع اليد عن النجاسة المتيقّنة الثابتة لهذا الماء الموجود؛ بمجرّد احتمال أن يكون زوال التغيّر مؤثّراً في إزالتها «3».

و أنت خبير بأنّه لو قلنا: بأنّ الموضوع في الأدلّة الواردة في الحكم بالنجاسة هو الماء الموصوف بالتغيّر؛ بأن يكون التغيّر مأخوذاً في الموضوع، فلا مانع أيضاً من جريان الاستصحاب؛ لأنّ مجرى الاستصحاب قد يكون هو العنوان

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 680، درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 633، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 241.

(2) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 124.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 125.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 110

المأخوذ موضوعاً في لسان الدليل، و قد يكون هو المصداق المنطبق عليه ذلك العنوان في الخارج:

ففي الأوّل لا إشكال في أنّ جريان الاستصحاب مبنيّ علىٰ بقاء الموضوع بعنوانه، فإذا شكّ- مثلًا في أنّ العالم الذي كان واجب الإكرام سابقاً، هل يجب إكرامه في الزمان اللاحق أم لا؟ فاستصحاب بقاء الوجوب إنّما يُجدي بالإضافة إلىٰ خصوص العالم لا غير، كما هو واضح.

و في الثاني يجري الاستصحاب و لو لم يكن منطبقاً عليه عنوان الموضوع في زمان الشكّ، فإذا شكّ- مثلًا في أنّ زيداً الذي كان عالماً سابقاً، و واجباً إكرامه لأجل كونه عالماً، هل يكون واجب الإكرام بعد زوال علمه، فيجري استصحاب بقاء وجوب الإكرام؛ لأنّ المفروض أنّ

هذا الشخص الذي كان واجب الإكرام، باقٍ في زمان الشكّ من غير تبدّل و لا تغيّر؛ و إن كان في هذا الزمان لا ينطبق عليه عنوان العالم المأخوذ في الدليل؛ لأنّا لا نريد إجراء الدليل و إسراءه إلىٰ زمان الشكّ حتّى يقال: إنّ شموله مبنيّ علىٰ صدق موضوعه، و المفروض عدمه، كيف و لو شمله الدليل لا يبقى مجال للاستصحاب أصلًا، كما هو المحقّق في الأُصول «1».

بل المقصود أنّ هذا الفرد الخارجي- الذي كان منطبقاً عليه عنوان الموضوع سابقاً باقٍ في زمان الشكّ من دون تبدّل، فإبقاء الحكم السابق عليه ليس من قبيل إسراء حكم موضوع إلىٰ موضوع آخر.

شبهة الميرزا الشيرازي الكبير في الاستصحاب

و من هنا يظهر الجواب عن الشبهة التي أوقعها بعض الأعاظم (قدّس سرّه) «2» و هي

______________________________

(1) درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 617، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 230.

(2) حكاها عن الميرزا الكبير الشيرازي بعض مقرري بحث الإمام الخميني (قدّس سرّه) حيث قال: و كان بعض الأعاظم (قدّس سرّه) الميرزا الكبير يسأل من بعض الطلبة عن مورد الاستصحاب فإنّ الأحكام الشرعيّة متعلّقة بالموضوعات العرفيّة، فإن كان الموضوع باقياً عرفاً كفى الدليل الأوّل في ثبوت الحكم عليه، و لا يفتقر إلى الاستصحاب، و إلّا فلا يصحّ الاستصحاب أيضاً، لاشتراط بقاء الموضوع فيه عرفاً.

تنقيح الأُصول (تقريرات الإمام الخميني (قدّس سرّه)) الاشتهاردي 4: 19.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 111

أنّه لا إشكال بينهم في أنّ اللازم الرجوع إلى العرف في مقام بيان المراد من الموضوعات الواردة في الأدلّة الشرعيّة، كما أنّه لا إشكال أيضاً في أنّ بقاء الموضوع المعتبر في جريان الاستصحاب، إنّما هو البقاء بنظر العرف، فحينئذٍ يرد عليهم: أنّه لو كان الموضوع باقياً فلا مجال لجريان

الاستصحاب؛ لأنّ المفروض بقاؤه، فيشمله الدليل الاجتهادي و لو لم يكن الموضوع باقياً، فلا يجري الاستصحاب أيضاً لعدم اتّحاد القضيّتين حينئذٍ.

و الجواب: أنّه خلط بين موضوع الاستصحاب و موضوع الأدلّة، فإنّه و إن كان المرجع في كليهما هو العرف، إلّا أنّه قد يكون موضوع الاستصحاب بنظره متحقّقاً و باقياً دون موضوع الدليل، ففيما نحن فيه نقول: إنّه و إن كان الموضوع في الدليل بنظر العرف هو الماء المتغيّر، و بعد زوال التغيّر لا يكون موضوع هذا الحكم باقياً بنظر العرف قطعاً، إلّا أنّه حيث بلغ ذلك الحكم إلىٰ مرتبة الخارج، و انطبق علىٰ بعض الأفراد، فلا يشكّ العرف في بقاء ذلك الفرد بحاله و إن زال عنه وصف التغيّر. و تحقيق الكلام و تفصيله موكول إلى الأُصول «1».

ثمّ إنّ كلام المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) «2» في مقام الجواب عن الإشكال على

______________________________

(1) الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 213 221.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 125.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 112

الاستصحاب، لا يخلو عن تناقض و تهافت، فإنّ الظاهر من أوّل كلامه- كما عرفت أنّ الشكّ هنا في اقتضاء النجاسة بقاءها حتّى بعد زوال التغيّر أو عدم اقتضائها إلّا البقاء ما دام التغيّر، و هذا الكلام- مضافاً إلىٰ ظهوره في أنّ الشكّ هنا في المقتضي، و التحقيق عنده عدم جريان الاستصحاب فيه «1»، تبعاً للشيخ المحقّق العلّامة الأنصاري (قدّس سرّه) «2» مناقض لما صرّح به في آخر كلامه من أنّ الشكّ في المقام في رافعيّة الكُرّ للنجاسة الثابتة و عدم رافعيّته، فجعل المقام من باب الشكّ في الرافع؛ إذ لا يختصّ بما إذا شكّ في وجود الرافع، بل يشمل الشكّ في رافعيّة الموجود، كما هو

واضح.

تقدير الكُرّ
اشارة

قال المحقّق في «الشرائع» «و الكُرّ ألف و مائتا رطل بالعراقي على الأظهر، أو ما كان كلّ واحد من طوله و عرضه و عمقه ثلاثة أشبار و نصفاً» «3».

حول تقدير الكُرّ بحسب الوزن

أقول: أمّا تقديره بالوزن فتدلّ عليه روايتان:

إحداهما: مرسلة ابن أبي عُمير «4» التي تلقّاها الأصحاب بالقبول، و هي تدلّ علىٰ أنّ الكُرّ ألف و مائتا رطل.

______________________________

(1) حاشية الرسائل، المحقّق الهمداني: 76 77.

(2) فرائد الأُصول 2: 561.

(3) شرائع الإسلام 1: 5.

(4) تهذيب الأحكام 1: 41/ 113، الإستبصار 1: 10/ 15، وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 113

و ثانيتهما: صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

و الكُرّ ستّمائة رطل «1».

و لا يخفىٰ أنّهما بظاهرهما متنافيان.

و تحقيق الحقّ في بيان رفع التنافي: أنّه لا إشكال في أنّ لكلّ من مكّة و المدينة و العراق رطْلًا يختصّ به، و لا إشكال أيضاً في أنّ الرطل المكّي ضعف الرطل العراقي، كما أنّ الرطل المدني ثُلُثا الرطل المكّي و زائداً علىٰ رطل العراقي بالنصف، و حينئذٍ فالجمع بين الروايتين- بحمل المرسلة على الرطل العراقي و الصحيحة على الرطل المكّي متوقّف علىٰ كون الرطل العراقي و المكّي عياراً متعارفاً لأهل المدينة، التي وردت أكثر الروايات فيها، و إثبات هذا المعنىٰ لا يحتاج إلىٰ تكلّف، بعد وضوح أنّ المدينة كانت مورداً لاختلاف الناس و المسلمين، خصوصاً من كان منهم يقول بإمامة الصادقين (عليهما السّلام) اللذين ورد أكثر الروايات الفقهيّة عنهما، ففي كلّ سنة يسافر جمع كثير من العراق لأداء فريضة الحجّ، و لا محالة كانوا يدخلون المدينة و يستأنسون مع أهلها، و لهذا صار رطلهم شائعاً

فيها، و هكذا أهل مكة، مضافاً إلىٰ قلّة البعد و الفصل بينهما، الموجبة لقرب ما هو شائع في المدينة بما هو شائع فيها.

و بالجملة: فلا ينبغي الارتياب في أنّ الرطل العراقي و كذا المكّي شائعان في المدينة، بل ربما يستفاد من حديث الكلبي النسّابة: أنّ إطلاق الرطل كان منصرفاً إلى الرطل العراقي؛ حيث إنّه بعد حكم الإمام (عليه السّلام)، و بيانه مقدار الرطل في مورد الرواية، سأل عنه و قال: بأيّ الأرطال؟ قال

بأرطال المكيال العراقي «2»

، فإنّ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 414/ 1308، الإستبصار 1: 11/ 17، وسائل الشيعة 1: 168، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11، الحديث 3.

(2) الكافي 1: 283/ 6، و 6: 416/ 3، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 114

ظاهره اعتماد الإمام (عليه السّلام) على الإطلاق مع كون مراده واقعاً هو الرطل العراقي، و ليس ذلك إلّا لشيوعه في المدينة، كشيوع الرطل المدني بل أولىٰ، كما لا يخفى.

و حينئذٍ لا يبقى ريب في أنّ المراد بالرطل الوارد في المرسلة هو الرطل العراقي، و بالرطل الوارد في الصحيحة هو المكّي، فالكُرّ ألف و مائتا رطل بالعراقي، و ستّمائة رطل بالمكّي، و تسعمائة رطل بالمدني، هذا كلّه في التقدير بالوزن.

تقدير الكرّ بحسب المساحة

و أمّا تقديره بالأشبار فالمسألة خلافيّة، و مقتضى النصوص متفاوت جدّاً، بل كلّ نصّ يدلّ علىٰ غير ما هو مدلول الآخر- كما سيجي ء نقلها فالمشهور «1» بينهم- بل ربّما يُحكىٰ دعوى الإجماع عليه «2» أنّ الكُرّ هو ما كان كلّ واحد من طوله و عرضه و عمقه ثلاثة أشبار و نصفاً، فيكون مجموع المساحة اثنين و أربعين شبراً

و سبعة أثمان شبر.

و قيل: هو ما كان كلّ واحد من أبعاده الثلاثة ثلاثة أشبار، فيكون مجموع التكسير سبعة و عشرين شبراً «3». و رُبّما يُنسب هذا القول إلى القمّيين «4».

و قيل: ما بلغ تكسيره إلىٰ مائة شبر، و هو المنقول عن ابن الجنيد «5».

______________________________

(1) انظر مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 6، جواهر الكلام 1: 172 173.

(2) غنية النزوع 1: 46، انظر مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 9، جواهر الكلام 1: 173.

(3) المقنع: 31، مختلف الشيعة 1: 21، الروضة البهيّة 1: 257، مجمع الفائدة و البرهان 1: 259 260.

(4) مدارك الأحكام 1: 49، الحبل المتين: 108، الحدائق الناضرة 1: 261.

(5) مختلف الشيعة 1: 21، مدارك الأحكام 1: 52.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 115

و قيل: ما بلغ ستّة و ثلاثين شبراً «1».

و عن قطب الراوندي: أنّه ما بلغ أبعاده إلىٰ عشرة و نصف، و لم يعتبر التكسير «2».

الروايات الواردة في المقام

و المهمّ في المقام نقل الروايات الواردة فيه، و بيان مدلولها، و وجه الجمع بينها، فنقول:

منها: صحيحة إسماعيل بن جابر قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الماء الذي لا ينجّسه شي ء، قال

ذراعان عمقه في ذراع و شبر وِسْعه- سعته «3».

و المراد بالسعة هي كلّ واحد من الطول و العرض، و الدليل عليه- مضافاً إلىٰ أنّ المفهوم منها عند العرف هو هذا المعنىٰ ذكره في مقابل العمق فقط، و كسره- بناءً عليه يبلغ إلىٰ ستّ و ثلاثين شبْراً؛ لأنّ الذراع عبارة عن مقدار شبرين.

و منها: المرسلة التي ذكرها الصدوق في «المجالس»، قال: «رُوي أنّ الكُرّ هو ما يكون ثلاثة أشبار طولًا في ثلاثة أشبار عرضاً في ثلاثة أشبار عمقاً «4»، و كسره يبلغ سبعاً و

عشرين شبراً».

و منها: المرسلة التي ذكرها الصدوق أيضاً في كتاب «المقنع»، قال: «رُوي

______________________________

(1) المعتبر 1: 45 46، مدارك الأحكام 1: 51، انظر جواهر الكلام 1: 172 و 176.

(2) انظر مختلف الشيعة 1: 22، مفتاح الكرامة 1: 71/ السطر 26، جواهر الكلام 1: 173.

(3) تهذيب الأحكام 1: 41/ 114، وسائل الشيعة 1: 164، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 1.

(4) أمالي الصدوق: 514، وسائل الشيعة 1: 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 116

أنّ الكُرّ ذراعان و شبر في ذراعين و شبر «1»، و كسره يبلغ باعتبار خمساً و عشرين شبراً، و باعتبار آخر خمساً و عشرين شبراً بعد المائة».

و منها: ما رواه الكليني عن محمّد بن يحيىٰ، عن أحمد بن محمّد، عن عثمان بن عيسىٰ، عن ابن مسكان، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الكُرّ من الماء كم يكون قدره؟ قال

إذا كان الماء ثلاثة أشبار و نصف في مثله ثلاثة أشبار و نصف في عمقه في الأرض، فذلك الكُرّ من الماء «2».

و مستند المشهور هي هذه الرواية «3»، و ربما يورد علىٰ سنده: بأنّ أحمد بن محمّد هو أحمد بن محمّد بن يحيىٰ، و هو ضعيف أو مجهول «4». و فيه: أنّ الظاهر أنّ أحمد بن محمّد عند الإطلاق، يكون المراد به هو أحمد بن محمّد بن عيسىٰ، و هو ثقة، مضافاً إلىٰ أنّ ابن يحيىٰ أيضاً ثقة، كما أنّ المراد بأبي بصير هو ليث المرادي؛ بقرينة رواية ابن مسكان عنه، مع أنّ هذه الكُنية للثلاثة الذين هم كلّهم ثقات علىٰ ما هو الحقّ. هذا ما يتعلّق

بسند الرواية.

و أمّا ما يتعلّق بدلالتها فنقول: إمّا أن يكون قوله

ثلاثة أشبار و نصف

بعد قوله

في مثله

منصوباً، فيكون خبراً بعد الخبر لقوله

إذا كان الماء

، و حينئذٍ فالرواية متعرّضة لمقدار كلّ واحد من الأبعاد الثلاثة: الطول و العرض و العمق؛ أمّا الأوّل فواضح، و أمّا الثاني فلدلالة قوله

في مثله

عليه، و أمّا

______________________________

(1) المقنع: 31، وسائل الشيعة 1: 165، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 3.

(2) الكافي 3: 3/ 5، تهذيب الأحكام 1: 42/ 116، الإستبصار 1: 10/ 14، وسائل الشيعة 1: 166، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 10، الحديث 6.

(3) مدارك الأحكام 1: 49، جواهر الكلام 1: 173، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 140.

(4) مدارك الأحكام 1: 49، انظر جواهر الكلام 1: 173.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 117

الثالث فلدلالة ما بعد هذا القول عليه.

و إمّا أن يكون مجروراً- بناءً علىٰ أن يكون بياناً لقوله: «في مثله» فتكون الرواية متضمّنة- حينئذٍ لحكم العمق و الطول فقط، و حينئذٍ و إن كان يُستفاد منها مقدار العرض أيضاً، إلّا أنّه لا دليل على اختصاص الرواية بما إذا لم يكن الماء- باعتبار ظرفه علىٰ نحو الدائرة، غاية الأمر أنّه لا دليل علىٰ إخراج مثل هذه الصورة، مع وضوح التفاوت بينهما جدّاً.

ثمّ لا يخفى أنّ قوله (عليه السّلام)

ثلاثة أشبار و نصف

في أوّل الرواية و إن كان في أكثر النسخ مكتوباً بالجرّ، إلّا أنّ الظاهر أن يكون منصوباً لكونه خبراً ل «كان»، كما هو كذلك في «الوافي» «1».

و منها: رواية إسماعيل بن جابر، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الماء الذي لا ينجّسه شي ء؟ فقال

كُرّ.

قلت: و ما الكُرّ؟ قال

ثلاثة أشبار في

ثلاثة أشبار «2».

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 117

و منها: رواية حسن بن صالح الثوري، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إذا كان الماء في الرَّكيّ كُرّاً لم ينجّسه شي ء.

قلت: و كم الكُرّ؟ قال

ثلاثة أشبار و نصف عمقها في ثلاثة أشبار و نصف عرضها «3».

و الركِيّ جمع الركِيّة، و هي البئر.

و هذه الرواية- باعتبار أنّ موردها هي الرّكيّة، و من المعلوم أنّها علىٰ نحو

______________________________

(1) الوافي 6: 36/ 12.

(2) الكافي 3: 3/ 7، وسائل الشيعة 1: 159، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 7.

(3) الكافي 3: 2/ 4، وسائل الشيعة 1: 160، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 118

الدائرة تخالف ما عليه المشهور، لا سيّما بعد ذكر العرض فقط في مقابل العمق.

و لو سُلّم التعميم- باعتبار أنّ السؤال إنّما وقع عن مقدار الكُرّ مطلقاً؛ من دون تقييد بالماء الموجود في الرّكي فلا محالة لا يكون المورد خارجاً عن ذلك الحكم العامّ، كما هو واضح، إلّا أنّ سند الرواية لا تخلو عن ضعف باعتبار الحسن بن صالح «1».

و الرواية التي قبل هذه الرواية و إن كانت ظاهرة- بل صريحة في ثلاثة أشبار- لا أزيد إلّا أنّها أيضاً لا تخلو عن ضعف من حيث السند؛ لأنّه قد رواها في «الكافي» عن ابن سنان، عن إسماعيل بن جابر «2»، و رواها الشيخ تارة عن عبد اللّٰه بن سنان، عن إسماعيل بن جابر «3»، و أُخرى عن محمّد بن سنان، عن إسماعيل

بن جابر «4»، و من المعلوم أنّها رواية واحدة، و حينئذٍ فيتردّد الأمر بين أن يكون الراوي عن إسماعيل بن جابر، هو عبد اللّٰه بن سنان الذي هو موثّق بلا إشكال «5»، و بين أن يكون الراوي عنه هو محمّد بن سنان، المطعون في أكثر كتب الرجال «6»، و لم يقل أحد بوثاقته إلّا المفيد (قدّس سرّه) في بعض كلماته «7»، و ظنّي أنّه نصّ علىٰ قدحه في البعض الآخر من كلماته «8».

______________________________

(1) الحسن بن صالح مجهول ذكره الشيخ الطوسي في أصحاب الكاظم (عليه السّلام).

رجال الطوسي: 348/ 19.

(2) الكافي 3: 3/ 7.

(3) تهذيب الأحكام 1: 41/ 115.

(4) تهذيب الأحكام 1: 37/ 101.

(5) رجال النجاشي: 214/ 558، الفهرست: 101/ 423، مجمع الرجال 4: 2.

(6) رجال النجاشي: 328/ 888، الفهرست: 143/ 609، رجال الطوسي: 386/ 7.

(7) الإرشاد 2: 248.

(8) رسالة الردّ على أهل العدد و الرؤية، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 9: 20، انظر تنقيح المقال 3: 124 125.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 119

و بالجملة: فالظاهر أنّه ضعيف، و مع هذا الترديد لا تكون الرواية مشمولة لأدلّة حجّية خبر الواحد، التي يرجع جميعها إلىٰ بناء العقلاء على العمل بقول الثقة، و ترتيب آثار الصدق عليه، كما قد حُقّق في موضعه «1».

و إطلاق «ابن سنان» و إن كان منصرفاً إلىٰ عبد اللّٰه بن سنان، إلّا أنّ الظاهر أنّ حذف كلمة «محمّد» إنّما وقع من الناسخين، و يؤيّده كون الراوي عنه هو البرقي، الذي يكون أقرب إلىٰ محمّد بن سنان، بل مراجعة الأسانيد و التتبّع فيها، تقضي بأنّ البرقي لا يروي عن عبد اللّٰه بن سنان، و لا هو عن إسماعيل بن جابر.

و بالجملة: فالرواية غير قابلة للاعتماد

عليها، فلم يبقَ في الباب إلّا صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدّمة التي هي أصحّ ما في الباب- و المرسلتان المتقدّمتان، و حال الأخيرتين واضح، و الصحيحة قد خرجت عن الحجّيّة باعتبار إعراض المشهور عنها، فالكُرّ بناءً على التقدير بالأشبار هو ما يبلغ كسره تقريباً إلىٰ ثلاث و أربعين شبراً بلا إشكال.

الجمع بين الروايات الواردة

و المهمّ في المقام رفع التنافي بين الروايات الدالّة علىٰ تقدير الكُرّ بالأشبار، و بين ما يدلّ علىٰ تقديره بالوزن؛ من حيث إنّ تقديره بالوزن يكون في الغالب- بل دائماً أقلّ من ثلاث و أربعين شبراً، كما حُكي عن الأمين الأسترآبادي أنّه قدّر ماء المدينة بالوزن المعيّن في الكُرّ، فلم يبلغ إلّا ستّاً و ثلاثين شبراً «2»،

______________________________

(1) أنوار الهداية 1: 313، تهذيب الأُصول 2: 133.

(2) انظر الحدائق الناضرة 1: 276، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 190، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 146.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 120

و حكي عن والد العلّامة المجلسي (قدّس سرّهما) أقلّ من ذلك «1»، و عن بعض أفاضل المتأخّرين أقلّ منهما «2».

و تحقيق المقام أن يقال: إنّه لا إشكال في أنّ أضبط التقديرات هو التقدير بالوزن؛ إذ ليس الوزن قابلًا لطروّ الزيادة و النقصان عليه أصلًا، و هذا بخلاف غيره، و حينئذٍ فنقول:

ظاهر الروايات الواردة في تقدير الكُرّ بالوزن «3»، أنّ حدّ الكُرّ بحسب الواقع هو هذا المقدار الذي لا يقبل الزيادة و النقيصة، و الروايات الدالّة على التقدير بالأشبار، و إن كان ظاهرها أيضاً أنّ حدّ الكُرّ هو هذا المقدار، إلّا أنّ من الواجب صرفها عن هذا الظهور باعتبار تفاوت الأشبار جدّاً، و لا يختص التفاوت بالأشخاص غير المتعارفة من حيث الشبر، بل الأفراد المتعارفة المتوسّطة يكون

التفاوت بين أشبارهم ثابتاً بلا ريب، و هذا التفاوت و إن كان قليلًا في شبر واحد، إلّا أنّه بالإضافة إلىٰ ثلاث و أربعين شبراً ربما يبلغ أشباراً متعدّدة، كما هو واضح، و حينئذٍ يعلم أنّ بناء هذا التقدير، كان على المسامحة و التسهيل بالإضافة إلى المكلّفين من حيث تعذّر الوزن أو تعسّره غالباً، و مع ذلك فقد جعل هذا التقدير أمارة على المقدار الواقعي للكُرّ؛ بمعنى أنّ التقدير بالأشبار يبلغ إلىٰ ذلك المقدار الواقعي في جميع الأوقات، بل يكون أزيد منه غالباً، فبناء التقدير بالأشبار و إن كان على التسهيل، إلّا أنّه مع ذلك قد رُوعي فيه الاحتياط

______________________________

(1) مرآة العقول 13: 15، كتاب الأربعين، المجلسي: 490، مستمسك العروة الوثقى 1: 158.

(2) انظر مستمسك العروة الوثقى 1: 158.

(3) الكافي 3: 3/ 6، المقنع: 31، تهذيب الأحكام 1: 41/ 113، و 43/ 119، و 414/ 1308، الاستبصار 1: 10/ 15، و 11/ 16 و 17، المعتبر 1: 47، وسائل الشيعة 1: 167، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 121

بالإضافة إلى المقدار الواقعي للكُرّ، و هذا الاحتياط إنّما هو للتحفّظ على الواقع و الوصول إليه دائماً، نظير الاحتياط في أطراف العلم الإجمالي، و ليس من باب الاحتياط في الحكم- الذي لا يمكن وقوعه من الإمام (عليه السّلام)، فالأخبار الواردة في المقام لا تكون متعارضة بعد التأمّل أصلًا، بل ما يدلّ على التقدير بالأشبار، إنّما هو ناظر إلى التقدير بالوزن، الذي هو الأصل و الأساس في باب التقادير.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ من الواضح كون الحكم كلّيّاً، مترتّباً علىٰ جميع المياه الموجودة في العالم، فيمكن أن يبلغ الماء- في الخفّة إلىٰ حدّ

يكون تقديره بالوزن بالغاً إلىٰ تكسير الأشبار المعيّنة في الكرّ؛ إذ ليست المياه متساوية من حيث الوزن، بل يختلف وزنها حسب اختلافها في الخفّة.

ثمّ إنّه يمكن أن يجمع بهذا النحو بين الروايات الكثيرة المتعارضة، الواردة في خصوص التقدير بالأشبار؛ بأن يقال: إنّ الحكم بالتقدير بالأقلّ من المقدار المشهور، يمكن أن يكون لأجل خصوصيّة في المياه- التي كانت مورداً لابتلاء السائل بها يبلغ إلى المقدار الواقعي للكُرّ و لو بأقلّ من المقدار المشهور، إلّا أنّه لا يخفى عدم جريان هذا الوجه بالإضافة إلىٰ ما يدلّ على التقدير بأكثر من المقدار الذي يقول به المشهور؛ إذ قد عرفت أنّ التقدير بالأشبار أمارة على المقدار الواقعي للكُرّ، بل في غالب الأوقات يزيد عليه.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 123

ماء البئر
حول نجاسة ماء البئر و عدمها

المعروف عند قدماء الأصحاب- رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم هو نجاسة ماء البئر بمجرّد الملاقاة «1» و إن لم يتغيّر، كما أنّ المعروف المشهور عند المتأخّرين- بل المجمع عليه بينهم هو القول بالطهارة و عدم التنجّس بالملاقاة مع النجس «2»، و عمدة أدلّتهم الأخبار الكثيرة الدالّة- بالصراحة أو الظهور علىٰ عدم النجاسة، و حيث أنّها كثيرة، و دلالة أكثرها صريحة، و من خلل الحديث أكثرها خالية، فلا حاجة إلىٰ نقلها.

إنّما المهمّ بيان الروايات التي استُدلّ بها على النجاسة؛ ليظهر حالها من حيث الدلالة علىٰ مطلوبهم أوّلًا، و من حيث صلاحيّتها للمعارضة علىٰ تقدير تماميّة دلالتها ثانياً، فنقول

______________________________

(1) المقنعة: 64، الانتصار: 11، المبسوط 1: 11، غنية النزوع 1: 47، السرائر 1: 69، انظر مفتاح الكرامة 1: 78/ السطر 12.

(2) نهاية الإحكام 1: 235، إيضاح الفوائد 1: 17، مدارك الأحكام 1: 55، الحدائق الناضرة 1: 351، مستند الشيعة 1: 67

68، جواهر الكلام 1: 193، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 204 206.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 124

منها: صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: كتبت إلىٰ رجل أسأله: أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن البئر تكون في المنزل للوضوء، فيقطر فيها قطرات من بول أو دم، أو يسقط فيها شي ء من عذرة كالبعرة و نحوها، ما الذي يطهّرها حتّى يحلّ الوضوء منها للصلاة، فوقّع (عليه السّلام) بخطّه في كتابي

يُنزح دلاءٌ منها «1».

و تقريب الاستدلال بها من وجهين:

أحدهما: أنّه لا إشكال في أنّ الأمر بالنزح و وجوبه ليس وجوباً تعبّديّاً، بل وجوبه شرطي، و الأمر به إنّما هو لتحصل الطهارة للبئر بسببه، كما هو واضح.

ثانيهما: إقراره (عليه السّلام) السائل علىٰ قوله: «ما الذي يطهّره» الظاهر في نجاسة البئر بمجرّد وقوع قطرة أو قطرات من البول أو الدم فيها، و الإمام (عليه السّلام) لم ينكر عليه ذلك، بل أقرّه عليه.

و يرد عليه: أوّلًا: أنّ نزح الدلاء من غير تعيين مقداره قرينة علىٰ كون الحكم حكماً استحبابيّاً؛ إذ لا يتناسب ذلك مع الوجوب أصلًا، كما هو واضح لا يخفى.

و ثانياً: أنّه يستفاد من تعداد السائل البعرة- الظاهرة في فضلات البهائم في عداد الأعيان النجسة: أنّ المراد من قوله: «ما الذي يطهّره»، هو الطهارة بمعنى النظافة، لا الطاهرة في مقابل النجاسة، و منشأ السؤال احتماله أن يكون في الشرع طريق لرفع هذه المرتبة القليلة من القذارة، فالسؤال إنّما وقع عنه، لا عن المطهّر بمعنى المزيل للنجاسة، العارضة بسبب وقوع قطرة من البول أو

______________________________

(1) الكافي 3: 5/ 1، وسائل الشيعة 1: 176، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 21.

كتاب الطهارة (تقريرات،

للإمام الخميني)، ص: 125

الدم أو غيرهما، كما لا يخفى.

و ثالثاً: و هو العُمدة أنّ هذه الرواية هي بعينها ما رواه عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، قال: كتبتُ إلىٰ رجل أسأله: أن يسأل أبا الحسن الرضا (عليه السّلام)، فقال

ماء البئر واسع لا يفسده شي ء إلّا أن يتغيّر ريحه أو طعمه، فينزح منه حتّى يذهب الريح و يطيب طعمه؛ لأنّ له مادّة «1».

فإنّ الظاهر- خصوصاً مع اتّحاد العبارة و مع حذف المسئول عنه في الأخيرة اتّحاد الروايتين؛ بمعنى كونهما مكاتبة واحدة، و المستفاد من الجواب في الأخيرة، إنّ السؤال إنّما وقع عن نجاسة البئر و طهارته.

و بالجملة: ففي المكاتبة إنّما سُئل الإمام (عليه السّلام) عن شيئين، و السؤال في إحداهما و إن كان غير مذكور، إلّا أنّه مضافاً إلىٰ دلالة الجواب عليه، لا ارتباط له بالمقام، فإنّ الجمع بين الجوابين اللذين أحدهما صريح في عدم نجاسة البئر، و الآخر دالّ علىٰ نزح دلاء يقتضي كون النزح مستحبّاً، كما هو غير خفيّ، و حينئذٍ فالرواية من جملة ما يدلّ على الطهارة لا النجاسة.

و منها: رواية عبد اللّٰه بن أبي يعفور، و عنبسة بن مصعب، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إذا أتيت البئر و أنت جنب فلم تجد دلواً و لا شيئاً تغرف به، فتيمّم بالصعيد، فإنّ ربّ الماء ربّ الصعيد، و لا تقع في البئر، و لا تفسد على القوم ماءهم «2».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 234/ 676، وسائل الشيعة 1: 172، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 7.

(2) الكافي 3: 65/ 9، تهذيب الأحكام 1: 149/ 426، و: 185/ 535، الاستبصار 1: 127/ 435، وسائل الشيعة 1: 177، كتاب الطهارة، أبواب

الماء المطلق، الباب 14، الحديث 22.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 126

و تقريب الاستدلال بها: أنّ المراد بالإفساد هو التنجيس، كما في صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة، فمدلولها النهي عن وقوع الجنب في البئر؛ لاقتضائه نجاسة البئر، و ماؤه مورد لاحتياج الناس.

و فيه:- مضافاً إلىٰ أنّ الجُنُب لا يكون دائماً نجساً، بل كثيراً ما يكون بدنه طاهراً، و حينئذٍ فترك الاستفصال دليل علىٰ أنّ المراد بالإفساد، ليس هو التنجيس أنّ ظاهر الرواية دوران الأمر بين الوقوع في البئر و الغسل بمائه و الصلاة معه، و بين عدم الوقوع و التيمّم و الصلاة معه؛ لئلّا يلزم إفساد الماء على القوم، مع أنّه لو انفعل البئر بمجرّد الوقوع فيه، لامتنع الغسل بمائه؛ لعدم صحّة الغسل بالماء النجس، و علىٰ فرض الاغتسال يلزم- مضافاً إلى بطلانه تنجّس تمام بدنه حتّى مواضع التيمّم، فيبطل التيمّم أيضاً.

و بعبارة اخرىٰ: مفاد الرواية أنّ المنع عن الوقوع في البئر، ليس إلّا لأجل أنّ الوقوع مستلزم لإفساد الماء على القوم؛ بمعنى أنّه لو لم يكن الوقوع مستلزماً لذلك، لكان الواجب الغسل بماء البئر، مع أنّه لو قيل بنجاسة البئر، لكان الحكم التيمّم؛ لما ذُكر: من عدم صحّة الغسل المستلزم لعدم صحّة التيمّم أيضاً.

و حينئذٍ ينقدح: أنّ المراد من الإفساد ليس هو التنجيس، و هذا بخلاف الصحيحة المتقدّمة، فإنّه يدلّ عليه- مضافاً إلىٰ أنّ الحكم بالإفساد أو بعدمه؛ بناءً علىٰ أن لا يكون المراد بالفساد النجاسة، لا يناسب شأن الإمام (عليه السّلام)، فإنّ شأنه بيان الأحكام الشرعيّة، لا الموضوعات الخارجيّة و الأُمور العاديّة أنّ استثناء التغيّر و الأمر بالنزح، من القرائن الواضحة علىٰ أنّ المراد بعدم الإفساد عدم التنجيس.

و منها: حسنة

زرارة و محمّد بن مسلم و أبي بصير، قالوا: قلنا له: بئر يُتوضّأ منها يجري البول قريباً منها أ ينجّسها؟ قال: فقال

إن كانت البئر في أعلى

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 127

الوادي، و الوادي يجري فيه البول من تحتها، فكان بينهما قدر ثلاث أذرع أو أربعة أذرع لم ينجّس ذلك شي ء، و إن كان أقلّ من ذلك نجّسها. قال: و إن كان البئر في أسفل الوادي، و يمرّ الماء عليها، و كان بين البئر و بينه تسعة أذرع، لم ينجّسها، و ما كان أقلّ من ذلك فلا يتوضّأ منه.

قال زرارة: فقلت له: فإن كان مجرى البول يلصقها، و كان لا يثبت على الأرض؟ فقال

ما لم يكن قرار فليس به بأس، و إن استقرّ منه قليل، فإنّه لا يثبت على الأرض، و لا قعر له حتّى يبلغ البئر، و ليس على البئر منه بأس، فيتوضّأ منه؛ إنّما ذلك إذا استنقع كلّه «1».

أقول: يحتمل أن يكون المراد من السؤال: أنّ مجرّد جريان البول قريباً من البئر يوجب تنجيسها؛ بمعنى أنّه كما أنّ الوصول و الملاقاة موجب لذلك، هل يكون التقارب أيضاً مؤثّراً في الانفعال؟

و يحتمل أن يكون المراد منه: أنّ جريان البول في قرب البئر، هل يوجب التعدّي و السراية إلى البئر، فيؤثّر في انفعالها؟

و يحتمل أن يكون المراد منه: أنّ جريان البول قريباً من البئر، هل هو أمارة شرعيّة علىٰ نجاستها أم لا؟

و الاحتمالات كلّها بعيدة:

أمّا الأوّل: فلأنّه من البعيد أن يكون مجرّد قرب الشي ء من النجاسة، مورداً لتوهّم سرايتها إليه و تنجيسه، خصوصاً من مثل هؤلاء الثلاثة الذين هم من عظماء الرواة و فقهاء المحدّثين.

و أمّا الثاني: فلأنّ شأن الرواة و وظيفتهم

في مقام السؤال من الإمام (عليه السّلام)، إنّما هو السؤال عمّا يرتبط بيانه بشأنه (عليه السّلام)، لا السؤال عن الموضوعات

______________________________

(1) الكافي 3: 7/ 2، تهذيب الأحكام 1: 410/ 1293، الإستبصار 1: 46/ 128، وسائل الشيعة 1: 197، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 24، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 128

الخارجيّة و الأُمور العاديّة، فالسؤال عن سراية البول و عدمها لا يناسب شأن الراوي، خصوصاً إذا كان من أمثال هؤلاء.

و أمّا الثالث:- فمضافاً إلىٰ كونه خلاف ظاهر السؤال، فإنّ ظاهره أنّ جريان البول هل يؤثّر في نجاسة البئر؛ إمّا لكون مجرّد التقارب كذلك أو للسراية، لا أنّه أمارة علىٰ نجاستها واقعاً أنّ مضمونها- بناءً علىٰ هذا الاحتمال ممّا لم يقل به أحد حتّى القائلون بنجاسة البئر، فهل يرضىٰ أحد- و لو منهم بالقول بأنّه إذا كانت البئر في أعلى الوادي، و الوادي يجري فيه البول من تحتها، و كان بينهما أقلّ من ثلاثة أذرع، يكون ذلك أمارة شرعيّة علىٰ نجاسة البئر، مضافاً إلىٰ أنّ في ذيل الرواية قرائن تدلّ علىٰ نفي هذا الاحتمال، فتأمّل جيّداً.

فظهر من جميع ذلك: أنّ الاحتمالات الثلاثة كلّها بعيدة، و لا يمكن حمل الرواية علىٰ شي ء منها.

و الذي يقوىٰ في النظر في معنى الرواية أن يقال: إنّ غرض السائلين و منشأ سؤالهم، إنّما هو احتمال أن يكون قرب مجرى البول إلى البئر موجباً لقذارة قليلة و كراهة ضعيفة، فكما أنّ مقاربة شي ء مطبوع مشتاق إليه للقذارات الصوريّة العرفيّة، يصير موجباً للاستقذار و التنفّر منه؛ بحيث ربما يزول الاشتياق إليه بالكلّيّة، و كذلك كان هذا المعنىٰ موجباً لقياس الشرعيّات إلى العرفيّات، و باعثاً علىٰ سؤالهم عن ذلك.

و بالجملة: فالمراد

بالنجاسة ليس ما يقابل الطهارة، بل المراد منها هو تحقّق القذارة الضعيفة في موارد ثبوتها.

و حينئذٍ فالرواية غير قابلة للاستناد إليها على النجاسة.

هذه هي عمدة الروايات التي تمسّكوا بها للقول بالنجاسة.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 129

و هنا بعض الروايات الأُخر «1»؛ ممّا لا يخلو عن قصور من حيث السند أو الدلالة، فراجع.

التمسّك للنجاسة بالأخبار الواردة في النزح

ثمّ إنّه قد يتمسّك «2» للقول بالنجاسة بالأخبار الكثيرة الواردة في النزح «3»، فإنّ حملها على الوجوب التعبّدي- مضافاً إلىٰ كونه بعيداً في نفسه منافٍ لما ورد في بعضها من التعبير بالتطهير بالنزح.

و لا يخفىٰ أنّ الظاهر كون النزح مستحبّاً، و الدليل عليه اختلاف تلك الروايات في مقداره في مورد واحد «4»، بل الترديد في رواية واحدة بين الأقلّ و الأكثر «5»، مضافاً إلى القرائن الموجودة في بعضها، كالحكم بصحّة الوضوء الواقع قبل النزح، و عدم وجوب غسل الثوب المغسول به قبله «6».

و بالجملة: لا يكاد يمكن القول بالوجوب مع شدّة الاختلاف الواقع بينها، التي لا مجال معها إلّا للحمل علىٰ مراتب الاستحباب.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 182 و 185، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 2 و 11، راجع الحدائق الناضرة 1: 357 358، جواهر الكلام 1: 192، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 199.

(2) الحدائق الناضرة 1: 358.

(3) وسائل الشيعة 1: 179 197، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15 23.

(4) وسائل الشيعة 1: 179، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 15، الحديث 2 و 3.

(5) وسائل الشيعة 1: 183، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 17، الحديث 3 و 4.

(6) وسائل الشيعة 1: 173، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 14، الحديث 9 و 12 و 13.

كتاب

الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 130

ثمّ لا يذهب عليك أنّ ادّعاء الشهرة على النجاسة بين القدماء- بل الإجماع ربما يكون منشؤه ذلك، فإنّهم حيث ذكروا أخبار النزح في كتبهم، و أفتوا بمضمونها، فقد يتوهّم من ذلك: أنّ مرادهم نجاسة البئر، و وجوب النزح لأجل حصول الطهارة، مع أنّه لم يثبت ذلك، فإنّه- مضافاً إلىٰ أنّه يظهر من بعضهم: أنّ وجوب النزح لا يكون وجوباً شرطيّاً، بل تعبديّاً «1» لا دلالة فيه على النجاسة بوجه ينفي ذلك أنّ بعضهم قد ذكر أخبار الطهارة أيضاً، مثل الصدوق (قدّس سرّه) في كتابي «المقنع» و «الهداية»؛ حيث إنّه قد ذكر- في ضمن مقادير النزح ما يدلّ علىٰ طهارة الثوب المغسول بماء البئر و صحّة الوضوء و الصلاة، بعد العلم بوقوع الميتة فيها «2»، و ذكر في الثانية أيضاً ما يدلّ علىٰ أنّ البئر واسع لا يفسده شي ء «3».

و بالجملة: فلم يثبت إجماعهم على النجاسة أصلًا. و لو سُلّم ثبوت الإجماع فهو لا يدلّ علىٰ طرحهم للأخبار الدالّة على الطهارة، بل لم يكن ذلك إلّا عن اجتهادهم و ترجيحهم للأخبار الدالّة على النجاسة، و الدليل عليه: أنّهم ربما التجؤوا إلىٰ تأويلها و حملها علىٰ خلاف ظاهرها لأرجحيّة المعارض بنظرهم.

و بالجملة: فالإجماع- علىٰ تقدير تحقّقه منشؤه الاجتهاد، فلا يكشف عن قول المعصوم إلّا بناءً علىٰ بعض الوجوه المذكورة في حجّيّته، و قد حُقّق بطلانه في الأُصول «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 232، منتهى المطلب 1: 12/ السطر 9، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 207.

(2) المقنع: 33.

(3) الهداية، ضمن الجوامع الفقهيّة: 48/ السطر 17.

(4) أنوار الهداية 1: 257 259، تهذيب الأُصول 2: 99.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 131

وجوه الجمع بين الأخبار المتعارضة في المقام

ثمّ إنّه قد يجمع بين الطائفتين من الأخبار المتعارضة؛ بحمل الطائفة الأُولىٰ- الدالّة على الطهارة علىٰ ما إذا كان ماء البئر بالغاً حدّ الكرّ، و حمل الطائفة الثانية علىٰ ما إذا لم يبلغ ذلك الحدّ «1».

و فيه: أنّ صحيحة محمّد بن إسماعيل بن بزيع المتقدّمة، قد علّل فيها الطهارة بكون البئر له مادّة، فهي صريحة في أنّ المانع عن انفعال البئر، إنّما هو كونه كذلك، لا كونه كُرّاً، فلا يمكن حملها علىٰ ما إذا كان الماء بالغاً إلىٰ هذا الحدّ.

ثمّ إنّه قد يقال: بأنّ الطائفة الأُولىٰ منصرفة إلىٰ ما إذا كان الماء بالغاً حدّ الكُرّ؛ لكون ماء الآبار غالباً كذلك، فلا تنافي بينها و بين الأدلّة الدالّة على انفعال الماء إذا كان قليلًا «2».

و فيه:- مضافاً إلىٰ أنّ دعوى الانصراف لا تختصّ بخصوص الطائفة الاولىٰ، بل تجري في الطائفة الثانية أيضاً أنّه لا تعارض بين الطائفة الأُولىٰ و بين أدلّة انفعال الماء القليل، بعد ما عرفت من أنّ عُمدة هذه الأدلّة هي مفهوم قوله (عليه السّلام)

إذا بلغ الماء قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «3»

و أنّ القضيّة الشرطيّة لا تدلّ على الحصر أصلًا، فمفادها ليس إلّا أنّ الكُرّيّة موجبة لعدم الانفعال،

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 176.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 205، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 175.

(3) الفقيه 1: 8/ 12، تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، و 226/ 651، الاستبصار 1: 6/ 1، و 20/ 45، عوالي اللآلي 2: 16/ 31، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 132

فلا ينافي ما يدلّ علىٰ عدم نجاسة الماء لكونه ذا مادّة، كما هو واضح «1».

______________________________

(1)

قد استدلّ سيّدنا العلّامة الأُستاذ الطباطبائي البروجردي (قدّس سرّه) و حشره مع أجداده الطاهرين- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين علىٰ طهارة ماء البئر و عدم نجاسته بمجرّد الملاقاة، مضافاً إلى الروايات و سائر الأدلّة المعروفة بين المعاصرين، الدالّة على الطهارة بحيث لا يمكن الخدشة فيها، و لذا صار موجباً لانقلاب شهرة النجاسة إلىٰ شهرة الطهارة من زمن محمّد ابن محمّد الجهم- أُستاذ العلّامة و تلميذ المحقّق الذي قال في حقّه و حقّ تلميذه الآخر أب العلّامة، الخواجةُ نصيرُ الدين الطوسي (قدّس سرّه) القدّوسي، الذي حضر محفل المحقّق ذات يوم: إنّهما أعلم من اجتمع عنده بالاصولين: أُصول الاعتقاد و أُصول الفقه و تبعه العلّامة في ذلك، و استقرّ عليه رأي من بعده.

و كيف كان، فقد استدلّ الأُستاذ- مضافاً إلىٰ ما ذكر بأنّه لا إشكال في أنّ فتوى المعصوم (عليه السّلام) في ماء البئر: أمّا النجاسة مطلقاً، و إمّا الطهارة كذلك؛ من دون فصل بين الكُرّ و القليل؛ و ذلك لعدم ذهاب أحد من علمائنا الإماميّة- رضوان اللّٰه عليهم أجمعين إلى التفصيل، عدا بعض من لا يعرف و لا يُعتنىٰ بقوله، فالحكم الواقعي- حينئذٍ إمّا النجاسة مطلقاً، و إمّا الطهارة كذلك، و حينئذٍ بعد ورود روايات كثيرة على اعتصام الكُرّ و عدم انفعاله، لا بدّ من ملاحظة أنّ ماء البئر إذا كان كُرّاً، هل يكون مشمولًا لتلك الروايات أم لا؟

لا مجال لدعوىٰ عدم الشمول؛ لأنّ خصوصيّة البئر عبارة عن الاشتمال على المادّة و وقوع الماء في قعر الأرض، و من المعلوم أنّ وقوع الماء في قعر الأرض لا يوجب تبدّل حكم الكُرّ، و لا وجه لدعوى انصراف الروايات إلى الماء الواقع في سطح الأرض؛ لوضوح كون المناط هي

الكثرة بذلك المقدار فقط، و لا دخالة للظرف و المكان فيه أصلًا.

و أمّا الاشتمال على المادّة، فلو لم يكن موجباً لإسراء حكم الكرّ إلى القليل منه لأجل اشتماله عليها، لا يصير موجباً لانفعال الكُرّ من البئر ضرورة.

فإذا ثبت طهارة ماء البئر إذا كان كُراً بمقتضى الروايات الواردة في الكُرّ تظهر طهارته إذا كان قليلًا أيضاً؛ و ذلك لعدم الفصل كما عرفت.

نعم مقتضى النصوص و الفتاوى النجاسة مع التغيّر، و الظاهر حصول الطهارة بمجرّد زوال التغيّر- كما يظهر من طائفة من الروايات و لا حاجة إلىٰ نزح الجميع، كما ربما يدّعىٰ؛ نظراً إلىٰ بعض ما لا دلالة له على ذلك، فراجع. [المقرر دام ظلّه].

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 133

في حكم الماء النجس
عدم جواز استعمال الماء النجس

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «فإذا حكم بنجاسة الماء، لم يجز استعماله في الطهارة و لا في الأكل و لا في الشرب، إلّا عند الضرورة» «1».

أقول: عدم جواز الانتفاع بالماء النجس و استعماله في الطهارة و الأكل و الشرب من ضروريّات الفقه، و الأخبار الكثيرة و الفتاوى المتظافرة تدلّ عليه.

و بالجملة: لا إشكال و لا خلاف في أصل الحكم.

إنّما الإشكال: في أنّه هل يكون استعماله في الطهارة حراماً ذاتيّاً، أو تشريعيّاً، أو لا يترتّب عليه إلّا مجرّد عدم حصول الطهارة به؟

قد يقال بالأوّل «2»؛ لأنّه قد وقع النهي عنه في الروايات علىٰ نحو النهي عن استعماله في الأكل و الشرب، الذي هو حرام ذاتيّ بلا إشكال، كما في صحيحة حريز المتقدّمة «3»، الدالّة علىٰ أنّه إذا تغيّر الماء و تغيّر الطعم فلا تتوضّأ منه

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 7.

(2) انظر روض الجنان: 155/ السطر 18، جامع المقاصد 1: 149، مدارك الأحكام 1: 106.

(3) تقدّم

في الصفحة 104.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 134

و لا تشرب، فإنّ اتّحاد السياق يقتضي كون النهي عن الوضوء، نظير النهي عن الشرب، فكما أنّ شربه حرام ذاتاً فكذلك التوضّي به و استعماله في الطهارة.

و أنت خبير: بأنّ القول بكون الوضوء بالماء النجس لا يترتّب عليه أزيد من الفساد، لا يستلزم أن يكون صيغة النهي مستعملة في المعنيين، بل النهي قد استعمل في معنىً واحد، و هو عدم كون المنهيّ عنه ماضياً في الشريعة، غاية الأمر أنّ عدم المضيّ في الوضوء، إنّما هو بمعنى عدم ترتّب الأثر المقصود منه عليه، و في الشرب- بعد عدم إمكان حمله علىٰ هذا المعنىٰ إنّما يساوق الحرمة، فالاختلاف إنّما هو بين المتعلَّقين، لا بين نفس الحكمين أصلًا.

و أمّا الحرمة التشريعيّة فلا يفهم المراد منها، فإنّه إن كان المراد بالتشريع: إدخال ما ليس من الدين فيه، و ترويجه بين الناس، و إلقاؤه عليهم، مع إظهار أنّه من الدين و إن لم يكن معتقداً به، فهذا هو الذي يسمّىٰ بالبدعة، و هي من المحرّمات الذاتيّة، كشرب الخمر و سائر المحرّمات.

و إن كان المراد هو البناء علىٰ أنّ العمل الفلاني مشروع في الشريعة، مع أنّه لا يكون الأمر كذلك و لا يكون هو معتقداً بكونه كذلك واقعاً كالبناء علىٰ أنّ صلاة الظهر هي ثلاث ركعات مثلًا، فكيف يعقل هذا البناء مع علمه بكونها أربع ركعات؟! و بالجملة: فالإتيان بصلاة الظهر ثلاث ركعات- مثلًا مع البناء علىٰ أنّها مجعولة بهذا المقدار، لا يكون مرجعه إلّا إلى الإتيان بصورة الصلاة؛ لأنّ المفروض علمه بخلاف ذلك، فالآتي بها بهذا النحو لا يكون آتياً بالصلاة أصلًا.

و بالجملة: لم يظهر لنا معنىً معقول للتشريع؛ بحيث يمكن

صدوره من العقلاء و لو أحياناً، فتدبّر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 135

حكم شرب الصغار للماء النجس
اشارة

ثمّ إنّه هل يجوز أن يستعمل الماء النجس في شرب الصغار و الأطفال أم لا؟

و لتوضيح المسألة لا بدّ من بيان أنحاء التكاليف التحريميّة.

فنقول: قد يفهم- و لو من طريق العقل أنّ المطلوب هو عدم تحقّق المنهيّ عنه في الخارج بأيّ وجه اتّفق، كقتل النبيّ و المؤمن- مثلًا فإنّ مطلوب الشارع: هو عدم تحقّقه و لو خطأً بالسقوط من شاهق و نحوه.

و في هذا القسم: كما أنّه لا يجوز أن يباشره المكلّف البالغ، كذلك لا يجوز حمله غير البالغ علىٰ ذلك، بل يجب منعه و صرفه عن هذا العمل لو كان بصدده، لا من باب النهي عن المنكر و وجوبه على المكلّف؛ لعدم كونه منكراً بالنسبة إلى الفاعل غير البالغ، و لذا لم يتوجّه إليه التكليف و النهي، بل من باب أهمّية القضيّة و اهتمام الشارع بها.

و قد يعلم أنّ المقصود عدم تحقّق العمل الفلاني في الخارج عن قصد و اختيار، كإهانة المؤمن و نحوها، فإنّ مقصود الشارع عدم تحقّق الإهانة بالإضافة إلى المؤمن لاحترامه عنده، غاية الأمر أنّ تحقّقها متوقّف على القصد إليها.

و في هذا القسم أيضاً: كما أنّه لا تجوز المباشرة بنفسه، كذلك لا يجوز التسبيب أيضاً، بل ربما يجب منع غير البالغ و صرفه عن ذلك، كالصورة المتقدّمة.

و قد يعلم أنّ المقصود مجرّد عدم تحقّق المنهيّ عنه في الخارج بالإضافة إلىٰ خصوص آحاد المكلّفين مع بقائهم علىٰ صفة التكليف و اتّصافهم بها، كأكثر المحرّمات الشرعيّة، كشرب الخمر و ترك الصلاة، فإنّه لا يجب منع من يشرب

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 136

الخمر بزعم أنّه ماء و

إفهامه أنّه خمر، و كذلك لا يجب إعلام من نسي الإتيان بالصلاة، و في هذا القسم لو تحقّق الارتكاب من المكلّف عن قصد و اختيار، لكان وجوب منعه و صرفه من باب وجوب النهي عن المنكر، كما هو واضح.

و قد لا يعلم أنّ المقصود هل هو مجرّد عدم تحقّق المنهيّ عنه من البالغ، أو أنّ الغرض عدم تحقّقه مطلقاً و لو من الصغير غير البالغ حدّ التكليف؟ و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّه لم يعلم أنّ المقصود هو مجرّد عدم استعمال المكلّف الماء النجس مع التوجّه و الالتفات و القصد و الاختيار، أو الأعمّ منه و من الصغير، و الأدلّة قاصرة عن إفادة التعميم.

نعم ورد في موضوع الخمر أخبار كثيرة، تدلّ علىٰ أنّه لو أشرب الصغير غير البالغ الخمر، فيذاق من الماء الحميم بمقداره، و أنّ هذا لن يُغفر له أبداً «1».

و لكن لا يجوز إلغاء الخصوصيّة منه بالإضافة إلىٰ جميع المحرّمات و النجاسات، فيحتمل قويّاً أن يكون للخمر- باعتبار أهميّته عند الشارع مدخليّة من غير جهة نجاسته في هذا الأثر الذي رُتّب عليه في تلك الأخبار.

و بالجملة: فلم يثبت النهي عن استعمال الماء النجس في شرب الأطفال في صورة عدم الإضرار بهم، و معه فالتحريم مسلَّم لا إشكال فيه.

وجه القول بعدم الجواز

ثمّ إنّه قد يقال بعدم الجواز «2»، نظراً إلىٰ أنّ الأوامر و كذا النواهي، لها ظهورات مترتّبة طوليّة، و أدلّة حجّيّة الظواهر تشمل كلّ واحد منها في عرض

______________________________

(1) وسائل الشيعة 25: 307، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 10، الحديث 1 و 2 و 3.

(2) انظر مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 216.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 137

واحد، و إن

كانت تلك الظهورات في مقام التحقّق و الانعقاد مترتّباً بعضها على البعض الآخر، إلّا أنّه لا ترجيح بينها بالنسبة إلىٰ أدلّة حجّيّة الظواهر.

أمّا الأوامر فظهورها الأوّلى إنّما هو في وجوب الإتيان بالمأمور به، و ظهورها الثانوي في كون متعلّقها محبوباً للمولىٰ، و ظاهرة ثالثاً في كونه ذا مصلحة ملزمة، و كذا النواهي لها ظهور في حرمة الإتيان بمتعلّقها، و في كونه مبغوضاً للمولىٰ، و في كونه ذا مفسدة ملزمة.

و حينئذٍ فإذا قام الدليل علىٰ عدم حجّيّة الظهور الأوّلي بالإضافة إلى الصغير غير البالغ حدّ التكليف، كقوله عليه الصلاة و السلام

رُفع القلم عن الصبيّ «1»

و نظائره، فيبقى الظهوران الأخيران علىٰ حالهما من الحجّيّة؛ إذ قد عرفت أنّ حجّيّة الظهور الثاني، لا تكون مترتّبة علىٰ حجّيّة الظهور الأوّلي؛ و إن كان في مقام الانعقاد متأخّراً عنه و واقعاً في طوله، لٰا في عرضه، و كذا الظهور الثالث.

و نظير ذلك ما ذكره بعض المحقّقين في باب الأمارات: من أنّ دليل حجّيّتها يشمل لوازم مدلولاتها في عرض الملزومات، لا في طولها حتّى يلزم من عدم حجّيّتها في بعض الموارد عدم حجّيّة اللوازم أيضاً «2».

و قد انقدح من ذلك: أنّ حرمة استعمال الماء النجس في الأكل و الشرب و إن كانت مرفوعة عن الصبي، إلّا أنّ مبغوضيّته و كونه ذا مفسدة مُلزمة، باقيتان علىٰ حالهما بالنسبة إليه أيضاً، فلا يجوز استعماله في شربهم لذلك، لا لتوجّه التكليف.

______________________________

(1) الخصال: 94/ 40، و: 175/ 233، عوالي اللآلي 3: 528/ 3، وسائل الشيعة 1: 45، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 4، الحديث 11.

(2) كفاية الأُصول: 473.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 138

ثمّ إنّ مقتضىٰ هذا الكلام، عدم الفرق بين أن

يستعمله البالغ المكلّف في شربه، و بين أن يستعمله الصغير في شرب نفسه، غاية الأمر أنّه يجب في الثاني منعه و صرفه عن الاستعمال.

كما أنّه لا فرق بين أن يكون عروض وصف النجاسة للماء ناشئاً من نجاسة خارجية أو من نجاسة بعض أعضاء الصبي أصلًا.

و أنت خبير: بأنّ ما ذكره: من أنّ للأوامر و النواهي ظهورات ثلاثة، محلّ نظر بل منع، فإنّه ليس للأوامر ظهور إلّا في البعث إلىٰ متعلّقه، و كذا ليس للنواهي ظهور إلّا في الزجر عن المتعلّق. نعم يكون تعلّق الأمر بشي ء، كاشفاً عن كون ذلك الشي ء محبوباً للآمر و ذا مصلحة ملزمة باعثة على الأمر، كما أنّ تعلّق النهي بشي ء كاشف عن مبغوضيّته للمولىٰ، و كونه ذا مفسدة ملزمة موجبة للنهي، و إلّا فمن الواضح عدم كون الأوامر ظاهرة في ذلك، فإنّها ليست إلّا مركّبة من المادّة و الهيئة، و الأولى لا تدلّ إلّا علىٰ طبيعة المتعلّق، و الثانية لا تدلّ إلّا على البعث إلى المادّة، كما حقّق في محلّه «1».

و هكذا الحكم في النواهي، غاية الأمر أنّ هيئتها تدلّ على الزجر و المنع عن المادّة المتصوّرة بها.

و الحاصل: أنّ دلالة الأوامر و النواهي على الأُمور الثلاثة و إن كانت مقبولة عند العدليّة، إلّا أنّها ليست من باب الظهور، بل من باب الكشف العقلي، و حينئذٍ فتحقّق المبغوضيّة و كونه ذا مفسدة، إنّما يدور مدار الزجر و المنع؛ إذ هو الكاشف عنهما بالكشف المزبور، و لا يُعقل أن يكشف عن الأعمّ من مورد ثبوت الكاشف، كما هو المسلّم عند العقل و العقلاء في باب الكشف، فإذا لم يكن

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 63 68.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 139

الكاشف

متحقّقاً في بعض الموارد، كالصبي في المقام، فأيّ شي ء يكشف عن ثبوت الأخيرين بالإضافة إلى الصبي؟! و هذا واضح جدّاً.

و بالجملة: فلم يثبت ما يدلّ علىٰ تحريم استعمال المياه المتنجّسة في شرب الصغار و الأطفال.

هذا مضافاً إلىٰ أنّه لو لم يكن ذلك جائزاً، لكان اللازم أن يكون عدم الجواز بديهيّاً إلى الآن مع كثرة الخلطة بين البالغ و غيره، و عدم خلوّ غير البالغ- غالباً عن كون بعض أعضائه متنجّساً ملاقياً لشي ء من الأعيان النجسة، فالظاهر أنّه لا ينبغي الإشكال في الجواز.

حول أدلّة حرمة سائر الانتفاعات بالماء النجس

ثمّ إنّه كما يحرم استعمال المياه المتنجّسة في الأكل و الشرب، هل يحرم سائر الانتفاعات بها؟

قد يقال- كما قيل «1» بعدم جواز الانتفاع بها مطلقاً؛ لقوله تعالىٰ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصٰابُ وَ الْأَزْلٰامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطٰانِ فَاجْتَنِبُوهُ «2».

بتقريب: أنّ الضمير في قوله فَاجْتَنِبُوهُ راجع إلى الرّجس، و أنّ المراد منه هو النجاسة، و المراد بالاجتناب عن الشي ء فرض ذلك الشي ء كالعدم؛ بمعنى عدم ترتيب الأثر عليه أصلًا، فمفاد الآية الشريفة: وجوب الاجتناب عن جميع النجاسات، و عدم الانتفاع بشي ء منها أيّ انتفاع كان.

و فيه أوّلًا: أنّ المراد من الرّجْس ليس هي النجاسة و القذارة، كما توهّمه

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان 1: 281، انظر المكاسب المحرّمة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 1: 19.

(2) المائدة (5): 90.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 140

المستدلّ، بل المراد به العمل القبيح؛ لأنّ تنزيل الخمر و سائر المذكورات في الآية الشريفة مع غاية الاهتمام بها، منزلة النجس الذي لا يكون بهذه المرتبة من الأهمّيّة، مستبعد جدّاً، و كيف يقاس عبادة الأوثان- التي مبنى الشريعة علىٰ مكافحتها و الجهاد لإزالتها بشرب النجس الذي لا يترتّب عليه

إلّا مجرّد مخالفة تكليف تحريميّ و لعمري إنّ هذا ادّعاء لا يمكن أن يصدر من عاقل، فضلًا عن فاضل.

و ثانياً: سلّمنا أنّ المراد من الرجس هو القذر و النجس، و لكن لانسلّم أنْ يكون الضمير راجعاً إليه لأنّه يحتمل أن يرجع إلىٰ عمل الشيطان، خصوصاً مع قربه منه.

و ثالثاً: لو سلّمنا جميع ذلك، لكن لا نُسلّم أن يكون المراد من الاجتناب هو عدم الانتفاع به أصلًا، بل المراد به: هو عدم الانتفاع بالآثار الظاهرة المتصوّرة منه عند العقلاء.

و ممّا ذكرنا يظهر: فساد الاستدلال «1» بقوله تعالىٰ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «2»، مضافاً إلىٰ أنّ وروده في أوائل الإسلام- لكونه جزءاً من السورة التي نزلت أوّلًا أو ثانياً على الاختلاف «3» قرينة على عدم كون المراد بالرجز هو النجس، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الاستدلال «4» لحرمة جميع الانتفاعات ببعض الأخبار- كقوله (عليه السّلام)

______________________________

(1) غنية النزوع 1: 46.

(2) المدّثّر (74): 5.

(3) راجع مجمع البيان 10: 579، 780.

(4) مختلف الشيعة 1: 81 82، الحدائق الناضرة 1: 516.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 141

فيما لو اشتبه الماء الطاهر بين الماءين

يُهريقهما و يتيمّم «1»

لا يخلو من نظر؛ لأنّ المراد بالإهراق هو عدم إمكان الانتفاع بهما للوضوء، لا الإهراق بمعناه الحقيقي، مع أنّه يمكن أن يكون الوجه في الإهراق هو تحقّق موضوع التيمّم يقيناً للوسوسة الثابتة مع بقائهما؛ لأنّه يحتمل إمكان الوضوء بهما، كما يقوله بعض الفقهاء «2»، و سيأتي تحقيقه «3».

هذا كلّه، مضافاً إلىٰ أنّ السيرة المستمرّة إلى الآن، من أعظم الشواهد علىٰ جواز استعمال المياه المتنجّسة في غير الأكل و الشرب، و كذا سائر المتنجّسات، بل النجاسات، كما هو واضح.

اشتباه الماء الطاهر بالنجس

الكلام في العلم الإجمالي: تارة يقع فيما لو

كانت أطرافه محصورة، و أُخرى فيما كان الأمر دائراً بين أطراف كثيرة، و يعبّر عنه بالشبهة غير المحصورة.

و على التقديرين: إمّا أن يكون المقصود إحراز تنجيز العلم الإجمالي، و أنّه هل يكون العلم الإجمالي كالتفصيلي منجِّزاً، و موجباً لصحّة العقوبة و استحقاقها عند العقلاء؛ لو ارتكب أحد الأطراف، و اتّفق مصادفته للحرام الواقعي؟ و إمّا أن يكون النزاع في جواز الترخيص في أحد الأطراف أو جميعها و عدم جوازه، كما أنّ

______________________________

(1) الكافي 3: 10/ 6، تهذيب الأحكام 1: 229/ 662، و: 249/ 713، الاستبصار 1: 21/ 48، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2.

(2) العروة الوثقىٰ 1: 53، المسألة 10.

(3) يأتي في الصفحة 166.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 142

ذلك كلّه فيما لو كان التكليف الفعلي معلوماً بالقطع و اليقين.

و قد يقع الكلام أيضاً فيما لو قامت الأمارة علىٰ نجاسة شي ء- مثلًا و يتردّد ذلك الشي ء بين أمرين أو أزيد، أو علىٰ حرمته كذلك، و كذا فيما لو كان مقتضى الأصل ذلك، فنقول:

أمّا لو علم إجمالًا بحرمة شي ء مردّد بين أطراف محصورة، فلا إشكال في كون هذا العلم منجِّزاً؛ لأنّ التنجيز ليس إلّا مجرّد صحّة احتجاج المولى على العبد، و عقوبتِهِ على ارتكاب المحرّم الواقعي و مخالفة التكليف، كما يظهر بالرجوع إلى العقلاء الذين هم المرجع في مثل المقام؛ ممّا يرجع إلى الإطاعة و العصيان، و ما يترتّب عليهما من استحقاق المثوبة و العقوبة و غيره من الآثار.

و من الواضح أنّه لا فرق عندهم في تنجّز التكليف المعلوم؛ بين ما إذا كان تعلّق العلم به علىٰ سبيل التفصيل، أو كان تعلّقه به علىٰ نحو الإجمال؛ بأن كان

المعلوم مردّداً بين أمرين أو أزيد، فكما أنّه يكون العبد عاصياً مستحقّاً للعقوبة فيما لو ارتكب الخمر المعلوم، كذلك فيما لو ارتكب الخمر المشتبه المردّد بين أطراف محصورة.

و بالجملة: فهذا الحكم من الأحكام البديهيّة عند العقلاء، و كما لا يجوز للمكلّف ارتكاب أحد الأطراف لتنجّز التكليف، كذلك لا يجوز للمولى الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف للزوم المناقضة، فإنّ الحكم بحرمة الخمر المردّد بين أشياء- الراجع إلىٰ أنّه لم يرفع المولى يده عن تكليفه بمجرّد التردّد لا يجتمع مع الترخيص في بعض الأطراف، الذي مرجعه إلىٰ أنّه يكون التكليف مرفوعاً علىٰ تقدير مصادفة ما رُخّص فيه مع الحرام الواقعي.

و بالجملة: فثبوت التكليف علىٰ أيّ تقدير و رفعه علىٰ بعض

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 143

التقادير، ممّا لا يجتمعان؛ لأنّ مرجعه إلى اجتماع المتناقضين الذي يكون هو الأصل في الامتناع.

و أمّا الشبهة غير المحصورة: فالتكليف الفعلي و إن كان معلوماً فيها، إلّا أنّه لا يكون منجّزاً؛ لما عرفت من أنّ تنجّز التكليف عند العقلاء، عبارة عن كونه بحيث يصحّ للمولى الاحتجاج به على العبد و المؤاخذة علىٰ مخالفته، و هذا غير متحقّق في الشبهة غير المحصورة؛ لأنّ احتمال المحرّم الواقعي، قد بلغ في الضعف إلىٰ حدّ لا يكون مورداً لاعتناء العقلاء و اعتمادهم عليه، بل ربما يعدّون من رتّب الأثر علىٰ هذا النحو من الاحتمال سفيهاً غير عاقل.

أ لا ترى أنّ من كان له ولد- مثلًا في بلد عظيم كثير الأهل، و سمع بوقوع حادثة في ذلك البلد أدّت إلىٰ قتل واحد من أهله، فلو رتّب الأثر علىٰ مجرّد احتمال كون المقتول ولده، و أقام عليه مجلس الفاتحة و العزاء؛ لاحتمال انطباق المقتول علىٰ ولده

المحبوب، لكان مذموماً عند العقلاء، و مورداً لطعنهم، و الحكم عليه بالخروج عن الطريقة العقلائيّة، بل لو صار مثل هذا الاحتمال مسبّباً لترتيب الأثر عليه، لانسدّ باب المعيشة و سائر الأعمال، كما لا يخفى.

و بالجملة: فالتكليف الفعلي و إن كان معلوماً، إلّا أنّ في كلّ واحد من الأطراف أمارة عقلائيّة علىٰ عدم كونه هو المحرّم الواقعي؛ لأنّ احتماله واقع بين الاحتمالات الكثيرة؛ علىٰ حسب كثرة الأطراف المخالفة لذلك الاحتمال، و مع بلوغه إلىٰ هذا الحدّ من الضعف، يفرض وجوده كالعدم عند العقلاء؛ بحيث لا يعتنون به أصلًا، فيجوز ارتكاب جميع الأطراف مع وجود هذه الأمارة العقلائيّة بالإضافة إلىٰ كلّ واحد منها.

نعم لو كان قصده من أوّل الأمر ارتكاب الحرام الواقعي بارتكاب جميع الأطراف و ارتكب واحداً منها و اتّفق مصادفته للمحرّم الواقعي، تصحّ العقوبة عليه بلا ارتياب.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 144

كلام المحقّق الحائري في المقام

ثمّ إنّ بعض المحقّقين من المعاصرين- بعد توجيهه جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة بما يرجع إلىٰ ما ذكرنا قال: «و لكن فيما ذكرنا أيضاً تأمّل، فإنّ الاطمئنان بعدم الحرام في كلّ واحدٍ واحدٍ بالخصوص، كيف يجتمع مع العلم بوجود الحرام بينها و عدم خروجه عنها؟! و هل يمكن اجتماع العلم بالموجبة الجزئيّة مع الظنّ بالسلب الكلّي؟!» «1».

و أنت خبير: بأنّه لو كان متعلّق الاطمئنان هو بعينه متعلّق العلم- و لو اختلفا من حيث الإيجاب و السلب يلزم ما ذكر، و لكنّه ليس كذلك، فإنّ متعلّق العلم هو وجود الحرام بين هذه الأطراف غير المحصورة، و متعلّق الاطمئنان هو خروج كلّ واحد منها بالقياس إلىٰ غيره، و إلّا فتلزم المنافاة في الشبهة المحصورة أيضاً، فإنّه كيف يجتمع العلم بوجود الحرام بين

الإناءين مع الشكّ في كلّ واحد منهما أنّه المحرّم؛ لعدم إمكان اجتماع العلم مع الشكّ؟! و السرّ ما ذكرنا: من أنّ الشكّ إنّما يلاحظ بالقياس إلى الطرف الآخر؛ بمعنى أنّه لا يعلم أنّ هذا الإناء بخصوصه ظرف للمحرّم الواقعي، أو الإناء الآخر، و لا ينافي ذلك تحقّق العلم بوجود الحرام بينهما، بل منشأ الشكّ هو وجود ذلك العلم، و فيما نحن فيه؛ حيث إنّ احتمال وجود الحرام في كلّ واحد من الأطراف بخصوصه ضعيف في الغاية؛ لوقوعه في مقابل احتمالات كثيرة علىٰ خلافه، فالاطمئنان بعدم كونه هو المحرّم الواقعي إنّما هو لضعف ذلك الاحتمال بالنسبة إلىٰ غيره، و لا ينافي هذا وجود العلم بكون الحرام في هذه الأطراف غير المحصورة غير خارج عنها.

______________________________

(1) درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 471.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 145

ثمّ إنّه و إن لم يكن العلم منجِّزاً للتكليف الفعلي في الشبهة غير المحصورة- لما عرفت إلّا أنّه مع ذلك لا يجوز للمولى الترخيص و لو في ارتكاب بعض الأطراف؛ للزوم المناقضة، كما عرفت في الشبهة المحصورة «1».

حول ضابط الشبهة غير المحصورة

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا ظهر: أنّ الملاك في بلوغ الشبهة إلىٰ حدّ عدم الحصر و كونها غير محصورة، هو أن يكون احتمال وجود الحرام في كلّ واحد من الأطراف ضعيفاً؛ لكثرتها بحيث لا يُعتنى به عند العقلاء أصلًا.

كما أنّ المناط في الشبهة المحصورة هو اعتماد العقلاء على احتمال المحرّم الواقعي و ترتيب الأثر عليه.

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا: من وجود الأمارة العقلائيّة في كلّ واحد من أطراف الشبهة غير المحصورة ظهر: أنّ حال أطرافها أوسع من حال الشبهة البدويّة أيضاً، فإنّه إذا تردّد مائع- مثلًا بين كونه ماءً أو لبناً، لا يجوز التوضّي

بذلك المائع؛ لعدم إحراز الماء المطلق- الذي هو شرط في صحّة الوضوء بخلاف ما لو تردّد لبن بين المياه الكثيرة، فإنّه يجوز الوضوء بكلّ واحد من الأطراف و إن احتمل كونه لبناً؛ لوجود الأمارة العقلائيّة على الخلاف، كما عرفت.

ثمّ إنّ بعض الأعاظم من المعاصرين ذكر في ضابط الشبهة غير المحصورة- علىٰ ما في التقريرات المنسوبة إليه أنّ ضابطها: هو أن تبلغ أطراف الشبهة حدّا لا يمكن عادة جمعها في الاستعمال؛ من أكل أو شرب أو لبس أو نحو ذلك، و هذا يختلف حسب اختلاف المعلوم بالإجمال

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 142.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 146

فتارة يعلم بنجاسة حبّة من الحنطة في ضمن حقّة منها، فهذا لا يكون من الشبهة غير المحصورة؛ لإمكان استعمال الحقّة من الحنطة بطحن و خبز و أكل، مع أنّ نسبة الحبّة إلى الحقّة تزيد عن نسبة الواحد إلى الألف.

و أُخرى يعلم بنجاسة إناء من لبن البلد، فهذا يكون من الشبهة غير المحصورة و لو كانت أواني البلد لا تبلغ الألف؛ لعدم التمكّن العادي من جمع الأواني في الاستعمال؛ و إن كان المكلّف متمكّناً من آحادها، فليس العبرة بقلّة العدد و كثرته فقط؛ إذ رُبّ عدد كثير تكون الشبهة فيه محصورة، كالحقّة من الحنطة، كما أنّه لا عبرة بعدم التمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال فقط؛ إذ ربما لا يتمكّن عادة من ذلك مع كون الشبهة فيه أيضاً محصورة، كما لو كان بعض الأطراف في أقصى بلاد المغرب، بل لا بدّ في الشبهة غير المحصورة من اجتماع كلا الأمرين، و هما: كثرة العدد، و عدم التمكّن من جمعه في الاستعمال «1». انتهىٰ.

و لا يخفىٰ أنّه إن كان المراد

بالتمكّن العادي من جمع الأطراف في الاستعمال، هو إمكان جمعها دفعة؛ أي في أكلٍ واحد، أو شرب واحد، أو لبسٍ واحد .. و هكذا، فهذا يوجب خروج أكثر الشبهات المحصورة، و منها المثال الذي ذكره لها.

و إن كان المراد به هو عدم التمكّن من جمعها و لو تدريجاً؛ بحسب مرور الأيّام و الشهور و السنين، فلازمه خروج أكثر الشبهات غير المحصورة عن كونها كذلك، و دخولها في الشبهة المحصورة، فلا محيص عن الالتزام بكون المناط في الحصر و عدمه ما ذكرنا، فتدبّر.

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 117 118.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 147

شروط وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة

ثمّ إنّهم ذكروا لوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة شروطاً، و اعتبروا فيه أُموراً:

منها: تنجّز التكليف بالاجتناب عن الحرام الواقعي علىٰ كلّ تقدير؛ بأن يكون كلٌّ منهما بحيث لو علم تفصيلًا بكونه هو الحرام الواقعي، لوجب الاجتناب عنه، و أمّا لو لم يكن كذلك؛ بأن لم يكلّف به أصلًا، كما لو علم بوقوع قطرة من البول في أحد إناءين أحدهما بول أو متنجّس بالبول، أو كثير لا ينفعل بالنجاسة، لم يجب الاجتناب عن الآخر؛ لعدم العلم بحدوث التكليف بالاجتناب عنه، و كذا لو كان التكليف في أحدهما معلوماً، لكن لا علىٰ وجه التنجّز، بل معلّقاً علىٰ تمكّن المكلّف منه، فإنّ ما لا يتمكّن المكلّف من ارتكابه، لا يكلّف- منجَّزاً بالاجتناب عنه، كما إذا تردّد النجس بين إنائه و إناء آخر لا دخْل للمكلّف فيه أصلًا، فإنّ التكليف بالاجتناب عن الإناء الآخر المتمكّن منه عقلًا غير منجّز عرفاً، و لهذا لا يحسن التكليف المنجّز بما ليس من شأن المكلّف الابتلاء به، نعم يحسن الأمر بالاجتناب عنه مقيّداً بتحقّق

الابتلاء.

و الحاصل: أنّ النواهي المطلوب فيها حمل المكلّف على الترك، مختصّة- بحكم العقل و العرف بمن يعدّ مبتلىً بالواقعة المنهيّ عنها، و لذا يُعدّ خطاب غيره بالترك مستهجناً، و السرّ في ذلك: أنّ غير المبتلىٰ تارك للمنهيّ عنه بنفس عدم الابتلاء، فلا حاجة إلىٰ نهيه أصلًا، فإذا علم بوقوع النجاسة في هذا الإناء أو الإناء الواقع في أقصى بلاد المغرب- مثلًا لم يعلم تنجّز التكليف علىٰ كلّ تقدير. هذه خلاصة ما أفاده الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) في الرسالة «1».

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 419 420.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 148

و ذكر المحقّق النائيني (قدّس سرّه)- علىٰ ما في التقريرات ما حاصله:

إنّه لا إشكال في اعتبار القدرة العقليّة في كلٍّ من الأمر و النهي، و يختصّ الثاني بقيد زائد، و هو القدرة العاديّة علىٰ فعل المنهي عنه و تركه، و لا يكفي في صحّة النهي مجرّد القدرة العقليّة، فإنّ التكليف المطلق بترك ما يكون متروكاً عادة، يكون كالتكليف المطلق بترك ما يكون متروكاً عقلًا؛ من حيث اللَّغْويّة و الاستهجان.

و إنّما زِيدَ هذا القيد في النواهي، دون الأوامر؛ لأنّ الأمر بالفعل ليس إلّا لأجل اشتماله على المصلحة الملزِمة، و لا يقبح من المولى التكليف بإيجاد ما اشتمل على المصلحة بأيّ وجه أمكن؛ و لو بتحصيل الأسباب الخارجة عن القدرة العاديّة مع التمكّن العقلي من تحصيلها.

و أمّا النهي فلأنّه حيث كان الغرض منه مجرّد عدم حصول ما اشتمل على المفسدة، و مع عدم التمكّن العادي من فعله لا تكاد تحصل المفسدة، فلا موجب للنهي عنه، بل لا يمكن؛ لاستهجانه عرفاً.

فإن قلت: يلزم علىٰ هذا عدم صحّة النهي عن كلّ ما لا يحصل الداعي إلىٰ إيجاده، كما لو

فرض أنّ المكلّف- بحسب طبعه لا يميل إلىٰ شرب الخمر أصلًا و لو لم يتعلّق به نهي، كما يشاهد نظيره بالنسبة إلىٰ ستر العورة و أمثالها ممّن يأبىٰ عن كشفها و لو لم يكن نهي، و ذلك ممّا لا يمكن الالتزام به، فإنّ لازمه قصر النواهي علىٰ من تنقدح في نفسه إرادة الفعل، بل و قصر الأوامر علىٰ من لم يكن مريداً للفعل مع قطع النظر عن الأمر أصلًا، و هو كما ترى.

قلت: فرق بين عدم القدرة عادة على الفعل، و بين عدم الإرادة عادة، فإنّ القدرة من شرائط حسن الخطاب، و لا بدّ من أخذها قيداً في التكليف، و أمّا إرادة الفعل فليس لها دخْل في حسن الخطاب، و لا يعقل أخذها قيداً في التكليف

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 149

- وجوداً أو عدماً لأنّ التكليف إنّما هو لبعث الإرادة، فلا يمكن أن يكون مقيّداً بحال وجودها، و لا بحال عدمها.

فقياس باب الإرادة بباب القدرة ليس في محلّه؛ لعدم استهجان النهي عن فعل ما لا يحصل الداعي إلىٰ إيجاده عادة، و استهجانه عن فعل ما لا يتمكّن من فعله كذلك.

و الذي يدلّك علىٰ هذا ملاحظة النواهي في الموالي العرفيّة، فإنّه يحسن من المولى النهي عن شرب التتن- مثلًا و لو فرض أنّ العبد بحسب طبعه لا يميل إلىٰ شرب التتن، بخلاف ما لو لم يكن قادراً علىٰ شربه؛ لكونه في أقصى بلاد الهند مثلًا، و لا تصل يده إليه «1». انتهىٰ ملخّص ما في التقريرات.

تحقيق في الخطابات الشخصيّة و القانونيّة

إذا عرفت ما ذكروه في قضيّة الابتلاء و شرطيّته لتنجّز التكليف المعلوم بالإجمال، فاعلم أنّ التحقيق في هذا الباب: أنّ الخطابات علىٰ قسمين:

القسم الأوّل: هي الخطابات الجزئيّة

المتوجّهة إلىٰ آحاد المكلّفين؛ كلّ واحد منهم مستقلا عن الآخر، كالخطاب إلىٰ زيد بالنهي عن شرب الخمر مثلًا.

و في هذا القسم لا إشكال في أنّ نهيه مشروط بعدم كونه تاركاً له لداعٍ نفساني؛ لأنّ النهي إنّما هو لإيجاد الداعي بالنسبة إلى المكلّف، و مع تحقّقه له بالإضافة إلى الترك يستهجن تكليفه بالنهي عنه، فإنّه من القبيح تكليف صاحب المروّة- الذي لا يكشف العورة بمنظر من

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 50 54.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 150

الناس بحرمة الكشف و وجوب الستر.

و كذلك باب الأوامر، فإنّ الغرض من البعث ليس إلّا مجرّد إيجاد الداعي للعبد نحو الفعل، و مع كونه فاعلًا له- و لو مع قطع النظر عن الأمر لداعٍ شهواني يستهجن ذلك التكليف، كما لو أمر المولى عبده بالتنفّس مع تحقّقه منه عادة.

و إن شئت قلت: إنّ المقصود من الأمر ليس إلّا مجرّد وجود المأمور به من العبد، و صدوره منه في الخارج، و مع كونه موجوداً بداعي غير الأمر يقبح تكليفه به.

نعم فيما إذا كان قصد التقرّب معتبراً في حصول الغرض و سقوط الأمر، ما كان وجوده بداعي غير الأمر مؤثّراً في ذلك، إلّا أنّ مرجعه أيضاً إلىٰ عدم تحقّق المأمور به بتمام خصوصيّاته المعتبرة فيه؛ بناءً علىٰ أخذ قصد التقرّب في المتعلّق و إمكان ذلك، كما قد حقّقناه في الأُصول «1».

القسم الثاني: هي الخطابات الكلّيّة المتوجّهة إلىٰ عموم المخاطبين؛ بحيث كان الخطاب واحداً و المخاطب كثيراً.

كجميع الخطابات الشرعيّة المتوجّهة إلىٰ عموم الناس، فإنّ الخطاب فيها واحد متوجّه إلى العناوين المنطبقة علىٰ جميع الناس، كقوله: «يا أيّها الناس افعلوا كذا و كذا» مثلًا، أو علىٰ بعضهم كالمستطيع في

الحكم بوجوب الحجّ.

و بالجملة: لا إشكال في وحدة الخطابات الواقعة في الشريعة؛ بمعنى عدم انحلالها إلىٰ خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين.

و حينئذٍ فالاستهجان المستلزم لامتناع التكليف، بل الخطاب من الشارع

______________________________

(1) مناهج الوصول 1: 260 272، تهذيب الأُصول 1: 146.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 151

الحكيم و عدمه لا بدّ و أن يلاحظ بالإضافة إلىٰ ذلك الخطاب العامّ المتوجّه إلى المخاطبين، فإذا فرض أنّهم لا يقدرون- بالقدرة العاديّة على الإتيان بالمنهي عنه بوجه، يكون الخطاب قبيحاً منه، بعد ما عرفت: من أنّ النهي إنّما هو لغرض عدم حصول المنهي عنه في الخارج «1»، و مع عدم تحقّقه و لو مع قطع النظر عن النهي- كما هو المفروض يستهجن التكليف، كما أنّه إذا فرض ثبوت الداعي لجميع المخاطبين للإتيان بالمأمور به؛ بحيث لا يتحقّق منهم الترك أصلًا، يقبح توجّه الأمر إليهم و لو بالخطاب العامّ.

و أمّا إذا لم يكن الأمر كذلك؛ بأن كان بعض المخاطبين لا يتحقّق له الداعي إلى الإتيان بالمنهي عنه، و بعضهم علىٰ خلافه، و لا تتميّز الطائفة الأُولىٰ عن الثانية ببعض الجهات المميّزة المشخّصة، أو كان كلّهم له داعٍ نفساني إلى الإتيان به، ما كان التكليف قبيحاً و توجيه الخطاب العامّ بالإضافة إليهم مستهجناً. و جميع الخطابات الشرعيّة الواردة في مقام الأمر و النهي من هذا القبيل.

فالتكليف بالنهي عن شرب الخمر مثلًا، إنّما هو تكليف لجميع الناس من الموجودين حال الخطاب و المعدومين، و خطاب متوجّه إليهم، و لا ينحلّ إلىٰ تكاليف متعدّدة و خطابات متكثّرة؛ حسب تعدّد المخاطبين و تكثّرهم؛ حتّى يلاحظ حال كلّ واحد منهم؛ من حيث ثبوت الداعي له إلى الفعل المنهي عنه أو ترك المأمور به، فيحسن

توجّه الخطاب إليه، و عدمه فيقبح.

بل الملاك في استهجان توجّه الخطاب بنحو العموم و عدمه، ما عرفت من ثبوت الداعي للجميع أو للبعض و عدمه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 148.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 152

و بالجملة: حيث إنّ الخطابات الشرعيّة بنحو العموم، و الملاك في حسنها، يغاير ما هو الملاك في حسن الخطاب إلىٰ آحاد المكلّفين، فلا محالة تكون متوجّهة إلىٰ جميع الناس، و عدم استحقاق العقوبة في بعض الموارد، كالجهل و العجز و أمثالهما، إنّما هو لتحقّق العذر بالإضافة إلى المعذور، لا لعدم حسن توجّه الخطاب المستلزم لامتناعه؛ و ذلك لما عرفت: من أنّه لا وجه لدعوى انحلال الخطابات الشرعية إلى الخطابات الكثيرة حسب تكثّر المخاطبين؛ حتّى يلاحظ حال كلّ واحد منهم؛ من حيث استحسان توجّه الخطاب إليه و عدمه. و لعمري إنّ هذا واضح جدّاً.

و حينئذٍ فإذا فرض عدم ابتلاء المكلّف ببعض الأطراف في الشبهة المحصورة، فتوجيه الخطاب الخاصّ بالنهي عن الخمر، المردّد بين هذا الإناء و الإناء الذي يكون في أقصى بلاد الهند؛ و إن كان مستهجناً لو لم يعلّق بالابتلاء به، إلّا أنّه مجرّد فرض لم يوجد في الشريعة؛ لأنّ الخطابات فيها إنّما هي علىٰ نحو العموم، و المفروض كونه من جملة المخاطبين، فالتكليف متوجّه إليه، و يجب عليه الاجتناب عن الإناء الموجود عنده؛ و إن كان الحرام مردّداً بينه و بين ما لا يبتلى به المكلّف عادة.

فما اشتهر بين المتأخّرين: من اشتراطهم في وجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة، كون جميعها مورداً لابتلاء المكلّف «1»، ممّا لا يعلم له وجه.

و يؤيّده: أنّه لا يكون بين المتقدّمين ذكر لهذا الشرط و لا أثر، بل إنّما حدث في الأزمنة المتأخّرة، كما

عرفت.

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 419 420، فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 50 51، درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 464، نهاية الأفكار 3: 338.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 153

عدم شرطية الابتلاء للتنجّز في الأحكام الوضعية

ثمّ إنّه من الواضح أنّه لا فرق بين الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة من هذه الجهة أصلًا، فكما أنّه يشترط في توجيه الخطاب إلىٰ زيد و حسنه بالنهي عن شرب الخمر ابتلاؤه به عادة، و إلّا تلزم اللَّغْويّة كما عرفت، كذلك يشترط في جعل النجاسة له ابتلاؤه بذلك الشي ء المجعول له النجاسة عادة؛ إذ من المعلوم أنّ جعل النجاسة و سائر الأحكام الوضعيّة، إنّما هو لغرض ترتُّب الأثر؛ من عدم جواز الصلاة في الشي ء النجس، و عدم جواز استعماله و الانتفاع به مطلقاً، أو في الجملة، و غيرهما من الأحكام و الآثار، و حينئذٍ فجعل النجاسة على الشي ء الذي لا يبتلى به المكلّف عادة، يكون مستهجناً عرفاً، و حينئذٍ فيلزم- بناء علىٰ قولهم بانحلال الخطابات الشرعيّة إلىٰ خطابات كثيرة بمقدار كثرة المخاطبين و تعدّدهم أن تكون الأحكام الوضعيّة أيضاً كذلك، فيلزم كون شي ء نجساً بالنسبة إلىٰ من يبتلىٰ به، و عدم كونه كذلك بالإضافة إلىٰ من لا يكون كذلك؛ لما عرفت من استهجان جعل النجاسة له بعد ما فرض من أنّ الأحكام الوضعيّة مجعولة لغرض ترتُّب الأثر، مع أنّ ضرورة الفقه تقضي بخلافه، فإنّ الشي ء النجس نجس بالإضافة إلىٰ جميع الناس؛ لأنّ النجاسة من الأُمور الواقعيّة، التي لا تختلف باختلاف الأشخاص من حيث الابتلاء و عدمه أصلًا، كما هو واضح لا يخفى، و هكذا سائر الأحكام الوضعيّة.

ثمّ إنّ النقض بالأحكام الوضعيّة- كما عرفت يرد علىٰ جميع الأقوال فيها، و لكن وروده علىٰ مثل الشيخ

الأعظم (قدّس سرّه) في رسالة الاستصحاب- ممّن يقول بانتزاعها من الأحكام التكليفية «1» أوضح.

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 601 603.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 154

ثمّ إنّ لازم ما ذكروه في المقام- من اشتراط تنجّز التكليف المعلوم بالإجمال بصحّة توجّه التكليف علىٰ أيّ تقدير أنّه لو تردّد الأمر بين أن يكون هذا الإناء خمراً، أو ذلك الإناء بولًا، لا يجب الاجتناب عن الإناءين من جهة الشرب أصلًا؛ لأنّ توجيه الخطاب بقوله: «لا تشرب البول»، يعدّ مستهجناً بعد عدم الداعي إلىٰ شربه أصلًا، و الخطاب بقوله: «لا تشرب الخمر» لا يعلم ثبوته في الفرض.

و حينئذٍ فلا موجب للاجتناب عن الشرب أصلًا- بناءً علىٰ قولهم مع أنّ ذلك مستبعد جدّاً.

ثمّ إنّ مقتضىٰ ما ذكرنا- من أنّ الخطابات الواردة في الشريعة، لا تنحلّ إلىٰ خطابات متعدّدة حسب تعدّد المخاطبين، بل كلّ واحد منها خطاب واحد، و المخاطب فيه متعدّد أنّه لو شكّ مكلّف في تحقّق القدرة و عدمه، يجب عليه الاحتياط؛ لما عرفت: من أنّ عدم استحقاق العقوبة مع عدم القدرة، إنّما هو للعذر، لا لعدم توجّه التكليف «1»، و حينئذٍ فمرجع الشكّ فيها إلى الشكّ في ثبوت العذر و عدمه، فاللازم الاحتياط.

و أمّا بناءً على الانحلال، و كون القدرة شرطاً لثبوت التكليف، فالقاعدة مع الشكّ فيها تقتضي الرجوع إلى البراءة؛ لكون الشكّ في الشرط موجباً للشكّ في أصل التكليف المشروط به، و المرجع فيه أصالة البراءة، مع أنّهم لا يلتزمون بها، بل يوجبون الاحتياط «2». فهذا أيضاً يؤيّد، بل يدلّ علىٰ بطلان قولهم بالانحلال، فتأمّل.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 152.

(2) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 55، انظر درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 465، نهاية الأفكار 3:

341 342.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 155

تنبيه: حكم ملاقي الشبهة المحصورة
اشارة

لا يخفى أنّ العلم الإجمالي بالحرام المردّد بين أمرين أو أُمور، أو النجاسة المردّدة كذلك، لا يؤثّر في صيرورة كلّ واحد من الطرفين أو الأطراف، هو الحرام الواقعي أو النجس الواقعي؛ بحيث تصير الأطراف متغيّرة عن الحالة السابقة و متلوّنة بلون الواقع، فيترتّب علىٰ كلّ واحد منها جميع الأحكام المترتّبة على الواقع، فلا يحكم بنجاسة الملاقي لأحد المشتبهين؛ لأجل الملاقاة مع ما هو من أطراف العلم الإجمالي بالنجاسة؛ لأنّ التنجيس إنّما هو من الأحكام و الآثار المترتّبة على النجس الواقعي، لا من آثار ما يجب الاجتناب عنه و المعاملة معه معاملة النجس تحفّظاً على الواقع، كما هو واضح.

نعم قد يقال- كما قيل «1» بتنجّس ملاقي أحد المشتبهين؛ إمّا لأنّ معنى الاجتناب عن الأعيان النجسة، إنّما هو الاجتناب عنها و عمّا يلاقيها و لو بوسائط، و لذا استدلّ صاحب «الغُنية» «2» علىٰ تنجّس الماء القليل بملاقاة النجاسة بقوله تعالىٰ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «3»؛ بناءً علىٰ أنّ هَجْر النجاسات لا يتحقّق إلّا بهجر ملاقيها.

و إمّا للملازمة بين نجاسة الأعيان النجسة و ما يلاقيها كما يدلّ عليه رواية جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السّلام): أنّه أتاه رجل، فقال له: وقعت فأرة في خابية فيها سَمْن أو زيت، فما ترى في أكله؟ فقال أبو جعفر (عليه السّلام)

لا تأكله.

فقال الرجل: الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها.

______________________________

(1) منتهى المطلب 1: 30/ السطر 5، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 283.

(2) غنية النزوع 1: 46.

(3) المدّثّر (74): 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 156

فقال أبو جعفر (عليه السّلام)

إنّك لم تستخفّ بالفأرة، و إنّما استخففتَ بدينك؛ إنّ اللّٰه حرّم الميتة

من كلّ شي ء «1».

وجه الدلالة: أنّه (عليه السّلام) جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، و لو لا استلزامه لتحريم ملاقيه، لم يكن أكل الطعام استخفافاً بتحريم الميتة، فوجوب الاجتناب عن شي ء يستلزم وجوب الاجتناب عن ملاقيه.

أقول: أمّا ما ذكر: من أنّ معنى الاجتناب عن شي ء، إنّما هو الاجتناب عنه و عن ملاقيه، فهو محلّ نظر بل منع؛ إذ من الواضح أنّه لو لم يكن الدليل دالّاً علىٰ نجاسة ملاقي النجس، لم يفهم أحد من نفس الأدلّة الدالّة علىٰ نجاسة الأعيان النجسة نجاسة ما يلاقيها من سائر الأشياء.

و أمّا قوله تعالىٰ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ فقد عرفت أنّه أجنبي عن المقام «2».

و أمّا الرواية فمضافاً إلىٰ ضعف سندها «3»، يحتمل قويّاً فيها: أن يكون مورد السؤال هو وقوع الفأرة في الطعام؛ بحيث تفسّخت فيه، و انبثّت أجزاؤها، فحرمة أكل الطعام إنّما هي من حيث استلزامه لأكل الميتة، لا أنّ أكله بمنزلة أكلها في الحرمة.

و الدليل علىٰ ذلك: أنّه جعل ترك الاجتناب عن الطعام استخفافاً بتحريم

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 420/ 1327، الإستبصار 1: 24/ 60، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 2.

(2) تقدّم في الصفحة 140.

(3) رواها الشيخ الطوسي بإسناده، عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن محمّد بن عيسى اليقطيني، عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر (عليه السّلام). و الرواية ضعيفة بعمرو بن شمر فإنّه قد ضعّفه النجاشي.

رجال النجاشي: 287/ 765.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 157

الميتة و من المعلوم أنّه لم يقل أحد: بأنّ حرمة شي ء تستلزم حرمة ما يلاقيه، و حمل الحرمة في الرواية على النجاسة- مضافاً إلىٰ أنّه خلاف الظاهر من

دون قرينة و بيّنة على الخلاف لا دليل عليه أصلًا.

و القول بأنّ الطباع تتنفّر من أكل الطعام الكذائي، الذي صارت أجزاء الميتة مخلوطة بأجزائه، فلا ينبغي حمل مورد السؤال عليه.

يدفعه قول السائل: «الفأرة أهون عليّ من أن أترك طعامي لأجلها»، خصوصاً بعد ملاحظة حال الأعراب في صدر الإسلام.

و بالجملة: فالرواية أجنبيّة عن المقام.

مضافاً إلىٰ أنّه يمكن لنا أن نستدلّ- علىٰ أنّ الاجتناب عن الشي ء لا يكون مساوقاً للاجتناب عن ملاقيه بمفهوم الأدلّة الدالّة علىٰ أنّ الماء إذا بلغ قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «1»، فإنّ مفهومها أنّه إذا لم يبلغ ذلك المقدار، يصير نجساً بملاقاة أعيان النجاسة- جميعها أو بعضها على الخلاف و ظاهره أنّ الملاقاة تؤثّر في صيرورته نجساً مستقلا؛ بحيث لو لم يجتنب عنه لم يجتنب عن النجس، لا أنّ ترك الاجتناب عنه مساوق لترك الاجتناب عن النجس الملاقى- بالفتح فتدبّر جيّداً.

إذا عرفت ما ذكرنا فنقول: الكلام في حكم الملاقي لأحد الأطراف:

تارة يقع فيما يقتضيه العقل.

و أُخرى فيما تقتضيه الأُصول الشرعيّة.

______________________________

(1) الكافي 3: 2/ 2، الفقيه 1: 8/ 12، تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، و: 226/ 651، الاستبصار 1: 6/ 1، و: 20/ 45، وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 158

أمّا مقتضىٰ حكم العقل: فلا إشكال في أنّه هو جواز ارتكاب الملاقي؛ إذ العقل بعد ما حكم بتنجّز التكليف الواقعي، المعلوم بالإجمال، المستلزم لوجوب الاجتناب عن أطراف الشبهة مقدّمة للواقع و تحفّظاً له- لا يحكم بوجوب الاجتناب عنها ثانياً علىٰ نحو الاستقلال.

توضيحه: إنّك قد عرفت: أنّ عدم جواز ارتكاب الملاقي- بالكسر ليس من شؤون عدم جواز ارتكاب الملاقى- بالفتح بحيث

كان ارتكابه بمنزلة ارتكابه، و مرجعه إلىٰ أنّه ليس هنا تكليف واحد متعلّق بالأعيان النجسة، غاية الأمر أنّ حرمة ارتكاب ما يلاقيها لأجل أنّه بمنزلة ارتكابها؛ إذ بناءً عليه لا إشكال في تنجّس الملاقي و وجوب الاجتناب عنه أيضاً؛ إذ ليس هنا إلّا تكليف واحد مردّد بين ذاك الطرف و بين الملاقي و الملاقىٰ؛ إذ ليس للملاقي حكم آخر عدا الحكم المتعلّق بالملاقى بالفتح.

بل نقول: إنّ هنا حكمين:

أحدهما مترتّب على الملاقى على تقدير كونه هو النجس الواقعي، و هو الذي اقتضى العلم الإجمالي تنجّزه، المستلزم لوجوب الاجتناب عنه و عن الطرف الآخر.

ثانيهما مترتّب على الملاقي على تقدير كونه قد لاقى النجس الواقعي، و العلم الإجمالي بثبوته على هذا التقدير لا يؤثّر أصلًا؛ إذ المفروض أنّ الملاقى بالفتح و الطرف الآخر لا يجوز ارتكابهما بحكم العقل للعلم الإجمالي الأوّل، و حينئذٍ فلا يحكم العقل ثانياً بوجوب الاجتناب عنهما؛ لكونه طرفاً للعلم الإجمالي الثانوي؛ لأنّه يشترط في تنجيزه إمكان تحقّق التكليف علىٰ كلّ تقدير، و هنا ليس الأمر كذلك.

و بالجملة: فمقتضىٰ حكم العقل عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي- بالكسر لما ذكر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 159

و أمّا الأُصول الشرعية: فقد يقال- كما قيل: بأنّ طهارة الملاقي- بالكسر و نجاسته مسبّبة عن طهارة الملاقىٰ- بالفتح و نجاسته، و الأصل الجاري في السبب يكون حاكماً على الأصل الجاري في المسبّب، و حيث إنّه لا يجري الأصل هنا في السبب؛ للمعارضة مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، فلا مانع من جريان الأصل في المسبّب، فيكون الملاقي محكوماً بالطهارة و الحلّيّة الشرعيّتين «1».

و هنا شبهة لبعض المحقّقين من المعاصرين

و هي: أنّه لا إشكال في أنّ الحلّيّة مترتّبة على الطهارة؛ بمعنى أنّ الشكّ في الأُولىٰ

مسبّب عن الشكّ في الثانية، كما أنّ الشكّ في طهارة الملاقي مسبّب عن الشكّ في طهارة الملاقى، فالشكّ في طهارة الملاقي- بالكسر يكون في مرتبة الشكّ في حلّيّة الملاقى- بالفتح بمعنى أنّ كليهما مسبّبان عن الشكّ في طهارته.

و حينئذٍ نقول: كما أنّه لا يجري الأصل الموضوعي في الملاقي؛ لمعارضته مع الأصل الموضوعي الجاري في الطرف الآخر، كذلك لا يجري الأصل الحكمي فيه لهذه الجهة.

و من هنا يظهر عدم جريان أصالة الطهارة في الملاقي؛ لكون الشكّ فيها في مرتبة الشكّ في حلّيّة الملاقى، المفروض عدم جريان الأصل بالإضافة إليها للمعارضة، فيبقىٰ من الأُصول الستّة أصالة الحلّيّة الجارية في الملاقي؛ لسلامتها عن المعارضة، و المفروض أنّه لا يكون هنا أصل حاكم عليها؛ لأنّ

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 424، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 282، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 266.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 160

الأصل الحاكم لا يجري للمعارضة.

و بالجملة: يجري الأصل الحكمي في الملاقي دون الموضوعي، فلا يجب الاجتناب عنه، مع أنّه لا يكون محكوماً بالطهارة «1».

و يمكن الجواب عن الشبهة: بأنّ الأدلّة الدالّة على اعتبار الأُصول الشرعيّة، لا تكون شاملة لأطراف العلم الإجمالي بنظر العرف؛ و إن لم يكن مانع عن الشمول بنظر العقل؛ من جهة لزوم التناقض بين الصدر و الذيل؛ لما سيجي ء من عدم اللزوم، إلّا أنّ العرف لا يقضي بكون الأطراف مشكوكة الحكم؛ حتّى ينطبق عليها موضوع أدلّة الأُصول، كما لا يخفى.

و قد أجاب صاحب الشبهة عنها بوجهين:

أحدهما: ربما يمكن إرجاعه إلىٰ ما ذكرنا في الجواب عنها، فلا نطيل بذكره.

ثانيهما: أنّ الأصل في أطراف العلم الإجمالي لا يكون جارياً؛ للزوم المناقضة بين الصدر و الذيل في أدلّة اعتبارها، و حينئذٍ

فالأصلان الجاريان في الملاقي- بالكسر يكونان سليمين عن المعارض و الحاكم، فيكون محكوماً بالطهارة و الحلّيّة معاً «2».

و يدفعه: عدم لزوم المناقضة أصلًا، فإنّه لا تكون تلك الأدلّة مشتملة على الحكمين؛ حتّى يقال بتناقضهما، فإنّه لا يعقل جعل الحكم على اليقين، الذي تكون حجّيّته من لوازم ذاته، بل مدلول تلك الأدلّة حكم واحد مترتّب على الشكّ، غاية الأمر يكون مغيّا بحصول العلم، و قد عرفت أنّ العقل لا يأبى عن جريانها في أطراف العلم، إلّا أنّ العرف لا يكون مساعداً عليه.

فتلخّص من مجموع ما ذكرنا: أنّ الملاقي محكوم بالطهارة و الحلّيّة شرعاً.

______________________________

(1) انظر نهاية الأفكار 3: 362، أنوار الهداية 2: 245.

(2) انظر أنوار الهداية 2: 247.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 161

حول تقدّم أصل السببي على المسبّبي

ثمّ إنّه قد اشتهر في الألسن و تكرّر في الكلمات: أنّه مع جريان الأصل في السبب، لا يبقى مجال لجريانه في المسبّب أصلًا؛ لأنّه مع جريانه في السبب، لا يبقى شكّ في ناحية المسبّب حتّى يجري الأصل فيه «1».

و التحقيق لا يساعد علىٰ ما ذكروه علىٰ نحو الكلّيّة و الإطلاق، بل لا يكون له وجه أصلًا في بعض الموارد.

و لتوضيح الكلام لا بدّ من تقديم أمر: و هو أنّه قد اشتهر بينهم أيضاً: أنّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجيّة، معناه وجوب ترتيب الأثر عليها في الزمان اللاحق «2»؛ لأنّه حيث لا يكون الحكم ببقائها من وظيفة الشارع- بما هو شارع فلا محالة يكون معنى حرمة نقض اليقين بالشكّ فيها، وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها في زمان الشكّ، و حينئذٍ فيتحقّق الاختلاف في معنىٰ قوله (عليه السّلام)

لا تنقض اليقين بالشكّ «3»

بالنسبة إلى الاستصحاب الجاري في نفس الأحكام الشرعيّة، الذي مرجعه إلىٰ بقاء

نفس تلك الأحكام في زمان الشكّ، و الاستصحاب الجاري في الموضوعات الخارجيّة، الذي مرجعه إلىٰ وجوب ترتيب الآثار الشرعيّة عليها في زمان الشكّ.

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 737، كفاية الأُصول: 490، فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 682، درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 631.

(2) فرائد الأُصول 2: 659، كفاية الأُصول: 472 473، فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 485، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 243 245.

(3) تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 162

و التحقيق: أنّ معنىٰ

لا تنقض اليقين بالشكّ

ليس إلّا وجوب إبقاء المتيقّن في زمان الشكّ مطلقاً؛ سواء كان المتيقّن من الأحكام الشرعيّة، أو من الموضوعات الخارجيّة، غاية الأمر أنّه في الأوّل لا حاجة في إثبات الحكم إلىٰ ضمّ دليل آخر، و إضافة إلىٰ أدلّة الاستصحاب، بخلاف الثاني، فإنّ إثبات الحكم موقوف إلىٰ ضمّ دليل آخر إليها؛ لأنّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات، لا يقتضي إلّا مجرّد بقائها في الزمان اللاحق، فترتّب الحكم عليها يحتاج إلىٰ ضمّ دليل يدلّ علىٰ ترتّب الحكم علىٰ تلك الموضوعات، فالاستصحاب الجاري في العدالة- مثلًا لا يؤثّر إلّا في ثبوتها في الزمان اللاحق تعبّداً، و بهذا يتحقّق موضوع الأدلّة الدالّة علىٰ ترتّب بعض الأحكام على العدالة، كجواز الاقتداء بصاحبها، و جواز الطلاق عنده، و الأخذ بشهادته، و غير ذلك من الأحكام و الآثار المترتّبة علىٰ موضوع العدالة.

و بالجملة: الاستصحاب الجاري في الموضوعات، يكون حاكماً على الأدلّة الواقعيّة؛ لأنّه ينقّح بسببه موضوعاتها، فيتحقّق معنى الحكومة.

و من هنا يظهر: أنّه لو لم يكن الموضوع مترتّباً عليه حكم شرعي في شي ء من الأدلّة الشرعيّة،

لا يكون الاستصحاب فيه جارياً؛ لأنّ النتيجة موقوفة علىٰ صغرىٰ و كبرى معاً، فالأُولىٰ بدون الثانية كالعكس لا تنتج أصلًا، و قد عرفت أنّ الاستصحاب الموضوعي لا يؤثّر إلّا في ثبوت الصغرىٰ؛ بحيث يحتاج إثبات الحكم إلىٰ ضمّ كبرىٰ إليها، و هذا بخلاف الاستصحاب الجاري في الحكم، فإنّ إثبات الحكم لا يحتاج إلىٰ أزيد منه، و إلّا فلا يختلف معنىٰ

لا تنقض

بالنسبة إلى الاستصحابين.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 163

إذا تحقّقتَ ما ذكرنا تعرف أنّ ما ذكروه: من أنّ جريان الأصل في السبب يغني عن جريانه في المسبّب، و لا يبقىٰ مجال له أصلًا، ليس تامّاً علىٰ نحو العموم، بل إنّما يصحّ في خصوص ما لو كان الشكّ في ناحية المسبّب؛ في الأثر المترتّب على الموضوع المشكوك- شرعاً كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بالماء المشكوك الكُرّيّة، فإنّ جريان استصحاب الكُرّيّة، يؤثّر في تحقيق موضوع ما يدلّ علىٰ أنّ الغسل بالماء الكُرّ، يوجب زوال النجاسة و تنقيح متعلّقه، فيرتفع الشكّ في النجاسة أيضاً.

و هذا بخلاف الشكّ في الوضوء الناشئ من الشكّ في تحقّق النوم، فإنّه لا يجري استصحاب عدم النوم حتّى يرتفع به الشكّ في ارتفاع الوضوء؛ لأنّه لم يجعل في الشريعة حكم مترتّب علىٰ عدم النوم؛ حتّى يتحقّق بالاستصحاب موضوعه، و ينقّح به متعلّق الدليل الدالّ علىٰ ترتّب الحكم عليه، و بقاء الوضوء مع عدم النوم، حكم عقلي منشؤه جعل النوم ناقضاً في الشريعة.

و بعبارة اخرىٰ: المجعول في الشرع إنّما هي الطهارة عقيب الوضوء، و كون النوم- مثلًا ناقضاً له، و أمّا بقاؤه مع عدم الناقض، فهو حكم عقلي لا شرعي.

و بالجملة: لا يكون عدم النوم موضوعاً لحكم من الأحكام في الشريعة؛ حتّى يجري

استصحابه، فيترتّب عليه ذلك الحكم بضميمة ذلك الدليل، فلا مجال في المثال إلّا لجريان استصحاب الطهارة فقط.

و من هنا يُدفع ما أُورد على الصحيحة الأُولىٰ لزرارة- التي استدلّ بها علىٰ حجّيّة الاستصحاب: من أنّه قد اجري فيها الاستصحاب في المسبّب دون السبب، مع تقدّمه عليه «1».

______________________________

(1) انظر نهاية الأفكار 4: 39، الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 24 26 و 251 252.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 164

و ممّا ذكرنا يظهر حال كثير من الاستصحابات، كاستصحاب عدم المانع و أشباهه، فإنّه لا وجه لجريان مثله.

كما أنّه ممّا ذكرنا يظهر حال كثير من الشبهات، منها ثبوت الوسائط المتعدّدة بالاستصحاب، مثل استصحاب بقاء العدالة، الذي يترتّب عليه جواز الطلاق عنده، المترتّب عليه وجوب التربّص في المدّة المعيّنة، المترتّب عليه جواز التزويج بعد انقضاء تلك المدّة المترتّب عليه جواز الوطي و وجوب الإنفاق، و غيرهما من الأحكام الكثيرة.

فإنّه لا يبقى مجال للإشكال- بناءً علىٰ ما ذكرنا فإنّ استصحاب العدالة يتحقّق به موضوع ذلك الدليل، الذي رُتّب فيه الحكم على العدالة، فيترتّب عليه تلك الأحكام الكثيرة المترتّبة.

و إلّا فالإشكال بحاله، و لا يندفع بما اندفع به الإيراد الوارد على الإخبار مع الواسطة «1»، فإنّ ذلك الإيراد قد اندفع بوجوه، و التي يمكن توهّم جريانها في المقام: أنّه حيث تكون حجّيّة الخبر علىٰ نحو القضيّة الحقيقيّة، فشمول أدلّة الحجّيّة لقول الشيخ: «أخبرني المفيد»، يؤثّر في ثبوت إخبار المفيد تعبّداً، فتشمله أدلّة الحجّيّة.

و من الواضح عدم جريان هذا الجواب في المقام، فإنّ قوله (عليه السّلام)

لا تنقض اليقين بالشكّ

لا يشمل في المثال إلّا الشكّ في العدالة، و أمّا سائر الأحكام فلا تكون مشكوكة «2» حتّى يجري فيها الاستصحاب، فتأمّل.

______________________________

(1) انظر فرائد الأُصول

1: 122 123، كفاية الأُصول: 341 342، فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 177 184، درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 387 389.

(2) قد كتب سيّدنا العلّامة الأُستاذ (قدّس سرّه) علىٰ هذا المقام بعد ملاحظته ما هذه عبارته: فلا تكون متعلّقة لليقين السابق و الشكّ اللاحق حتّى تشمله أدلّة الاستصحاب، و جريان الاستصحاب في العدالة لا يوجب تحقّق فرد تعبّدي من «لا تنقض اليقين ..» إلى آخره لتدفع الشبهة بذلك، فحينئذٍ لا وجه للتأمّل.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 165

فلا مناص في دفع الإيراد إلّا ما ذكرناه.

و من جميع ما تقدّم ظهر: أنّ جريان استصحاب الطهارة أو قاعدتها في الملاقى- بالفتح لا يفيد بالنسبة إلىٰ طهارة الملاقي- بالكسر أصلًا؛ لأنّه لم تجعل طهارة الثاني مترتّبة علىٰ طهارة الأوّل في الشريعة، بل المجعول فيها إنّما هي نجاسة الملاقي للنجس، و أمّا طهارة ملاقي الطاهر، فإنّما هي حكم عقلي غير مجعول في الشرع، فأصالة الطهارة في الملاقى- علىٰ تقدير جريانها لا تمنع عن الجريان في الملاقي أصلًا.

ثمّ إنّه فصّل الشيخ (قدّس سرّه) في «الرسالة» بين ما إذا كان العلم الإجمالي، متأخّراً عن الملاقاة و فقدان الملاقى- بالفتح و بين ما إذا كانت الملاقاة و الفقدان كلاهما متأخّرين عن العلم الإجمالي، فحكم بطهارة الملاقي- بالكسر في الفرض الثاني؛ لأنّ أصالتها سليمة عن المعارض، و بوجوب الاجتناب عنه في الأوّل؛ لأنّ أصالة طهارته معارضة بالأصل الجاري في الطرف الآخر غير الملاقي؛ لأنّ المفروض خروجه عن محلّ الابتلاء، فلا يجري فيه الأصل حتّى يعارض الطرف الآخر «1».

و أنت خبير: بأنّه و لو سلّمنا استهجان التكليف بما لا يُبتلىٰ به المكلّف، و لكنّه لانسلّم عدم جريان الأصل بالإضافة إليه في

أمثال المقام؛ لثبوت الأثر له، و هو طهارة ما لاقاه. و هذا واضح جدّاً.

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 425.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 166

مسألة تعيّن التيمّم عند انحصار الماء بالمشتبهين
اشارة

لا خلاف نصّاً «1» و فتوى «2» في أنّ من لم يجد ماءً غير المشتبهين، يجب عليه أن يتيمّم للصلاة. و لكن الكلام في أنّ هذا الحكم، هل يكون موافقاً للقاعدة حتّى يُتعدّىٰ عن مورد النصّ إلىٰ غيره، أم لا؟

قال في «المصباح»: ما ملخّصه: أنّه إن قلنا بحرمة الطهارة بالنجس حرمة ذاتيّة، فلا تأمُّل في وجوب التيمّم مطلقاً، لا لمجرّد تغليب جانب الحرمة لعدم الدليل عليه، بل لأنّ ارتكاب المحرّم محظور شرعاً، و المانع الشرعي كالعقلي، فينتقل الفرض إلى التيمّم مطلقاً «3».

و نظير هذا الكلام مذكور في «العروة» فيما لو نذر المكلّف أن يكون في يوم عرفة في محلّ مخصوص ما عدا عرفات ليدعو فيه- مثلًا كأنْ يكون تحت قُبّة الحسين (عليه السّلام)، فإنّه أفتىٰ بعدم وجوب الحجّ عليه و إن صار مستطيعاً بعد النذر؛ لأنّه بعد النذر يمتنع تحقّق موضوع الاستطاعة؛ لأنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي «4».

أقول: و كلاهما محلّ نظر و تأمّل:

أمّا المسألة الثانية المذكورة في «العروة»: فالحكم فيها وجوب الحجّ

______________________________

(1) الكافي 3: 10/ 6، تهذيب الأحكام 1: 249/ 713، وسائل الشيعة 1: 155، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 14، و: 169، الباب 12، الحديث 1.

(2) المقنعة: 69، النهاية: 6، السرائر 1: 85، شرائع الإسلام 1: 7، مختلف الشيعة 1: 81، مفتاح الكرامة 1: 127/ السطر 20، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 258.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 258.

(4) العروة الوثقى 2: 442.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 167

عليه بعد الاستطاعة و إن نذر الكون

في مكان مخصوص، لا لأنّ مع وجوب الحجّ ينحلّ النذر؛ لأنّ المعتبر فيه أن يكون متعلَّقه راجحاً، و لا رجحان فيه مع وجوب الحجّ- كما ذكره بعضهم «1» لأنّ رجحان المتعلّق باقٍ بحاله و إن وجب عليه الحجّ، و لذا لو ترك الحجّ عن عمد و عصيان، و أتى بالمنذور فقد أتى بشي ء راجح، كما هو الحال فيما لو ترك الحجّ و أتى بذلك الفعل مع عدم تعلّق النذر به أصلًا.

و بالجملة: الرجحان لا يكون دائراً مدار عدم وجوب الحجّ و لا سائر الواجبات أصلًا.

بل لأنّ الحجّ في نظر الشارع أهمّ من الوفاء بالنذر، كما يدلّ عليه الروايات الكثيرة الواردة في باب الحجّ، الدالّة علىٰ كثرة الثواب علىٰ فعله و شدّة العقاب علىٰ تركه «2»، بل كان من مقوّمات الدين «3» و تركه سبباً للخروج عنه، كما يدلّ عليه الخبر المروي، الدالّ علىٰ أنّه يموت تاركه يهوديّاً أو نصرانيّاً «4».

و بالجملة: فأهمّيّة الحجّ بالإضافة إلى الوفاء بالنذر، ممّا لا ينبغي الارتياب فيها.

فانقدح ممّا ذكرنا: أنّ وجوب الحجّ ليس لانحلال النذر به، كما أنّه لا يرتفع موضوعه بوجوب الوفاء بالنذر؛ لأنّه لا يعتبر في وجوبه سوى الاستطاعة، التي معناها الزاد و الراحلة و خلوّ السبيل و عدم كونه مسدوداً، و أمّا

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 10: 118.

(2) راجع وسائل الشيعة 11: 9، كتاب الحجّ، أبواب وجوبه و شرائطه، الباب 1، الحديث 7، و: 22 و 23، الباب 4، الحديث 7 و 9 و 10.

(3) وسائل الشيعة 1: 13 و 14، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 1، الحديث 1 و 2.

(4) الكافي 4: 268/ 1، و: 269/ 5، وسائل الشيعة 11: 29، كتاب الحجّ، أبواب وجوب

الحجّ و شرائطه، الباب 7، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 168

أنّ الذهاب إلى الحجّ مستلزم لترك بعض الواجبات، فلا يوجب ذلك عدم تحقّق الاستطاعة المعتبرة في وجوبه.

نعم يجب تقديم الأهمّ و قد عرفت أنّ الحجّ أهمّ بالنسبة إلى الوفاء بالنذر.

و أمّا المسألة الأُولىٰ فلا يخفى أنّ مجرّد كون الوضوء بالماء الطاهر مستلزماً للتوضّي بالماء النجس- و هو حرام ذاتاً، كما هو المفروض لا يوجب انتفاء موضوع الوضوء، و لا يتحقّق فقدان الماء الرافع لوجوب الوضوء؛ لأنّه من المعلوم أنّ هذا الشخص يصدق عليه أنّه واجد للماء الطاهر.

و ما ذكره في «المصباح»: من أنّ المانع الشرعي كالمانع العقلي «1»، لم يدلّ عليه دليل أصلًا، غاية الأمر أنّه حيث يكون العلم بالوضوء بالماء الطاهر، متوقّفاً على استعمال الماء النجس الذي يكون محرّماً، فلا بدّ من ملاحظة الأهمّ من وجوب الوضوء و حرمة استعمال الماء النجس في التطهير.

و لا يبعد أن يقال: إنّه حيث لا تكون الطهارة المائيّة راجحة على الطهارة الترابيّة من حيث الأجر و الفضيلة، غاية الأمر أنّ موضوعهما مختلف، كالمسافر و الحاضر؛ علىٰ ما يستفاد من الأخبار الواردة في الطهارة الترابية، الدالّة علىٰ أنّ

التراب أحد الطهورين يكفيك عشر سنين «2»

، و

أنّ ربّ الصعيد هو ربّ الماء «3»

و غيرهما «4» من التعبيرات التي لا يستفاد منها أفضليّة الوضوء

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 258.

(2) وسائل الشيعة 3: 369، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 12، و: 380، الباب 20، الحديث 7، 381، الباب 21، الحديث 1، و: 386، الباب 23، الحديث 4 و 5.

(3) وسائل الشيعة 3: 371، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 14، الحديث 17، و: 386، الباب 23،

الحديث 6.

(4) وسائل الشيعة 3: 379 380، كتاب الطهارة، أبواب التيمّم، الباب 20، الحديث 1 و 2 و 3 و 5، و: 386، الباب 24، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 169

بوجه، لو لم نقل باستفادة التساوي.

فيقوىٰ في النظر ترجيح حرمة استعمال الماء النجس في التطهير علىٰ وجوب الوضوء، فينتقل الفرض إلى التيمّم؛ لما ذكرنا، لا لانتفاء الموضوع، كما ذكره في «المصباح» «1».

هذا كلّه لو قلنا بحرمة التطهير بالماء النجس ذاتاً.

و أمّا لو قلنا بحرمته تشريعاً، فمقتضى القاعدة وجوب الوضوء بكلٍّ منهما، و الصلاة عقيب كلّ وضوء، و في الاكتفاء بصلاة واحدة عقيب الوضوءين إشكال.

جريان الاستصحاب مع توارد الحالين المتقابلين

و لا بدّ هنا من ذكر المسألة الأُصوليّة المتعلّقة بهذا المقام- و إن كان خارجاً عن الفنّ و هي جريان الاستصحاب فيما لو توارد الحالان المتقابلان علىٰ شي ء واحد، مع الجهل بالمتقدّم و المتأخّر منهما؛ حتّى يظهر حال المسألة، فنقول:

إنّ من الأُمور المعتبرة في جريان الاستصحاب، أن يكون الشكّ و اليقين فعليّين، و اعتباره فيه ممّا لا إشكال فيه؛ لأنّ الظاهر من قوله (عليه السّلام)

لا تنقض اليقين بالشكّ «2»

أنّ حرمة النقض إنّما هو مع وجود عنواني الشكّ و اليقين، فإنّ الظاهر من جعل الشي ء موضوعاً، هو جعله بوجوده الفعلي كذلك.

كما أنّه لا إشكال في أنّه يعتبر في جريان الاستصحاب اتّصال زمان

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة: 1: 258.

(2) تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 170

الشكّ باليقين؛ بمعنى عدم تخلّل يقين آخر بينهما، فإذا علم بعدالة زيد عند طلوع الشمس، ثمّ علم بارتفاعها عند الزوال، ثمّ شكّ فيها عند الغروب، فلا يجري

استصحاب العدالة؛ لأنّه قد تخلّل بين اليقين بثبوتها و الشكّ فيها يقين آخر بارتفاعها عند الزوال، فالمورد يجري فيه استصحاب العدم فقط. و هذا ممّا لا إشكال فيه و لا خلاف. نعم قد وقع الخلط و الاشتباه في بعض المصاديق:

حول كلام المحقّق الخراساني

منها: ما يظهر من المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في «الكفاية» في مجهولي التاريخ فيما لو كان الأثر مترتّباً علىٰ عدم كلّ واحد منهما في زمان الآخر؛ من قوله بعدم جريان الاستصحاب؛ لعدم إحراز اتّصال زمان شكّه، و هو زمان حدوث الآخر بزمان يقينه؛ لاحتمال انفصاله عنه باتّصال حدوثه.

و محصّل ما أفاده في وجهه: أنّ هنا ثلاث ساعات: الأُولىٰ هي الّتي يقطع فيها بعدم حدوث واحد منهما، و الساعة الثانية قَطَع بحدوث أحدهما بلا تعيين فيها، و الساعة الثالثة قَطَع فيها بحدوث الآخر كذلك.

و استصحاب عدم الكُرّيّة- في المثال المعروف إلىٰ زمان الملاقاة، في الساعة الأخيرة، و كذا عدم الملاقاة إلىٰ زمان الكُرّيّة غير جارٍ؛ لأنّه لا يكون زمان الشكّ في حدوث كلٍّ منهما مجموع الساعتين. نعم يكون كذلك بلحاظ إضافته إلىٰ أجزاء الزمان، و المفروض أنّه بلحاظ إضافته إلى الآخر، و أنّه حدث في زمان حدوثه أو قبله، و لا شبهة أنّ زمان شكّه بهذا اللحاظ، إنّما هو خصوص ساعة ثبوت الآخر و حدوثه لا الساعتين، و حينئذٍ فلا يعلم باتّصال زمان الشكّ باليقين «1».

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 478 479.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 171

أقول: لا يخفى أنّ العلم بحدوث أحدهما في الساعة الثانية، إنّما يكون مجملًا مردّداً بين الحادثين، فخصوص أحدهما لا يكون معلوم الحدوث، فلا يبقى مانع عن جريان الاستصحاب؛ لأنّ العلم الإجمالي محصِّل للشكّ و محقِّق له، فلا مانع عن جريان

استصحاب عدم الملاقاة إلىٰ زمان الكُرّيّة، و كذا العكس من هذه الجهة أصلًا، و لو كان هنا مانع فإنّما هو من بعض الجهات الأُخر.

حول كلام المحقّق النائيني

ثمّ إنّ بعض الأعاظم قد فرض للمسألة صوراً ثلاثة- علىٰ ما في التقريرات:

الاولىٰ: ما إذا كان متعلّق العلم من الأوّل مجملًا؛ مردّداً بين ما كان في الطرف الشرقي و ما كان في الطرف الغربي؛ فيما كان الإناءان نجسين سابقاً، و علم بإصابة المطر لخصوص واحد منهما لا على التعيين.

الثانية: ما إذا كان متعلّق العلم بإصابة المطر معلوماً بالتفصيل، ثمّ طرأ عليه الإجمال و الترديد؛ لوقوع الاشتباه بين الإناء الشرقي و الإناء الغربي.

الثالثة: ما إذا كان متعلّق العلم مجملًا من جهة و مبيَّناً من جهة أُخرى، كما إذا علم بإصابة المطر لخصوص الإناء الواقع في الطرف الشرقي، مع عدم تميّزه عمّا كان في الطرف الغربي، ثمّ حكم بجريان الاستصحاب في الصورة الأُولىٰ؛ لأنّه يكون الشكّ فيه متّصلًا باليقين، بخلاف الصورة الثانية؛ لأنّ العلم بطهارة أحدهما المعيّن الممتاز عمّا عداه تفصيلًا، يوجب ارتفاع اليقين السابق، و الإجمال الطارئ و إن كان أوجب الشكّ في بقاء النجاسة في كلٍّ منهما، إلّا أنّه لا يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلٍّ منهما بزمان اليقين بنجاستهما؛ لأنّ المفروض أنّه قد انقضىٰ علىٰ أحد الإناءين زمان لم يكن زمان اليقين بالنجاسة و لا زمان

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 172

الشكّ فيها، فكيف يعقل اتّصال زمان الشكّ في كلّ منهما بزمان اليقين؟! فلا مجال لاستصحاب بقاء النجاسة في كلٍّ منهما أصلًا.

و أمّا الصورة الثالثة فكالصورة الثانية من حيث عدم الاتّصال؛ و إن لم يكن بذلك الوضوح، فإنّه قد انقضىٰ على الإناء الشرقي زمان لم يكن زمان اليقين

بالنجاسة و لا زمان الشكّ فيها، و هو زمان العلم بإصابة المطر له؛ لأنّ الشكّ في بقاء النجاسة فيه، إنّما حصل بعد اجتماع الإناءين و اشتباه الشرقي بالغربي، فقبل الاجتماع و الاشتباه كان الإناء الشرقي مقطوع الطهارة، و الإناء الغربي مقطوع النجاسة، فلا يجري استصحاب النجاسة فيهما؛ لأنّ كلّ واحد منهما يحتمل أن يكون هو الإناء الشرقي، الذي كان مقطوع الطهارة حال إصابة المطر له «1». انتهىٰ.

أقول: لا فرق بين الصورتين الأخيرتين و بين الصورة الاولىٰ؛ من حيث إنّه لا مانع من جريان الاستصحاب؛ من جهة اعتبار اتّصال زمان الشكّ باليقين أصلًا، فكما أنّه يجري الاستصحاب في الصورة الاولىٰ- لو لم يكن مانع من جهة أُخرى كذلك يجري في الأخيرتين أيضاً؛ لأنّ المفروض أنّ العلم بطهارة أحدهما المعيّن الممتاز عمّا عداه تفصيلًا، قد زال بعد طُرُوّ الإجمال و عروض التردّد، و مجرّد طُرُوّ العلم بنقيض الحالة السابقة، لا يمنع عن استصحابها بعد زوال ذلك العلم و ارتفاعه، كما لو علم بعدالة زيد عند طلوع الشمس، ثمّ علم بارتفاعها عند الزوال، ثمّ شكّ عند الغروب في ثبوت العدالة عند الزوال، فإنّه لا مانع من جريان استصحاب العدالة؛ و لو تخلّل بين الزمانين زمان يقطع بارتفاع الحالة السابقة، إلّا أنّ مجرّد ذلك لا يمنع عن جريان الاستصحاب بعد ارتفاع

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 4: 513 515.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 173

اليقين بنقيض الحالة السابقة عند الشكّ الذي به يتحقّق موضوع الاستصحاب.

و بالجملة: فالمانع من جريان الاستصحاب، هو اليقين بخلاف الحالة السابقة مع وجوده في حال الشكّ في بقائها، كما عرفت في المثال المتقدّم في صدر المسألة، و أمّا مجرّد اليقين بخلافها و

لو انعدم عند الشكّ فيها، فلا يكون مانعاً أصلًا. هذا في الصورة الثانية.

و أمّا الصورة الثالثة فجريان الاستصحاب فيها أوضح، فتأمّل في المقام، فإنّه من مزالّ الأقدام، كما يظهر بمراجعة كلمات الأعلام عليهم رضوان اللّٰه الملك العلّام.

و لنرجع إلىٰ ما كنّا فيه، و نقول:

إنّ المشهور بينهم في مسألة من تيقّن الطهارة و الحدث و شكّ في المتأخّر منهما، هو وجوب تحصيل اليقين بفراغ الذمّة بتحصيل الطهارة، لا لاستصحاب الحدث لمعارضته بالمثل، بل لما ذكر من العلم بالفراغ، و المحكيّ عن المحقّق (قدّس سرّه) في «المعتبر» هو وجوب الأخذ بضدّ الحالة السابقة «1».

التحقيق في المقام

أقول: و التحقيق يوافق التفصيل، و توضيحه أن يقال:

إنّ للمسألة صوراً، فإنّ الحدث اللاحق العارض: إمّا أن يكون مساوياً للحدث السابق علىٰ عروض الحالتين؛ من حيث ما يترتّب عليه من الحكم في الشرع، و إمّا أن يكون أقوى منه و أشدّ، و إمّا أن يكون أضعف منه، و علىٰ جميع التقادير: إمّا أن تكون الحالتان مجهولتين من حيث التاريخ، و إمّا أن تكون

______________________________

(1) المعتبر 1: 171.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 174

إحداهما معلومة و الأُخرى مجهولة.

و حينئذٍ فنقول: لو كانتا مجهولتي التاريخ، و كان الحدث العارض مساوياً للحدث السابق من حيث القوّة و الضعف، فالحكم كما ذكره في «المعتبر» من وجوب الأخذ بضدّ الحالة السابقة، فلا يجب عليه تحصيل الطهارة في هذا الفرض لكون الحالة السابقة على الحالتين هي الحدث.

و توضيح ذلك يتوقّف علىٰ بيان مقدّمة، و هي: أنّه لا يخفى أنّه لو عرض الحدثان متعاقبين، لا يترتّب على الحدث اللاحق أثر أصلًا؛ لأنّه قد بطل الوضوء أو الغسل بالحدث السابق، فلا يبطل بالحدث اللاحق ثانياً، كما أنّه من المتّفق عليه-

ظاهراً أنّه لا يجب تعدّد الطهارة حسب تعدّد النواقض و الروافع، فلا يجب بعد النوعين- مثلًا إلّا وضوء واحد إجماعاً «1»، و عليه فالحدث اللاحق لا يؤثّر في الرفع فعلًا، بل له اقتضاؤه شأناً.

و حينئذٍ فنقول: لا يكون في الفرض إلّا مجرّد استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال؛ لأنّ الحدث السابق المعلوم بالتفصيل قد ارتفع قطعاً، و العلم الإجمالي بالحدث اللاحق لا يترتّب عليه حكم؛ لأنّ أمره دائر بين أن يكون الحدث واقعاً قبل الطهارة، فلا يؤثّر أصلًا؛ لوجود الحدث السابق، و بين أن يكون عارضاً بعدها، فيؤثّر في الرفع، فأحد الطرفين لا يترتّب عليه أثر، فيصير الطرف الآخر مشكوكاً بالشكّ البدوي.

و بالجملة: لا يكون في الفرض إلّا العلم التفصيلي بالحدث، و المفروض ارتفاعه قطعاً بالعلم بحدوث الطهارة، و الشكّ البدوي في بقائها، فلا يجري معه استصحاب الحدث، و يصير جريان الاستصحاب بالإضافة إلى الطهارة بلا مزاحم،

______________________________

(1) جواهر الكلام 2: 110.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 175

بعد العلم بحدوثها و الشكّ في ارتفاعها.

و السرّ: ما عرفت من أنّ العلم الإجمالي في ناحية الحدث و إن كان موجوداً، إلّا أنّ المعلوم هو السبب الذي لا يترتّب علىٰ بعض وجوهه المسبّب، بخلاف العلم الإجمالي في ناحية الطهارة، فإنّه علم فيها بالسبب الذي يترتّب علىٰ جميع فروضه المسبّب؛ لأنّه يرتفع بها الحدث علىٰ أيّ تقدير؛ سواء وقع قبل الحدث اللاحق أو بعده، كما هو واضح.

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا يظهر الحكم فيما لو كانت الحالة السابقة على الحالتين هي الطهارة، فإنّه يجب عليه تحصيلها بعدهما؛ لأنّ استصحابها لا يجري، بخلاف استصحاب الحدث؛ لأنّه يترتّب عليه الأثر في هذا الفرض علىٰ أيّ تقدير؛ سواء وقع قبل الطهارة الثانية، أو بعدها، بخلافها،

فإنّه لا يترتّب عليها أثر لو وقع قبل الحدث اللاحق، كما أنّه ممّا ذكرنا يظهر حكم ما لو كان الحدث السابق أقوى من الحدث اللاحق من حيث الحكم.

و أمّا لو كان اللاحق أقوى منه و أشدّ فالحكم كما ذكره المشهور؛ لأنّ الاستصحابين يجريان، ثمّ يسقطان، فيجب تحصيل اليقين بالفراغ بإحراز الطهارة فيما كان من قبيل الطهارة و الحدث، كما إذا كان عند طلوع الشمس مُحدثاً بالحدث الأصغر، ثمّ علم بعروض الجنابة و الغسل منها، و شكّ في المتقدّم منهما، فإنّه يجب عليه الغسل ثانياً، بعد تعارض استصحاب بقاء الجنابة مع استصحاب بقاء الطهارة الحاصلة من الغسل، كما هو مقتضىٰ حكم العقل.

و أمّا لو كان من قبيل النجاسة الخَبَثية، كما إذا علم بأنّ ثوبه كان نجساً عند الطلوع لملاقاته مع الدم، ثمّ عرض له النجاسة البوليّة و التطهير المعتبر فيها- بناءً علىٰ أن يكون البول أقوى من الدم من حيث الحكم و شكّ في المتأخّر منهما، فإنّه بعد تعارض الاستصحابين يكون الثوب طاهراً بمقتضىٰ قاعدة

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 176

الطهارة، لا استصحابها لمعارضته بالمثل، و المفروض أنّ النجاسة السابقة الحاصلة عند الطلوع قد ارتفعت قطعاً، فلا يجري استصحابها، فلم يبقَ في البين إلّا قاعدة الطهارة، هذا كلّه في مجهولي التاريخ.

و أمّا لو كان تاريخ أحدهما معلوماً و الآخر مجهولًا، فالصور أربعة: لأنّه إمّا أن تكون الحالة السابقة على الحالتين هي الحدث، و إمّا أن تكون هي الطهارة، و على التقديرين: إمّا أن يكون تاريخ الطهارة معلوماً و الحدث مجهولًا، و إمّا أن يكون على العكس.

فلو كانت الحالة السابقة هي الحدث، و علم بتاريخ الطهارة دون الحدث اللّاحق، كما لو علم أوّل طلوع الشمس

بكونه محدثاً، ثمّ علم بكونه طاهراً عند الزوال، و شكّ عند الغروب في أنّ الحدث اللّاحق العارض قطعاً، هل حدث قبل الزوال أو بعده؟ فالحكم في هذه الصورة أنّه يكون باقياً على الطهارة بمقتضى الاستصحاب، و لا يعارضه استصحاب الحدث؛ لأنّ أمره دائر بين وقوعه قبل الزوال فلا يؤثّر، أو بعده فيؤثّر في رفع الوضوء، فالعلم الإجمالي إنّما تعلّق بالسبب الأعمّ من الفعلي و الاقتضائي، فلا يترتّب عليه الأثر أصلًا، كما عرفت.

و لو علم في هذا الفرض بتاريخ الحدث دون الطهارة، كما لو علم في المثال بكونه محدثاً عند الزوال، و شكّ في أنّ الطهارة الحادثة، هل حدثت بعد الزوال أو قبله؟ فالحكم وجوب تحصيل الطهارة، لا لاستصحابها لمعارضته بالمثل، بل لوجوب تحصيل اليقين بالفراغ عند اليقين بالاشتغال:

أمّا جريان الاستصحاب بالنسبة إلى الطهارة فواضح؛ لأنّه يعلم إجمالًا بحدوثها قبل الزوال أو بعده مع الشكّ في ارتفاعها؛ لاحتمال حدوثها بعد الزوال.

و أمّا جريان استصحاب الحدث، فلأنّه يعلم تفصيلًا بكونه محدثاً حين الزوال؛ سواء كان حدوث الطهارة قبله أو بعده، و شكّ في ارتفاع الحدث المعلوم

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 177

بالتفصيل عند الزوال؛ لاحتمال وقوعه بعدها، فبعد جريان الاستصحابين و تساقط الأصلين، لا يبقى في البين إلّا حكم العقل بوجوب تحصيل الطهارة؛ لما عرفت.

هذا كلّه فيما لو كانت الحالة السابقة هي الحدث.

و أمّا لو كانت هي الطهارة، و علم بتاريخ الطهارة اللاحقة دون الحدث، فالحكم كما في الفرض الثاني؛ من وجوب تحصيلها بمقتضىٰ حكم العقل بعد جريان الاستصحابين و تساقطهما.

أمّا جريان استصحاب الحدث فواضح؛ لأنّه يعلم إجمالًا بحدوثه قبل الزوال، فيؤثّر في رفع الطهارة السابقة علىٰ عروض الحالتين، أو بعده فيؤثّر في رفع الطهارة

اللاحقة أيضاً، و المفروض الشكّ في ارتفاعه لاحتمال حدوثه بعد الزوال.

و أمّا جريان استصحاب الطهارة فلأنّه يعلم تفصيلًا بوجودها عند الزوال؛ سواء كان حدوث الحدث قبله أو بعده، و المفروض الشكّ في ارتفاعه؛ لاحتمال حدوثها بعد الحدث، فلا مانع من استصحابها أصلًا.

و لو علم في الفرض بتاريخ الحدث دون الطهارة، فالحكم وجوب تحصيل الطهارة لاستصحاب الحدث، و لا يعارضه استصحاب الطهارة لعدم جريانه؛ لأنّ أمرها دائر بين وقوعها قبل الزوال- الذي هو وقت حدوث الحدث فلا يؤثّر في حدوث الطهارة أصلًا لفرض وجودها قبلها، و بين وقوعها بعد الزوال، فيؤثّر في حدوثها لمكان الحدث السابق عليها، فالعلم إنّما تعلّق بالسبب الأعمّ من الفعلي و الاقتضائي فلا يجري استصحابه كما عرفت.

فانقدح: أنّ الحكم في الصور الثلاثة من الصور الأربعة هو وجوب تحصيل الطهارة، غاية الأمر أنّ الوجه في بعضها جريان خصوص استصحاب

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 178

الحدث، و في بعضها الآخر تعارض الاستصحابين و تساقطهما، و الرجوع إلىٰ حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين بالفراغ بعد اليقين بالاشتغال، و في صورة واحدة- و هي الصورة الاولىٰ من الصور المتقدّمة يكون مقتضى الاستصحاب بقاؤه على الطهارة، فالأخذ بخلاف الحالة السابقة- بناءً على الاستصحاب إنّما هو في خصوص هذه الصورة و الصورة الأخيرة، دون بقيّة الصور، فتدبّر.

رجع إلىٰ أصل المسألة
اشارة

إذا عرفت جميع ما ذكرنا فنقول في أصل المسألة- و هي انحصار الماء بالمشتبهين؛ بناءً علىٰ أن يكون التوضّي بالماء النجس محرّماً بالحرمة التشريعيّة:

قد عرفت أنّه لا إشكال فيما لو صلّىٰ عقيب كلّ وضوء «1»؛ لأنّه يقطع معه بوقوع إحدى الصلاتين جامعة للشرائط المعتبرة فيها، و إنّما الإشكال في الاكتفاء بصلاة واحدة عقيب الطهارتين.

و الحقّ في المسألة أن يقال:

إنّه قد تكون أعضاء الوضوء طاهرة قبل الوضوء بالماءين المشتبهين، و قد تكون نجسة فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: التوضّي بالمشتبهين مع طهارة أعضاء الوضوء

أمّا الكلام في المقام الأوّل فملخّصه: أنّه لو قلنا بالاكتفاء بصلاة واحدة، فاللازم وقوعها فاقدة للطهارة المعتبرة فيها، و هي طهارة البدن؛ لابتلائه باستصحاب النجاسة، و عليه يكون الحكم في الروايتين- الدالّتين علىٰ وجوب

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 169.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 179

الإراقة و التيمّم «1» موافقاً للقاعدة، فلا اختصاص له بموردهما، بل يتعدّىٰ عنه إلىٰ غيره.

و توضيحه أن يقال: إنّ المتوضّي يقطع- تفصيلًا بنجاسة العضو الذي لاقاه الماء الثاني قبل حصول شرائط التطهير؛ من الغلبة و الانفصال و التعدّد، فبمجرّد الملاقاة و الوصول يقطع بنجاسة يده- مثلًا إمّا لنجاسة الماء الأوّل، و المفروض عدم حصول شرائط التطهير بعدُ، و إمّا لنجاسة الماء الثاني الواصل إليه، فهو في ذلك الحال يكون معلوم النجاسة، و المفروض الشكّ في ارتفاعها؛ لاحتمال كون النجس هو الماء الثاني دون الأوّل فتستصحب النجاسة، و لا يعارضه استصحاب الطهارة المعلومة حين وصول الماء الطاهر للعضو، المردّدة بين كونها بقاء للطهارة الحاصلة قبل الوضوءين- كما هو المفروض في هذا المقام أو حدوثاً لطهارة جديدة.

و ذلك- أي وجه عدم المعارضة أنّه قد عرفت سابقاً: أنّه يشترط في تنجيز العلم الإجمالي، أن يكون التكليف المعلوم منجّزاً علىٰ كلّ تقدير «2»؛ سواء تعلّق بهذا الطرف أو بالطرف الآخر، فلا يؤثّر فيما لو كان التكليف بالاجتناب، ثابتاً بالإضافة إلىٰ بعض الأطراف مع قطع النظر عن العلم الإجمالي، كما لو كان واحد معيّن من الإناءين مستصحب النجاسة- مثلًا ثمّ وقعت قطرة من الدم في واحد منهما لا على التعيين، فإنّ العلم الإجمالي بوقوعها لا يؤثّر أصلًا،

بعد ما كان بعض الأطراف محكوماً بالنجاسة ظاهراً لأجل الاستصحاب، فلا يكون الطرف الآخر واجب الاجتناب أصلًا.

______________________________

(1) الكافي 3: 10/ 6، تهذيب الأحكام 1: 248/ 712، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2 و 14.

(2) تقدّم في الصفحة 147.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 180

ففي المقام نقول: إنّ الطهارة و إن كانت معلومة بالإجمال، إلّا أنّه حيث يكون استصحاب الطهارة المتحقّقة قبل الوضوءين، جارياً بعد الوضوء بأحد الماءين فلا محالة يكون العلم الإجمالي، منحلا إلىٰ علمٍ تفصيليٍّ بطهارة العضو ظاهراً بعد الطهارة بأحد الماءين، و شكٍّ بدويٍّ بعد تطهير الأعضاء بالماء الثاني، فلا مجال إلّا لاستصحاب النجاسة.

و لا يبعد أن يقال: إنّه لو دار الأمر بين الوضوء بالماء الطاهر مع الابتلاء بنجاسة البدن، و بين الرجوع إلى التيمّم مع طهارة البدن، يكون الترجيح مع الثاني، كما يُستفاد من الأخبار الواردة في التيمّم، و أنّ التراب أحد الطهورين و غيره من التعبيرات- كما عرفت سابقاً «1» فعليه يكون الحكم المذكور في الروايتين مطابقاً للقاعدة.

نعم لو قلنا بجريان استصحاب الطهارة و معارضته مع استصحاب النجاسة، الموجبة للتساقط و الرجوع إلىٰ قاعدة الطهارة، يكون الحكم مخالفاً للقاعدة إلّا أن يقال: إنّ وجوب الوضوء بالماءين بالكيفيّة المعتبرة حكم حرجي لتعسّره، فارتفاعه إنّما هو لأجل ذلك، للابتلاء باستصحاب النجاسة، و حينئذٍ لو توضّأ بتلك الكيفيّة لا يكون وضوؤه باطلًا، كما هو الشأن في جميع الأحكام الحرجيّة المرفوعة بدليل الحرج- كما ذهب إليه الأكثر «2» بخلاف ما لو قلنا: بأنّ الوجه في الرجوع إلى التيمّم إنّما هو للابتلاء بنجاسة البدن ظاهراً، فإنّه بناءً عليه تكون صلاته فاسدة لو أتى بها مع الوضوء كما هو

واضح.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 168.

(2) جواهر الكلام 5: 111، مصباح الفقيه، الطهارة: 463/ السطر 5، العروة الوثقىٰ 1: 351، المسألة 18، مستمسك العروة الوثقىٰ 4: 331.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 181

المقام الثاني: التوضّي بالمشتبهين مع نجاسة أعضاء الوضوء

و أمّا الكلام في المقام الثاني فملخّصه:

أنّه تصحّ الصلاة عقيب الطهارتين لقاعدة الطهارة، التي هي المرجع بعد تعارض الاستصحابين.

و ذلك- أي وجه جريانهما أنّه لا بدّ- حينئذٍ من تطهير مواضع الوضوء بالماء الأوّل، ثمّ الوضوء به، ثمّ التطهير بالماء الثاني، ثمّ الوضوء به.

فيعلم إجمالًا بارتفاع النجاسة السابقة؛ إمّا بالماء الأوّل أو بالماء الثاني، و يشكّ في ارتفاع الطهارة الحادثة؛ لاحتمال كون الماء الطاهر هو الماء الثاني، فتستصحب.

و كذلك يعلم- تفصيلًا بنجاسة الأعضاء حين اغتسالها بالماء الثاني قبل حصول شرائط التطهير، و المفروض الشكّ في ارتفاعها؛ لاحتمال كون الماء الطاهر هو الماء الأوّل فتستصحب.

و يتعارض الأصلان و يسقطان، و المرجع هي قاعدة الطهارة، فتصحّ الصلاة بذلك الوضوء علىٰ مقتضى القاعدة، و عليه يكون الحكم في الروايتين «1» مخالفاً للقاعدة.

و لكن لا يخفى أنّ هذا الفرض في غاية الندرة؛ إذ لو كان بعض الأعضاء نجساً دون البعض الآخر، يكون حكمه حكم ما لو كان كلّها طاهراً، و فرض ما لو كانت محالّ الوضوء نجسة بأجمعها دون غيرها، فرض نادر لا يكاد يتّفق إلّا قليلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الكافي 3: 10/ 6، تهذيب الأحكام 1: 248/ 712، وسائل الشيعة 1: 151، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8، الحديث 2 و 14.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 182

ثمّ إنّ الأمر بالإراقة و الإهراق- كما في الروايتين هل يكون لوجوبه تعبّداً، أو كناية عن عدم الانتفاع بهما للوضوء، أو لصيرورة المكلّف فاقداً للماء، فيصير تكليفه

التيمّم لذلك؟ وجوه:

لا يخفى ضعف الوجه الأوّل، كالوجه الثالث الراجع إلىٰ أنّ الرجوع إلى التيمّم، إنّما هو لفقدان الماء، لا للابتلاء باستصحاب النجاسة، و الظاهر هو الوجه الثاني و إن كان مشتركاً مع الوجه الثالث في عدم وجوب الإهراق؛ إذ لا معنى لوجوبه إلّا عدم حصول الطهارة بهما، و المفروض أنّ مقتضاه أنّ وجوب التيمّم لفقدان الماء، لا لعدم إمكان حصول الطهارة بهما، فيكون الإهراق مستحبّاً لا واجباً.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 183

المسألة الثالثة في الماء المضاف

اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» في تعريفه «هو كلّ ما اعتُصر من جسم أو مُزج به مزجاً يسلبه إطلاق الاسم» «1».

أقول: لا يخفى أنّ الماء المضاف لا يكون قسيماً للماء المطلق؛ بأن يكون لماهيّة الماء و حقيقته نوعان: أحدهما المطلق، و الآخر المضاف، بل الظاهر أنّ المضاف يكون خارجاً عن حقيقة الماء و واقعاً في مقابلها، كسائر المائعات التي تكون لها حقائق أُخر في قبال الماء، كاللبن و الخلّ و أشباهها.

و الفرق بين الماء المضاف و بين تلك المائعات، إنّما هو في مجرّد التسمية؛ بمعنى أنّ الواضع قد جعل لها ألفاظاً مخصوصة مفردة من دون إضافة، بخلاف الماء المضاف، فإنّه قد جعل المعرّف له الماء مع إضافته إلىٰ شي ء آخر، كماء الرمان و ماء البطيخ و ماء الورد و أشباهها، فالاختلاف إنّما هو في مجرّد الاسم، لا

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 184

أن يكون الماء المضاف من أقسام الماء و مصاديقه و أفراده دونها.

و ممّا ذكرنا ظهر تعريف الماء المضاف، و أنّه عبارة عن المائع الذي يكون المعرّف له الماء مع إضافته إلىٰ شي ء مضاف؛ بمعنى أنّه لا يكون له اسم آخر.

ثمّ لا

يخفى أنّ البحث في هذا المقام لا يختصّ بخصوص الماء المضاف، بل يجري في جميع المائعات الخارجة عن صدق اسم الماء عليها؛ و ذلك لاتّحاد الملاك و المناط.

في تأسيس الأصل

ثمّ إنّه لو شكّ في ماء أنّه مطلق أو مضاف، فإن كانت حالته السابقة الإطلاق يحكم ببقائه لاستصحابه، كما أنّه لو كانت الحالة السابقة الإضافة فمقتضى الاستصحاب بقاؤها، نظير القلّة و الكثرة المستصحبتين فيما لو شُكّ في بقائهما، فيجري استصحاب الكُرّيّة في الماء الكُرّ، الذي أُخذ منه مقدار قليل لا يضرّ ببقاء الموضوع بنظر العرف، الذي هو المرجع في تعيين موضوع الاستصحاب، و يجري استصحاب القلّة في الماء القليل الذي زيد عليه مقدار كذلك؛ و إن بلغ ذلك المقدار الذي يجري فيه استصحاب الكُرّيّة في الفرض الأوّل.

و من هنا ربما يتولّد علم إجمالي، كما أنّه ربما يتولّد من العلم الإجمالي علم تفصيليّ، كما إذا خرج المكلّف من بلده بقصد السفر، و بلغ إلىٰ حدّ يشكّ في كونه حدّ الترخّص، فإنّ تكليفه- حينئذٍ الإتمام؛ لجريان استصحاب عدم البلوغ إلىٰ حدّ الترخّص، فصلّى صلاة الظهر كذلك، ثمّ سافر و رجع في نفس اليوم إلىٰ ذلك المكان المشكوك كونه حدّ الترخّص، فإنّ استصحاب وجوب القصر

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 185

و عدم البلوغ إلىٰ حدّ الترخّص، يقضي بوجوب القصر، فصلّى صلاة العصر كذلك، فإنّه- حينئذٍ يعلم إجمالًا ببطلان إحدى الصلاتين؛ لأنّه لا يخلو في الواقع من أحد الأمرين: إمّا أن يكون بالغاً إلىٰ حدّ الترخّص، و إمّا أن لا يكون كذلك، فعلى الأوّل تكون صلاة الظهر فاسدة، كما أنّه على الثاني تكون صلاة العصر باطلة، و علىٰ أيّ تقدير يعلم تفصيلًا ببطلان صلاة العصر؛ إمّا من ناحية نفسها،

أو من جهة بطلان صلاة الظهر المستلزم لبطلان صلاة العصر أيضاً، فيجب عليه الاحتياط بالجمع بين الإتمام و القصر في خصوص صلاة العصر.

هذا كلّه فيما لو كانت الحالة السابقة- من الإطلاق أو الإضافة معلومة.

و أمّا في غيرها فلا يخفى أنّ مقتضى الأصل الحكمي- بعد عدم جريان الأصل الموضوعي بقاء نجاسة الثوب المغسول بمثل هذا الماء، و بقاء الحدث بعد الوضوء أو الغسل به.

حول انفعال الماء المضاف بملاقاة النجس

ثمّ إنّ في انفعاله بملاقاة النجس وجهين بل قولين:

يظهر من الشيخ (قدّس سرّه) في «كتاب الطهارة» الانفعال، قال: «لأنّ الأصل في ملاقي النجس النجاسة»، و لذا استدلّ في «الغُنْية» «1» علىٰ نجاسة الماء القليل بالملاقاة بقوله تعالىٰ وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ «2»؛ لأنّ المركوز في أذهان المتشرّعة اقتضاء النجاسة في ذاتها للسراية، كما يظهر بتتبّع الأخبار، مثل قوله (عليه السّلام) في

______________________________

(1) غنية النزوع 1: 46.

(2) المدّثّر (74): 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 186

الردّ علىٰ من قال: «لا أدع طعامي من أجل فأرة ماتت فيه»

إنّما استخْفَفْتَ بدينك؛ إنّ اللّٰه حرّم الميتة من كُلّ شي ء «1»

، فإنّ أكل الطعام المذكور لا يكون استخفافاً بحكم الشارع بحرمة الميتة- يعني نجاستها إلّا من جهة ما هو المركوز في الأذهان من استلزام نجاسة الشي ء لنجاسة ما يلاقيه.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 186

و يدلّ عليه أيضاً: أنّ المستفاد من أدلّة كُرّيّة الماء «2» أنّها عاصمة من الانفعال، فعلم أنّ الانفعال مقتضىٰ نفس الملاقاة، فإذا شُكّ في إطلاق مقدار الكُرّ و إضافته، لم يتحقّق المانع عن الانفعال، و المفروض وجود المقتضي

له، نظير الماء المشكوك في كُرّيّته مع جهالة حالته السابقة.

و من جميع ما ذكرنا يظهر ضعف التمسّك في المقام بأصالة عدم الانفعال» «3».

أقول: قد عرفت ما في التمسّك بالآية و الرواية من الضعف، فراجع «4».

و أمّا أدلّة كُرّيّة الماء فلا يستفاد منها أنّ الملاقاة مقتضية و الكُرّيّة مانعة أصلًا، و لو سلّمنا ذلك فثبوت المقتضى يتوقّف علىٰ وجود المقتضي و إحراز عدم المانع، لا مجرّد الشكّ فيه، و المفروض عدم إمكان إحرازه في الفرض.

نعم قد يقال في مثل المقام؛ ممّا استفيد فيه عموم الاقتضاء من الأدلّة اللفظيّة: إنّ مرجع الشكّ في وجود المانع إلى الشكّ في التخصيص، و يرجع معه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 420/ 1327، الإستبصار 1: 24/ 60، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 1: 158، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 292.

(4) تقدّم في الصفحة 155 156.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 187

إلىٰ أصالة عدم التخصيص «1».

و لكنّه لا يخفى أنّ التمسّك بها في المقام، إنّما هو من قبيل التمسّك بالعامّ في الشبهات المصداقيّة، و قد حُقّق في محلّه «2» عدم الجواز.

ثمّ إنّ الحاكم و المرجع في التشخيص إنّما هو العرف، فكلّ موضع حكم فيه بالإطلاق أو الإضافة فالواجب اتّباعه، و لا عبرة بما عن «المبسوط» من التحديد بعدم أكثريّة المضاف «3»، و كذا لا عبرة بما عن العلّامة من اعتباره- في خلط المضاف المسلوب الصفات، كمنقطع الرائحة من ماء الورد تقديرها «4»، و حُكي عنه تقدير الوسط منها دون الصفة الشخصيّة الموجودة قبل السلب «5»، فإنّ التقدير و الكمّيّة ينافيان كون المرجع هو العرف.

نعم قد يخفى الصدق بحسب نظر العرف أيضاً فالحكم- حينئذٍ كما عرفت.

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 269.

(2) انظر مناهج الوصول 2: 247 252، تهذيب الأُصول 1: 474 478.

(3) المبسوط 1: 8، مستند الشيعة 1: 133، جواهر الكلام 1: 308.

(4) مختلف الشيعة 1: 72.

(5) ذكرى الشيعة 1: 74، الحدائق الناضرة 1: 411.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 189

المسألة الرابعة في أحكام الماء المضاف

اشارة

قال المحقّق في «الشرائع» «و هو طاهر، لكن لا يزيل حدثاً إجماعاً، و لا خبثاً على الأظهر» «1».

أقول

أمّا عدم ارتفاع الحدث بالماء المضاف،

فلا خلاف فيه نصّاً «2» و فتوى «3»، مضافاً إلىٰ دلالة الأصل عليه أيضاً، فلا اعتماد- حينئذٍ علىٰ بعض الروايات الواردة علىٰ خلافه، مثل ما روي عن أبي الحسن (عليه السّلام) من جواز الاغتسال و التوضّي بماء الورد «4»، مضافاً إلىٰ إعراض الأصحاب عنه و موافقته للعامّة، كما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) في «التهذيب» «5».

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 7.

(2) راجع وسائل الشيعة 1: 201، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 1، الحديث 1 و 2.

(3) راجع جواهر الكلام 1: 311.

(4) تهذيب الأحكام 1: 218/ 627، الإستبصار 1: 14/ 27، وسائل الشيعة 1: 204، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 3، الحديث 1.

(5) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 190

و أمّا ما روي من أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) توضّأ بالنبيذ «1»، فالمراد منه هو ما بيّنه الإمام (عليه السّلام) في رواية الكلبي النسّابة: من أنّ النبيذ الحلال هو الماء الذي قد نُبِذت فيه تُمَيْرات «2»، و معلوم أنّ هذا المقدار من التمر لا يخرجه عن كونه ماءً مطلقاً.

و أمّا عدم ارتفاع الخبث به،
اشارة

فهو المشهور شهرة كادت تبلغ الإجماع «3». نعم قد ينقل الخلاف عن المفيد «4» و السيّد (قدّس سرّهما) «5» كما أنّه قد يعدّ المحدّث الكاشاني «6» موافقاً لهما.

و لكنّه لا يخفى أنّ خلافه راجع إلىٰ عدم وجوب الاجتناب إلّا عن الأعيان النجسة، و أنّ النجس لا يكون منجّساً بحيث يجب غسل ملاقيه بعد زوال العين، إلّا فيما قام الدليل علىٰ وجوب غسله بعد الزوال أيضاً كالثوب و البدن، فلا يجزي فيه- حينئذٍ إلّا الماء.

و حينئذٍ فالكلام إنّما يقع في مقامين:

أحدهما: وجوب غسل ما لاقاه النجس مع الرطوبة.

الثاني: كفاية

الغسل بالماء المضاف، بعد الفراغ عن وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 219/ 628، الإستبصار 1: 15/ 28، وسائل الشيعة 1: 202، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 1.

(2) الكافي 6: 416/ 3، تهذيب الأحكام 1: 220/ 629، الإستبصار 1: 16/ 29، وسائل الشيعة 1: 203، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 2، الحديث 2.

(3) جواهر الكلام 1: 315.

(4) المعتبر 1: 82.

(5) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219، المسألة 22.

(6) مفاتيح الشرائع 1: 77، الحدائق الناضرة 1: 407.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 191

المقام الأوّل: في وجوب غسل ملاقي النجس مع الرطوبة

و الأوّل و إن كان خارجاً عن المقام، لكنّه لا بأس بالإشارة إليه إجمالًا، فنقول: أمّا الكلام في المقام الأوّل فملخّصه:

أنّ تأثير الأعيان النجسة في نجاسة ملاقيها حكم مغروس في أذهان المتشرّعة خَلَفاً عن سَلَف، و يظهر بالتتبّع في الأخبار، فإنّه و إن لم يرد نصّ علىٰ هذا الحكم بعمومه، إلّا أنّ استفادته من الأخبار الواردة في الموارد الجزئيّة، ممّا لا ينبغي أن ينكر، كيف و لو اقتصر علىٰ خصوص تلك الموارد من دون التعدّي، يلزم تأسيس فقه جديد.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ ما اعترف به في الثوب و البدن- من وجوب غسلهما بملاقاتهما مع النجاسة «1» خلاف ما هو ظاهر الدليل، فإنّه لم يرد نصّ علىٰ هذا الحكم بعمومه فيهما، و إنّما ورد في الأُمور الجزئيّة، كملاقاة الثوب مع الدم «2» مثلًا، فالواجب- حينئذٍ الاقتصار علىٰ ما قام عليه الدليل، و ورد فيه النصّ، من دون أن يجوز التعدّي حتّى في الثوب و البدن، و من المعلوم أنّه لا يلتزم به أصلًا.

المقام الثاني: في رافعيّة الماء المضاف للخبث

و أمّا الكلام في المقام الثاني: فلا يخفى أنّ مقتضى الأخبار الدالّة علىٰ وجوب غسل الثوب و البدن و الإناء- و غيرها من المتنجّسات بالماء عدم كفاية غير الماء في مقام التطهير، مضافاً إلىٰ أنّ ذلك مقتضىٰ استصحاب بقاء النجاسة

______________________________

(1) مفاتيح الشرائع 1: 77.

(2) وسائل الشيعة 3: 429، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 20، أكثر الأحاديث.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 192

المفروض حدوثها- لأنّ الكلام إنّما هو بعد الفراغ عنه إلىٰ أن يُعلم المزيل لها، و المفروض الشكّ فيه.

بل لا يبعد أن يقال بانصراف الأخبار الآمرة بالغسل- من دون التعرّض لخصوصيّة المغسول به؛ من الماء أو غيره عن الغسل بغير الماء؛

لأنّه خارج عن المتعارف.

و دعوى انصرافها عن الغسل بمثل ماء الكبريت و النفط «1» أيضاً مع قيام الإجماع «2» علىٰ عدم جواز الغسل بهما.

مدفوعة بمنع الانصراف؛ لأنّ انصراف الذهن عنه إنّما هو لنُدْرة وجوده، نظير انصراف الذهن إلى الماء الموجود في بلده مثلًا، و ذلك لا يضرّ بالإطلاق أصلًا، و هذا بخلاف الغسل باللبن و الخلّ و نظائرهما، فإنّه لا يكون متعارفاً، و لا يلتفت إليه المخاطب أصلًا.

و ما رُوي عن عليّ (عليه السّلام) من أنّه قال

لا بأس أن يُغسل الدم بالبصاق «3»

، فالظاهر أنّه مُعرَض عنه عند الأصحاب، و لا يكون قابلًا للاعتماد أصلًا، مضافاً إلىٰ أنّه لا يمكن- عادة تطهير الدم بالبصاق؛ بحيث كان جامعاً لشرائطه و لو كان الدم قليلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 219، المسألة 22.

(2) مدارك الأحكام 1: 114.

(3) تهذيب الأحكام 1: 425/ 1350، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 4، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 193

تنجّس المضاف و عدم جواز استعماله مع النجاسة
اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و متىٰ لاقته النجاسة نجس قليله و كثيره و لم يجز استعماله في أكل و لا شرب» «1».

أقول: أمّا عدم جواز الاستعمال في الأكل و الشرب، بعد الفراغ عن تأثّره بسبب ملاقاة النجس، فممّا لا إشكال فيه، و قد عرفت ما يدلّ عليه «2».

أدلّة تنجّس المضاف بملاقاة النجس مطلقاً

و إنّما المقصود هنا إثبات نجاسة الماء المضاف بملاقاة النجس مطلقاً؛ سواء كان قليلًا أو كثيراً، و العُمدة في إثباته إنّما هو بعض الروايات الواردة في المسألة، فنقول:

إنّ المهمّ منها هي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

إذا وقعت الفأرة في السمن فماتت، فإن كان جامداً فألْقها و ما يليها، و كُلْ ما بقي، و إن كان ذائباً فلا تأكله، و استصبح به، و الزيت مثل ذلك «3».

و دلالتها علىٰ عدم الفرق بين الكثير و القليل من الزيت و كذا السمن- فيما إذا كانا ذائبين من حيث النجاسة ممّا لا إشكال فيها، فإنّ الإمام (عليه السّلام) إنّما رتّب حرمة الأكل علىٰ طبيعة السمن في صورة الذوبان و الميعان؛ من دون أخذ قيد

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 7.

(2) تقدّم في الصفحة 133.

(3) الكافي 6: 261/ 1، تهذيب الأحكام 9: 85/ 360، وسائل الشيعة 1: 205، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 1، و 24: 194، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المحرّمة، الباب 43، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 194

فيه من الظرف أو المقدار أو غيرهما من الخصوصيّات، فإطلاقه يشمل ما إذا كان السمن كثيراً، خصوصاً بملاحظة أنّه لم يقع ذلك جواباً لسؤال؛ حتّى يصير ذلك قرينة علىٰ عدم إرادة الإطلاق، بل إنّما هو حكم ابتدائي صادر من الإمام

(عليه السّلام)، من دون أن يكون مسبوقاً بالسؤال، و ظاهره أنّ موضوع ذلك الحكم هي نفس طبيعة السمن إذا كان ذائباً، و كذا الزيت، فاحتمال مدخليّة القلّة في ترتّب الحكم، لا وجه له مع ثبوت الإطلاق و عدم قرينة على التقييد.

و دعوى الانصراف عن السمن و الزيت الكثيرين «1»، يدفعها: أنّها مجرّد ادّعاء لا بيّنة عليها أصلًا، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا إشكال في عدم اختصاص الحكم- المذكور في الرواية بخصوص الزيت و السمن، بل يشمل جميع المائعات ما عدا الماء المطلق.

و توهّم الاختصاص- كما عن صاحب «الحدائق» نظراً إلىٰ أنّ كلامنا في الماء المضاف، لا في المائعات الخارجة عن حقيقة الماء بكلا قسميه، و مورد الرواية إنّما هو تلك المائعات لا الماء المضاف «2».

مدفوع بما ذكرنا في أوّل المبحث: من أنّ الماء المضاف ليس من أقسام الماء و أفراده، بل هو خارج عن حقيقته، كسائر المائعات كاللبن و الخلّ، و الفرق بينه و بينها، إنّما هو في إطلاق لفظ الماء عليه مع إضافته إلىٰ شي ء آخر دونها، لا في كونه من أنواع الماء و أقسامه بخلافها «3»، فإنّ هذا ممّا لا يتوهّمه من له أدنىٰ بصيرة بحقائق الأشياء.

و بالجملة: فإنّ هنا شيئين: الماء المطلق و سائر المائعات، التي لكلٍّ منها

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 283.

(2) الحدائق الناضرة 1: 393.

(3) تقدّم في الصفحة 183.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 195

حقيقة مستقلّة و ماهيّة خاصّة، و منها الماء المضاف، و لذا ذكرنا سابقاً: أنّ النزاع لا يختصّ بالماء المضاف، بل إنّما هو في المائعات الخارجة عن حقيقة الماء «1»، فالرواية إنّما وردت في بعض فروع المقام، و من المعلوم أنّ المناط مجرّد الذوبان و

الميعان، فتجري في غير السمن و الزيت كما لا يخفى.

و الإنصاف: أنّ هذه الرواية وحدها كافية في إثبات المطلوب، و هو انفعال جميع المائعات- عدا الماء بملاقاة النجاسة مطلقاً؛ قليلة كانت أو كثيرة؛ لما عرفت من صحّة السند و تماميّة الدلالة.

ثمّ إنّ هنا بعض الروايات الأُخر غير الخالية عن الدلالة على المطلوب؛ و إن كان في دلالة بعضها نظر:

منها: رواية جابر الجُعفي عن أبي جعفر (عليه السّلام)- المتقدّم نقلها الواردة في الفأرة الواقعة في خابية فيها سَمْن أو زيت.

و فيها- مضافاً إلىٰ ضعف السند ما عرفت سابقاً في معنى الرواية، التي تكون بذلك المعنىٰ خارجة عن المقام، فراجع «2».

و منها: رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام)

أنّ عليّاً (عليه السّلام) سُئل عن قِدْر طبخت و إذا في القدر فأرة؟ قال: يهرق مرقها و يغسل اللحم و يؤكل» «3».

و فيه: أنّ شموله لما إذا كان المرق كثيراً مستبعد، كما هو غير خفيّ.

و منها: موثّقة عمّار بن موسى عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألته عن الدنّ يكون فيه الخمر، هل يصلح أن يكون فيه خلّ أو ماء كامخ أو زيتون؟ قال

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 184.

(2) تقدّم في الصفحة 156 157.

(3) الكافي 6: 261/ 3، تهذيب الأحكام 9: 86/ 365، الإستبصار 1: 25/ 62، وسائل الشيعة 1: 206، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 5، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 196

إذا غُسل فلا بأس.

الحديث «1».

و الدَّنّ- كما في «المنجد» الراقود العظيم لا يقعد إلّا أن يحفر له «2»، و لا يبعد أن يقال بإمكان كونه ظرفاً للمائع الكثير، كما هو الغالب في الظروف المتداولة في ذلك الزمان المعدّة للماء و نظائره.

و

بالجملة: فالمعتمد هي صحيحة زرارة المتقدّمة «3» التي لا مجال للخدشة فيها أصلًا؛ لما عرفت من صحّة سندها و تماميّة دلالتها.

هذا مضافاً إلى الإجماع الذي نقله كثير من الأصحاب «4»؛ بحيث يظنّ- بل يقطع بتحقّقه.

التمسّك بقاعدة المقتضي و المانع في المقام

ثمّ إنّه قد يتمسّك لتعميم الحكم بالإضافة إلى القليل و الكثير بقاعدة المقتضي و المانع كما عن الشيخ (قدّس سرّه) «5» و قد عرفت نظيره سابقاً «6»؛ بتقريب: أنّ المستفاد من أدلّة اعتصام الكثير المطلق أنّ الكُرّيّة عاصمة، و إلّا فالمقتضي للانفعال في الكثير أيضاً موجود، كما يشهد بذلك استناد عدم الانفعال إلى الكُرّيّة، فهي مانعة؛ لأنّ استناد عدم الشي ء إلىٰ وجود شي ء، دليل علىٰ مانعيّته و ثبوت المقتضي له.

______________________________

(1) الكافي 6: 427/ 1، تهذيب الأحكام 1: 283/ 830، وسائل الشيعة 3: 494، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 51، الحديث 1.

(2) المنجد: 226.

(3) تقدّمت في الصفحة 193.

(4) السرائر 1: 59، المعتبر 1: 84، منتهى المطلب 1: 22/ السطر 1، ذكرى الشيعة 1: 74، جواهر الكلام 1: 322، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 282.

(5) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 300.

(6) انظر ما تقدّم في الصفحة 101.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 197

و القول: بأنّه يحتمل أن تكون القلّة شرطاً «1»، يدفعه: أنّها من الأُمور العدميّة غير القابلة للتأثير و التأثّر، فاللازم أن تكون الكُرّيّة مانعة، و حينئذٍ فمع الشكّ في المانعيّة- كما في المقام يكون مقتضى الأصل عدمها، فيكون تأثير المقتضي بلا مزاحم.

و أنت خبير: بأنّ مثل هذه الكلمات لا يرتبط بباب الشرعيّات، فإنّها ليست من قبيل المقتضي بحيث يكون الموضوع مقتضياً لحكمه، كالاقتضاء الثابت في التكوينيّات، بل إنّما هي أحكام مترتّبة علىٰ موضوعاتها، التي يمكن أن يكون لبعض القيود

العدميّة مدخليّة فيها.

ثمّ إنّه لو سُلّم ذلك فالحكم بثبوت المقتضى متوقّف علىٰ ثبوت المقتضي و إحراز عدم المانع، و إلّا فمجرّد الشكّ فيه لا يكفي في ذلك.

و ما ذكره: من أنّ مقتضى الأصل العدم:

إن كان المراد به هو الأصل الشرعي الذي هو عبارة- في المقام عن الاستصحاب، فعدم ثبوت وصف المانعيّة للكُرّيّة لا يكون له حالة سابقة متيقّنة، و عدم ثبوت طبيعة المانع لا يثبت عدم مانعيّتها.

و إن كان المراد به هو الأصل العقلائي- الذي هو عبارة عن بنائهم علىٰ ثبوت المقتضى- بالفتح و لو مع الشكّ في وجود المانع فنحن لم نتحقّق هذا البناء أصلًا، و علىٰ تقديره فمورده ما إذا شُكّ في وجود المانع، الذي تكون مانعيّته محرزة، لا فيما إذا شُكّ في مانعيّة الموجود، كما في المقام.

و الإنصاف: أنّ الحكم في المسألة بحيث لا يحتاج إلىٰ هذه الأُمور العقليّة غير التامّة، كما عرفت.

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 287.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 199

الماء المستعمل في الأخباث و الأحداث

حكم الغسالة

اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و الماء المستعمل في غَسْل الأخباث نَجِس؛ سواء تغيّر بالنجاسة أو لم يتغيّر» «1».

أقول: هذه المسألة من المسائل الخلافيّة التي فيها من الأقوال الكثيرة ما لا مجال لاستقصائها، و ما ذكره المحقّق هو الموافق للمشهور، و هو الأقوىٰ- بعد البناء علىٰ تنجّس الماء القليل، كما عرفت أنّه مقتضى الدليل «2» و ذلك لأنّ المتبادر عند العرف من الأدلّة- الدالّة علىٰ تأثّر الماء القليل بملاقاة النجاسة إنّ الانفعال إنّما هو مسبّب عن نفس الملاقاة؛ من دون فرق بين كيفيّات الملاقاة؛ من ورود النجاسة على الماء، أو وروده عليها، و تجاوزه عنها، أو استقراره معها أصلًا، كما هو أظهر من أن يخفىٰ؛

أ لا ترى أنّه لو قيل: بأنّ وقوع الفأرة الميتة في السمن الذائب، يوجب نجاسته و حرمة أكله- كما في رواية زرارة المتقدّمة

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 8.

(2) تقدّم في الصفحة 57.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 200

الواردة في السمن و الزيت «1» هل يتوهّم أحد: أنّ هذا الحكم منحصر بوقوع الفأرة في السمن؛ بحيث لو وقع السمن الذائب عليها لا يجري فيه هذا الحكم؟! و لذا لم يذهب أحد من الأصحاب إلى الفرق بين الحالتين في السمن و غيره من المائعات، مع أنّه لم يرد نصّ علىٰ عدم الفرق أصلًا، و ليس ذلك إلّا لأنّ المستفاد من الرواية، أنّ النجاسة المترتّبة عليها حرمة الأكل، إنّما هي مسبّبة عن نفس ملاقاة السمن الذائب مع الميتة؛ بلا فرق بين الحالات أصلًا.

الاستدلال لنجاسة الغسالة بالأدلّة الواردة في انفعال الماء القليل

و نحن نقول: أيّ فرق بين هذه الرواية و بين الأدلّة الواردة في انفعال الماء القليل «2»؟! فكما أنّ علّة نجاسة السمن في الأُولىٰ هي نفس الملاقاة؛ من دون فرق بين الحالات، فكذلك منشأ تحقّق النجاسة في الثانية أيضاً، هو مجرّد الملاقاة بأيّ وجه اتّفق و أيّة كيفيّة تحقّق.

فالإنصاف: أنّه لو اخلي الذهن في مقام فهم الروايات عن بعض الشبهات، لا يبقى مجال للارتياب فيما ذكرنا.

هذا مضافاً إلى الإطلاق الأحوالي الثابت في مفهوم المستفيضة المعروفة

الماء إذا بلغ قدر كُرّ لم ينجّسه شي ء «3»

، كالإطلاق الأحوالي الثابت في منطوقه.

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 193.

(2) وسائل الشيعة 1: 150، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 8.

(3) الكافي 3: 2/ 2، الفقيه 1: 8/ 12، تهذيب الأحكام 1: 39/ 107، و: 226/ 651، الاستبصار 1: 6/ 1، و 20/ 45، و: 23/ 57، وسائل الشيعة 1: 158،

كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 9، الحديث 1 و 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 201

توضيحه: أنّ الموضوع في المفهوم و المنطوق، إنّما هي نفس طبيعة الماء بلا مدخليّة شي ء آخر فيه أصلًا، غاية الأمر أنّه لا ينفعل إذا بلغ الحدّ المخصوص، و يرتفع ذلك عند ارتفاع ذلك الحدّ، فالموضوع للانفعال هو الماء غير البالغ ذلك الحدّ؛ بلا مدخليّة شي ء آخر من الظرف أو المكان أو المقدار أو الحالة المخصوصة، فيكون ثابتاً عند تحقّق موضوعه، و من المعلوم أنّ الموضوع يتحقّق علىٰ جميع التقادير؛ سواء كان الماء وارداً على النجاسة أو العكس، و على الأوّل لا فرق بين استقراره معها أو تجاوزه عنها؛ لأنّ المفروض خروج خصوصيّة هذه الحالات عمّا جُعل موضوعاً للحكم، فيترتّب علىٰ جميع تلك الحالات.

ثمّ لا يخفى أنّ معنى الإطلاق، هو عدم مدخليّة القيود في موضوع الحكم و ترتّب الأثر عليه، و ليس راجعاً إلى العموم- كما تُوهّم «1» و إلّا لأُشكل التمسّك بالإطلاق في جانب المفهوم؛ لأنّه يصير- حينئذٍ نظير العموم الثابت بالإضافة إلىٰ أنواع النجاسات؛ في أنّ نقيضه هو ارتفاع الحكم في بعض الأحوال، كما هو الشأن في نقيض السالبة الكلّيّة.

هذا، و لو لم نقل بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة- كما هو الحقّ المحقّق في محلّه «2» فالحكم أيضاً كذلك؛ لأنّ الموضوع للحكم بعدم الانفعال، هو الماء البالغ ذلك الحدّ، فبارتفاع قيد الموضوع يرتفع الحكم، و المفروض عدم ثبوت دليل آخر، يدلّ علىٰ قيام بعض القيود مقام ذلك القيد، فبمجرّد ارتفاعه يرتفع الحكم مطلقاً، و يكون الماء منفعلًا بأيّ وجه تحقّق و أيّة خصوصيّة تخصّص.

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 و 2: 511، درر الفوائد، المحقّق الحائري

1: 210.

(2) مناهج الوصول 2: 182 183، تهذيب الأُصول 1: 427.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 202

ثمّ إنّه لا فرق- فيما ذكرنا بين الغسلة المزيلة لعين النجاسة، و الغسلة المطهّرة- بناءً على اعتبار التعدّد و ذلك لأنّ الكلام بعد فرض تنجّس الماء القليل بملاقاة الأعيان النجسة، و كذا بملاقاة المتنجّسات، و قد عرفت الأوّل سابقاً «1»، و سيأتي الكلام في الثاني في أحكام النجاسات «2» إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال بعدم جواز التمسّك بالمفهوم و لو لم نقل بكون الإطلاق راجعاً إلى العموم؛ لأنّ نقيض قوله

لم ينجّسه شي ء

إنّما هو تأثير بعض الأشياء و لو في بعض الحالات؛ لعدم خروجه عن عنوان الشيئيّة في ذلك الحال؛ إذ يصدق أنّه نجّسه شي ء؛ ألٰا ترى أنّه لو قيل بأنّه لا يقدر أحد علىٰ رفع هذه الصخرة- مثلًا فمع قدرة بعض الأشخاص و لو في بعض الأحوال، تكون القضيّة كاذبة، كما يظهر بمراجعة العرف، فلا يمكن إثبات الإطلاق الأحوالي في ناحية المفهوم، بعد صدق النقيض و تحقّقه بتنجيس بعض الأشياء في بعض الحالات، و عليه فيمكن أن تكون تلك الحالة هي حالة ورود النجاسة على الماء، لا العكس.

و يمكن أن يستشكل أيضاً: بأنّه لو سُلّم الإطلاق الأحوالي في ناحية المفهوم؛ بمعنى أنّ المناقضة إنّما هي بين عدم تأثّره بشي ء، و بين تأثّره بشي ء في جميع الأحوال لا بعضها، و لكن لانسلّم تماميّة مقدّماته، التي من جملتها أن يكون المولى في مقام بيان جميع ما له دَخْل في الحكم، فإنّ الظاهر أنّ المراد من تلك الأخبار المستفيضة، إنّما هو بيان اعتصام الماء إذا بلغ حدّ الكُرّ و عدم انفعاله، فالإطلاق الحالي ثابت في ناحية المنطوق

فقط، دون المفهوم؛ لعدم كون المولى في مقام بيان انفعال الماء القليل المستفاد من المفهوم؛ حتّى يتحقّق

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 57.

(2) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 4: 21.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 203

الإطلاق بالنسبة إلى الأحوال.

و ما ذكره الشيخ (قدّس سرّه) من ثبوت العموم الأفرادي في المفهوم بالنسبة إلىٰ جميع أنواع النجاسات؛ لأنّ المستفاد من الرواية: أنّ البلوغ إلىٰ مقدار الكُرّ علّة منحصرة لعدم تنجّسه بكلّ واحدٍ واحدٍ من أنواع النجاسات، فبارتفاعه يرتفع المعلول في جميعها، فلا يلزم ثبوت الإطلاق الأحوالي فيه «1».

أيضاً مخدوش؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ عدم صحّته؛ لأنّ العلّيّة المنحصرة إنّما تستفاد من التعليق، و المفروض أنّه لا يكون متعدّداً؛ لأنّ المعلَّق متعدّد، لا أنّ التعليق كذلك لا يجي ء في الإطلاق الأحوالي بعد عدم انحلاله إلىٰ خصوصيّات الأحوال، كما في الأنواع لو سُلّم فيها.

و بالجملة: فالتمسّك بالمفهوم في غاية الإشكال، كما عرفت.

فاللازم الاستدلال بالأخبار الواردة في الموارد الجزئيّة بالتقريب المتقدّم «2»، الذي يرجع إلىٰ إلغاء الخصوصيّات و الكيفيّات الحاصلة للملاقاة بنظر العرف، فإنّه يفهم منها: أنّ المؤثّر في الانفعال إنّما هي نفس الملاقاة؛ من دون مدخليّة أمر زائد عليها.

الاستدلال ببعض القواعد لطهارة الغسالة

ثمّ إنّه قد يُتمسّك للقول بطهارة الغُسالة ببعض القواعد:

منها: أنّه يشترط في المطهِّر أن يكون طاهراً؛ لأنّ فاقد الشي ء لا يعقل أن يكون معطياً له، و حينئذٍ فلو قلنا بنجاسة الماء بمجرّد ملاقاته مع المحلّ

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 318.

(2) تقدّم في الصفحة 199.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 204

النجس، فكيف يمكن أن يكون مطهّراً له «1»؟! و فيه: أنّ المراد باعتبار طهارة المطهّر إن كان هو اعتبار طهارته و لو بعد الفراغ عن التطهير، فهو أوّل

الكلام؛ لأنّه مورد النزاع في المقام.

و إن كان المراد اعتبار طهارته قبل استعماله للتطهير، فنحن لا ننكره، و لكن لا يثبت به المدّعىٰ.

و منها: أنّه لا إشكال في أنّ المتنجّس منجِّس، فلا يمكن أن يكون مطهِّراً «2»؛ لاستحالة أن يكون الشي ء علّة لشي ء و لضدّه أو نقيضه أيضاً، و حينئذٍ فلو قلنا بنجاسة الماء بمجرّد ملاقاته مع الخبث، فاللازم سراية النجاسة منه إلى المحلّ؛ لكونه نجساً، و النجس منجِّس، فكيف يمكن أن يكون مع ذلك مطهِّراً للمحلّ؟! و فيه: أنّ الأمر هنا دائر بين التخصيصين:

إمّا التخصيص في أدلّة انفعال الماء القليل؛ بإخراج هذا الماء عن تحتها، كما تقولون به.

و إمّا التخصيص في قاعدة «أنّ المتنجّس منجِّس»؛ لأنّه إمّا أن يقال بطهارة الماء الوارد على النجس الملاقي له، فيلزم التخصيص في أدلّة انفعال الماء القليل، و إمّا أن يقال بنجاسته فيلزم التخصيص في القاعدة، و الأوّل ليس بأولى من الثاني لو لم نقُلْ بأولويّته منه؛ لأنّ التخصيص الثاني لا يعدّ تخصيصاً بنظر العقلاء، فإنّه لا يتوهّم أحد سراية النجاسة و تأثّرها من الماء المتأثّر بالمحلّ النجس إليه، فخروج مثل هذا القسم إنّما هو علىٰ نحو التخصّص، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الناصريات، ضمن الجوامع الفقهيّة: 215/ السطر 12، جامع المقاصد 1: 128، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 326، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 313.

(2) انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 326، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 313.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 205

و منها: أنّ الماء الواحد له حكم واحد إجماعاً «1»، و من المعلوم أنّه لا إشكال في طهارة الأجزاء الباقية من الماء في الثوب بعد عصره بما هو المتعارف، و حينئذٍ فلو قلنا بنجاسة

الأجزاء الخارجة عنه بالعصر، يلزم اختلاف حكم الماء الواحد، و المفروض انعقاد الإجماع علىٰ خلافه.

و هكذا لا إشكال في طهارة القطرات الباقية على البدن بعد التطهير، كما هو المسلّم عند المتشرّعة، و حينئذٍ فلو قلنا بنجاسة الماء المنفصل عنه، يلزم أيضاً ما ذكر من اختلاف حكم الماء الواحد.

و فيه: أنّا نمنع الوحدة بالنسبة إلى الأجزاء الباقية في الثوب و الأجزاء الخارجة عنه بالعصر، فإنّ هذه الأجزاء تكون أجزاء الثوب واسطة بينها، و الأجزاء المنفصلة إنّما تجتمع بالعصر، لا أنّها مجتمعة و لو قبله، و حينئذٍ فثبوت الطهارة بالنسبة إلى الأجزاء الباقية، لا يستلزم ثبوتها بالنسبة إلى الأجزاء المنفصلة، بعد عدم اجتماعهما قبل العصر، فضلًا عنه بعده. هذا بالنسبة إلى الثوب.

و أمّا القطرات الباقية على البدن، فلا ريب في أنّها زائدة علىٰ ما يتحقّق به مسمّى الغسل، فإنّ التطهير بمسمّى الغسل ممّا لا يتّفق عادة أصلًا، بل إنّما تكون الغسلات زائدة غالباً علىٰ ما يتحقّق به مسمّاها، و حينئذٍ فطهارتها إنّما هي لعدم كونها ملاقية للنجس و لا للمتنجّس؛ لفرض طهارة المحلّ بمجرّد تحقّق المسمّى، و كون بناء المتشرّعة علىٰ عدم التجنّب عن الأجزاء الباقية إنّما هو لذلك.

و بالجملة: فهذه القواعد لا تنهض للتخصيص بالنسبة إلىٰ أدلّة انفعال الماء القليل، فالواجب الأخذ بإطلاقها الشامل لماء الغُسالة.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 345، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 321، انظر مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 233.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 206

الاستدلال لنجاسة الغسالة بالروايات الواردة في غسالة الحمّام

بل نقول: إنّ المستفاد من بعض الروايات الواردة في غُسالة الحمّام: أنّ نجاسة الغسالة كانت أمراً مرتكزاً في أذهان الناس، مفروغاً عنه بين المتكلّم و المخاطب:

مثل رواية حمزة بن أحمد، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام)، قال

سألته

أو سأله غيري عن الحمّام قال: ادخله بمئزر، و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب و ولد الزنا و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم «1».

و موثّقة عبد اللّٰه بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث، قال

و إيّاك أن تغتسل من غُسالة الحمّام، ففيها تجتمع غُسالة اليهودي و النصراني و المجوسي و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم، فإنّ اللّٰه تبارك و تعالى لم يخلق خلقاً أنجس من الكلب، و إنّ الناصب لنا أهل البيت لأنجس منه

الحديث «2».

فإنّ الظاهر، بل المصرّح به- كما في الرواية الثانية أنّ النهي عن الاغتسال من غُسالة الحمّام إنّما هو لاجتماع غُسالة اليهودي و نظائره فيها، فلو لم تكن غُسالة النجس نجسة لم يكن وجه للتعليل بنجاستهم، فهذا التعليل يدلّ علىٰ أنّ نجاسة الغسالة كانت معهودة عند المخاطب، و الدليل عليه اكتفاؤه (عليه السّلام) بمجرّد اجتماع غُسالة النجس فيها.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 373/ 1143، وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 1.

(2) علل الشرائع: 292، وسائل الشيعة 1: 220، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 207

و الإشكال في الاستدلال بالرواية: بأنّ موردها هي غُسالة نجس العين الخارجة عن مورد النزاع؛ لأنّه إنّما هو في الماء المستعمل في التطهير المنفصل عن المحلّ النجس «1».

يدفعه: أنّ مناط الاستدلال إنّما هو التعليل الوارد فيها، الدالّ علىٰ أنّ الوجه في النهي، إنّما هو اجتماع غُسالة النجس فيها، و من المعلوم صدق النجس في مورد النزاع؛ من دون فرق بين الغسلة

المزيلة و المطهّرة؛ لأنّ المراد بالنجس في لسان الأخبار هو ما يجب التحرّز و الاجتناب عنه، لا خصوص الأعيان النجسة و إطلاق المتنجّس علىٰ غيرها اصطلاح من الفقهاء، كما لا يخفى.

الاستدلال للمقام بروايات أُخر

ثمّ إنّ هنا بعض الروايات الأُخر التي يمكن الاستدلال بها للمقام:

مثل رواية عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذراً، كيف يغسل؟ و كم مرّة يغسل؟ قال

يغسل ثلاث مرّات؛ يصبّ فيه الماء، فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر، فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ ذلك الماء، ثمّ يصبّ فيه ماء آخر، فيحرّك فيه، ثمّ يفرغ منه، و قد طهر

الحديث «2».

فإنّ ظاهرها أنّ الطهارة متفرّعة علىٰ إفراغ الماء الثالث منه، فلو كانت غُسالة النجس طاهرة، لما احتاج في حصول الطهارة إلىٰ إفراغه بل تحصل الطهارة للكوز و الإناء بمجرّد صبّ الماء الثالث فيهما و تحريكه.

______________________________

(1) جواهر الكلام 1: 348، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 332.

(2) تهذيب الأحكام 1: 284/ 832، وسائل الشيعة 3: 496، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 53، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 208

و مثل ما رواه سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إذا أصاب الرجل جنابة فأراد الغسل، فليفرغ علىٰ كفّيه و ليغسلهما دون المرفق، ثمّ يدخل يده في إنائه، ثمّ يغسل فرجه، ثمّ ليصبّ علىٰ رأسه ثلاث مرّات مل ء كفّيه، ثمّ يضرب بكفٍّ من ماء علىٰ صدره و كفّ بين كتفيه، ثمّ يفيض الماء علىٰ جسده كلّه، فما انتضح من مائه في إنائه بعد ما صنع ما وصفت، فلا بأس «1».

فإنّ ظاهره أنّ الانتفاع لو كان قبل صنعه ما وصفه (عليه السّلام)، فبالماء الموجود

في الإناء بأس، و من المعلوم أنّ صبّ الماء على الرأس و ضربه على الصدر و الكتفين، لا مدخليّة لها في رفع البأس عن الماء، بل المؤثّر إنّما هو غسل الفرج؛ بمعنى أنّ الانتضاح لو كان بعد غسله فلا يوجب نجاسة الماء، بخلاف ما لو كان في حال غسله و هذا ظاهر في نجاسته في هذه الصورة؛ لأنّها المراد بالبأس في أمثال المقام، كما هو واضح.

و مثل رواية العِيص بن القاسم، التي رواها الشهيد في محكيّ «الذكرى» «2» و المحقّق في «المعتبر» «3»، قال: سألته عن رجل أصابته قطرة من طشت فيه وضوء؟ فقال

إن كان من بول أو قذر فيغسل ما أصابه «4».

فإنّ مقتضىٰ إطلاقها، عدم الفرق بين أن يكون في الطشت عين البول و القذر، و بين أن لا يكون.

مضافاً إلىٰ أنّ إطلاق البول، يقتضي أن لا يكون هناك فرق بين ما إذا كانت

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 132/ 364، وسائل الشيعة 2: 231، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 8.

(2) ذكرى الشيعة 1: 84، جواهر الكلام 1: 341.

(3) المعتبر 1: 90.

(4) وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 14.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 209

عينه موجودة في المحلّ، و بين ما إذا لم تكن بالفعل موجودة، و لكن كانت نجاسته مستندة إليه.

و الطعن في السند من جهة الإرسال «1»، مندفع: بأنّ الشيخ (قدّس سرّه) رواها في محكيّ «الخلاف» مع نسبة الرواية إلى العيص بقوله: «روى العيص» «2»، و هذا ظاهر في وجدان الرواية في كتابه، و طريق الشيخ إليه حسن، بل صحيح، كما يظهر من «الفهرست» «3»، فالرواية تامّة من حيث الدلالة، خالية عن الضعف

و الإرسال و غيرهما من علل الحديث.

فانقدح من جميع ما ذكرنا: أنّ الأقوىٰ هو القول بنجاسة الغُسالة مطلقاً؛ من دون فرق بين الغسلة المزيلة و المطهّرة أصلًا، كما ظهر لك ممّا عرفت.

الاستدلال علىٰ طهارة الغسالة بأخبار ماء الاستنجاء

ثمّ إنّه قد يستدلّ «4» على القول بالطهارة بالأخبار الواردة في طهارة ماء الاستنجاء «5»؛ بتقريب: أنّه لا خصوصيّة له بنظر العرف، فلا فرق عندهم بين أن يكون الماء مستعملًا في غسل محلّ النجو، و بين أن يكون مستعملًا في تطهير غيره، بل الثاني أولىٰ من حيث عدم عروض النجاسة له من ماء الاستنجاء.

و أنت خبير: بأنّه لا يجوز إلغاء الخصوصيّة بعد ملاحظة أنّ الشارع وسّع

______________________________

(1) المعتبر 1: 90، ذكرى الشيعة 1: 84، جواهر الكلام 1: 347.

(2) الخلاف 1: 179.

(3) الفهرست: 121/ 536.

(4) جواهر الكلام 1: 345، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 317.

(5) راجع وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 210

في الاستنجاء؛ حتّى جوّزه بالأحجار و بغيرها، فيمكن أن تكون طهارة مائه أيضاً حكماً مختصّاً به، فلا يجوز قياس الغير به.

و أيضاً فلا إشكال في أنّ الثوب إذا تنجّس بالبول يجب صبّ الماء عليه مرّتين، كما هو المشهور، بل كاد أن يكون إجماعيّاً، مع أنّه أفتىٰ بعض المحقّقين من الفقهاء كالمحقّق (قدّس سرّه) بأنّه يكفي في غسل محلّ البول إذا خرج منه، صبُّ مِثْلَي ما على الحشفة مرّة واحدة «1»، فمن هذا و نظائره يحصل الاطمئنان بأنّ غالب أحكامهما إنّما هو للتوسعة؛ لكثرة الابتلاء بهما، و معه لا مجال لإلغاء الخصوصيّة.

نعم قد يتمسّك بالتعليل الوارد في بعض أخبار ماء الاستنجاء «2»، و هو ما رواه الصدوق في «العلل» عن أبيه، عن

سعد بن عبد اللّٰه، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن يونس بن عبد الرحمن، عن رجل عن العيزار عن الأحول، أنّه قال لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)- في حديث: الرجل يستنجي، فيقع ثوبه في الماء الذي استنجىٰ به؟ فقال

لا بأس

، فسكت.

فقال

أو تدري لمَ صار لا بأس به؟

قال: قلت: لا و اللّٰه. فقال

إنّ الماء أكثر من القذر «3».

و فيه:- مضافاً إلىٰ جهالة بعض رواته- لأنّ الأخذ بعموم التعليل، الظاهر في أنّه كلّما كان الماء أكثر من القذر فهو طاهر، ممّا لم يقل به أحد؛ حتّى العماني

______________________________

(1) المعتبر 1: 126 127.

(2) جواهر الكلام 1: 345، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 329 330، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 317.

(3) علل الشرائع: 287/ 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 211

فإنّ الظاهر أنّه يقول بالطهارة في خصوص ما إذا كان الماء- الذي هو أكثر من القذر باقياً علىٰ حقيقته، لا منقلباً عنها إلىٰ حقيقة أُخرى «1»، و حينئذٍ فيدور الأمر بين رفع اليد عن العموم و الأخذ بقول العمّاني، و بين تخصيصه بمطلق ماء الغُسالة، و بين التخصيص بخصوص ماء الاستنجاء، و الأوّل لا يقول به المستدلّ، و لا ترجيح للثاني على الثالث، كما هو واضح.

و قد يتمسّك «2» أيضاً برواية محمّد بن النعمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جنب؟ فقال

لا بأس به «3».

بتقريب: أنّ المراد بقوله: «و أنا جنب» هو وجود شي ء من المنيّ على الفرج المغسول في حال الاستنجاء، فيكون الماء الواقع

فيه الثوب غُسالة للجنابة أيضاً، مع أنّه قد حكم الإمام (عليه السّلام) بنفي البأس الذي مرجعه إلىٰ طهارة الماء.

و فيه:- مضافاً إلىٰ أنّ ظاهر عبارة السؤال، أنّ الجنابة إنّما هي في حال وقوع الثوب في الماء، و هو متأخّر عن الاستنجاء كما يظهر من التعبير بكلمة «ثمّ»، و حينئذٍ فيكون مضمون السؤال مشوّشاً، و لا يجوز الاستناد إليه- أنّه و لو سلّمنا أنّ المراد هو الاستنجاء في حالة الجنابة، لكن لا دليل علىٰ كونها كناية عن وجود شي ء من المنيّ على الفرج؛ إذ لا ملازمة بينها و بينه؛ لإمكان طهارة بدن الجنب، و حينئذٍ فالتقييد به في السؤال، لعلّه لأنّه يحتمل السائل أن تكون الجنابة موجبة لرفع ما كان معلوماً عنده؛ من طهارة ماء الاستنجاء؛ لاحتماله أن يكون ذلك مختصّاً بما إذا لم يكن المستنجي جُنُباً.

______________________________

(1) مختلف الشيعة 1: 13.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 320، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 235.

(3) تهذيب الأحكام 1: 86/ 227، وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 212

و قد يُتمسّك «1» أيضاً بمرسلة الواسطي، عن بعض أصحابنا، عن أبي الحسن الماضي (عليه السّلام)، قال: سئل عن مجتمع الماء في الحمّام من غُسالة الناس يُصيبُ الثوب؟ قال

لا بأس «2».

بتقريب: أنّ غُسالة الحمّام لا تنفكّ غالباً عن الماء المستعمل في إزالة النجاسة.

و فيه:- مضافاً إلى الإرسال أنّ الظاهر أنّ المراد بالناس هو العامّة، فغرض السائل أنّ غُسالة العامّة- من حيث إنّهم كذلك هل تكون نجسة أم لا؟ فالجواب بنفي البأس عنه لا يرتبط بالمقام بوجه.

و قد يتمسّك «3» أيضاً ببعض الروايات الأُخر، مثل رواية محمّد بن مسلم، قال: سألت

أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الثوب يصيبه البول؟ قال

اغسله في المركن مرّتين، فإنْ غسلته في ماء جارٍ فمرّة واحدة «4».

و مثل الروايات الواردة في كيفيّة غسل الفراش و نحوه؛ ممّا فيه الحشو إذا أصابه البول- و قد جمعها في الوسائل في الباب الخامس من أبواب النجاسات «5»، فراجع.

و لكن لا دلالة- بل و لا إشعار في شي ء منها علىٰ طهارة الغُسالة، مضافاً

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 317.

(2) الكافي 3: 15/ 4، الفقيه 1: 10/ 17، تهذيب الأحكام 1: 379/ 1176، وسائل الشيعة 1: 213، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 9.

(3) جواهر الكلام 1: 345 346، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 331.

(4) تهذيب الأحكام 1: 250/ 717، وسائل الشيعة 3: 397، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 2، الحديث 1.

(5) وسائل الشيعة 3: 400، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 213

إلىٰ ما في بعضها من ضعف السند، و قد عرفت أنّه لا دلالة في شي ء من الأخبار المتقدّمة أيضاً، فلا محيص عن القول بالنجاسة، كما هو المرتكز في أذهان الرواة و السائلين؛ من دون فرق بين الغسلتين أصلًا.

نعم قد يتمسّك «1» أيضاً علىٰ طهارة الغُسالة: تارة بلزوم الحرج و العسر الشديد علىٰ تقدير كونها محكومة بالنجاسة، و أدلّة نفي الحرج ترفعها.

و أُخرى بعدم تعرّض القدماء من الأصحاب- رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم أجمعين لمسألة الغُسالة «2»، مع كونها من المسائل التي تعمّ بها البلوىٰ، فمن ذلك يستكشف عدم كونها محكومة بالنجاسة، و إلّا لكان الواجب التعرّض لها مع شدّة الابتلاء بها، كما لا يخفى.

و يرد على الأوّل:- مضافاً إلىٰ منع الصغرىٰ، فإنّه لا

يلزم حرج أصلًا، كيف و المشهور بين الفقهاء هو القول بالنجاسة «3» أنّه لو سلّمنا لزوم الحرج و العسر فاللازم الاقتصار علىٰ خصوص مورد لزومه، فكلّ من كان الاجتناب عن الغُسالة حرجيّا عليه، لا بأس له بترك الاجتناب، كما في سائر النجاسات، فلا يختصّ بالغُسالة، و الحرج النوعي لا دليل علىٰ نفيه أصلًا.

و أمّا عدم تعرّض الأصحاب، فمضافاً إلىٰ أنّه لا يصير حجّة على الطهارة؛ لعدم تعرّضهم لكثير من المسائل مع كونها ممّا يعمّ به البلوىٰ، أنّا نمنع عدم التعرّض، فإنّ المقام من فروع مسألة الماء القليل، الذي حكموا فيه بالنجاسة، فاكتُفي بها عن ذكر خصوصيّات المصاديق، كما هو واضح.

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 321.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 325.

(3) جامع المقاصد 1: 128، روض الجنان: 158/ السطر 19، مفتاح الكرامة 1: 90/ السطر 4، جواهر الكلام 1: 337.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 214

حول التفصيل بين الماء الوارد و المورود

ثمّ إنّه لو قلنا بطهارة الغُسالة- علىٰ خلاف التحقيق فهل تكون هذه مختصّة بالماء الوارد على النجاسة المستعمل في التطهير، أو يعمّ كلّ ما استعمل في التطهير؛ سواء كان الماء وارداً على النجاسة، أم لم يكن؟

الحقّ أن يقال: إنّه لو كان مستند القول بالطهارة، هو قصور أدلّة انفعال الماء القليل عمّا إذا كان الماء وارداً على النجاسة مطلقاً، أو عن خصوص الماء الوارد المستعمل في التطهير، فالواجب التفصيل بين الماء الوارد و المورود، و القول باختصاص الطهارة بالأوّل، و عدم الشمول للثاني و إن كان مستعملًا في التطهير، و إن كان المستند في ذلك هي القواعد الثلاثة المتقدّمة «1»، فالواجب تعميم الحكم؛ لعدم اختصاص مقتضاها بخصوص الماء الوارد المستعمل في التطهير، بل يعمّ جميع المياه المستعملة في التطهير

و لو لم تكن واردة على النجاسة، كما أنّه لو كان المستند في الطهارة هي الأخبار الخاصّة الواردة في الموارد الجزئيّة- التي عرفتها و الخدشة في الاستدلال بها «2» فالتعميم أو التخصيص يدور مدار ملاحظة كلّ واحد منها.

و حيث إنّ الأقوىٰ عندنا هو القول بالنجاسة- كما عرفت «3» فلا طائل لنا في النظر إلىٰ كلّ واحد منها حتّى يظهر حاله؛ من حيث التعميم أو التخصيص، بعد ما عرفت من عدم دلالة شي ء منها على القول بالطهارة بوجه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 203 205.

(2) تقدّمت في الصفحة 209.

(3) تقدّم في الصفحة 206.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 215

في حكم ملاقي الغُسالة

ثمّ إنّه بناءً على القول بنجاسة الغُسالة- كما هو مقتضى التحقيق و قلنا بنجاسة ما يلاقي ملاقي النجس- كما سيأتي تحقيقه في باب النجاسات «1» فهل يعتبر في غسل ملاقيها، ما يُعتبر في غسل المحلّ المنفصل عنه هذه الغسالة من الوحدة أو الاثنين أو أزيد،؟ مثلًا: لو كانت الغُسالة غُسالة للبول، و قلنا باعتبار التعدّد فيه، فهل يعتبر في غسل ملاقيها- أي الغُسالة التعدّد بلا فرق بين الغسلة الأُولىٰ و الثانية، أم لا يعتبر فيه ذلك، أم يقال بالتفصيل بين ما لو كانت الغُسالة للغسلة الاولىٰ، و بين ما لو كانت للثانية باعتبار التعدّد في الأُولىٰ دون الثانية؟ وجوه.

لا يخفى أنّه ليس في الأدلّة ما يمكن أن يستفاد منه حكم ملاقي الغسالة؛ من حيث اعتبار التعدّد في غسلها و عدمه، و الاعتبار و إن كان ربما يساعد على التفصيل؛ لعدم مزيد حكم الفرع على الأصل، فالغُسالة للغسلة الاولىٰ لا يزيد حكمها على النجاسة الموجودة في المحلّ قبل الغسلتين، و للغسلة الثانية لا يزيد حكمها على المحلّ، الذي لا

يحتاج إلّا إلىٰ غسلة واحدة في تلك الحال، إلّا أنّه لا يمكن إثبات الحكم الشرعي بمقتضى العقل و الاعتبار؛ لأنّ هذا هو القياس الذي تجتنب الإماميّة عنه، فالواجب الغسل إلىٰ أن يقوم الإجماع علىٰ عدم اعتبار أزيد منه.

نعم يمكن أن يُستفاد من رواية العيص بن القاسم المتقدّمة- الدالّة علىٰ

______________________________

(1) الطهارة، الإمام الخميني (قدّس سرّه) 4: 9.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 216

وجوب غسل الثوب إذا أصابته قطرة من طشت كان من بول أو قذر «1» عدم اعتبار التعدّد و الاكتفاء بالغسل الواحد؛ بتقريب أن يقال: إنّ الظاهر من الجواب- المشتمل علىٰ وجوب الغسل من دون التعرّض لكيفيّته اعتبارُ ما يصدق عليه الغَسْل بنظر العرف، و إلّا فلو كان لغسله كيفيّة مخصوصة، كالبول و ولوغ الكلب و نظائرهما، لكان اللازم البيان كما هناك.

و دعوىٰ: عدم كونه في مقام البيان من هذه الجهة، بل من جهة أصل النجاسة أو الطهارة، عاريةٌ عن الشاهد، كما ترى، فإنّه أيُّ فرق بين السؤال في هذه الرواية، و بين السؤال في روايات البول «2» و نظائره «3»؟! حيث أجاب فيها الإمام (عليه السّلام) بنحو يزيل الشكّ عن كيفيّة التطهير، و لم يجب هنا، و ليس ذلك إلّا لاعتبار كيفيّة مخصوصة و طريق خاصّ في تطهير البول و نظائره، دون الغُسالة، و هذا يجري في كلّ مقام اكتُفي في الجواب بالأمر بالغسل؛ من دون بيان كيفيّته.

و لكنّه لا يخفى أنّ هذا الظهور، ليس بحيث يصير مانعاً عن جريان استصحاب النجاسة إلىٰ أن يعلم المزيل، خصوصاً بعد ما عرفت من الطعن في سنده؛ و إن استظهرنا سابقاً: أنّ نسبة الرواية إلى العيص تدلّ علىٰ وجدانها في كتابه، مع كون طريق الشيخ

إليه صحيحاً، كما يظهر من «الفهرست» «4»، و لكن لا يبقى وثوق و اطمئنان، فالظاهر وجوب الغسل إلىٰ أن يعلم المزيل.

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 208.

(2) وسائل الشيعة 3: 395، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1 و 2 و 3 و 4 و 5.

(3) راجع وسائل الشيعة 3: 415، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 12، الحديث 2، و: 496، الباب 53، الحديث 1.

(4) تقدّم في الصفحة 209.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 217

تنبيه في استعمال الغسالة في رفع الحدث و الخبث

لو قلنا بطهارة الغسالة فهل يجوز استعمالها في رفع الحدث و الخبث، أو في رفع الثاني دون الأوّل، أو لا يجوز استعمالها في رفع شي ء منهما؟ وجوه.

لا يخفى أنّ مقتضى القاعدة جواز استعمالها في رفعهما، بعد أنّه لا يعتبر في رفع الحدث إلّا كون الرافع ماءً، و في رفع الخبث إلّا الغسل بالماء، و من المعلوم عدم خروجها عن عنوان المائيّة، و دعوى الانصراف ممنوعة.

حول ما يدلّ على التفصيل بين الحدث و الخبث
اشارة

نعم مقتضىٰ بعض الروايات التفصيل، و هو ما رواه الشيخ بالإسناد عن سعد، عن الحسن بن علي، عن أحمد بن هلال، عن الحسن بن محبوب، عن عبد اللّٰه ابن سنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال:

لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل. فقال: الماء الذي يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة، لا يجوز أن يتوضّأ منه و أشباهه، و أمّا الذي يتوضّأ الرجل به، فيغسل به وجهه و يده في شي ء نظيف، فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به «1».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، الإستبصار 1: 27/ 71، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 218

كلام حول أحمد بن هلال

و في السند أحمد بن هلال- كما عرفت و هو مرميّ بالغُلوّ «1» تارة، و بالنصب «2» اخرىٰ، و قد ورد فيه ذموم من الناحية المقدّسة «3» و طعن فيه كثير من أصحاب الرجال «4»، إلّا أنّه ذكر الشيخ (قدّس سرّه) في «كتاب الطهارة»: أنّ هنا قرائن تكاد تلحق الرواية بالصحاح:

1 منها: أنّ الراوي عنه الحسن بن فضّال، و بنو فضّال ممّن ورد في شأنهم- في الحسن كالصحيح عن العسكري (عليه السّلام)

خذوا ما رووا و ذروا ما رأوا «5»

مع أنّ هذه الحسنة، ممّا يمكن أن يستدلّ بها علىٰ جواز العمل بروايات مثل ابن هلال؛ ممّا روىٰ حال الاستقامة، و لذا استدلّ بها الشيخ الجليل أبو القاسم بن روح (قدّس سرّه) حيث أفتىٰ أصحابه بجواز العمل بكتب الشلمغاني، فقال بعد السؤال عن كتبه: أقول فيها ما قاله العسكري (عليه السّلام)- لمّا سئل عن كتب بني فضّال

خذوا ما رووا .. «6»

إلىٰ آخره.

______________________________

(1) رجال

الطوسي: 410/ 20، الفهرست: 36/ 97، رجال ابن داود: 230، رجال العلّامة الحلّي: 202، الرواشح السماوية: 109.

(2) كمال الدين: 76.

(3) اختيار معرفة الرجال: 535 و 536.

(4) رجال النجاشي: 83/ 199، اختيار معرفة الرجال: 535 و 536، رجال الطوسي: 410/ 20، رجال ابن داود: 230، رجال العلّامة الحلّي: 220، التحرير الطاووسي: 65 66، تنقيح المقال 1: 99 و 100.

(5) كتاب الغيبة، الطوسي: 390/ 355، وسائل الشيعة 27: 142، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي، الباب 11، الحديث 13.

(6) كتاب الغيبة، الطوسي: 390/ 355.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 219

2 و منها: أنّ الراوي عن ابن فضّال هنا سعد بن عبد اللّٰه الأشعري، و هو ممّن طعن على ابن هلال؛ حتّى قال: «ما سمعنا بمتشيّع يرجع من تشيّع إلى النصب إلّا أحمد بن هلال» «1»، و هو في شدّة اهتمامه بترك روايات المخالفين؛ بحيث حُكي عنه أنّه قال: «لقي إبراهيم بن عبد الحميد أبا الحسن الرضا (عليه السّلام)، فلم يروِ عنه، فتركت روايته لأجل ذلك» «2»، فكيف يجوز أن يسمع من ابن فضّال الفطحي ما يرويه عن ابن هلال الناصبي، إلّا أن تكون الرواية في كتاب معتبر مقطوع الانتساب إلىٰ مصنّفه؛ بحيث لا يحتاج إلىٰ ملاحظة حال الواسطة، أو محفوفة بقرائن موجبة للوثوق بها.

3 و منها: أنّ ابن هلال روىٰ هذه الرواية عن ابن محبوب، و الظاهر قراءته عليه في كتاب ابن محبوب- المسمّىٰ بالمشيخة الذي هو أحد الأُصول الموصوفة- في أوّل الفقه بالصحّة و اعتماد الطائفة عليها.

و حُكي عن ابن الغضائري- الطاعن كثيراً فيمن لا يطعن فيه غيره: أنّ الأصحاب لم يعتمدوا علىٰ روايات ابن هلال إلّا ما يرويه عن مشيخة ابن محبوب و نوادر ابن

أبي عُمير «3».

و حُكي عن السيّد الداماد إلحاق ما يرويه ابن هلال عن الكتابين بالصحاح «4».

4 و منها: اعتماد القمّيّين على الرواية- كالصدوقين و ابن الوليد و سعيد بن عبد اللّٰه و قد عدّوا ذلك من أمارات صحّة الرواية باصطلاح القدماء.

______________________________

(1) كمال الدين: 76.

(2) رجال العلّامة الحلّي: 197.

(3) رجال العلّامة الحلّي: 220، الرواشح السماويّة: 109.

(4) الرواشح السماويّة: 108 109.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 220

فالإنصاف: أنّ الوثوق الحاصل من تزكية الراوي- خصوصاً من واحد ليس بأزيد ممّا تفيده هذه القرائن، فالطعن فيها بضعف السند- كما في «المعتبر» «1» و «المنتهىٰ» «2» مع عدم دورانهم مدار تزكية الراوي محلّ نظر «3». انتهىٰ كلامه رفع مقامه.

و أنت خبير: بأنّه لا يفيد هذه القرائن شيئاً بعد عدم تماميّة قرينيّتها كما يظهر بالتأمّل فيها و لو كان تمسّكه في ذلك بما ذكره النجاشي في ترجمته: من كون الرجل صالح الرواية «4»، لكان أولىٰ، مع أنّه لا يحصل الاطمئنان بمجرّده أيضاً، خصوصاً مع ملاحظة ورود ذمائم كثيرة بالإضافة إليه، و طعن كثير من علماء الرجال فيه.

فالإنصاف: أنّ الرواية مخدوشة من حيث السند، و لا يجوز الاعتماد عليها، مضافاً إلىٰ أنّ دلالتها أيضاً لا تخلو عن قصور.

ثمّ إنّ الاستناد في عدم جواز استعمال ماء الغُسالة- في رفع الحدث و الخبث إلي الإجماع «5» غير صحيح، بعد وضوح أنّ أكثر المجمعين غير قائلين بطهارة الغُسالة، بل بنجاستها «6»، و الكلام إنّما هو بعد فرض الطهارة، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) المعتبر 1: 90.

(2) منتهى المطلب 1: 23/ السطر 8.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 354 356.

(4) رجال النجاشي: 83/ 199.

(5) المعتبر 1: 90، منتهى المطلب 1: 24/ السطر 21.

(6) انظر الطهارة،

ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 316.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 221

ماء الاستنجاء

اشارة

لا إشكال و لا خلاف- نصّاً و فتوى في أنّه لا بأس بماء الاستنجاء إجمالًا، و إنّما وقع الإشكال و الخلاف في بعض خصوصيّات المسألة:

هل الماء الاستنجاء طاهر أو معفوّ عنه؟

منها: أنّه هل يكون ماء الاستنجاء مستثنى من أدلّة انفعال الماء القليل؛ بمعنى أنّه يكون طاهراً، أو يكون معفوّاً عنه؟ وجهان، بل قولان.

و المهمّ في هذا المقام الأخبار الواردة في المسألة، فلا بدّ من نقلها حتّى يظهر مدلولها، فنقول:

منها: رواية الأحول، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أخرج من الخلاء فأستنجي بالماء، فيقع ثوبي في ذلك الماء الذي استنجيت به؟ قال

لا بأس به «1».

و الظاهر من نفي البأس إنّما هي الطهارة، كما هو المتفاهم عند العرف من هذه الجملة في أمثال المقام، خصوصاً بعد ظهور أنّ مراد السائل إنّما هو السؤال عن النجاسة و الطهارة، كما يشهد بذلك التعبير بنفي البأس في كثير من الأخبار التي لا إشكال في أنّ المراد بنفي البأس الوارد فيها أي الطهارة، و كذلك عبارة الأصحاب، فإنّ من تتبّعها لا يكاد يشكّ في أنّ المقصود من هذا التعبير، إنّما هو

______________________________

(1) الكافي 3: 13/ 5، الفقيه 1: 41/ 162، تهذيب الأحكام 1: 85/ 223، وسائل الشيعة 1: 221، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 222

بيان الطهارة، لا مجرّد العفو، فراجع.

و منها: رواية ثانية للأحول؛ حيث قال لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث: الرجل استنجىٰ، فوقع ثوبه في الماء الذي استنجىٰ به؟ فقال

لا بأس.

فسكت، فقال

أو تدري لم صار لا بأس به؟

قال: قلت: لا و اللّٰه. فقال

إنّ الماء أكثر من القذر «1».

و لا يخفىٰ أنّه لو لم تكن الرواية مجهولة من حيث

السند «2»، و لم يكن الأخذ بعموم التعليل مخالفاً للقواعد الشرعيّة، لكانت دلالةُ التعليل علىٰ أنّ المراد بنفي البأس هي الطهارة، تامّةً غير قابلة للمناقشة؛ و ذلك لأنّه لو كان الماء نجساً- غاية الأمر أنّه معفوّ عنه لكان التعليل بأكثريّته من القذر في غاية السخافة، كما هو واضح.

و منها: رواية محمّد بن النعمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت له: أستنجي ثمّ يقع ثوبي فيه و أنا جُنُب؟ فقال

لا بأس به «3».

و قد تقدّم الكلام في معنى الرواية سابقاً «4»، فراجع.

و منها: رواية عبد الكريم بن عتبة الهاشمي، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل؛ يقع ثوبه على الماء الذي استنجىٰ به، أ ينجّس ذلك ثوبه؟ قال

لا «5».

______________________________

(1) علل الشرائع: 287/ 1، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 2.

(2) تقدّم سندها في الصفحة 67، 210.

(3) تهذيب الأحكام 1: 86/ 227، وسائل الشيعة 1: 222، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 4.

(4) تقدّم في الصفحة 211.

(5) تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 223

و الظاهر أنّ عدم التنجيس إنّما هو لعدم كونه نجساً حتّى يؤثّر فيه؛ لما هو المرتكز في أذهان المتشرّعة من أنّ النجس يكون منجّساً، فإذا لم يكن الشي ء منجّساً لدلالة الدليل عليه، فيفهمون من ذلك عدم كونه بذاته نجساً؛ للملازمة المعهودة عندهم بين نجاسة الشي ء و نجاسة ملاقيه، و لذا لو علموا من الدليل نجاسة شي ء لا يتردّدون في نجاسة ملاقية، و لا يتوقّفون عن الحكم إلىٰ أن يقوم الدليل عليه بالإضافة

إلى الملاقي، و ليس ذلك إلّا لثبوت الملازمة، فبارتفاع أحد طرفيها يستكشفون ارتفاع الطرف الآخر أيضاً، كما لا يخفى علىٰ من تتبّع طريقتهم. و لهذه الملازمة تخصّص قاعدة «النجس منجّس»؛ حيث إنّ البناء على الطهارة يستلزم أن لا يكون البول و الغائط مؤثّراً في تنجيس الماء الملاقي معه.

إن قلت: إنّ البناء على الطهارة- كما هو المفروض يستلزم تخصيص عموم أدلّة انفعال الماء القليل أيضاً.

قلت: إنّ هذه القاعدة ليست قاعدة مستقلّة في مقابل قاعدة «النجس منجِّس»، لا في عرضها، و لا في طولها، بل هي من أفراد تلك القاعدة و مصاديقها، فليست هنا قاعدتان مستقلّتان؛ حتّى يكون الحكم بطهارة ماء الاستنجاء تخصيصاً بالنسبة إلىٰ كليهما، كما هو واضح.

حول كلام الشيخ الأعظم في المقام

ثمّ إنّ الشيخ (قدّس سرّه) في كتاب «الطهارة» ذكر أوّلًا: أنّ المستفاد من الأخبار المتقدّمة إنّما هي طهارة الماء، فيتعيّن تخصيص ما دلّ على انفعال الماء القليل، و هو أولىٰ من تخصيص القاعدة المستفادة من تعدّي نجاسة كلّ متنجّس.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 224

ثمّ ذكر: أنّ التحقيق أنّ القاعدة الثانية ساقطة؛ باعتبار القطع بخروج الفرد المردّد بين ماء الاستنجاء و ملاقيه عن عمومها، فتبقىٰ أدلّة تنجّس الماء القليل و أدلّة عدم البأس بماء الاستنجاء علىٰ حالهما من عدم التعارض؛ لأنّ التعارض بينهما فرع شمول القاعدة المذكورة لهذا الماء، فالقول بأنّه نجس لا ينجس ملاقيه قويّ لا محيص عنه.

ثمّ قال: و يمكن أن يقال: إنّ الأخبار المذكورة معارِضة بأنفسها لأدلّة تنجّس القليل، فتخصّصها؛ لأنّ النجاسة في الشرع: إمّا وجوب الاجتناب عن الشي ء في الصلاة و الأكل و ما الحق بهما، أو صفة منتزعة عن هذه الأحكام، فإذا حكم الشارع بأنّه لا بأس بالثوب الواقع في ماء الاستنجاء،

فهو كالصريح بجواز الصلاة و الطواف فيه، و إذا لم ينجس الطعام المطبوخ جاز أكله، فإذا لم يجب الاجتناب عنه في الصلاة و لا في الأكل، لم يكن نجساً، و أمّا سائر الأحكام- كحرمة شربه و إدخاله المسجد و نحوهما فإنّما جاء من أدلّة وجوب الاجتناب عن النجس، و المفروض عدمه «1».

و استشكل عليه بعض الأعاظم- في شرحه على «العروة» قال: «و وجه الإشكال فيه:

أوّلًا: ما أشرنا إليه: من أنّ تخصيص عموم الانفعال ليس لتقديم قاعدة نجاسة ملاقي النجس عليه، بل للدلالة الالتزاميّة العرفيّة.

و ثانياً: أنّ عموم انفعال الماء القليل في رتبة قاعدة نجاسة ملاقي النجس، فإذا فرض معارضة أصالة العموم في القاعدة- بالنسبة إلىٰ ملاقي ماء الاستنجاء مع أصالة العموم فيها بالنسبة إلىٰ ماء الاستنجاء، فهذه المعارضة

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 343 347.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 225

بعينها حاصلة بين أصالة العموم في القاعدة في الأوّل، و أصالة العموم في عموم انفعال الماء القليل في الثاني، فالعلم الإجمالي يوجب سقوط العمومين معاً.

و ثالثاً: أنّ المعارضة بين أصالة العموم في القاعدة بالنسبة إلى الفردين، غير ظاهرة؛ لسقوط أصالة العموم في القاعدة بالنسبة إلىٰ ملاقي ماء الاستنجاء جزماً؛ للعلم الإجمالي بالتخصيص أو التخصّص، فتبقىٰ أصالة العموم في القاعدة بالنسبة إلىٰ ماء الاستنجاء- الملاقي للبول و الغائط بلا معارض، و كذا عموم انفعال الماء القليل، بل لو فرض ملاقاة ماء الاستنجاء لماء آخر، فلا معارضة في عموم انفعال الماء القليل بالنسبة إلىٰ تطبيقه؛ لأنّ تطبيقه بالنسبة إلى الماء الثاني معلوم البطلان؛ إمّا للتخصيص أو للتخصّص علىٰ نحو ما عرفت في عموم نجاسة ملاقي النجس» «1».

أقول: لا يخفى أنّ ما استشكل عليه أوّلًا،

هو بعينه ما ذكره الشيخ في ذيل كلامه من قوله: «و يمكن أن يقال ..» إلىٰ آخره.

و أمّا الإشكال الثاني فهو ككلام الشيخ مبنيّ علىٰ أن تكون هنا قاعدتان مستقلّتان، و قد عرفت بطلانه «2»، و أنّه لا يكون في البين إلّا قاعدة تأثير النجس في نجاسة ملاقية؛ ماءً كان أو غيره، و هي المستفادة من الموارد الجزئيّة التي منها انفعال الماء القليل بالملاقاة، و قد عرفت أنّ الظاهر تخصيصها بالنسبة إلىٰ نفس ماء الاستنجاء؛ لأنّ المستفاد من الأخبار طهارته.

و أمّا الإشكال الثالث فيدفعه: ثبوت المعارضة و عدم انحلال العلم الإجمالي بسبب العلم التفصيلي بعدم تأثير ماء الاستنجاء في تنجيس ملاقيه؛ إمّا

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 226 227.

(2) تقدّم في الصفحة 224.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 226

لطهارته أو للعفو عنه؛ و ذلك لأنّه يستحيل أن يؤثّر العلم التفصيلي الناشئ من العلم الإجمالي في رفعه، و هل هو إلّا كتأثير المعلول في رفع علّته؟! و من الواضح استحالته.

توضيحه: أنّ منشأ العلم التفصيلي، العلم إجمالًا بتخصيص القاعدة؛ إمّا بالنسبة إلىٰ نفس ماء الاستنجاء الملاقي للبول أو الغائط، و إمّا بالإضافة إلىٰ ملاقيه من الثوب أو غيره، فلا يعقل أن يؤثّر في انحلاله إلىٰ علم تفصيلي و شكّ بدويّ بالإضافة إلىٰ ماء الاستنجاء، فيبقىٰ فيه أصالة العموم بلا معارض، فيحكم بنجاسته الملازمة لثبوت التخصيص بالنسبة إلى الملاقي.

و هذا نظير ما لو علم إجمالًا بوجوب الوضوء، و تردّد بين أن يكون الوجوب نفسيّاً أو غيريّاً ناشئاً من وجوب الصلاة و نظائرها، فإنّه لا مجال لما قيل من انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيلي بوجوب الوضوء و الشكّ البدوي في وجوب الصلاة مثلًا، فتجري فيه البراءة؛ و

ذلك لأنّ جريان البراءة في وجوبها، مستلزم لعدم وجوب مقدّماته التي منها الوضوء، فلا يجب- حينئذٍ فكيف يعلم تفصيلًا بوجوبه؟! فالعلم التفصيلي يتوقّف علىٰ بقاء العلم الإجمالي؛ لأنّه مقوّم له، كما هو واضح.

و المقام من هذا القبيل، فإنّ العلم التفصيلي بطهارة الملاقي ليس إلّا متولّداً من العلم الإجمالي بالتخصيص أو التخصّص، فكيف يمكن أن يؤثّر في نفي أحد طرفيه؟! و ما اشتهر: من انحلال العلم الإجمالي- في بعض الموارد إلىٰ علم تفصيليّ و شكّ بدويّ، فالمراد صورة توهّم العلم الإجمالي، و إلّا فكيف يمكن أن يؤثّر ما يتولّد من الشي ء في رفعه؟! فافهم و اغتنم.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 227

حول كلام المحقّق الهمداني

ثمّ إنّه ذكر المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) في «مصباحه»: أنّ تخصيص القاعدة بالنسبة إلىٰ ماء الاستنجاء و القول بطهارته، أهون من تخصيصها بالنسبة إلى الملاقي؛ و ذلك لأنّ التخصيص بالنسبة إلى الثاني، مستلزم للتخصيص فيما يدلّ علىٰ حرمة أكل النجس و شربه، و غير ذلك ممّا يشترط بالطهارة أيضاً «1».

و فيه:- مضافاً إلىٰ منافاته لما ذكره في ذيل كلامه: من أنّ معنى العفو، هو عدم وجوب الاجتناب بالنسبة إلىٰ خصوص الملاقي، لا عدم حرمة الأكل و غير ذلك من الأحكام المشترطة بالطهارة أنّ ترجيح التخصيص الواحد على التخصيص المتعدّد- اثنين أو أزيد لا دليل عليه؛ لسقوط أصالة العموم بالنسبة إلى الجميع، بعد العلم الإجمالي بالتخصيص الواحد أو بالأزيد، كما هو غير خفيّ.

و التحقيق في المقام ما عرفت: من أنّ المتفاهم من الأخبار هي الطهارة، و بها تخصّص قاعدة «تأثير النجس في نجاسة ملاقية» بالنسبة إلى البول أو الغائط الملاقي مع ماء الاستنجاء.

ثمّ إنّ هنا جهات من البحث:

عدم الفرق في ماء الاستنجاء بين المخرجين

منها: أنّه لا فرق في ماء الاستنجاء بين المخرجين، لا لأنّ لفظ الاستنجاء يشملهما «2»، فإنّ شموله لغسل البول غير معلوم، و كلمات اللغويّين كالنصوص مختلفة، إلّا أنّه حيث إنّ الانفكاك بينهما في غاية الندرة؛ إذ العادة قاضية بنُدرة

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 328.

(2) مستند الشيعة 1: 98.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 228

انفراد الغائط عن البول، و باجتماع غسالتهما في محلّ واحد، فيستفاد من الأخبار إطلاق الحكم و عدم الاختصاص بغسل الغائط.

و كذا لا فرق بين المخرج الطبيعي و غيره؛ سواء كان المخرج غير الطبيعي طبيعيّاً بالنسبة إلىٰ مثل هذا الشخص، مثل أن يكون مخرجه من حين الولادة علىٰ غير ما هو المتعارف، أو صار

طبيعيّاً بالنسبة إليه، لا من حين الولادة، كما لو فرض أنّ مخرجه حين الولادة كان كسائر أفراد طبيعة الإنسان، إلّا أنّه لعروض بعض الحالات قد تبدّل إلىٰ موضع آخر؛ بحيث يكون هذا الموضع مخرجاً طبيعيّاً بالنسبة إليه فعلًا؛ و ذلك لصدق الاستنجاء علىٰ جميع الفروض، و الحكم في الأخبار معلّق علىٰ نفس طبيعة الاستنجاء.

نعم لا يبعد أن يقال: بعدم الشمول لما لو تبدّل مخرجه الطبيعي إلىٰ موضع آخر موقّتاً؛ لعدم صدق الاستنجاء عليه، كما أنّه لا يشمل من لا مخرج له أصلًا، بل يقي ء كلّ ما يأكل و يشرب.

و بالجملة: فالمناط صدق الاستنجاء؛ لأنّ الحكم مترتّب علىٰ طبيعته، لأعلى الأفراد حتّى يشكّ في الشمول للأفراد غير المتعارفة، و كيف كان، فلو شكّ في مورد في صدق الاستنجاء فالواجب ترتيب أحكام النجاسة عليه، كما لا يخفى.

المراد من العفو عن ماء الاستنجاء

ثمّ إنّ المراد بالعفو هل العفو عن خصوص الملاقي؛ بمعنى عدم تأثير ماء الاستنجاء في تنجيس ملاقيه، و أمّا سائر الأحكام المترتّبة على النجس، كحرمة الأكل و الشرب، فيترتّب عليه أيضاً «1»، أو المراد العفو عن الأحكام

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 330.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 229

اللازمة؛ لعدم صدق العفو في غيرها «1»، أو العفو عن جميع الأحكام «2»؟

وجوه بل أقوال.

و لكنّه لا يخفى أنّه لو قلنا بالعفو، فلا محيص عن أن يكون المراد به هو المعنى الأوّل؛ و ذلك لوضوح أنّه لم يرد في الروايات كلمة «العفو» حتّى يقال بعدم صدقه إلّا في الأحكام اللازمة، أو بشموله لجميع الأحكام، بل الروايات يدلّ بعضها علىٰ نفي البأس «3»، و بعضها علىٰ عدم تنجيسه «4» الثوب، و من المعلوم أنّ الضمير في قوله

لا بأس به

، يرجع إلى

الثوب الذي وقع علىٰ ماء الاستنجاء، لا إلىٰ نفس الماء، فيصير مفاد مجموع الروايات عدم وجوب الاجتناب عن الملاقي، بعد إلغاء خصوصيّة الثوبيّة، و أمّا ارتفاع سائر الأحكام الموضوعة على النجس المترتّبة عليه، فلا دليل عليه أصلًا.

في تغيّر ماء الاستنجاء بنجاسة المحلّ

و منها: لو تغيّر أحد الأوصاف الثلاثة لماء الاستنجاء بنجاسة المحلّ- الذي انفصل عنه الماء فالظاهر عدم كونه طاهراً حينئذٍ؛ و ذلك لأنّ السؤال في الأخبار، إنّما هو عن حيثيّة كونه ملاقياً للنجس؛ بمعنى أنّه هل يكون ماء

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 125، جواهر الكلام 1: 355، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 349، الطهارة (تقريرات المحقّق الحائري) الأراكي 1: 249.

(2) جامع المقاصد 1: 130، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 348.

(3) الكافي 3: 13/ 5، وسائل الشيعة 1: 221 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 1 و 2 و 3 و 4.

(4) تهذيب الأحكام 1: 86/ 228، وسائل الشيعة 1: 223، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 13، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 230

الاستنجاء كسائر المياه القليلة، المنفعلة بمجرّد الملاقاة مع النجاسة، أو له خصوصيّة فلا ينفعل بذلك؟

فمحطّ نظر السائل إنّما هو هذه الحيثيّة، فالحكم بالطهارة من هذه الجهة لا ينافي النجاسة من حيث التغيّر، ففي الحقيقة لا منافاة بين أدلّة طهارة ماء الاستنجاء، و بين ما يدلّ على الانفعال عند عروض التغيّر، مثل قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

خلق اللّٰه الماء طهوراً إلّا ما غيّر لونه أو طعمه «1»

الحديث، فإنّ أخبار ماء الاستنجاء إنّما هي متعرّضة للطهارة من حيث مجرّد الملاقاة، و النبوي يدلّ على النجاسة من حيث التغيّر، فلا منافاة بينهما، كما هو واضح.

ثمّ إنّه لو سلّمنا

شمول أدلّة الاستنجاء لصورة التغيّر، فلا مجال لادّعاء الانصراف أصلًا؛ لأنّ مورده ما إذا أوجب تقييداً في الدليل حتّى لا يجوز التمسّك بإطلاقه، و ثبوته في المقام محتاج إلى الدليل.

و حينئذٍ فتقع المعارضة بين الأدلّة؛ لشمول أدلّة الاستنجاء لصورة التغيّر- كما هو المفروض و شمول النبوي لها، و لكن لا يخفى أنّ كلا الشمولين إنّما هو بالإطلاق، و مع ذلك فالترجيح مع النبوي؛ لضعف شمول أخبار الاستنجاء لهذا الفرد، خصوصاً بعد ملاحظة نجاسة الكُرّ و الجاري- و غيرهما من المياه المعتصمة بمجرّد التغيّر، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ المراد بالتغيّر- في المقام إنّما هو تغيّره بعد الانفصال عن المحلّ و الاجتماع في موضع واحد، و أمّا مجرّد تغيّر أوّل جزء منه الزائل بعد الاجتماع، أو قبل الوصول إلى المحلّ الذي يجتمع فيه ماء الاستنجاء، فلا يوجب النجاسة

______________________________

(1) المعتبر 1: 40، وسائل الشيعة 1: 135، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 9.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 231

أصلًا؛ لنُدرة فرض ما لو لم يتغيّر شي ء من أجزائه بوجه، فلو حمل الأخبار عليه يلزم طرحها غالباً.

طهارة ماء الاستنجاء من حيث هو

و منها: أنّ مقتضى الأدلّة المتقدّمة إنّما هو طهارة ماء الاستنجاء من حيث هو، فلا ينافيها الحكم بالنجاسة فيما لو كان المحلّ متنجّساً بنجاسة أُخرى داخليّة كانت أو خارجيّة؛ كانت ملاقاة المحلّ لها قبل انفعاله بالنجاسة التي يستنجي منها، أو معه أو بعده.

كما أنّه لا ينافي نجاسته لو لاقته نجاسة من الخارج؛ لأنّ الأدلّة متعرّضة لحكم هذا العنوان- عنوان ماء الاستنجاء فطهارته لا تستلزم الطهارة حتّى لو انطبق عليه بعض العناوين الموضوعة للحكم بالنجاسة، كغسالة الدم و نحوه. و هذا واضح جدّاً.

و لو خرج من المحلّ مع الغائط

بعض الأجسام الطاهرة فلا أثر له في نجاسة الماء؛ نظراً إلىٰ أنّ ملاقاة المحلّ لها ليست إلّا كملاقاته للمتنجّس الخارجي؛ و ذلك لعدم كون هذه الأشياء ملحوظة بنظر العرف، كما أنّه لو أصاب المحلّ جسم طاهر فتأثّر منه، فإنّ العرف لا يتعقّلون تأثيره في نجاسة المحلّ المتأثّر هو منه أوّلًا، نعم لو أصابه فتأثّر ثمّ رجع ثمّ أصابه ثانياً، فالظاهر تأثيره في نجاسة الماء؛ لصدق كونها نجاسة خارجيّة.

ثمّ إنّ ما ذكره بعضهم: من استثناء ما لو بقي عين النجس في الماء؛ بحيث يُرىٰ و يُشاهد بعد الانفصال «1»، لا نفهم له وجهاً، و تنزيله منزلة النجاسة

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 48.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 232

الخارجيّة الواصلة «1»، غير واضح بعد كون هذا الفرد من الأفراد المتعارفة، لا النادرة حتّى يُدّعى الانصراف.

ثمّ إنّه لو تعدّى النجاسة عن المحلّ؛ بحيث خرج عن صدق الاستنجاء، بل صدق عليه عنوان غسل النجاسة، فالظاهر النجاسة، كما لا يخفى وجهه.

استعمال ماء الاستنجاء في رفع الحدث و الخبث

و منها: لو قلنا بطهارة ماء الاستنجاء- كما هو الأقوىٰ فهل يجوز استعماله في رفع الخبث و الحدث معاً، أو في الأوّل دون الثاني، أو لا يجوز مطلقاً؟ فيه وجوه.

و لكن لا يخفى انصراف أدلّة الوضوء و الغسل- المشروعين لحصول التنظيف مقدّمة لعبادة المعبود جلّ شأنه عن الوضوء و الغسل بماء الاستنجاء، بل تنكر المتشرّعة على القائل به بحيث يجعلونه كالأحكام المبتدعة.

كما أنّه لا يبعد أن يقال: بانصراف الأدلّة الواردة في التطهير من النجاسات عن التطهير بمثل هذا الماء، فتدبّر.

______________________________

(1) مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 238.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 233

حول رفع الخبث و الحدث بالماء المستعمل في رفع الحدث

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و الماء المستعمل في الوضوء طاهر و مطهّر، و ما استعمل في رفع الحدث الأكبر طاهر و يرفع به الحدث» «1».

أقول: أمّا طهارة الماء المستعمل في رفع الحدث مطلقاً و جواز إزالة الخبث به، فمورد وفاق بين علمائنا «2». نعم حُكي «3» عن أبي حنيفة الحكم بنجاسة المستعمل في الوضوء نجاسة مغلّظة؛ حتّى لو كان في الثوب منه أكثر من قدر الدرهم لم تجز الصلاة به «4».

و كذلك لا إشكال و لا خلاف في جواز استعمال الماء المستعمل في الوضوء في رفع الحدث مطلقاً «5». نعم وقع الخلاف في جواز استعمال الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في رفع الحدث مطلقاً علىٰ قولين «6».

أدلّة المنع من رفع الحدث بالماء المستعمل في رفع الأكبر

و عُمدة ما يمكن أن يستدلّ به للقول بالمنع من الأخبار: رواية ابن سنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: لا بأس بأنّ يتوضّأ بالماء المستعمل، فقال: الماء الذي

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 8.

(2) السرائر 1: 61، نهاية الإحكام 1: 241، جامع المقاصد 1: 127، مدارك الأحكام 1: 126، مفتاح الكرامة 1: 87، جواهر الكلام 1: 358.

(3) الخلاف 1: 172، تذكرة الفقهاء 1: 34، جواهر الكلام 1: 359، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 336.

(4) المبسوط، السرخسي 1: 46.

(5) راجع ما تقدّم في الهامش 2.

(6) مدارك الأحكام 1: 126، جواهر الكلام 1: 361، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 338.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 234

يغسل به الثوب أو يغتسل به الرجل من الجنابة لا يجوز أن يتوضّأ منه و أشباهه، و أمّا الذي يتوضّأ الرجل به، فيغسل به وجهه و يده في شي ء نظيف، فلا بأس أن يأخذه غيره و يتوضّأ به «1».

و في السند- كما

مرّ سابقاً أحمد بن هلال، الذي قد تقدّم: أنّه ورد فيه الطعن برميه بالغلوّ تارة، و بالنصب اخرىٰ، بل ورد فيه اللعن من الناحية المقدّسة «2».

و تقدّم أيضاً: أنّ ما اعتمد عليه الشيخ الأعظم- في «كتاب الطهارة» في تصحيح سند الرواية من القرائن، لا يكاد يمكن الاعتماد عليه؛ لعدم تماميّة شي ء منها؛ لأنّ عمدتها ما حكاه عن ابن الغضائري: من أنّ الأصحاب لم يعتمدوا علىٰ روايات ابن هلال إلّا علىٰ ما يرويه من كتاب المشيخة لابن محبوب أو النوادر لابن أبي عمير مع استظهاره ان الرواية مأخوذة من كتاب المشيخة «3».

و لكن يرد عليه:- مضافاً إلىٰ أنّا لم نفهم وجه الاستظهار عدمُ حجّيّة قول الغضائري، و كونه طاعناً فيمن لا يطعن فيه غيره لا يوجب حجّيّة قوله، كما هو غير خفيّ.

و بالجملة: فالقرائن المذكورة في كلامه- المتقدّمة سابقاً غير تامّة من حيث القرينيّة.

و لكن الإنصاف: أنّه لو أُغمض النظر عن سند الرواية، تكون دلالتها على المنع في المقام ظاهرة، بتقريب: أنّ المراد من قوله (عليه السّلام)

الماء الذي يُغسل به

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 221/ 630، الإستبصار 1: 27/ 71، وسائل الشيعة 1: 215، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 13.

(2) تقدّم في الصفحة 218.

(3) تقدّم في الصفحة 218 220.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 235

الثوب

هو غسل الثوب من النجاسة الحاصلة فيه؛ فإنّ المنصرف من لفظ «الغسل» الوارد في الأخبار هو هذا المعنىٰ- و إن كان بحسب معناه اللغوي أعمّ منه و هذا بخلاف لفظ «المستعمل» في قوله

لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل

، فإنّه ليس له حقيقة خاصّة في اصطلاح الشرع، بل المراد معناه اللغوي.

و المراد من قوله

أو يغتسل به الرجل من

الجنابة

ظاهره الذي هو عبارة عن الماء المستعمل في رفع حدث الجنابة، لا ما يغسل به المنيّ؛ نظراً إلى الملازمة العاديّة بين حدوث الجنابة و نجاسة البدن بالمنيّ و اجتماع غسالتهما- نوعاً في مكان واحد.

و ذلك- مضافاً إلىٰ منع الملازمة لأنّ الحكم مترتّب علىٰ هذا العنوان؛ أي ما يستعمل في رفع حدث الجنابة، فمجرّد الملازمة لا يوجب صرف الحكم عنه إلىٰ عنوان آخر. و هذا واضح جدّاً.

مضافاً إلىٰ أنّه لو كان المراد غُسالة المنيّ لم يكن وجه لتخصيصه بالذكر، بعد ذكر غسالة النجاسات قبله، كما لا يخفى.

فحاصل مدلول الرواية: عدم جواز التوضّي بغسالة النجاسات، و لا بالماء المستعمل في رفع حدث الجنابة أو ما يعمّها- بناءً علىٰ أن يكون قوله: «و أشباهه» معطوفاً على الضمير المجرور في قوله: «يتوضّأ منه» حتّى يكون مكسوراً و أمّا التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء- إذا اجتمع في محلّ نظيف لم يكن نجساً فهو جائز صحيح، و فيه إشعار علىٰ خلاف ما زعمه أبو حنيفة من نجاسة ماء الوضوء كما تقدّم. فتصير الرواية- بناءً علىٰ ما ذكر متعرّضة لحكم ثلاث مسائل:

التوضّي بغُسالة النجاسات، و بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر،

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 236

و بالماء المستعمل في الوضوء.

فالإنصاف: أنّ دلالة الرواية على المنع- في مسألتنا تامّة، إلّا أنّك عرفت ضعف سندها؛ بحيث لا يجوز الاعتماد عليها بوجه.

و قد يستدلّ أيضاً بأخبار أُخر

منها: رواية ابن مسكان، قال: حدّثني صاحب لي ثقة: أنّه سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل ينتهي إلى الماء القليل في الطريق، فيريد أن يغتسل و ليس معه إناء، و الماء في وَهْدة، فإن هو اغتسل رجع غسله في الماء، كيف يصنع؟ قال

ينضح بكفّ بين يديه، و كفّاً

من خلفه، و كفّاً عن يمينه، و كفّاً عن شماله، ثمّ يغتسل «1».

فإنّ الظاهر من تقرير الإمام (عليه السّلام) و أمره بالنضح- الذي هو مانع من رجوع الغُسالة إلى الماء؛ لأنّ الظاهر أنّ المراد بالنضح هو النضح على الأرض، لا على البدن، و النضح على الأوّل يوجب رطوبتها، و هي تمنع من جريان الماء على الوَهْدة أنّ دخول الماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر في الماء الذي يغتسل منه مانع عن صحّة الغسل به.

و لكن دلالة الرواية على المنع غير واضحة؛ لعدم الدليل علىٰ أنّ المحذور الذي قرّره الإمام (عليه السّلام)، هي حرمة الاستعمال، فلعلّ السائل يرىٰ كراهته.

و يؤيّده: وضوح أنّ العلاج بما ذُكر مبنيّ على المسامحة.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 417/ 1318، الاستبصار 1: 28/ 72، المستطرفات، ضمن السرائر 3: 555، المعتبر 1: 88، وسائل الشيعة 1: 217، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 10، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 237

هذا مضافاً إلىٰ أنّه يمكن أن يكون ما توهّمه السائل، محذورَ غُسالة النجاسة؛ لاشتمال بدن الجنب عليها غالباً.

كما أنّه غير خفيّ أنّ النضح بالأكفّ، لا يصير مانعاً عن جريان الماء مطلقاً لو سلّم أصل المانعيّة، فالظاهر أنّ استحبابه نفسيّ، كما ورد في بعض الأخبار الأمر به أيضاً «1».

و منها: رواية حمزة بن أحمد، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام)، قال: سألته أو سأله غيري عن الحمّام؟ قال

ادخله بمئزر، و غضّ بصرك، و لا تغتسل من البئر التي تجتمع فيها ماء الحمّام، فإنّه يسيل فيها ما يغتسل به الجنب، و ولد الزنا، و الناصب لنا أهل البيت، و هو شرّهم «2».

فإنّ الظاهر أنّ كلّ واحد من الثلاثة مستقلّ في النهي عن الاغتسال

به.

و لكن يرد على الاستدلال بها- مضافاً إلىٰ جهالة بعض الرواة «3» أنّه لا يتمّ مع اشتمالها على النهي عن الاغتسال بغسالة ولد الزنا؛ لقيام الإجماع علىٰ طهارته «4»، فالواجب حمل النهي على الكراهة، مضافاً إلىٰ عدم خُلُوّ غُسالة الجُنُب- غالباً عن غُسالة نجاسة بدنه.

______________________________

(1) الكافي 3: 3/ 1، تهذيب الأحكام 1: 408/ 1283، وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 10، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 1: 373/ 1143، وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 11، الحديث 1.

(3) رواها الشيخ بإسناده، عن محمّد بن علي بن محبوب، عن عدّة من أصحابنا، عن محمّد بن عبد الحميد، عن حمزة بن أحمد. و حمزة بن أحمد مجهول.

انظر رجال الطوسي: 335/ 13.

(4) جواهر الكلام 6: 68.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 238

و منها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) عليهما السلام، قال: سألته عن ماء الحمّام، فقال

ادخله بإزار، و لا تغتسل من ماء آخر إلّا أن يكون فيهم جُنُب أو يكثر أهله فلا يدرى فيهم جنب أم لا «1».

بتقريب: أنّ النهي في المستثنىٰ منه لا يدلّ على الحرمة؛ حتّى يكون الاستثناء منها دليلًا علىٰ جواز المستثنىٰ؛ للقطع بعدم حرمة الاغتسال من ماء آخر.

و توجيه النهي: بأنّه منافٍ للتقيّة، يدفعه الاستثناء؛ لأنّ التقيّة لا استثناء فيها.

و أنت خبير: بأنّه- مضافاً إلىٰ أنّ عطف صورة الشكّ علىٰ صورة العلم، يدلّ علىٰ عدم حرمة الاغتسال بماء الحمّام؛ للإجماع علىٰ جواز الاغتسال بغُسالة المشكوك جنابته يكون النهي لاشتمال بدن الجُنُب على النجاسة غالباً.

و يمكن أن يستدلّ على المنع أيضاً: برواية الفضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في الرجل

الجُنُب يغتسل فينتضح من الماء في الإناء؟ فقال

لا بأس مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2».

فإنّ انتضاح الماء في الإناء يعمّ بإطلاقه صورة الانتضاح من البدن إليه من دون توسّط الأرض أيضاً، و حينئذٍ فتعليل نفي البأس بعدم مجعوليّة الحرج في الدين، يدلّ علىٰ أنّ القطرة أو القطرات المنتضحة في الإناء، كانت مُقتضية لعدم

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 379/ 1175، وسائل الشيعة 1: 149، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 5.

(2) الكافي 3: 13/ 7، تهذيب الأحكام 1: 86/ 224، وسائل الشيعة 1: 212، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 9، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 239

جواز الاستعمال من الماء الموجود في الإناء، إلّا أنّه مرفوع للزوم الحرج، فيدلّ علىٰ أنّ الماء المستعمل لو كان جارياً في الإناء لا يجوز الاغتسال به أصلًا، و القائل بالمنع أيضاً يقول باستثناء القطرة و القطرات، كما سيأتي «1».

و الذي يوهن التمسّك بالرواية: أنّ هذه الرواية رواها الشيخ (قدّس سرّه) بعينها عن فضيل بن يسار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «2»، إلّا أنّه ذكر فيها بدل «ينتضح من الماء» «ينتضح من الأرض»، و حينئذٍ فتعليل نفي البأس بنفي الحرج، إنّما هو لاحتمال نجاسة الأرض، فيصير مدلول الرواية: أنّ النكتة في الحكم بطهارتها في مورد الشكّ، إنّما هو لزوم الحرج، فالرواية- حينئذٍ أجنبيّة عن المقام.

أدلّة جواز رفع الحدث بالماء المستعمل في رفع الأكبر

ثمّ إنّ من أدلّة القائلين بالجواز: صحيحة عليّ بن جعفر، عن أبي الحسن الأوّل (عليه السّلام)، قال: سألته عن الرجل يصيب الماء في ساقية أو مستنقع، أ يغتسل منه للجنابة، أو يتوضّأ منه للصلاة؟ إذا كان لا يجد غيره، و الماء لا يبلغ صاعاً للجنابة، و لا

مدّاً للوضوء، و هو متفرّق، فكيف يصنع، و هو يتخوّف أن تكون السباع قد شربت منه؟ فقال

إن كانت يده نظيفة فليأخذ كفّاً من الماء بيد واحدة فلينضحه خلفه، و كفّاً أمامه، و كفّاً عن يمينه، و كفّاً عن شماله، فإن خشي أن لا يكفيه غسل رأسه ثلاث مرّات ثمّ مسح جلده بيده، فإنّ ذلك يجزيه، و إن كان الوضوء غسل وجهه، و مسح يده علىٰ ذراعيه و رأسه

______________________________

(1) يأتي في الصفحة 244.

(2) تهذيب الأحكام 1: 86/ 225.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 240

و رجليه، و إن كان الماء متفرّقاً فقدر أن يجمعه، و إلّا اغتسل من هذا و من هذا، و إن كان في مكان واحد و هو قليل لا يكفيه لغسله، فلا عليه أن يغتسل، و يرجع الماء فيه، فإنّ ذلك يجزيه «1».

فإنّ قوله (عليه السّلام) في ذيل الرواية

فلا عليه أن يغتسل ..

إلىٰ آخره، يدلّ علىٰ كفاية الاغتسال بالماء و لو رجع فيه غُسالة بعض الأعضاء، كما لا يخفى.

و لكن دلالة الرواية على المنع و الاستدلال بها عليه، أوضح من دلالة سائر روايات المنع، و أولى منها للاستدلال بها عليه، فإنّ حكمه (عليه السّلام) بالنضح باليد إلى الجهات الأربع، ليس إلّا لعلاج رجوع الماء المستعمل فيه، و هو لا ينافي الحكم بالإجزاء في الذيل، فإنّ ذلك يختصّ بحال الضرورة. فالرواية تدلّ على المنع كسائر ما يدلّ عليه بل أوضح منها، كما عرفت.

هذا، و لكنّ الإنصاف: أنّ النضح ليس لعلاج رجوع الماء؛ بتقريب: أنّ رشّ الأرض يوجب سرعة جذب الماء، فإنّ ذلك مخالف للوجدان قطعاً، فإنّ رشّها لو لم يكن مانعاً عن جذب الماء، لا يكون موجباً للسرعة ضرورةً، و كذلك النضح

ليس نضحاً على البدن- كما قيل «2» فإنّ ذلك منافٍ للأمر به في الوضوء أيضاً، كما في رواية الكاهلي، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول

إذا أتيت ماء و فيه قلّة، فانضح عن يمينك و عن يسارك و بين يديك و توضّأ «3».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 367/ 1115، و: 416/ 1315، وسائل الشيعة 1: 216، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 10، الحديث 1.

(2) ذكرى الشيعة 1: 103، انظر الحدائق الناضرة 1: 463.

(3) الكافي 3: 3/ 1، تهذيب الأحكام 1: 408/ 1283، وسائل الشيعة 1: 218، كتاب الطهارة، أبواب الماء المضاف، الباب 10، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 241

و لا يخفىٰ أنّ هذه الرواية تدلّ علىٰ بطلان التقريب الأوّل أيضاً، فإنّ النضح لو كان علاجاً لرجوع الماء المستعمل الذي لا يجوز الاغتسال به، لكان اللازم أن يختصّ بما إذا أُريد الاغتسال و أمّا إذا أُريد التوضّي فلا؛ إذ لم يقل أحد بعدم جواز التوضّي بالماء المستعمل في الوضوء.

و الذي تحصّل لنا- بعد التأمّل و التتبّع في الأخبار التي سيجي ء بعضها أنّ النضح إنّما هو لأجل الشكّ في نجاسة الأرض، فهو نظير الغسل في مقطوع النجاسة، كما يظهر بالتتبّع في الأخبار التي تدلّ على الغسل في مورد العلم بالنجاسة، و النضح في موضع الشكّ فيها:

منها: رواية محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن أبوال الدوابّ و البغال و الحمير؟ فقال

اغسله، فإن لم تعلم مكانه فاغسل الثوب كلّه، فإن شككت فانضحه «1».

و منها: رواية علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله، فذكر و هو في

صلاته كيف يصنع به؟ قال

إن كان دخل في صلاته فليمض، و إن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلّا أن يكون فيه أثر فيغسله «2».

و غيرهما من الأخبار «3» التي تظهر للمتتبّع.

______________________________

(1) الكافي 3: 57/ 2، تهذيب الأحكام 1: 264/ 771، الإستبصار 1: 178/ 620، وسائل الشيعة 3: 403، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 7، الحديث 6.

(2) مسائل عليّ بن جعفر: 348/ 858، الكافي 3: 61/ 6، تهذيب الأحكام 1: 261/ 760، وسائل الشيعة 3: 417، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 13، الحديث 1.

(3) الكافي 3: 54/ 4، تهذيب الأحكام 1: 252/ 728، وسائل الشيعة 3: 424، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 16، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 242

و بالجملة: فلا يكاد يُرتاب بعد التأمّل و التتبّع، أنّ النضح إنّما يستحبّ في موارد الشكّ في النجاسة.

و عليه: فالحكم بالنضح في الرواية في المقام، لا يدلّ علىٰ عدم جواز الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث، بل نقول إنّ: التأمّل في السؤال، يقضي بأنّ السؤال إنّما هو عن نجاسة الماء الموجود في الساقية أو المستنقع؛ من حيث احتمال شرب السباع منه، و لا ارتباط له بمسألة غُسالة الجُنُب أصلًا، فحكم الإمام (عليه السّلام) بالنضح، إنّما هو لأجل عدم عروض النجاسة الاحتماليّة للماء؛ برجوع المياه الملاقية للأرض المشكوكة الطهارة إليه، فهو مستحبّ تعبّدي في موارد الشكّ.

فالحكم بالإجزاء في الذيل مع عدم النضح و رجوع الماء، إنّما يدلّ علىٰ أنّ استحباب النضح الرافع للقذارة المحتملة، إنّما هو فيما إذا تمكّن من الاغتسال بالماء بعد النضح، و أمّا في مورد عدم الكفاية مع النضح فلا يستحبّ.

فالإنصاف: تماميّة دلالة الرواية على الجواز؛ إذ

لو كان الاغتسال بالماء المستعمل في رفع الحدث الأكبر محظوراً و ممنوعاً شرعاً، لكان الواجب على الإمام (عليه السّلام) أن يبيّنه، و مع عدم البيان و ترك الاستفصال يفهم الجواز قطعاً.

ثمّ إنّه قد يستدلّ «1» على الجواز أيضاً: بصحيحة محمّد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الحمّام يغتسل فيه الجنب و غيره أغتسل من مائه؟ قال

لا بأس أن يغتسل منه الجنب، و لقد اغتسلت فيه و جئت فغسلت رجلي، و ما

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 348.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 243

غسلتهما إلّا ممّا لزق بهما من التراب «1».

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 243

و لكن لا يخفى ما في دلالتها، فإنّ الظاهر أنّ الغسل إنّما هو في خارج الحياض الصغيرة، و المياه المنتضحة منه إليها لا يوجب المنع عن الاغتسال بما فيها؛ لأنّ المانع أيضاً يلتزم بالجواز في هذه الصورة.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ الظاهر كون مقصود السائل نجاسة الماء بمباشرة الجُنُب، و لذا بيّن الإمام (عليه السّلام): أنّ الوجه في غسل رجليه إنّما هو التراب الملصق بهما لا النجاسة، فيكون المراد بنفي البأس نفي النجاسة، كما لا يخفى.

نتيجة البحث

فتحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الأقوىٰ هو القول بالجواز، لدلالة صحيحة علي بن جعفر المتقدّمة «2»، و قد عرفت أنّ أدلّة المانعين، بين ما لا يجوز الاعتماد عليه لضعف السند و إن تمّت دلالته، كالرواية الأُولى التي كان في سندها أحمد بن هلال، و بين ما لا تتمّ دلالته و إن كان موثوقاً به من حيث

السند، كأكثر الروايات المتقدّمة.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ مقتضى الأصل و الإطلاقات الجواز أيضاً، لكنّ الأحوط الاجتناب.

ثمّ إنّه لو قلنا بالمنع فلا إشكال في اختصاصه بما إذا اغتسل بالماء القليل، الذي يصدق عليه عرفاً أنّه اغتسل به الرجل لا فيه، فلا إشكال فيما لو اغتسل

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 378/ 1172، وسائل الشيعة 1: 148، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 7، الحديث 2.

(2) تقدّم في الصفحة 239.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 244

في الماء الكثير أو في القليل؛ بحيث يصدق عرفاً أنّه اغتسل فيه، و إن كان يصدق علىٰ كلّ ما اغتسل فيه أنّه اغتسل به بحسب اللغة، و لكن العرف يفرّق بينهما و المدار عليه، فكلّ ماء صدق عليه أنّه اغتسل به الرجل، فلا يجوز استعماله في رفع الحدث مطلقاً؛ لأنّ النهي عن التوضّي و أشباهه، إنّما هو عن هذا الماء، كما في رواية ابن سنان المتقدّمة «1».

و من هنا يظهر: أنّه لا بأس بالقطرات المنتضحة من بدن الجُنُب أو من الأرض في ماء آخر؛ لأنّه لا يصدق عليها أنّها اغتسل بها الرجل بعد استهلاكها في ذلك الماء، بل لا اختصاص لذلك بالقطرات، فكلّ مقدار يسير منه إذا اختلط مع ماء كثير؛ بحيث يُعدّ معدوماً بنظر العرف، فلا إشكال فيه.

بل يمكن أن يقال: إنّه لو امتزج الماء المستعمل- في رفع الحدث الأكبر مع ماء مساوٍ له من حيث المقدار أو أنقص في الجملة، فيجوز استعمال المجموع الممتزج في رفع الحدث؛ لأنّك عرفت أنّ النهي إنّما هو عن استعمال الماء الذي اغتسل به الرجل، و من المعلوم أنّ هذا العنوان لا يصدق على المجموع المختلط، فيدخل ذلك في عموم قوله (عليه السّلام) في صدر

الرواية

لا بأس بأن يتوضّأ بالماء المستعمل «2»

فيجوز استعماله في رفع الحدث مطلقاً.

و لكنّه لا يخفى أنّ العنوان المنهيّ عنه؛ و إن لم يصدق على المجموع المختلط من الماءين اللذين كان أحدهما مستعملًا في رفع الحدث الأكبر، إلّا أنّه لا إشكال في صدقه على الماء الذي كان كذلك؛ لأنّ المفروض وجوده بين المجموع و عدم كونه مستهلكاً؛ لامتناع استهلاك الشي ء فيما هو من جنسه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 233.

(2) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 245

و حقيقته- كما حقّق في محلّه و الاستهلاك العرفي الذي مرجعه إلىٰ كونه مفروض العدم لقلّته- مثلًا مُنتفٍ في المقام، كما هو المفروض، فلا محالة يصدق عليه ذلك العنوان، فلا يجوز الاغتسال و التوضّي به، فتدبّر.

ثمّ إنّ الظاهر عدم جواز التوضّي و أمثاله بالماء المستعمل في غسل بعض الأعضاء و إن لم يكن سبباً لرفع الجنابة؛ بأن كان مستعملًا في غسل العضو الأخير، الذي يتمّ الغسل به و ترتفع الجنابة؛ لأنّ الظاهر من موضوع النصّ- الذي هو عبارة عن الماء الذي يغتسل به الرجل هو الماء المستعان به في رفع الجنابة؛ بأن كان جزءاً لسبب الرفع و إن لم يكن جزءاً أخيراً له، كما أنّ الظاهر أن يكون المراد بالاغتسال المأخوذ في موضوع النصّ، هو الغسل الصحيح، فالاستعمال في الغسل الفاسد لا يوجب حرمة استعماله في رفع الحدث، كما هو غير خفيّ.

ثمّ إنّه لو استعمل الماء الذي يغتسل به الرجل قبل انفصاله عن بدنه، كما إذا وضع يده علىٰ بدن المغتسل حتّى يجري الماء منه عليه، فيحصل غسل اليد، فالظاهر عدم الجواز؛ لأنّه يصدق عليه استعمال الماء الذي اغتسل به الرجل، كما أنّ الظاهر عدم جواز استعمال المغتسل

نفسه الماء، المنفصل عن بعض الأعضاء في غسل البعض الآخر؛ و إن لم يصل إلى الأرض، كما إذا وضع يده تحت رأسه؛ حتّى يجتمع فيها الماء المستعمل في غسل الرأس، فيستعين به في غسل غيره.

و بالجملة: فملاك جميع ما ذكرنا هو صدق موضوع النصّ و عدمه؛ سواء فيه المغتسل و غيره، كما أنّه لا فرق في الأوّل بين استعمال المستعمل في ذلك الغسل أو في غيره من وضوء أو غسل آخر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 247

الأسآر

معنى السؤر

و ليعلم أنّ كلمات اللغويّين في معنى السؤر مختلفة: فيظهر من بعضهم الاختصاص ببقيّة الشرب «1»، و عن بعضهم الشمول لبقيّة الطعام «2»، و عن ثالث مطلق البقيّة «3».

و الظاهر- كما يساعد عليه العرف أنّها عبارة عن بقيّة المائعات بلا اختصاص بالماء مع المباشرة غير خالية عن السراية بنظر العرف، بل يمكن دعوى شموله للجامدات الرطبة، كالرطب إذا باشر بعض أطرافه؛ لأنّها أيضاً لا تخلو عن السراية بنظرهم.

و كيف كان، فالظاهر أنّ مورد البحث هنا هي الأحكام المترتّبة على السؤر بما أنّه سؤر، لا بما أنّه ماء قليل ملاقٍ لذي السؤر، فيترتّب عليه حكمه من حيث الطهارة و النجاسة.

______________________________

(1) الصحاح 2: 675.

(2) لسان العرب 6: 132.

(3) القاموس المحيط 2: 44.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 248

فنجاسة سؤر الكلب و نظائره خارجة عن موضوع البحث في المقام؛ لأنّ نجاسته ليست إلّا لكونه ملاقياً لنجس العين، لا لكونه سؤر لها.

حول التلازم بين طهارة السؤر و جواز استعماله في الوضوء و الشرب

إذا عرفت هذا فنقول: ذهب المشهور إلىٰ ثبوت التلازم بين طهارة السؤر التابعة لطهارة ذي السؤر- كما هو المشهور، بل المتّفق عليه «1» و بين جواز استعماله في الوضوء و الشرب و نحوهما «2»، خلافاً للشيخ (قدّس سرّه) في «المبسوط» «3»، و الحلّي في «السرائر» «4» و صاحب «المهذّب» «5»؛ حيث أنكروا الملازمة بين الطهارة و جواز الاستعمال، فمنعوا استعمال سؤر ما لا يؤكل لحمه- من حيوان الحضر غير الآدمي و الطيور إلّا ما لا يمكن التحرّز عنه، كالهرّة و الفأرة و نحوهما.

و مستندهم في ذلك: موثّقة عمّار بن موسى، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سئل عمّا تشرب منه الحمامة؟ فقال

كلّ ما أُكل لحمه فتوضّأ من سؤره و اشرب.

و عن ماء شرب منه

باز أو صقر أو عقاب؟ فقال

كلّ شي ء من الطير يتوضّأ ممّا يشرب منه إلّا أن ترى في منقاره دماً، فإن رأيت في منقاره دماً فلا توضّأ منه و لا تشرب «6».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 82/ السطر 6، جواهر الكلام 1: 368، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 371.

(2) انظر جواهر الكلام 1: 368.

(3) المبسوط 1: 10.

(4) السرائر 1: 85.

(5) المهذّب 1: 25.

(6) الكافي 3: 9/ 5، تهذيب الأحكام 1: 228/ 660، الإستبصار 1: 25/ 64، وسائل الشيعة 1: 230، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 4، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 249

فإنّ مفهوم قوله (عليه السّلام)

كلّ ما أُكل لحمه ..

إلىٰ آخره- بناءً على القول بمفهوم الوصف أو المبتدأ المتضمّن معنى الشرط هو عدم جواز التوضّي و الشرب بكلّ ما لا يؤكل لحمه؛ لأنّ العلّة المنحصرة للجواز- بناء علىٰ هذا كونه سؤراً للمأكول فإذا انتفى انتفى الجواز، و إلّا لزم خلاف ما هو المفروض من العلّيّة المنحصرة.

و لكن قد عرفت سابقاً إنكار دلالة القضيّة الشرطية على المفهوم، فضلًا عن القضيّة الوصفيّة «1»، و علىٰ تقدير القول بها فمن الواضح أنّ مفهوم الموجبة الكلّيّة هي السالبة الجزئيّة.

و ما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) من انحلال القضيّة إلىٰ قضايا متعدّدة، فيصير مفهوم الموجبة الكلّيّة السالبة الكلّيّة «2».

قد عرفت ما فيه: من منع الانحلال المستلزم للتعليقات المتعدّدة حسب تعدّد الأفراد، المستلزمة لثبوت العلّيّة لكلّ واحد منها «3»، فإنّ من الواضح أنّه ليس في البين إلّا تعليق واحد، غاية الأمر أنّ المعلّق عامّ و ذلك لا يوجب كثرة التعليق المستفاد منه المفهوم، كما هو واضح.

و من هنا يظهر: أنّ تسليم المفهوم علىٰ نحو السالبة الكلّيّة، و الاستشكال في

الاستدلال؛ من طريق ضعف سند الرواية و لزوم تخصيص الأكثر- كما يظهر من الشيخ (قدّس سرّه) في «كتاب الطهارة» «4» ليس بصحيح، فإنّك عرفت أنّ المفهوم هنا

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 201.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 318.

(3) تقدّم في الصفحة 203.

(4) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 372.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 250

هي السالبة الجزئيّة، مضافاً إلىٰ كون الرواية موثوقاً بها لوثاقة رواته. نعم الإشكال بلزوم تخصيص الأكثر حقّ لا محيص عنه.

ثمّ إنّه أجاب عن الاستدلال في «المصباح» بما حاصله: منع دلالة الرواية على المفهوم، و لذا لم يفهم السائل من كلامه (عليه السّلام) حكم كلّ ما لا يؤكل لحمه، فسأله بعد ذلك عن ماءٍ شرب منه باز .. إلىٰ آخره، فأجابه بقوله (عليه السّلام)

كلّ شي ء من الطير ..

إلىٰ آخره، فلو كان لجوابه الأوّل مفهوم عامّ لكان بين الجوابين معارضة، مع أنّ الناظر إليهما لا يلتفت إلى المعارضة أصلًا. نعم يفهم من تقييد الموضوع في مقام إعطاء القاعدة: أنّ جواز التوضّي و انتفاء البأس في أفراد غير المأكول غير مطّرد؛ لأنّ هذا هو النكتة الظاهرة التي تنسبق إلى الذهن في مثل المقام، و أمّا ظهورها في العلّيّة المنحصرة فلا «1». انتهىٰ.

و لكن لا يخفى على الناظر في الرواية أنّ الظاهر تعدّد السؤال، و يمكن أن يكون السائل أيضاً متعدّداً، بل الظاهر كونه كذلك، فإنّ الراوي إنّما نقل السؤال و الجواب الواقعين بين الإمام (عليه السّلام) و الأشخاص المتعدّدين متعاقبَين، و ليس ذلك دليل علىٰ ترتّب السؤال من شخص واحد أو من أشخاص، و لذا زاد في الرواية- علىٰ ما نقله الشيخ قوله: و سئل عن ماء شربت منه الدجاجة؟ قال

إن

كان في منقارها قذرٌ لم يُتوضَّأ منه و لم يُشرب، و إن لم يعلم أنّ في منقارها قذراً توضّأ منه و اشرب «2»

، فإنّه لو كان السائل واحداً، و كان السؤال في مجلس واحد، لم يكن وجه للسؤال عن ماء شربت منه الدجاجة، بعد حكم الإمام (عليه السّلام) بجواز الوضوء و الشرب من سؤر كلّ ما يؤكل لحمه، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه ممّا ذكرنا يظهر: عدم صحّة الاستدلال بصحيحة عبد اللّٰه

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 356.

(2) الإستبصار 1: 25/ 64.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 251

ابن سنان «1»، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

لا بأس أن تتوضّأ ممّا شرب منه ما يؤكل لحمه «2».

فإنّه يرد على الاستدلال بها:- مضافاً إلىٰ جميع ما يرد على الاستدلال بالرواية المتقدّمة أنّ ثبوت البأس أعمّ من الحرمة، كما هو غير خفيّ.

هذا كلّه مضافاً إلىٰ دلالة الأخبار الكثيرة علىٰ جواز استعمال سؤر غير المأكول «3»، و أنّ حرمة سؤر الكلب لكونه رجساً نجساً- كما في بعضها «4» فالأقوىٰ ما ذهب إليه المشهور.

تتمّة: حول اعتبار احتمال التطهير الشرعي في الحكم بطهارة السؤر

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و يكره سؤر الجلّال، و سؤر ما أكل الجيف؛ إذا خلا موضع الملاقاة من عين النجاسة» «5».

أقول: لا إشكال في نجاسة السؤر مع عدم خُلوّ الجزء الملاقي من الحيوان للماء من النجاسة العينيّة. كما أنّه لا إشكال في الطهارة مع الشكّ فيها، أو مع العلم و احتمال حصول مطهّر شرعيّ.

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 1: 356.

(2) الكافي 3: 9/ 1، تهذيب الأحكام 1: 224/ 642، وسائل الشيعة 1: 231، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 5، الحديث 1.

(3) الكافي 3: 9/ 4، الفقيه 1: 8/ 11، تهذيب الأحكام 1:

225/ 644 و 647، و: 227/ 649 و 653 و 654، الاستبصار 1: 18/ 39، و: 19/ 41، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 6، و: 227، الباب 2.

(4) تهذيب الأحكام 1: 225/ 646 و 647، الاستبصار 1: 19/ 40 و 41، وسائل الشيعة 1: 226، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 1، الحديث 4 و 6.

(5) شرائع الإسلام 1: 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 252

إنّما الكلام و الإشكال فيما إذا علم عدمه- أي عدم حصول مطهّر شرعيّ فالمحكيّ عن «نهاية» العلّامة اعتبار احتمال حصول التطهير الشرعي في الحكم بالطهارة، خلافاً للأكثر «1».

أدلّة عدم اعتبار حصول مطهّر شرعيّ

و قد يستدلّ «2» لعدم الاعتبار بموثّقة عمّار المتقدّمة «3»، الدالّة علىٰ أنّ حرمة التوضّي و الشرب تدور مدار رؤية الدم في منقاره، فلو لم يُرَ الدم- سواء كان موجوداً فزال أم لم يكن، و سواء علم في الأوّل بعدم حصول التطهير أم لم يعلم يجوز التوضّي و الشرب.

و لكن لا يخفى أنّ الظاهر كون الرواية متعرّضة لحكم صورتي الشكّ و العلم؛ بمعنى أنّ الشكّ ليس كالعلم، بل يجوز الاستعمال معه، لا لحكم الرؤية الفعليّة و عدمها، فالرواية إنّما تكون في مقام بيان أنّ الشكّ في القذارة، لا يؤثّر في وجوب التحرّز و الاجتناب، بخلاف العلم، و منه يعلم أنّه لا دلالة في الزيادة التي نقلها الشيخ علىٰ ذلك «4»، فإنّ الظاهر كونها أيضاً مسوقة لبيان حكم الصورتين و اختلافهما.

تحقيق المقام

و الإنصاف: أنّ عموميّة الحكم و شموله لصورة العلم بعدم حصول مطهّر شرعي، واضح ضروريّ لا يحتاج في الاستناد له إلىٰ مثل رواية عمّار، بل

______________________________

(1) نهاية الإحكام 1: 239، مصباح الفقيه، الطهارة 1: 360.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 375.

(3) تقدّمت في الصفحة 248.

(4) الإستبصار 1: 25/ 64.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 253

يستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة، و السيرة المستمرّة من زمان النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلىٰ يومنا هذا.

الاستدلال بالأخبار على المقام

أمّا الأخبار:

فمنها: ما وردت في عدم وجوب التحرّز و الاجتناب عن أبوال ما يؤكل لحمه، و عدم وجوب غسل ملاقيه «1»، مع أنّ من الواضح ملاقاة محلّها للنجاسة، مثل المنيّ و غيره، و العلم بعدم حصول مطهّر شرعي.

و دعوىٰ: أنّها واردة في مقام بيان حكم أبوال ما يؤكل لحمه؛ من حيث إنّها بول، فلا ينافي النجاسة من حيثيّة أُخرى.

يدفعها: أنّ الظاهر كونها في مقام بيان الحكم الفعلي، فثبوت النجاسة من جهة أُخرى ينافيه.

و منها: ما وردت في حكم المائع الذي وقعت فيه الفأرة و خرجت حيّة؛ من الأخبار الدالّة علىٰ عدم انفعاله بمجرّد ذلك «2»، مع أنّ الفأرة لا تخلو من نجاسة بعض أجزائها دائماً، و لا أقلّ من نجاسة مخرج بولها و غائطها، و من المعلوم أنّ احتمال حصول التطهير منتفٍ في مثل الفأرة قطعاً.

و غيرهما من الأخبار الكثيرة الواردة في سائر الأبواب، التي يستفاد منها ذلك بنحو الوضوح.

______________________________

(1) الكافي 3: 57/ 1 و 2، و: 58/ 10، تهذيب الأحكام 1: 246/ 710، و: 264/ 771، وسائل الشيعة 3: 470، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 9، الحديث 2 و 4 و 5.

(2) تهذيب

الأحكام 1: 238/ 690، الإستبصار 1: 24/ 59، وسائل الشيعة 1: 240، كتاب الطهارة، أبواب الأسآر، الباب 9، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 254

الاستدلال بالسيرة على المقام

و أمّا السيرة: فإنّا نرىٰ بالوجدان عدم تحرّز المتشرّعة عن الهرّة الآكلة للفأرة، و لم يكونوا يتفحّصون عن تطهير فمها، بل ربما يُعدّ من كان سائلًا عن ذلك من المجانين.

و كذا نرىٰ بالوجدان عدم تحرّزهم عن الحيوان المتولّد من امّه المتلوّث بدم الولادة و لا يطهّرونه بعدها.

كما أنّه لو عرض علىٰ دابّتهم جرح موجب لتلطّخ بعض أجزائه بالدم، لا يطهّرون ذلك الموضع بعد حصول البُرْء، و غير ذلك من الموارد الكثيرة.

و بالجملة: فالظاهر أنّ هذا الحكم لا يحتاج إلىٰ تكلّف إقامة الدليل عليه؛ لكونه من الأحكام الضروريّة التي لا يكاد يرتاب فيها من تتبّع تلك الأخبار، و راجع سيرة المتشرّعة، خصوصاً أهل الحجاز الذين كان اختلاطهم مع الدوابّ أكثر من غيرهم.

حول تنجّس الحيوان بملاقاة النجاسة

نعم يقع الكلام بعد ذلك: في أنّ الحيوان هل يتنجّس بملاقاة النجاسة، غاية الأمر أنّ زوال العين مطهّر له، أو أنّه لا يتنجّس أصلًا، بل المنجّس إنّما هي نفس عين النجاسة ما دامت في بدنه، كالبواطن التي لا تتأثّر بالملاقاة؟ وجهان:

قد يقال بالثاني «1» نظراً إلىٰ قصور أدلّة النجاسات عن الشمول لمثل النجاسة العارضة على الحيوان.

______________________________

(1) العروة الوثقى 1: 144 145، مستمسك العروة الوثقى 2: 131.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 255

و لكن لا يخفى أنّ هذه القاعدة- و هي قاعدة «كلّ نجس منجّس» قاعدة كلّيّة متخذة من الأخبار الواردة في الموارد الجزئيّة بإلغاء الخصوصيّة، فإنّه إذا حكم الإمام (عليه السّلام) بغسل الثوب عن الدم- مثلًا لا يخطر بالذهن أنّ هذا حكم يختصّ بالثوب، و لا يشمل غيره، بل السائل عن حكم الثوب، إنّما يسأل في الواقع عن حكم ملاقي الدم، و ذكر الثوب في سؤاله إنّما هو علىٰ سبيل المثال، و لذا

لا يشكّ أصلًا في حكم اليد الملاقية له؛ بحيث يحتاج إلى السؤال ثانياً.

و بالجملة: فالمستفاد من كلّ واحد من هذه الأخبار الواردة في الموارد الجزئيّة- بعد إلغاء الخصوصيّة عند العرف قطعاً: أنّ كلّ نجس ينجّس ملاقيه من دون فرق بين الحيوان و غيره.

و توهّم: أنّه كما تلتقط هذه القاعدة من الأخبار، كذلك يستفاد منها قاعدة كلّيّة اخرىٰ: و هي أنّ المطهّر للنجاسات الغسل بالماء، فالأمر في المقام دائر بين تخصيص هذه القاعدة، أو قاعدة «كلّ نجس منجّس»، و لا ترجيح للأوّل على الثاني أصلًا.

مدفوع: بأنّ مأخذ هذه القاعدة المدّعاة: أمّا الأدلّة الواردة في وجوب غسل النجاسات بالماء؛ بتقريب: أنّه كما يستفاد من الحكم على الثوب الملاقي للدم بوجوب الغسل، أنّه لا يختصّ بالثوب بل يعمّ غيره، كذلك يُستفاد من وجوب غسله أنّ الغسل لا يختصّ بالثوب، بل هو حكم لمطلق ملاقي النجس.

ففيه: أنّ الظاهر كون تلك الأدلّة في مقام بيان النجاسة، و أنّ زوالها يحتاج إلىٰ علاج شرعيّ، و ليست في مقام بيان تحديد العلاج و الحكم بانحصار المطهّر بالغسل بالماء، و لذا لو ورد دليل آخر علىٰ أنّ العلاج يحصل بكيفيّة اخرىٰ، فلا يعارض تلك الأخبار.

و بالجملة: فلا يستفاد منها انحصار طريق التطهير في الغسل بالماء كما هو واضح.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 256

و إن كان مأخذ القاعدة المدّعاة، هي الرواية الواردة في حكاية حال بني إسرائيل: من كونهم «إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض، و قد وسّع اللّٰه عليكم بأوسع ما بين السماء و الأرض، و جعل لكم الماء طهوراً، فانظروا كيف تكونون» «1».

بتقريب: أنّ ذكر الماء بخصوصه في مقام الامتنان، يدلّ علىٰ أنّ المطهّر هو خصوص الماء، و

إلّا فلو كان غير الماء أيضاً مطهّراً فاللازم ذكره.

ففيه: أنّ الظاهر كون الإمام (عليه السّلام) في مقام بيان أصل الامتنان؛ و أنّ المشقّة الكائنة في بني إسرائيل مرفوعة في هذه الشريعة السهلة، و ذكر الماء إنّما هو لكونه أظهر أفراد المطهّرات مع كونه متعارفاً بينهم، و لا يستفاد منها الانحصار بحيث تعارض ما دلّ علىٰ حصول التطهير بغير الماء أيضاً.

و إن كان المدرك للقاعدة المذكورة، بعض الروايات الواردة في الغسل:

مثل موثّقة سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إذا أصاب الثوب شي ء من بول السنّور فلا تصحّ الصلاة فيه حتّى يغسله «2».

و مثل موثّقة عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

لا تصلِّ في بيت فيه خمر و لا مسكر؛ لأنّ الملائكة لا تدخله، و لا تُصلِّ في ثوب قد أصابه خمر أو مسكر حتّى تغسله «3».

______________________________

(1) الفقيه 1: 9/ 13، تهذيب الأحكام 1: 356/ 1064، وسائل الشيعة 1: 133، كتاب الطهارة، أبواب الماء المطلق، الباب 1، الحديث 4.

(2) الكافي 3: 56/ 5، وسائل الشيعة 3: 404، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 278/ 817، وسائل الشيعة 3: 470، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 38، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 257

و تقريب دلالتهما على المطلوب: أنّ ظاهر الروايتين عدم صحّة الصلاة في الثوب الذي أصابه بول السنّور أو خمر أو مسكر حتّى يغسل، و من المعلوم أنّ غسل الثوب ليس شرطاً تعبّديّاً لصحّة الصلاة، بل اعتباره إنّما هو لحصول الطهارة- المعتبرة فيها به، فلو كان غير الغسل أيضاً مطهّراً، لم يكن وجه لجعله غاية لعدم الصحّة، و من المعلوم أيضاً عدم اختصاصهما بخصوص الثوب حتّى

يقال: إنّ طريق تطهير الثوب منحصر بالغسل، كما لا يخفى.

ففيه: أنّ الظاهر كون الروايتين في مقام بيان عدم صحّة الصلاة في الثوب المعروض للنجاسة، و أنّ الصلاة مشروطة بخلوّه عنها، و أمّا ظهورهما في تحديد التطهير؛ و أنّ العلاج الذي تصحّ معه الصلاة إنّما هو خصوص الغسل بالماء، فلا.

فظهر من جميع ما ذكرنا: أنّه ليس في البين إلّا قاعدة «كلّ نجس منجِّس»، و استصحاب النجاسة في مورد الشكّ في بقائها- الناشئ من الشكّ في مطهّريّة شي ء و إن كان جارياً، إلّا أنّه لا يجري في المقام؛ للعلم بحصول الطهارة بعد زوال العين؛ إمّا لعدم تأثّره أصلًا و إمّا لكون الزوال مطهّراً، فالأمر دائر في المقام بين الحكم بعدم النجاسة من رأس و تخصيص تلك القاعدة، و بين الحكم بها ما دامت عينها باقية، و لازم ذلك عدم تحقّق التخصيص بوجه، و لا شكّ أنّ أصالة عدم التخصيص تعيّن الوجه الثاني، و القاعدة بضميمة كون الطهارة بعد الزوال ضروريّة- كما عرفت تنتج كون الزوال مطهّراً. فالأقوىٰ هو الوجه الثاني.

الكلام في ثمرة الوجهين

نعم يبقى الكلام في ثمرة الوجهين، فنقول: تظهر الثمرة فيما لو شكّ في بقاء عين النجاسة في بدن الحيوان، فلو قلنا بعدم تأثير عين النجاسة في تنجيس الحيوان فاستصحاب بقاء عين النجاسة لا يثبت نجاسة الماء الملاقي له؛ و ذلك

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 258

لأنّ الملاك في جريان الاستصحابات الموضوعيّة، أن يكون المستصحب مترتّباً عليه حكم شرعي، و ينطبق عليه الكبرى الكلّيّة المجعولة بلا وساطة بعض الأُمور العقليّة أو العاديّة، و هنا ليس كذلك، فإنّ استصحاب بقاء النجاسة لا يترتّب عليه أثر في زمان الشكّ؛ لأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي النجس إنّما يترتّب علىٰ

ملاقي النجس، و المفروض- في المقام الشكّ فيه، و عدم انفكاك بقاء النجاسة- في زمان الشكّ عن ملاقاتها مع الماء، حكمٌ عقلي لا يثبت بالاستصحاب؛ حتّى يترتّب عليه تلك الكبرى الكلّية التي موضوعها الملاقي للنجس.

و بالجملة: المناط في جريان الأصل في الموضوعات الخارجيّة، كونها بنفسها منطبقاً عليها بعض الكُبريات المجعولة في الشريعة، كاستصحاب العدالة المترتّبة عليها صحّة الصلاة خلف المتّصف بها، و جواز الطلاق بمحضره، و غيرهما من الأحكام و الآثار المترتّبة علىٰ عنوان العادل، و مناط كون الأصل مثبتاً، هو عدم كون الموضوع بنفسه منطبقاً عليه بعض تلك الكبريات، بل كان الموضوع له منطبقاً على المستصحب عقلًا.

و من هنا يظهر وجه ما ذكره المحقّقون من الفقهاء- رضوان اللّٰه تعالىٰ عليهم أجمعين من أنّه لو أقرّ الشخص بكون الثوب المملوك لزيد- مثلًا موجوداً عنده علىٰ وجه الأمانة، ثمّ مات و لم يكن في تركته إلّا ثوب واحد، فاستصحاب بقاء الثوب الموجود عنده علىٰ وجه الأمانة، لا يثبت كون هذا الثوب هو الثوب الذي يجب ردّه إلىٰ صاحبه و مالكه «1»، فإنّ وجوب ردّ هذا الثوب متفرّع علىٰ كونه بعينه هو الثوب المملوك له، مع أنّ انطباقه على الثوب المستصحب البقاء انطباق عقلي لا شرعي، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) راجع جواهر الكلام 27: 121 122.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 259

في جواب الشبهة العبائيّة

و ممّا ذكرنا أيضاً يظهر الجواب عن الشبهة العبائيّة المشهورة «1»، فإنّ استصحاب بقاء النجاسة في العباء بعد غسل أحد طرفيه، لا يثبت وجوب الاجتناب عن ملاقي طرفيه، فإنّ وجوب الاجتناب إنّما ترتّب في الشريعة علىٰ ملاقي النجس، و هو مشكوك بعد غسل أحد طرفيه، و عدم انفكاك بقاء النجاسة في العباء بعد الغسل، كذلك

عن مُلاقاة اليد- مثلًا مع النجس لو لاقت جميع أطرافه مع الرطوبة حكم عقليّ لا يثبت بالاستصحاب.

هذا كلّه لو قلنا بعدم تأثير النجاسة في تنجيس الحيوان الملاقي للماء.

و أمّا لو قلنا بتأثّر جسم الحيوان- غاية الأمر أنّ زوال العين مطهّر له فاستصحاب بقاء نجاسة الجزء الملاقي للماء يجري بلا إشكال؛ لترتّب أثر شرعي عليه، و هو وجوب الاجتناب عن ملاقيه؛ لأنّ بقاء نجاسة المنقار بضميمة الملاقاة المشاهدة بالوجدان، يوجب نجاسة الملاقي، بخلاف ما لو قلنا بالقول الأوّل، فإنّ ما هو المشهود هي الملاقاة مع المنقار، و ما هو المفيد المؤثّر هي الملاقاة مع النجس، و ما هي مشكوكة لا تثبت باستصحاب بقاء العين في المنقار.

______________________________

(1) و هي أنّه لو علم بنجاسة أحد طرفي العباء من الأسفل أو الأعلى، ثمّ طهر الطرف الأسفل، فطهارة الطرف الأسفل توجب الشكّ في بقاء النجاسة في العباء؛ لاحتمال أن تكون النجاسة المعلومة قد أصاب الطرف الأسفل، فيجري استصحاب بقاء النجاسة في العباء، و يلزمه القول بنجاسة الملاقي أطراف العباء؛ لأنّ ملاقي مستصحب النجاسة في حكم النجس، مع أنّ اللازم باطل بالضرورة؛ بداهة أنّه لا أثر لملاقاة الطرف الأسفل للعمل بطهارته، و ملاقاة الطرف الآخر لا تقتضي النجاسة للشكّ في إصابة النجاسة له، فهو مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، فبناء علىٰ نجاسة ملاقي مستصحب النجاسة، يلزم في المثال القول بنجاسة ملاقي مقطوع الطهارة و مشكوك النجاسة، و هو كما ترى.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 260

و بالجملة: فالثمرة بين القولين تظهر في الحكم بنجاسة الماء- مثلًا فيما لو شكّ في بقاء العين في حال الملاقاة بلا إشكال، كما عرفت تفصيله.

كلام للمحقّق الهمداني في المقام و ما يرد عليه

ثمّ إنّ المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) بعد بيان الثمرة على

الوجه الذي ذكرنا، قال: «و ملخّص الفرق بينهما: أنّ الشكّ في الأوّل مسبّب عن الشكّ في بقاء موضوع المستصحب، و قد تقرّر في محلّه: أنّ إحراز الموضوع من مقوّمات الاستصحاب، و أمّا على الثاني فالموضوع إنّما هو نفس الحيوان، الذي علم نجاسته سابقاً و شُكّ في ارتفاعها في الزمان اللاحق، و الشكّ إنّما نشأ من الشكّ في زوال العين الذي هو مطهّر شرعي على الفرض، فيجب الحكم ببقاء نجاسته إلىٰ أن يعلم بتحقّق المزيل» «1».

و يرد عليه:- مضافاً إلىٰ أنّ هذا فارقٌ مستقلّ لا ربط له بسابقه حتّى يكون ملخّصاً له، فإنّ عدم جريان الاستصحاب في السابق، إنّما هو لكونه مثبتاً؛ لا يترتّب عليه أثر شرعي بلا واسطة، و في اللاحق لعدم إحراز بقاء موضوع المستصحب، مع أنّه من شروط جريانه- لأنّ ما ذكره تبعاً للمشهور من اعتبار إحراز بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ليس بصحيح، بل المعتبر هو اتّحاد القضيّة المشكوكة مع القضيّة المتيقّنة موضوعاً و محمولًا؛ و ذلك لأنّ توهّم اعتبار إحراز بقاء الموضوع، ينشأ من تخيّل أنّ المستصحب نفس ما يترتّب على الموضوع، مع أنّ المستصحب إنّما هي نفس القضيّة المتيقّنة؛ و ذلك لأنّ الشكّ و الظنّ و العلم و أشباهها إنّما تتعلّق بالأُمور التصديقيّة؛ إذ لا معنى للشكّ في أمر

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 363.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 261

تصوّريّ، كما هو واضح، فأخذ الشكّ و اليقين في دليل الاستصحاب-

لا تنقض اليقين بالشكّ «1»

دليل علىٰ أنّه يعتبر أن تكون هناك قضيّتان: إحداهما مشكوكة، و الأُخرى متيقّنة، و التعبير بالنقض إنّما يفيد اعتبار اتّحادهما من حيث الموضوع و المحمول، فالنظر في أخبار الاستصحاب لا يفيد أزيد من اعتبار الاتّحاد.

و

حينئذٍ فكما لا إشكال في جريان الاستصحاب في مورد الكون الناقص، كذلك لا ينبغي الإشكال في مورد الكون التامّ أيضاً، كاستصحاب حياة زيد و نحوه، فإنّ في الثاني قضيّة «زيد موجود» كانت متيقّنة، و في الزمان اللاحق شكّ في بقائها، فلا مانع من استصحابها.

و تفصيل الكلام في هذا المقام موكول إلىٰ محلّه «2».

ثمّ إنّه (قدّس سرّه) ذكر بعد العبارة المتقدّمة: «أنّه يمكن أن يقال: إنّه يظهر من رواية عمّار «3» إناطة الحكم بالعلم بوجود القذر في منقارها بالفعل؛ حيث قال: و إن لم تعلم أنّ في منقارها قذراً توضّأ منه، فعلى هذا ينتفي هذه الثمرة أيضاً، فلْيتأمّل» «4».

و أنت خبير: بأنّه لو قلنا بتأثّر جسد الحيوان من النجاسة الملاقية له، يصير معنى الرواية هو العلم بنجاسته، لا العلم بوجود القذر، كما هو غير خفيّ. مضافاً إلىٰ أنّ أخذ العلم فيها ليس علىٰ سبيل الموضوعيّة، بل علىٰ نحو

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 246، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

(2) راجع الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 203.

(3) تقدّم في الصفحة 248.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة 1: 364.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 262

الطريقيّة، و لذا لو كان القذر موجوداً فيه واقعاً مع عدم العلم به، فالظاهر تأثيره في نجاسة ملاقية و إن لم يعلم بها.

و حينئذٍ فالثمرة علىٰ حالها، فإنّه بناءً على القول بعدم نجاسة جسد الحيوان، و أنّ المؤثّر هي النجاسة الموجودة فيه، لا يترتّب على استصحاب بقائها في صورة الشكّ أثر شرعيّ أصلًا.

و أمّا بناءً على القول الآخر فيجري استصحاب بقاء نجاسة الجسد، و يترتّب عليه نجاسة الملاقي.

لا يقال: إنّ الرواية تدلّ علىٰ أنّه في صورة الشكّ

في بقاء القذر، أو في بقاء نجاسة الجسد، يكون الملاقي طاهراً.

فإنّا نقول: إنّ الشكّ فيها هو الشكّ الابتدائي، الذي يحصل في مثل الباز و الصقر و العُقاب، الذي تكون الحالة السابقة فيه غير معلومة غالباً، لا الشكّ المسبوق بالحالة السابقة، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه لو قلنا: بأنّ أخذ العلم في الرواية إنّما هو علىٰ نحو الموضوعيّة، لا الطريقيّة، فقيام الاستصحاب مقامه- كما أشار إليه في الهامش في وجه قوله: «فليتأمّل» محلّ إشكال بل منع، كما حقّق في محلّه «1».

و الإنصاف: أنّ ما ذكره في المقام في بيان الثمرة كلام مضطرب غاية الاضطراب، لا سيّما ما ذكره في الحاشية في وجه ذلك القول، و لم يعهد مثل ذلك منه و منشأه هو تفسيره رواية عمّار بما عرفت منه، و لكن عرفت منها أنّ الرواية لا تنافي الثمرة على الوجه الذي ذكرنا، فتأمّل جيّداً.

______________________________

(1) انظر أنوار الهداية 1: 122، تهذيب الأُصول 2: 39 43.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 263

فرع فيما لو طارت الذبابة عن النجاسة إلى الثوب أو الماء

لو طارت الذبابة عن العذرة الرطبة- أو غيرها من النجاسات إلى الثوب أو الماء، فإن لم تحمل رجْلها من العذرة إلّا رطوبة علم بجفافها- بالهواء و نحوه قبل الوصول إلى الثوب، فلا إشكال، و إن لم يعلم بالجفاف و شكّ في بقاء الرطوبة، فاستصحاب بقائها إلىٰ زمان الوصول إلى الثوب لا يثبت نجاسته، فإنّ نجاسته تترتّب علىٰ ملاقاته مع رطوبة النجس و سراية النجاسة إلى الملاقي، و الرطوبة مشكوكة، فإنّ المعلوم بالوجدان ليس إلّا ملاقاة الذبابة مع الثوب، و عدم انفكاك بقاء الرطوبة إلىٰ زمان الوصول، و سراية النجاسة عن ملاقاتها مع الثوب حكم عقلي لا يثبت بالاستصحاب، كما مرّ «1».

و لو حملت رجلها من عين

النجاسة شيئاً فجعلته على الماء مع العلم ببقائها، فلا إشكال في نجاسته؛ سواء قلنا بتأثّر رجلها من ملاقاة العَذَرة، أو قلنا بأنّ المؤثّر هي العَذَرة الموجودة فيه، و مع الشكّ في البقاء إلىٰ زمان الوصول، فالحكم كما عرفت في مقام بيان ثمرة القولين؛ من نجاسة الماء على القول الأوّل، و كون الأصل مثبتاً على الثاني «2».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 258.

(2) تقدّم في الصفحة 257.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 265

الطهارة المائيّة

اشارة

و فيها فصلان:

الفصل الأوّل في الوضوء

و فيه مسائل:

اشارة

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 267

المسألة الأُولىٰ في حقيقة الحدث و الخبث و الطهارة منهما
اشارة

هل الطهارة عن الحدث و الخبث و كذا نفسهما أمران وجوديّان أو أحدهما وجودي و الآخر عدمي، أو يفصّل بين الحدث و الخبث، فيقال: بأنّ الطهارة عن الأوّل أمر وجودي، دون الطهارة عن الثاني؟ وجوه.

و الحقّ أن يقال: إنّه لا إشكال في كون الوضوء الذي هو عبارة عن الغسلات و المسحات، و كذا الغسل الذي هو عبارة عن الغسلات الثلاثة، و كذا نواقضهما من النوم و البول و الجنابة، أُموراً وجوديّة.

إنّما الكلام في ترتّب أمر وجودي على الوضوء و الغسل بالمعنى المذكور، و كذا في ترتّب أمر وجودي على الجنابة و البول و نحوهما، و كذا في ترتّب أمر وجودي على الجسم بعد إزالة الأخباث عنه، فنقول:

في حقيقة الطهارة الخبثيّة

أمّا الطهارة عن القذارات الصوريّة- التي يجتنب عنها العقلاء بما هم عقلاء؛ و لو مع عدم وجوب الاجتناب عنها من قبل الشارع فالظاهر أنّها عبارة عن مجرّد رفع تلك القذارات؛ و إرجاع الجسم إلى الحالة السابقة التي كانت له

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 268

قبل عروض شي ء منها؛ من دون أن يحدث فيه بسببها حالة وجوديّة اعتبرها الشارع أو العقلاء.

و بالجملة: فحيث إنّ بعض الأجسام بل و أكثرها، يكون نظيفاً بمقتضىٰ طبيعتها الأوّليّة و واقعاً في مقابل القذارات، فتطهيره- بعد عروض شي ء منها عليه ليس إلّا عبارة عن إرجاعه إلىٰ مقتضىٰ طبيعته؛ من دون أن يحدث فيه حالة اخرىٰ، كما لا يخفى.

و أمّا الطهارة عن القذارات التي لا تكون عند العقلاء قذراً، و لا يجتنبون عنها أصلًا، كيد الكافر و الخمر و الكلب و الخنزير و نظائرها، فالظاهر أنّ إيجابها إنّما هو لرعاية بعض المصالح و المفاسد، لا لحصول حالة فيه، فإنّ الحكم بتطهير الملاقي مع

يد الكافر بنحو تتحقّق السراية، إنّما هو حكم سياسي مشروع لغاية عدم حصول الاختلاط بينهم و بين المسلمين، أو نظائر هذه الغاية، لا أن يكون في اليد حالة حادثة بعد ملاقاة يد الكافر؛ يجب أن ترفع تلك الحالة بإحداث حالة أُخرى.

في حقيقة الطهارة الحدثيّة

و أمّا الطهارة عن الحدث الأصغر، فالظاهر كونها أمراً وجوديّاً مترتّباً على الوضوء بالمعنى المذكور، كما يظهر بالتتبّع في الأخبار و التعبيرات الواردة في لسانها، مثل: أنّه نور «1»، أو أنّه يأمر اللّٰه بالوضوء و الغسل، فيختم عليه بخاتم من خواتيم ربّ العزّة «2»، كما في بعض الأخبار، و كما يقال: انتقض الوضوء بكذا

______________________________

(1) الفقيه 1: 26/ 82، وسائل الشيعة 1: 377، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 8، الحديث 8.

(2) تفسير الإمام العسكري (عليه السّلام): 521 522، وسائل الشيعة 1: 398، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، ذيل الحديث 21.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 269

و كذا، فإنّ النقض لا يتحقّق إلّا مع كون المنقوض أمراً وجوديّاً كالناقض.

و ما ذكره الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) في «رسالته الاستصحاب»: من أنّه لا يعتبر في المنقوض ذلك، كيف و يجوز الاستصحاب في الأُمور العدميّة؛ للأخبار الدالّة علىٰ حرمة نقض اليقين بالشكّ «1».

ففيه: أنّ متعلّق النقض في تلك الأخبار هو اليقين لا المتيقّن.

و سرّه: أنّ اليقين حبل مستحكم مرتبط بالإنسان و بالمتيقّن، بخلاف الشكّ الذي لا يتّصف بهذا الوصف، و من هنا نقول بعدم اختصاص جريان الاستصحاب بخصوص الشكّ في الرافع، بل يجري في الشكّ في المقتضي أيضاً، فإنّه ليس تعلّق النقض باليقين إلّا كتعلّقه بالعهود و الايمان و نحوهما، و لا فرق في ذلك بين الصورتين.

و بالجملة: فالظاهر كون الطهارة عن الحدث مطلقاً، أمراً وجوديّاً

مترتّباً علىٰ فعل الوضوء أو الغسل، و أمّا نفس الحدث فلا دليل علىٰ كونه أمراً وجوديّاً، و ما ذكرنا: من اعتبار كون الناقض كالمنقوض أمراً وجوديّاً، فهو إنّما يكون بالنسبة إلى النوم و نحوه ممّا انتسب النقض إليه، و الكلام إنّما هو في ترتّب حالة وجوديّة عقيب النوم و نحوه، و لم يقم دليل عليه.

حول حقيقة الطهارة المعتبرة في الصلاة

ثمّ لا يخفى أنّ مسألة كون الطهارة و النجاسة أمرين وجوديّين، لا ارتباط لها بما هو المعتبر في الصلاة؛ لأنّه يمكن أن يكون ما هو المعتبر فيها عدم الحدث؛ بأن يكون وجوده مانعاً عنها و إن كانت الطهارة أمراً وجوديّاً، كما أنّه يمكن أن تكون الصلاة مشروطة بالوضوء- الذي هو فعل مخصوص و إن

______________________________

(1) فرائد الأُصول 2: 551 و 588 و 590.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 270

لم يترتّب عليه أمر وجودي، بل كان الحدث عبارة عن الحالة الوجوديّة، فاللازم النظر في الدليل، فنقول:

إنّ المستفاد من بعض الروايات: اعتبار الوضوء في الصلاة و لو لم يكن المصلّي محدثاً، كالمخلوق دفعة قبل عروض النوم و البول و نحوهما، و هي المرويّة في «العلل»، الواردة في جواب نفر من اليهود سألوا النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) عن مسائل، و فيها قوله

«أخبرنا يا محمّد لأيّ علّة توضّأ هذه الجوارح الأربع، و هي أنظف المواضع في الجسد؟ فقال النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): لمّا أن وسوس الشيطان إلىٰ آدم (عليه السّلام)، و دنا من الشجرة، فنظر إليها، فذهب ماء وجهه، ثمّ قام و مشىٰ إليها، و هي أوّل قدم مشت إلى الخطيئة، ثمّ تناول بيده منها ما عليها و أكل، فتطاير الحُلِيّ و الحُلل عن

جسده، فوضع آدم يده علىٰ أُمّ رأسه و بكىٰ، فلمّا تاب اللّٰه عليه، فرض اللّٰه عليه و علىٰ ذُرّيّته تطهير هذه الجوارح الأربع ..

إلىٰ آخر الحديث «1».

فإنّ ظاهرها أنّ الوضوء فرض علىٰ آدم و علىٰ ذريّته مطلقاً؛ مسبوقاً بالحدث أو غير مسبوق، فإنّ سبب وجوبه ليس مجرّد الأحداث المعروفة، بل لأنّ آدم (عليه السّلام) صدر منه العمل المعروف.

ثمّ لا يذهب عليك أنّ المستفاد من الأدلّة الواردة في الغسل؛ و إن كان لا يجب إلّا مع حدوث شي ء من الأحداث الموجبة له «2»، فلا يجب على المخلوق دفعة قبل طُرُوّ بعضٍ منها، إلّا أنّه باعتبار كفايته عن الوضوء في بعض الموارد «3»، يمكن استكشاف ترتّب أمر وجودي عليه أيضاً، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الفقيه 1: 34/ 127، علل الشرائع: 280/ 1، وسائل الشيعة 1: 395، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 16.

(2) وسائل الشيعة 2: 186، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 7.

(3) وسائل الشيعة 2: 246، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 34.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 271

المسألة الثانية في الأحداث الموجبة للوضوء
اشارة

لا إشكال و لا خلاف بين فقهاء الإماميّة في انحصارها في الستّة المعروفة، و كونها ناقضة بنحو الإجمال، إنّما الإشكال و الخلاف في بعض ما يتفرّع علىٰ ذلك، فنقول:

الأوّل و الثاني: البول و الغائط
اشارة

و لا بدّ من ملاحظة أنّ الحكم هل يكون مترتّباً علىٰ نفس البول و الغائط؛ بحيث لا مدخليّة للخصوصيّة من حيث المخرج أصلًا، فيكون الحكم مطلقاً شاملًا لما إذا خرج من المخرج الطبيعي أو من غيره، و سواء كان كلٌّ منهما معتاداً له، أو كان المعتاد واحداً منهما، أم لا؟ وجهان، بل قولان:

الاستدلال علىٰ ناقضية البول و الغائط مطلقاً

ربما يستدلّ «1» للإطلاق بقوله تعالىٰ وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَوْ عَلىٰ سَفَرٍ أَوْ جٰاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغٰائِطِ أَوْ لٰامَسْتُمُ النِّسٰاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مٰاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 272

«1». فإنّ المجي ء من الغائط الذي يكون كناية عن قضاء الحاجة، يعمّ جميع الصور، كما هو غير خفيّ.

و يرد عليه: أنّ من شرط التمسّك بالإطلاق أن يكون المتكلّم في مقام بيانه، فلو كان المقصود جهة أُخرى لا يجوز التمسّك بكلامه لإثبات الإطلاق من هذه الجهة غير المقصودة.

و حينئذٍ فنقول: إنّ الظاهر من الآية أنّ المقصود منها تشريع التيمّم؛ و أنّ ما يكون من الأحداث موجباً للوضوء، فهو سبب للتيمّم عند فقدان الماء، و أمّا كون المجي ء من الغائط سبباً من حيث هو، أو مقيّداً ببعض الخصوصيّات، فلا تكون الآية متعرّضة لهذه الجهة.

ثمّ لو سُلّم كونها في مقام البيان، فشمولها لجميع صور المسألة- حتّى مثل ما لو خرج الغائط من ثُقبة موجودة في البطن؛ لإصابة السهم و نحوه محلّ منع، فإنّ ظاهرها أنّ قضاء الحاجة سبب لذلك، كما يدلّ عليه التعبير بالمجي ء من الغائط، لا مطلق خروجه.

و قد يستدلّ «2» للإطلاق أيضاً ببعض الروايات:

منها: صحيحة زرارة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

لا يُوجَب الوضوء إلّا من غائط أو بول أو ضرطة تسمع

صوتها أو فسوة تجد ريحها «3».

و لكن يرد على الاستدلال بالروايات التي تكون علىٰ مثل هذا المضمون

______________________________

(1) النساء (4): 43، المائدة (5): 6.

(2) جواهر الكلام 1: 397، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 13.

(3) تهذيب الأحكام 1: 346/ 1016، وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 273

- ممّا يرجع إلىٰ حصر النواقض في الأُمور المذكورة فيها و نفي الناقضيّة عن غيرها: أنّ الظاهر كونها في مقام بيان الحصرِ، و نفي ناقضيّة الغير في قبال فقهاء العامّة، القائلين بناقضيّة أشياء كثيرة، مثل المذي و الوذي و الدم و غيرها «1»، و ليست في مقام بيان أنّ البول و نحوه ناقض من حيث هو، أو مع بعض الخصوصيّات، و تقييد الضرطة بما سمع صوتها و الفسوة بما وُجد ريحها، لا يدلّ علىٰ كون الرواية في مقام البيان من الجهة الثانية أيضاً؛ نظراً إلىٰ أنّ ذكر خصوصيّات الموضوع، دليل علىٰ كونه في مقام البيان من تلك الجهة؛ و ذلك لأنّ سماع الصوت و وجدان الريح ليس قيداً للضرطة و الفسوة، بل التقييد إنّما هو من جهة لزوم إحراز الموضوع في ترتّب الحكم، و لعلّ الوجه في عدم تقييد البول و الغائط بمثل ذلك، كون إحرازهما واضحاً نوعاً، و هذا بخلاف الريح، فإنّ إحرازه مشكل، خصوصاً مع ملاحظة ما ورد في بعض الروايات: من

أنّ الشيطان ينفخ في دُبر الإنسان؛ حتّى يُخيّل إليه أنّه قد خرج منه ريح، فلا ينقض الوضوء إلّا ريح تسمعها أو تجد ريحها «2»

، فلذا ذكر: أنّ طريق إحرازه سماع الصوت و وجدان الريح.

فهذه الرواية و أشباهها قاصرة عن إفادة الإطلاق جدّاً.

نعم يمكن التمسّك

له بما عن «العلل» و «عيون الأخبار»، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا (عليه السّلام)، قال

إنّما وجب الوضوء ممّا خرج من الطرفين خاصّة و من النوم، دون سائر الأشياء؛ لأنّ الطرفين هما طريق النجاسة و ليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة من نفسه إلّا منهما، فأُمروا بالطهارة عند ما تصيبهم تلك

______________________________

(1) بداية المجتهد 1: 34، المغني، ابن قدامة 1: 160، المجموع 2: 5.

(2) الكافي 3: 36/ 3، تهذيب الأحكام 1: 347/ 1017، الإستبصار 1: 90/ 289، وسائل الشيعة 1: 246، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 274

النجاسة من أنفسهم

الحديث «1».

فإنّ الظاهر من الرواية- صدراً و ذيلًا خصوصاً مع ملاحظة صدورها عن الرضا عليه الصلاة و السلام، مع أنّ أغلب الروايات المرويّة عنه (عليه السّلام)، ناظرة إلىٰ ما ورد من آبائه الطاهرين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين، و متعرّضة لها و لتفسيرها، أنّ عُمدة مقصودها هو بيان: أنّ ما اشتهر من ناقضيّة ما خرج عن الطرفين، ليس المراد منها الاختصاص بخصوص المخرجين، بل التقييد بهما إنّما هو لكونهما طريقين للنجاسة، التي هي موجبة للوضوء و ناقضة له؛ لأنّه ليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة إلّا منهما، فالأمر بالطهارة إنّما يتحقّق عند إصابة النجاسة من دون مدخليّة لما تخرج منه.

و بالجملة: فالظاهر أنّ الرواية إنّما تكون بصدد بيان: أنّ الخروج من المخرجين لا مدخليّة له في الأمر بالطهارة، فهي كالصريحة في بيان الإطلاق.

نعم يمكن أن يقال: إنّ نفي وجوب الوضوء عند عروض سائر الأشياء، ربما يمنع الرواية عن إفادتها الإطلاق، كما ذكرنا؛ لأنّه لو كان الغرض منها، بيان عدم اختصاص حكم البول و الغائط بخصوص ما يخرج من المخرجين، لكان

الأنسب نفي الاختصاص فقط، لا نفي ناقضيّة سائر الأشياء المقابلة للبول و الغائط و النوم، و لكن لا يخفى أنّه لا امتناع في كون المقصود من الرواية بيان الجهتين، و اختصاص التعليل المذكور في الذيل بخصوص الاولىٰ، لا يدلّ علىٰ عدم كونه إلّا في مقام بيان جهة واحدة، فلعلّ الوجه في ترك ذكر التعليل بالنسبة إلى الجهة الثانية، وضوحها بحيث لا يحتاج إلىٰ بيان؛ لوروده في روايات الصادقين (عليهما السّلام) كثيراً.

______________________________

(1) علل الشرائع: 257/ 9، عيون أخبار الرضا (عليه السّلام) 2: 104 و 105/ 1، وسائل الشيعة 1: 251، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 2، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 275

و بالجملة: فظهور الرواية في الإطلاق- بل صراحتها فيه ممّا لا ينبغي أن يُنكر، فافهم و تأمّل.

هذا، و لكنّ الإنصاف: أنّ المعنى المذكور و إن كان احتماله- في حدّ نفسه ليس ببعيد، إلّا أنّه من جهة أنّ حمل الرواية عليه، يوجب خروجها عن المحاورات العرفيّة؛ لأنّ أهل العرف لا يفهمونه، فهو يحتاج إلىٰ تأمُّل و تدقيق بعيد جدّاً.

فالأولىٰ في معنى الرواية أن يقال: إنّ ما عدا الستّة- التي وقع الاتّفاق علىٰ ناقضيّتها بين المسلمين من الأُمور المشهورة بين العامّة علىٰ قسمين:

قسم يخرج من الشخص من غير المخرجين، كالنخامة و القيح و الدم و غيرها.

و قسم لا يتّصف بوصف الخروج، بل يكون من قبيل الأفعال، كالتقبيل و مسّ الفرج و مثلهما.

و حينئذٍ فنقول: إنّ الرواية متعرّضة لعلّة ناقضيّة الخارج من المخرجين، و نفي ناقضيّة الخارج من غيرهما.

و حينئذٍ فالمراد بسائر الأشياء ليس جميع الأشياء المقابلة للنوم و الغائط و البول، بل المراد بها الأشياء الخارجة من غير المخرجين، فيصير معنى الرواية: أنّ

وجوب الوضوء عند ما يخرج من الطرفين خاصّة، دون غيره من الأشياء الخارجة من المخارج الأُخر، إنّما هو لأنّهما طريقان للنجاسة، دون سائر المخارج؛ إذ ليس للإنسان طريق تصيبه النجاسة إلّا منهما، و عليه فلا تكون الرواية متعرّضة إلّا لجهة واحدة، و هي علّة اختصاص الناقضيّة بالخارج من الطرفين، دون سائر المخارج.

و لكن لا يخفى أنّ دلالتها على الإطلاق- حينئذٍ قويّة أيضاً؛ لأنّها تدلّ

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 276

- علىٰ أيّ تقدير علىٰ أنّ وجوب الوضوء إنّما يترتّب علىٰ نفس النجاسة، و لا مدخليّة لإصابتها من المخرجين خاصّة.

و يؤيّده: أنّ الرواية تدلّ علىٰ نفي ناقضيّة الأشياء الخارجة من غير المخرجين، لا نفي ناقضيّة الأشياء الخارجة منهما بحسب الطبع و لو خرجت من مخرج آخر غيرهما، كما لا يخفى «1».

الثالث: الريح

و يظهر من الشيخ «2» و الهمداني (قدّس سرّهما) «3» في طهارتهما أنّها أيضاً تكون ناقضة مطلقاً، كالبول و الغائط.

و لكن لا يخفى أنّ رواية الفضل المتقدّمة «4» التي يستفاد منها الإطلاق بأحد الوجهين المتقدّمين إنّما تكون متعرّضة للبول و الغائط و النوم، دون الريح، فكونها في مقام البيان لا يجدي بالنسبة إلى الريح أصلًا، و ليست هنا رواية أُخرى تدلّ علىٰ إطلاق ناقضيّة الريح؛ لأنّ أكثر الروايات الدالّة علىٰ ناقضيّة الريح بهذا العنوان، إنّما تكون: إمّا في مقام بيان أنّ وجوب إعادة الوضوء و بطلانه إنّما هو فيما لو أُحرزت و علم بحدوثها و أمّا لو شكّ فيها فلا يبطل الوضوء، و إمّا في مقام بيان بطلان ما اشتهر بين العامّة من القول بناقضية الأشياء الكثيرة فلا يستفاد منها الإطلاق بوجه.

______________________________

(1) و لكن ذكر النوم مع البول و الغائط يدلّ علىٰ أنّ

المراد بسائر الأشياء ليس خصوص الأشياء الخارجة عن المخارج الأُخر بل يعمّ الجميع، [المقرر دام ظلّه].

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 396.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 11.

(4) تقدّم في الصفحة 273.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 277

نعم يمكن أن يستشعر الإطلاق من رواية زرارة، قال: قلت لأبي جعفر و أبي عبد اللّٰه (عليهما السّلام): ما ينقض الوضوء؟ فقالا

ما يخرج من طرفيك الأسفلين- من الذكر و الدبر من الغائط و البول أو منيّ أو ريح، و النوم حتّى يذهب العقل، و كلّ النوم يكره إلّا أن تكون تسمع الصوت «1».

فإنّ الحكم بالناقضيّة مترتّب علىٰ نفس الريح و توصيفها بالخروج من الطرفين ليس لكون الحكم مقيَّداً به، بل للإشارة إلىٰ ذلك الشي ء المعهود، نظير البول و الغائط.

و لكنّ الإنصاف: أنّ دلالتها على الإطلاق ليست بحيث يعتمد عليها، و علىٰ تقدير الدلالة فهي و نظائرها مقيّدة بما يدلّ على انحصار الناقضيّة بالضرطة و الفسوة، اللتين ينحصر إطلاقهما بالريح الخارجة من الطرفين، مثل صحيحة زرارة المتقدّمة، الدالّة علىٰ أنّه لا يوجَب الوضوء إلّا من الغائط أو البول، أو ضرطة تسمع صوتها أو فسوة تجد ريحها «2».

نعم الظاهر صحّة إطلاقها على الريح الخارجة من المخرج المعتاد و لو لم يكن مخرجاً طبيعيّاً، و لكن لا يشملان جميع فروض المسألة، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بالحدث- الذي ورد في بعض الروايات هو ما يساوق الضرطة و الفسوة، لا بمعنى الريح التي تكون أعمّ منهما، كما لا يخفى.

تنبيه: لا يخفى عليك أنّ تقييد الضرطة بسماع صوتها و الفسوة بوجدان ريحها- كما في بعض الروايات «3» ليس لكونهما دخيلين في الحكم؛ بحيث لو

______________________________

(1) الكافي 3: 36/ 6،

الفقيه 1: 37/ 137، تهذيب الأحكام 1: 9/ 15، وسائل الشيعة 1: 249، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 2، الحديث 2.

(2) تقدّم في الصفحة 272.

(3) تقدّم في الصفحة 272.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 278

علم بتحقّق إحداهما من دون سماع الصوت و لا وجدان الريح، لما وجبت الإعادة، بل لأنّ المقصود وجوب إحرازهما في وجوب الإعادة، و ذكرهما لكونهما طريقين إلىٰ إحرازهما، كما يستفاد من الأخبار الكثيرة، الدالّة علىٰ أنّ الشيطان ينفخ في دبر الإنسان حتّى يخيّل إليه و يشكّكه «1»، و يدلّ عليه صريحاً صحيحة علي بن جعفر المروية عن «قرب الإسناد» و عن كتابه، قال: و سألته- يعني أخاه موسى بن جعفر (عليهما السّلام) عن رجل يكون في الصلاة، فيعلم أنّ ريحاً قد خرجت، فلا يجد ريحها، و لا يسمع صوتها؟ قال

يعيد الوضوء و الصلاة، و لا يعتدّ بشي ء ممّا صلّىٰ إذا علم ذلك يقيناً «2».

الرابع: النوم

و هو ناقض مطلقاً بلا خلاف بين الإماميّة.

و قال الشافعي: إذا نام مضطجعاً أو مستلقياً أو مستنداً، ينتقض الوضوء «3».

و حكي عن أبي موسى الأشعري و جماعة: أنّهم قالوا: لا ينتقض الوضوء بالنوم بحال إلّا أن يتيقّن خروج الحدث «4».

و قال مالك و جماعة: إنّ النوم إن كثر نقض الوضوء «5».

و قال أبو حنيفة و أصحابه: لا وضوء من النوم إلّا علىٰ من نام مضطجعاً أو

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 272، 273.

(2) مسائل عليّ بن جعفر (عليه السّلام): 184/ 358، قرب الإسناد: 200/ 769، وسائل الشيعة 1: 248، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 9.

(3) الخلاف 1: 107، المسألة 53، الامّ 1: 12.

(4) الخلاف 1: 107، المبسوط، السرخسي 1: 78.

(5) المبسوط، السرخسي

1: 78، المغني، ابن قدامة 1: 165، المجموع 2: 17.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 279

متورّكاً، و أمّا من نام قائماً أو راكعاً أو ساجداً أو قاعداً- سواء كان في الصلاة أو غيرها فلا وضوء عليه «1».

ثمّ إنّ المراد بالنوم هو ما يستولي على القلب، و يوجب تعطيل الحواسّ عن الإحساس، و أمارته هو تعطيل السمع عن السماع؛ للملازمة بينه و بين الاستيلاء على القلب، و هذا بخلاف حاسّة البصر، فإنّ استيلاء النوم عليها لا يؤثّر في تحقّق النوم الحقيقي؛ لعدم الملازمة بينه و بين نوم القلب و الاذُن، كما صرّح به في صحيحة زرارة المشهورة «2»، التي استُدلّ بها علىٰ حجّيّة الاستصحاب.

و منه يظهر وجه الجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في المقام:

التي يدلّ بعضها: علىٰ أنّ النوم الناقض هو النوم حتّى يذهب العقل «3».

و بعضها: علىٰ أنّ الناقض هو النوم الغالب على القلب «4».

و في بعضها: النوم الغالب على السمع «5».

و في الآخر: هو النوم الغالب علىٰ حاسّتي السمع و البصر «6».

______________________________

(1) المحلّىٰ بالآثار 1: 213، بداية المجتهد 1: 37.

(2) تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 6/ 4، الإستبصار 1: 79/ 245، وسائل الشيعة 1: 252، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 3، الحديث 2.

(4) تهذيب الأحكام 1: 8/ 11، وسائل الشيعة 1: 246، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 1، الحديث 1.

(5) تهذيب الأحكام 1: 7/ 9، الإستبصار 1: 80/ 251، وسائل الشيعة 1: 253، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 3، الحديث 7.

(6) الكافي 3: 37/ 16، وسائل الشيعة 1: 247، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء،

الباب 1، الحديث 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 280

فإنّ الظاهر أنّ الملاك هو الاستيلاء على القلب، الملازم لذهاب العقل و للغلبة على السمع و البصر، نعم لا عبرة- كما عرفت بالاستيلاء علىٰ حاسّة البصر خاصّة؛ لعدم الملازمة بين نومه و نوم القلب، و لا يكون في أخبار الباب ما يدلّ على الاكتفاء بنوم البصر خاصّة.

و بالجملة: فالظاهر أنّه لا منافاة بين شتات الأخبار الواردة في المقام.

نعم يظهر من بعض الأخبار ما يوافق بعض الأقوال المذكورة المنقولة عن العامّة، و لكنّها مطروحة بالشذوذ و إعراض الأصحاب عنها، مضافاً إلىٰ ضعف سند بعضها. نعم يمكن تأويل بعضها بما لدينا في الأخبار الكثيرة المعمول بها، فراجع «1» و تأمّل.

الخامس: كلّ ما أزال العقل
اشارة

من إغماء أو جنون أو سُكر أو غير ذلك، و لا خلاف في ذلك بين الأصحاب بل بين جميع المسلمين «2»، و عن «البحار»: أنّ أكثر الأصحاب نقلوا الإجماع عليه «3»، و هو العُمدة في المقام- بعد إمكان المناقشة في الأدلّة التي يمكن أن يتشبّث بها، كما سيجي ء إذ الظاهر عدم كون الإجماع مستنداً إلىٰ تلك الأدلّة، غير الخالية عن المناقشة في الدلالة؛ حتّى تجب مراعاتها من حيث هي، كما في سائر المسائل التي يكون الإجماع فيها مستنداً إلى الاجتهاد.

فالإنصاف: أنّ الإجماع في المقام- بعد كون الحكم مخالفاً لما تقتضيه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 252، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 3، الحديث 6 و 11 و 14 و 15.

(2) تهذيب الأحكام 1: 5، منتهى المطلب 1: 34/ السطر 15 و 16، مدارك الأحكام 1: 149، مفتاح الكرامة 1: 36 و 37، جواهر الكلام 1: 408، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 27.

(3) بحار الأنوار 77: 215/ ذيل الحديث

7، مفتاح الكرامة 1: 37.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 281

القواعد و الأُصول الشرعيّة، بل منافياً لما يستفاد من الأخبار الحاصرة للنواقض في غير هذه الموارد «1» دليل قطعي علىٰ أنّ الحكم كان كذلك في زمان الأئمّة (عليهم السّلام)، و قد وصل إلينا بتوسط الفقهاء- الذين هم حملة أحكام اللّٰه و مخازن علوم النبيّ و الأئمّة صلوات اللّٰه عليه و عليهم يداً بيد، خَلَفاً عن سَلَف، و لاحقاً عن سابق.

الاستدلال بالأخبار علىٰ ناقضيّة كلّ ما أزال العقل

و ربّما استُدلّ «2» بصحيحة معمّر بن خلاد قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن رجل به علّة لا يقدر على الاضطجاع، و الوضوء يشتدّ عليه، و هو قاعد مستند بالوسائد، فربما أغفىٰ و هو قاعد علىٰ تلك الحال، قال

يتوضّأ

، قلت له: إنّ الوضوء يشتدّ عليه لحال علّته؟ فقال

إذا خفي عليه الصوت فقد وجب عليه الوضوء

الحديث «3».

و أنت خبير بأنّ الإغفاء بمعنى النوم الخفيف، يقال: أغفىٰ؛ أي نام نومة خفيفة- كما في «المنجد» «4» و عليه فلا يتمّ الاستدلال بالرواية على المطلوب.

أو قوله (عليه السّلام)

إذا خفي عنه الصوت

، لا دلالة فيه علىٰ أنّ العلّة مجرّد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 248، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 2، الحديث 6 و 8 و 9، و: 252، الباب 3، الحديث 1 و 4.

(2) المعتبر 1: 111، تذكرة الفقهاء 1: 104، جواهر الكلام 1: 409، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 28.

(3) الكافي 3: 37/ 14، تهذيب الأحكام 1: 9/ 14، وسائل الشيعة 1: 257، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 4، الحديث 1.

(4) المنجد: 556.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 282

خفاء الصوت، و هو مطلق قد يتحقّق بالنوم و قد يتحقّق بغيره من إغماء أو

جنون؛ و ذلك لأنّ الضمير يرجع إلى الرجل المحدث بالحدث المعهود؛ أي الرجل الذي قد أغفىٰ، فلا دلالة له على الإطلاق، مضافاً إلىٰ أنّ خفاء الصوت إنّما هو في الإغماء و نظائره، دون الجنون و أشباهه.

و استدلّ «1» له أيضاً ببعض الأخبار الواردة في النوم، الدالّة علىٰ أنّ النوم الناقض هو النوم المزيل للعقل، كما في صحيحة زرارة المتقدّمة «2»؛ بدعوى ظهورها في إناطة الحكم بزوال العقل، و هو موجود في الجنون و السكر بطريق أولىٰ، و لكن لا يخفى أنّ التقييد بإزالة العقل إنّما هو لتحديد النوم الناقض، فلا دلالة فيه- بل و لا إشعار على العلّيّة؛ و كونه مناطاً للحكم أصلًا.

في المراد من العقل

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ المراد بالعقل الزائل بسبب النوم هو الإدراك و الإحساس، و إلّا فالنائم لا يكون فاقداً للقوّة العاقلة، و الفرق بين النائم و المجنون- مع اشتراكهما في عدم الإدراك هو أنّ المجنون يكون تعطيل قواه مستنداً إلى الاختلال الحاصل فيها، بخلاف النائم، فإنّه لم يعرض له بسبب النوم اختلال أصلًا، كما هو واضح.

و حينئذٍ فالمراد بالعقل الذي أُنيط الحكم بزواله- علىٰ تقدير تسليم استفادة العلّيّة هو الإدراك، كما عرفت، و ذهابه بهذا المعنىٰ إنّما يتحقّق في بعض صور الإغماء فقط، و لا يشمل جميع الفروض.

______________________________

(1) انظر مدارك الأحكام 1: 149، جواهر الكلام 1: 409، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 409، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 29.

(2) تقدّم في الصفحة 277.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 283

و ربما يستدلّ «1» أيضاً بقوله (عليه السّلام)- في ذيل رواية «العلل» المتقدّمة «2»

و أمّا النوم فإنّ النائم إذا غلب عليه النوم يُفتح كلّ شي ء منه و استرخىٰ، فكان أغلب الأشياء عليه

فيما يخرج منه الريح، فوجب عليه الوضوء لهذه العلّة.

بدعوىٰ: أنّ كلّ ما يوجب ذهاب العقل يكون محقّقاً للعلّة الموجبة لتشريع الوضوء.

و لكن لا يخفى أنّ العلّة إنّما تكون حكمة و نكتة للتشريع و الجعل؛ بمعنى أنّ إيجاب الوضوء عليه إنّما هو لكونه في معرض خروج الريح منه، فلا يستفاد منها كون المجعول دائراً- وجوداً و عدماً مدار تلك العلّة، مضافاً إلىٰ وضوح أنّ العلّة لا تجري في جميع صور المسألة، فإنّ الجنون و نظائره لا توجب الاسترخاء.

و الذي يسهّل الخطب ما عرفت: من كون المسألة إجماعيّة؛ بحيث لم ينقل الخلاف فيه من أحد من الأصحاب، بل و من العامّة.

السادس: الاستحاضة

و هي في الجملة من الأحداث الموجبة للوضوء و سيأتي البحث عنها في باب الدماء الثلاثة إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

ثمّ لا يخفى أنّ الجنابة و إن كانت ناقضة للوضوء مبطلة له، إلّا أنّها ليست من الأحداث الموجبة للوضوء؛ لأنّها موجبة للغسل، كما سيأتي.

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 410، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 30.

(2) تقدّم في الصفحة 273 274.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 285

المسألة الثالثة في أحكام الخَلْوة
اشارة

و هي ثلاثة:

الأوّل: في كيفيّة التخلّي
اشارة

و فيها حكمان:

الحكم الأوّل: وجوب ستر العورة:
اشارة

و هو- أي وجوب الستر مطلقاً في التخلّي و غيره، و كذا وجوب حفظ النظر عن عورة من يجب عليه التستّر عنه، ممّا لا خلاف فيه «1» و لا إشكال، بل ربما يعدّ من ضروريّات الدين «2».

الاستدلال بآية الغضّ علىٰ وجوب ستر العورة

و يدلّ عليه من الكتاب قوله تعالىٰ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ .. الآية «3».

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 1: 49/ السطر 1 4، جواهر الكلام 2: 2، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 43، مستمسك العروة الوثقىٰ 2: 185.

(2) جواهر الكلام 2: 2.

(3) النور (24): 30.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 286

بتقريب: أنّ المراد من غضّ البصر ليس غضّه عن كلّ شي ء، و كذا ليس المراد غضّ البصر عن المحرّمات؛ بمعنى غمض العين و الاجتناب عنها، بل المراد منه غضّ البصر عن فروج الغير، كما يدلّ عليه ذكر الفروج في قوله وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ و عليه فيكون المراد من قوله وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ هو حفظ الفرج من أن ينظر إليه بملاحظة السياق، فالآية الشريفة بظاهرها تدلّ على الحكمين من دون حاجة- في مقام الاستدلال بها إلىٰ ما ورد في تفسيرها ممّا رواه الصدوق، أنّه سُئل الصادق (عليه السّلام) عن قول اللّٰه عزّ و جلّ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ؟ فقال

كُلّ ما كان في كتاب اللّٰه- عزّ و جلّ من حفظ الفرج فهو من الزنا إلّا في هذا الموضع، فإنّه للحفظ من أن يُنظر إليه «1».

و ممّا عن تفسير النعماني، عن عليّ (عليه السّلام) في قوله تعالىٰ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصٰارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكىٰ لَهُمْ: معناه لا ينظر أحدُكم إلىٰ فرج أخيه المؤمن، أو يُمكّنه من النظر إلىٰ

فرجه، ثمّ قال قُلْ لِلْمُؤْمِنٰاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصٰارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ أي ممّن يلحقهنّ النظر، كما جاء في حفظ الفروج، فالنظر سبب إيقاع الفعل من الزنا و غيره «2».

و لا يخفىٰ أنّه لو لم نقل بظهور الآية بنفسها في ذلك، فإثبات الحكم بها- و لو بمعونة ما ورد في تفسيرها مشكل؛ لكون الروايتين مرسلتين، و لا يجوز الاعتماد عليهما.

______________________________

(1) الفقيه 1: 63/ 235، وسائل الشيعة 1: 300، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 1، الحديث 3.

(2) المحكم و المتشابه: 64، وسائل الشيعة 1: 300، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 1، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 287

و يدلّ على الحكم المذكور أيضاً الأخبار الكثيرة المستفيضة «1».

و بالجملة: لا ينبغي الإشكال في أصل الحكم بنحو الإجمال.

و إنّما الكلام في إطلاقه بالنسبة إلى المسلم و الكافر و الصغير و الكبير و المميِّز و غير المميِّز، فنقول:

ظاهر الآية الشريفة- و أكثر النصوص الواردة في المسألة إطلاق الحكم بالإضافة إلى الجميع إلّا غير المميّز، فإنّ الظاهر عدم الشمول له؛ لأنّه لا يُفهم عرفاً من وجوب التستّر إلّا وجوبه عمّن له إدراك و شعور، كما يظهر بمراجعة العرف، و لذا لا يُفهم من ذلك وجوب التستّر عن البهائم و الحيوانات، فضلًا عن غيرها، كما لا يخفى.

و يظهر من المحكيّ عن الصدوق: عدم حرمة النظر إلىٰ عورة الكُفّار «2»؛ تمسّكاً بما رواه في الفقيه عن الصادق (عليه السّلام)، أنّه قال

إنّما أكره النظر إلىٰ عورة المسلم، و أمّا النظر إلىٰ عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلىٰ عورة الحمار «3».

و بمرسلة ابن أبي عُمير، عن غير واحد من أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

النظر إلىٰ

عورة من ليس بمسلم مثل النظر إلىٰ عورة الحمار «4».

هذا، و لكن إعراض الأصحاب عنهما يخرجهما عن الاعتبار فلا يجوز الاعتماد عليهما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 299، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 5، مستدرك الوسائل 1: 248، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 1.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 421.

(3) الفقيه 1: 63/ 236، وسائل الشيعة 2: 36، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 6، الحديث 2.

(4) الكافي 6: 501/ 27، وسائل الشيعة 2: 35، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 6، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 288

حدود العورة الواجب سترها

ثمّ إنّ المراد بالعورة التي يجب سترها، و يحرم النظر إليها، هي القُبُل و الدبُر و البيضتان؛ لدلالة العرف عليه، و للآية الشريفة «1» الدالّة علىٰ وجوب ستر الفرج و تحريم النظر إليه؛ لأنّ الفرج لا يشمل أزيد من ذلك قطعاً.

و يدلّ عليه أيضاً: مرسلة أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن الماضي (عليه السّلام)، قال: «العورة عورتان: القُبُل و الدُّبُر، و الدُّبُر مستور بالأليتين، فإذا سترت القضيب و البيضتين فقد سترت العورة» «2».

و ما رواه الشيخ بإسناده، عن محمّد بن علي بن محبوب، عن العبّاس عن علي بن إسماعيل، عن محمّد بن حكيم، قال الميثمي: لا أعلمه إلّا قال: رأيت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) أو من رآه «3» متجرّداً و علىٰ عورته ثوب، فقال

إنّ الفخذ ليست من العورة «4».

و مرسلة الصدوق، قال: قال الصادق (عليه السّلام)

الفخذ ليس من العورة «5».

و لا يخفىٰ أنّ إسناد الصدوق الحكم المذكور إلى الإمام (عليه السّلام)- من دون

______________________________

(1) النور (24): 30.

(2) الكافي 6: 501/ 26، تهذيب الأحكام 1: 374/ 1151، وسائل الشيعة

2: 34، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 4، الحديث 1.

(3) هكذا في التهذيب و هو الصحيح و في الوسائل (ط. الإسلامية): رآها.

(4) تهذيب الأحكام 1: 374/ 1150، وسائل الشيعة 2: 34، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 4، الحديث 1.

(5) الفقيه 1: 67/ 253، وسائل الشيعة 2: 35، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 4، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 289

أن يروي عنه يشعر بل يدلّ على اعتماده على الرواية و كونها معتبرة عنده، ففي الحقيقة يصير ذلك بمنزلة الشهادة علىٰ صدورها؛ لكون رواتها موثّقين بنظره، فلا مجال للإشكال على الاستدلال بها بمثل الإرسال؛ لأنّ هذا النحو من الإرسال- في قبال ما إذا أسنده إلى الرواية، فقال- مثلًا: روي كذا و كذا لا يضرّ بالاعتماد على الرواية.

و يؤيّد الحكم المذكور: ما رواه الصدوق بإسناده عن عبد اللّٰه المرافقي «أنّه دخل حمّاماً بالمدينة، فأخبره صاحب الحمّام: أنّ أبا جعفر (عليه السّلام) كان يدخله فيبدأ فيطلي عانته و ما يليها، ثمّ يلفّ إزاره علىٰ أطراف إحليله، و يدعوني فاطلي سائر بدنه» الحديث «1».

و قد يستدلّ علىٰ أنّ العورة ما بين السرّة و الركبة «2»: بما رواه بشير النبّال، قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الحمّام فقال (عليه السّلام)

تريد الحمّام؟

قلت: نعم فأمر بإسخان الماء ثمّ دخل فاتّزر بإزار، فغطّى ركبتيه و سُرّته .. إلىٰ أن قال: ثمّ قال

هكذا فافعل «3».

و فيه- مضافاً إلىٰ ما في سنده من الإرسال و غيره ما لا يخفى من عدم الدلالة، كما هو ظاهر.

و بما رواه في محكيّ «قرب الإسناد» عن الحسن بن ظريف، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه، أنّه قال

إذا زوّج الرجل

أمته فلا ينظرنّ إلىٰ

______________________________

(1) الفقيه 1: 65/ 250، وسائل الشيعة 2: 53، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 18، الحديث 1.

(2) الحدائق الناضرة 7: 6.

(3) الكافي 6: 501/ 22، وسائل الشيعة 2: 35، كتاب الطهارة، أبواب آداب الحمّام، الباب 5، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 290

عورتها، و العورة ما بين السرّة و الركبة «1».

و لا يخفىٰ أنّه لا دلالة لها علىٰ أنّ العورة مطلقاً كذا، بل ظاهرها أنّ المراد بعورة الأمة المزوّجة بالغير- التي يحرم النظر إليها هو ما بين السرّة و الركبة، غايتها أن يكون المراد بعورة النساء هو ما ذكر، لا أن تكون العورة مطلقاً بهذا المعنى المذكور.

و بالجملة: فلا ينبغي الإشكال في أنّ العورة لا تشمل أزيد من القُبُل و الدبُر و البيضتين، و لعلّه يجي ء تفصيله في كتاب الصلاة.

ثمّ إنّه لا إشكال في وجوب التستّر فيما لو علم وجود الناظر بالفعل، و الظاهر أنّه لا إشكال أيضاً في الوجوب فيما لو علم بتجدّده علىٰ تقدير كشفها، كما لو علم بوجود الناظر في الحمّام فدخله مكشوف العورة.

كما أنّ الظاهر حرمة الدخول فيه؛ إذا علم بأنّه يقع نظره إلىٰ عورة الغير علىٰ تقدير الدخول فيه؛ و ذلك لأنّه يصدق عليه أنّه فعل ذلك اختياراً و إن كان شي ء من النظر و عدم التستّر ليس في نفسه أمراً اختياريّاً.

ثمّ إنّ الواجب في باب ستر العورة، إنّما هو إخفاؤها عن الغير بثوب أو يد أو غيرهما من الأشياء الحائلة بينها و بين النظر؛ لأنّ الغرض إنّما هو حفظها عن الناظرين، و هو يحصل بكلّ ما يوجب اختفاءها عن نظر الغير، و لا يجب سترها بحيث لا يرى حجمها؛ لعدم الدليل علىٰ حفظ

الحجم أيضاً. نعم لا عِبْرة بالحاجب الذي يحكي ما وراءه لرقّته؛ لأنّه لا يصدق عليه «الساتر» بنظر العرف، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) قرب الإسناد: 103/ 345، وسائل الشيعة 21: 148، كتاب النكاح، أبواب نكاح العبيد و الإماء، الباب 44، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 291

الحكم الثاني: حرمة استقبال القبلة و استدبارها
اشارة

كما هو المشهور بين أصحابنا الإماميّة «1» رضوان اللّٰه عليهم من دون فرق بين الصحاري و الأبنية.

و حكي عن ظاهر سلّار التفصيل بين الصحاري و الأبنية؛ بحرمة الاولىٰ و كراهة الثانية «2».

و عن المفيد إباحتها «3»، مثل ما يقوله الشافعي «4».

و عن ابن الجُنيد استحباب ترك الاستقبال في الصحراء، و لم يتعرّض لحكم الاستدبار فيها، و لا لحكم البنيان أصلًا «5».

و عن بعض العامّة التفصيل بين الاستقبال و الاستدبار «6».

و عن بعضهم الجواز فيهما؛ أي في الصحاري و الأبنية جميعاً «7».

و كيف كان، فالعمدة في إثبات الحكم في المقام هي الشهرة العظيمة المحقّقة؛ لأنّ الأخبار الواردة في هذا الباب غير قابلة للاستناد إليها؛ لضعف سندها، و لاشتمالها علىٰ ما لا يلتزم به أحد مثل حرمة استقبال الريح و استدبارها.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء 1: 117، جواهر الكلام 2: 8، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 427، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 51.

(2) المراسم: 32، مختلف الشيعة 1: 99، مفتاح الكرامة 1: 49/ السطر 14.

(3) المقنعة: 41، انظر تذكرة الفقهاء 1: 118.

(4) الخلاف 1: 102، تذكرة الفقهاء 1: 118، الامّ 1: 23، المجموع 2: 81.

(5) انظر المعتبر 1: 122، مختلف الشيعة 1: 99.

(6) الخلاف 1: 102، تذكرة الفقهاء 1: 119، المجموع 2: 81.

(7) الخلاف 1: 102، المغني، ابن قدامة 1: 153، المجموع 2: 81.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 292

و لكن

يقع الكلام: في أنّ الشهرة هل تكون مستندة إلىٰ تلك الأخبار؛ بمعنى أنّ المشهور اعتمدوا عليها في مقام الإفتاء بهذا الحكم؛ بحيث تكون الشهرة جابرة لضعفها، فتصير الروايات كالأخبار الصحيحة؛ حتّى يجب النظر في مدلولها، و الحكم علىٰ طبق مضمونها و لو لم يقل به المشهور، أو أنّ المدار على الشهرة، فكلّ مورد تحقّقت فيه الشهرة تجب متابعة المشهور، دون ما لم تتحقّق فيه؟

و الثمرة بينهما تظهر فيما بعد.

الروايات التي قد يستند إليها في المقام

و كيف كان، فلا بأس بذكر الروايات الواردة في الباب، فنقول:

منها: ما رواه الكليني، عن عليّ بن إبراهيم رفعه، قال: خرج أبو حنيفة من عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)- و أبو الحسن موسى (عليه السّلام) قائم و هو غلام- فقال له أبو حنيفة: أين يضع الغريب ببلدكم؟ فقال

اجتنب أفنية المساجد، و شطوط الأنهار، و مساقط الثمار، و منازل النُّزّال، و لا تستقبل القبلة بغائط و لا بول، و ارفع ثوبك، وضع حيث شئت «1».

و منها: ما رواه أيضاً عن محمّد بن يحيىٰ بإسناده رفعه، قال: سئل أبو الحسن (عليه السّلام)، ما حدّ الغائط؟ قال

لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها، و لا تستقبل الريح و لا تستدبرها «2».

______________________________

(1) الكافي 3: 16/ 5، تهذيب الأحكام 1: 30/ 79، وسائل الشيعة 1: 301، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 1.

(2) الكافي 3: 15/ 3، الفقيه 1: 18/ 12، تهذيب الأحكام 1: 26/ 65، و: 33/ 88، الاستبصار 1: 47/ 131، وسائل الشيعة 1: 301، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 293

و منها: رواية حسين بن زيد، عن الصادق عن آبائه (عليهم السّلام)

أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه

عليه و آله و سلّم) قال في حديث المناهي: إذا دخلتم الغائط فتجنّبوا القبلة «1».

و منها: مرسلة الصدوق، قال

و نهى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) عن استقبال القبلة ببول أو غائط «2».

و منها: رواية عيسى بن عبد اللّٰه الهاشمي، عن أبيه، عن جدّه، عن علي (عليه السّلام)، قال: قال النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)

إذا دخلت المخرج فلا تستقبل القبلة و لا تستدبرها، و لكن شرِّقوا أو غرِّبوا «3».

و منها: مرفوعة عبد الحميد بن أبي العلاء و غيره، قال: سئل الحسن بن علي (عليهما السّلام): ما حدّ الغائط؟ قال

لا تستقبل القبلة و لا تستدبرها، و لا تستقبل الريح و لا تستدبرها «4».

و بالجملة: فلا ينبغي الإشكال في الحكم علىٰ نحو الإجمال.

في حقيقة الاستقبال و الاستدبار

و إنّما الكلام في أنّ المحرّم، هل هو الاستقبال أو الاستدبار بالبدن في حال البول أو الغائط، أو أنّ المحرّم هو الاستقبال و الاستدبار بنفس البول و الغائط؟

______________________________

(1) الفقيه 4: 3/ 3، وسائل الشيعة 1: 302، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 3.

(2) الفقيه 1: 180/ 11، وسائل الشيعة 1: 302، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 25/ 64، الإستبصار 1: 47/ 130، وسائل الشيعة 1: 302، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 5.

(4) تهذيب الأحكام 1: 26/ 65، و: 33/ 88، الاستبصار 1: 47/ 131، وسائل الشيعة 1: 302، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 294

و تظهر الثمرة فيما لو استقبل القبلة بمقاديم بدنه، و حرّف بوله عنها إلى المشرق أو المغرب، فيحرم على الأوّل دون

الثاني، و فيما لو استقبل المشرق أو المغرب بالمقاديم و حرّف بوله نحو القبلة، فيحرم على الثاني دون الأوّل.

و لسان الأخبار من هذه الجهة مختلف فظاهر مرفوعة علي بن إبراهيم «1» الثاني كذيل رواية حسين بن زيد «2»، و ظاهر صدرها هو الأوّل كسائر الروايات.

و دعوىٰ: أنّ المحرّم إنّما هو الاستقبال بمقاديم البدن، و التعبير بالاستقبال بالغائط و البول إنّما هو للملازمة العاديّة بينهما؛ لأنّ الغالب عدم انفكاك الثاني عن الأوّل «3».

مدفوعة: باحتمال العكس؛ و كون المحرّم هو الاستقبال بالبول و الغائط، و التعبير بالاستقبال بمقاديم البدن لعدم انفكاكه عادة عن الأوّل.

كما أنّ دعوى: ثبوت الحكمين و تحقّق التحريمين؛ لأنّ النسبة بين الأدلّة عموم من وجه، و لا منافاة بينها حتّى ترجّح إحداهما- في مورد الاجتماع على الأُخرىٰ. و يؤيّدها الجمع بينهما في رواية الحسين بن زيد، فإنّه لو كان هنا حكم واحد لكان المناسب بيانه فقط، مع أنّه (عليه السّلام) ذيّل كلامه بنهي رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) عن استقبال القبلة ببول أو غائط، و ليس ذلك إلّا لكون المقصود بيان الحكمين إلّا أن يقال باحتمال كون الذيل رواية مستقلّة قد نقلها الراوي في ذيل هذه الرواية لا أن يكون المجموع كلاماً واحداً «4».

مدفوعة: بأنّ الظاهر- بل المقطوع عدم ثبوت الحكمين و عدم تحقّق

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 292.

(2) تقدّم في الصفحة 293.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 428، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 56.

(4) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 56.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 295

التحريمين، و حينئذٍ فمع كلا الاحتمالين لا دليل علىٰ حرمة الاستقبال بالمقاديم فقط، و لا علىٰ حرمة الاستقبال بالبول أو الغائط فقط،

فإنّ القدر المتيقّن هي حرمة الاستقبال و الاستدبار بهما دون أحدهما، و ثبوتها في غيره مشكوك، فتجري فيه البراءة.

ثمّ لا يخفى أنّه لو قلنا بثبوت الحكمين، فهو إنّما يكون بالنسبة إلى الاستقبال فقط؛ لأنّ لسان الأخبار فيه مختلف، و أمّا الاستدبار فليس في الأدلّة ما يدلّ علىٰ تحريمه ببول أو غائط، بل ظاهرها تحريمه بمقاديم البدن، فتعميم الحكم بالنسبة إليهما في غير محلّه.

نعم روى الشيخ في «الخلاف» بطريق عامّيّ عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) ما يدلّ علىٰ تحريم الاستقبال أو الاستدبار ببول أو غائط «1»، و لكنّها رواية عامّيّة لا يجوز الاعتماد عليها.

ثمّ لا يخفى أنّ عبارات الأصحاب- كمدلول الروايات مختلفة: فعن بعضهم تظهر حرمة الاستقبال و الاستدبار، الظاهرة في الاستقبال و الاستدبار بالمقاديم «2»، و عن بعض آخر التصريح بذلك «3»، و عن ثالث حرمة الاستقبال و الاستدبار بالبول و الغائط «4».

و بالجملة: فالشهرة ليست قائمة علىٰ خصوص أحد الاحتمالين؛ حتّى يعتمد عليها في الحكم بالتحريم من دون الاحتياج إلى الأخبار الواردة في المسألة.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 25/ 64، الخلاف 1: 103.

(2) نهاية الإحكام 1: 79، راجع مفتاح الكرامة 1: 49 50.

(3) كشف اللثام 1: 215.

(4) الخلاف 1: 101، المبسوط 1: 16، السرائر 1: 95، تحرير الأحكام 1: 7/ السطر 13، مفتاح الكرامة 1: 50/ السطر 9 10.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 296

حرمة الاستقبال و الاستدبار في الصحاري و الأبنية

ثمّ إنّ ظاهر الروايات كالفتاوي إطلاق الحكم للصحاري و الأبنية، و قد يستدلّ «1» على التفصيل بينهما بحسنة ابن بزيع قال: دخلت علىٰ أبي الحسن الرضا (عليه السّلام) و في منزله كنيف مستقبل القبلة، و سمعته يقول

من بال حذاء القبلة، ثمّ ذكر فانحرف عنها

إجلالًا للقبلة و تعظيماً لها، لم يقم من مقعده ذلك حتّى يغفر له «2».

و لا دلالة لها علىٰ جواز الاستقبال في الأبنية؛ لأنّ مجرّد كون الكنيف مستقبل القبلة لا يدلّ علىٰ جواز الاستقبال في حال البول و الغائط إلّا أن يكون بناؤه بأمر الإمام (عليه السّلام)، و لم يعلم ذلك من الرواية، بل الظاهر عدمه؛ لأنّ كراهته ممّا لا إشكال فيه، و مجرّد ذكر الثواب دون العقاب لا يدلّ علىٰ عدم وجوب الانحراف و استحبابه؛ لما تراه من ذكر الثواب في الأخبار الكثيرة «3» علىٰ فعل بعض الواجبات.

ثمّ إنّه لا إشكال في الحرمة فيما لو استقبل القبلة أو استدبرها قائماً أو جالساً، و أمّا المستلقي فالظاهر عدم تحقّق عنوان الاستقبال و الاستدبار في حقّه؛ لأنّه لا يعقل أن يكون الإنسان في آنٍ واحد مستقبلًا لجهتين متخالفتين أو مستدبراً لهما، فمع كونه مستقبلًا لما فوقه أو ما تحته أو مستدبراً لواحد منهما، كيف يمكن أن يكون مستقبلًا للقبلة أو مستدبراً لها، و الأخبار الواردة في

______________________________

(1) مختلف الشيعة 1: 100.

(2) تهذيب الأحكام 1: 26/ 66، الإستبصار 1: 47/ 132، وسائل الشيعة 1: 303، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 2، الحديث 7.

(3) ثواب الأعمال: 57/ 3، و: 69/ 2، و: 70.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 297

المحتضر الدالّة علىٰ وجوب جعله نحو القبلة «1»، لا يُستفاد منها كون الاستقبال في نظر الشارع أعمّ ممّا هو بنظر العرف، و أنّه يصدق على المستلقي- الذي يكون رجلاه إلى القبلة أنّه مواجه لها حقيقة.

ثمّ إنّ الظاهر اختصاص الحكم بحالة البول و التغوّط و لا يشمل حال الاستنجاء.

نعم لا يبعد شموله لحالة الاستبراء المستلزم لخروج قطرة أو قطرات؛ لأنّه

لا مدخليّة للكثرة في ذلك الحكم أصلًا.

و قد يتشبّث «2» لشموله لحالة الاستنجاء برواية عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت له: الرجل يريد أن يستنجي كيف يقعد؟ قال

كما يقعد للغائط

، قال

و إنّما عليه أن يغسل ما ظهر منه، و ليس عليه أن يغسل باطنه «3».

و فيه: أنّ المراد- بقرينة الذيل الردّ على العامّة؛ حيث إنّهم يقعدون للاستنجاء نحواً آخر من زيادة التفريج و إدخال الأنملة.

فرع: صور اشتباه القبلة و أحكامها

لو اشتبهت القبلة: فإمّا أن تردّد بين الجهتين المتخالفتين المتقابلتين، فيجب عليه أن لا يستقبلهما و لا يستدبرهما بالاستقبال إلىٰ غيرهما، و لو تردّدت بين الجهتين غير المتقابلتين، فإن قلنا بأنّ الجهات لا تزيد علىٰ أربع، فالحكم كما لو اشتبهت و تردّدت بين جميع تلك الجهات، و إن قلنا: إنّ الجهات ثمانية

______________________________

(1) وسائل الشيعة 2: 452، كتاب الطهارة، أبواب الاحتضار، الباب 35.

(2) مدارك الأحكام 1: 159.

(3) الكافي 3: 18/ 11، تهذيب الأحكام 1: 355/ 1061، وسائل الشيعة 1: 360، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 37، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 298

فالواجب عليه استقبال غير الجهتين المحتملتين، و لو تردّدت بين الجهات الثمانية فالذي يظهر من «المصباح»: أنّ الحكم كما في الشبهة غير المحصورة، التي قام النصّ «1» و الإجماع «2» علىٰ عدم وجوب الاحتياط فيها «3».

و لكن لا يخفى أنّه لا يكون المقام من مصاديق الشبهة غير المحصورة؛ لعدم إضافة الجهات على الثمانية، و حينئذٍ فيصير المقام كالخمر المردّد بين ثمانية إناءات، و لا سبيل لأحد إلى الالتزام بعدم وجوب الاحتياط فيها، كما هو ظاهر، و علىٰ هذا فاللازم الفحص عن القبلة عند إرادة التخلّي لئلّا يستقبلها أو يستدبرها،

و ما ادّعاه (قدّس سرّه) من كون طريقة المتشرّعة علىٰ عدم الفحص عنها عند إرادة التخلّي «4»، ممنوع جدّاً.

ثمّ إنّه لو تعارض الاستقبال و الاستدبار و دار الأمر بينهما، فلا وجه لترجيح الثاني على الأوّل؛ إذ لم يعلم أنّ المناط توهين القبلة المتحقّق في الأوّل دون الثاني، و إلّا يلزم عدم حرمة الثاني، بل حرمة غيره من الجهتين الأُخريين؛ إذ الاستدبار أقلّ توهيناً من غيره. نعم لو دار الأمر بينهما و بين مقابلة ناظر محترم يجب تقديمهما عليها؛ للقطع بكون مراعاة الثاني أهمّ في نظر الشارع، كما يظهر بملاحظة الأخبار الواردة فيه «5»، فتتبّع.

______________________________

(1) المحاسن: 495/ 597، وسائل الشيعة 25: 119، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأطعمة المباحة، الباب 61، الحديث 5، انظر فرائد الأُصول 2: 432.

(2) فرائد الأُصول 2: 430.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 58.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 58 59.

(5) وسائل الشيعة 1: 299، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 1، و 2: 37 و 38 و 42، أبواب آداب الحمّام، الباب 8 و 9 و 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 299

الثاني من أحكام الخلوة: الاستنجاء
اشارة

قال المحقّق في «الشرائع» «و يجب غسل موضع البول بالماء، و لا يجزي غيره مع القدرة» «1».

أقول: يدلّ علىٰ لزوم غسل البول بالماء الأخبار الكثيرة التي بعضها صريح في ذلك:

منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

لا صلاة إلّا بطهور، و يُجزيك عن الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله «2».

و منها: رواية بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، أنّه قال

يُجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا

يجزي من البول إلّا الماء «3».

و منها: رواية يونس بن يعقوب، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الوضوء الذي افترضه اللّٰه على العباد لمن جاء من الغائط أو بال؟ قال

يغسل ذكره، و يذهب الغائط، ثمّ يتوضّأ مرّتين مرّتين «4».

و منها: صحيحة عيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 10.

(2) تهذيب الأحكام 1: 49/ 144، و: 209/ 605، الاستبصار 1: 55/ 160، وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 50/ 147، الإستبصار 1: 57/ 166، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 6.

(4) تهذيب الأحكام 1: 47/ 134، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 300

بال في موضع ليس فيه ماء، فمسح ذكره بحجر، و قد عرق ذكره و فخذاه؟ قال قال

يغسل ذكره و فخذيه «1».

و غير ذلك من الروايات.

ثمّ إنّه قد يستدلّ على الخلاف ببعض الأخبار «2»، كرواية عبد اللّٰه بن بكير، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يبول و لا يكون عنده الماء، فيمسح ذكره بالحائط؟ قال

كلّ شي ء يابس زكيّ «3».

و رواية سماعة قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السّلام): إنّي أبول ثمّ أتمسّح بالأحجار، فيجي ء منّي البلل ما يفسد سراويلي؟ قال

ليس به بأس «4».

و رواية حنّان بن سدير، قال: سمعت رجلًا سأل أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) فقال: إنّي ربما بلت فلا أقدر على الماء، و يشتدّ ذلك عليّ؟ فقال

إذا بلت و تمسّحت فامسح ذكرك بريقك، فإن وجدت شيئاً فقل:

هذا من ذاك «5».

و أنت خبير: بأنّه لا دلالة للرواية الأُولىٰ علىٰ مطلوبهم، فإنّ الظاهر أنّ المراد بالزكي هو الطاهر؛ من حيث عدم تأثيره في تنجيس ملاقيه، لا مع الرطوبة. و القرينة علىٰ ذلك العموم المدلول عليه بلفظة «كلّ»، الشامل

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 421/ 1333، وسائل الشيعة 1: 350، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 31، الحديث 2.

(2) منتهى المطلب 1: 43/ السطر 30، انظر جواهر الكلام 2: 16، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 63.

(3) تهذيب الأحكام 1: 49/ 141، الإستبصار 1: 57/ 167، وسائل الشيعة 1: 351، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 31، الحديث 5.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 300

(4) تهذيب الأحكام 1: 51/ 150، الإستبصار 1: 56/ 165، وسائل الشيعة 1: 283، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 4.

(5) الكافي 3: 20/ 4، الفقيه 1: 41/ 160، تهذيب الأحكام 1: 353/ 1050، وسائل الشيعة 1: 284، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء، الباب 13، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 301

للأعيان النجسة اليابسة كالعذرة النجسة اليابسة و غيرها، فلا دلالة لها علىٰ حصول التطهير بالمسح بالحائط.

ثمّ إنّ نفس السؤال يدلّ علىٰ أنّ اعتبار التطهير بالماء كان أمراً واضحاً مفروغاً عنه، غاية الأمر حصول الاشتباه في بعض الصور و الموارد.

و أمّا الرواية الثانية فهي و إن كانت ظاهرة الدلالة إلّا أنّها ضعيفة السند مضافاً إلىٰ موافقتها للعامّة «1» التي توجب الظنّ بالصدور تقيّة. و أمّا الرواية الثالثة فلا دلالة لها، بل الظاهر كونها كالروايات السابقة،

الدالّة على انحصار تطهير البول في الغسل بالماء، فإنّ الظاهر أنّ المراد بمسح الذكر بالريق هو مسح المواضع الطاهرة منها، و الأمر به إنّما هو لتلبيس الأمر عليه عند وجدان البلل، فهي ظاهرة في نجاستها عند عدم المسح بالريق أو العلم بكونها منه.

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّ حمل الرواية على التقيّة- كما فعله بعضهم «2» بعيد، بعد كون الرواية ظاهرة في انحصار المطهّر في الغسل بالماء؛ إذ لا وجه لهذا الحمل بعد هذا الظهور، كما هو ظاهر.

حول وجوب إزالة العين مع عدم القدرة على الماء

ثمّ إنّ ظاهر عبارة «الشرائع» المتقدّمة «3» حيث قيّد فيها عدم الإجزاء بصورة القدرة يوهم كفاية غير الماء مع عدم القدرة و الاضطرار.

و لكن الظاهر عدم كونه مراداً للمحقّق؛ لأنّ التفصيل مخالف للنصوص «4»

______________________________

(1) الامّ 1: 22، المجموع 2: 125.

(2) مدارك الأحكام 1: 162، جواهر الكلام 2: 15.

(3) تقدّم في الصفحة 299.

(4) تقدّم في الصفحة 299 300.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 302

و الفتاوىٰ «1»، بل قد ادُّعي الإجماع علىٰ عدم الفرق «2»، فلا بدّ أن يكون المراد النظر إلىٰ حكم الصلاة و نظائرها المشروطة بالطهارة؛ بمعنى أنّ اعتبارها و اشتراطها بها، إنّما هو مع القدرة عليها، و أمّا مع عدمها فيجتزىٰ بغير الماء؛ بمعنى أنّه لا بدّ من إزالته بغيره و إن لم يحصل التطهير بها.

و لكن لا يخفى أنّ هذه مسألة خلافيّة: ربما ينسب إلى المشهور الأوّل، كما أنّه يحكىٰ «3» عن بعض عدم وجوب إزالة العين عند تعذّر التطهير بالماء «4».

و استدلّ للمشهور «5» بالمراسيل المعروفة المذكورة في الكتب الفقهيّة و الأُصولية، و هي

الميسور لا يسقط بالمعسور «6»

، و

ما لا يُدرك كلّه لا يُترك كلّه «7»

، و قوله (صلّى اللّٰه عليه و

آله و سلّم)

إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم «8».

و لكنّها- مضافاً إلىٰ كونها مراسيل، قد اشتهر ذكرها في كتب المتأخّرين فقط، و لم يعلم من القدماء ذكرها و لا الاستدلال بها لا دلالة لها علىٰ لزوم تقليل النجاسة، أو إزالة عينها مع بقاء أثرها، أو غيرهما من الصور، فإنّ موردها- خصوصاً الأخيرة منها هو ما إذا كان للمأمور به أفراد و مصاديق أو أجزاء أو

______________________________

(1) الانتصار: 16، الخلاف 1: 103، السرائر 1: 96، المعتبر 1: 124، تذكرة الفقهاء 1: 124، قواعد الأحكام 1: 3/ السطر 19، ذكرى الشيعة 1: 169، الحدائق الناضرة 2: 7، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 63.

(2) مدارك الأحكام 1: 162، جواهر الكلام 2: 16.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 435، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 63.

(4) مدارك الأحكام 1: 162، ذخيرة المعاد: 17/ السطر 27، الحدائق الناضرة 2: 21.

(5) جواهر الكلام 2: 16، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 63.

(6) عوالي اللآلي 4: 58/ 205.

(7) عوالي اللآلي 4: 58/ 207.

(8) نفس المصدر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 303

مراتب، و من المعلوم انتفاؤها في المقام؛ إذ ليس للطهارة الشرعيّة المعتبرة في الصلاة- بالنسبة إلى الثوب و البدن أفراد و لا أجزاء و لا مراتب، كما لا يخفى. و تحقيق الكلام في موضعه «1».

______________________________

(1) لا بأس بالإشارة إلىٰ هذه القواعد الثلاث و مقدار دلالة أدلّتها؛ ليظهر حال الاستدلال بها للمقام، فنقول:

أمّا النبوي فقد رواه مرسلًا في «الكفاية» (أ) مصدّراً بهذا الصدر، و هو أنّه خطب رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) فقال: «إنّ اللّٰه كتب عليكم الحجّ، فقام عكاشة- و يروى سراقة بن مالك فقال: في كلّ عام يا رسول

اللّٰه؟ فأعرض عنه حتّى أعاد مرّتين أو ثلاثاً، فقال (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): و يحك و ما يؤمنك أن أقول: نعم؟! و اللّٰه لو قلت: نعم، لوجب، و لو وجب ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تُركتم، و إنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم إلىٰ أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه».

و قد رواه في محكيّ «العوالي» (ب) من دون ذاك الصدر، كما أنّه قد روى الصدر من دون هذا القول مع اختلاف يسير.

و كيف كان، فيحتمل أن يكون المراد بالشي ء هي الطبيعة التي لها أفراد و مصاديق، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد هي الطبيعة المركّبة من أجزاء، و يحتمل ثالث، و هو أن يكون المراد به الأعمّ منهما، كما هو ظاهر لفظ الشي ء، فإنّه من الألفاظ العامّة.

و الاحتمالات المتصوّرة في قوله: «منه» أيضاً ثلاثة: كونها بمعنى التبعيض، أو بمعنى الباء، أو بيانيّة.

كما أنّه يحتمل أن تكون كلمة «ما» موصولة، و أن تكون مصدريّة زمانيّة.

و الأظهر من بين هذه الاحتمالات: هو أن يكون المراد بالشي ء معناه الظاهر، الذي يكون أعمّ من الطبيعة البسيطة ذات الأفراد و المصاديق، و من الطبيعة المركّبة ذات الأبعاض و الأجزاء.

- أ كفاية الأُصول: 420 421.

ب عوالي اللآلي 4: 58/ 207.

كما أنّ الأظهر أن تكون «من» للتبعيض؛ لأنّ كونها بمعنى الباء مطلقاً، أو بيانيّة في خصوص المقام، بعيد، بل لا معنىٰ لكونها بيانيّة هنا، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ التبعيض لا ينافي كون الشي ء أعمّ من الطبيعة ذات الأفراد؛ بدعوىٰ أنّ التبعيض ظاهر في الطبيعة المركّبة، فإنّا نمنع أن تكون كلمة «من» مرادفة للتبعيض؛ بحيث تستعمل

مكان ذلك المفهوم، بل الظاهر أنّ معناها هو الذي يعبّر عنه في الفارسيّة ب «از».

نعم لا مجال للإشكال في اعتبار نحوٍ من الاقتطاع في معناها، و لكنّه لا ينافي صحّة استعمالها في الطبيعة بالإضافة إلىٰ أفرادها، فإنّها بنظر العرف كأنّها جزء من الطبيعة منشعب منها.

و أمّا كلمة «ما» فاستعمالها موصولة و إن كان شائعاً- بل أكثر إلّا أنّ الظاهر كونها في المقام زمانيّة، خصوصاً بملاحظة الصدر؛ إذ لو كانت موصولة يصير المعنىٰ: أنّه لو أمرتكم بطبيعة فأتوا منها ما استطعتم من أفرادها، مع أنّ ذكره إنّما هو لبيان نفي وجوب الحجّ في كلّ عام، الذي توهّمه عكاشة أو سراقة، بل يكون ذلك مخالفاً للضرورة و الإجماع في أكثر الواجبات، فلا بدّ أن تكون مصدريّة زمانيّة، فيصير المعنىٰ: أنّه إذا أمرتكم بالطبيعة ذات الأفراد أو الأجزاء، فأتوا من تلك الأفراد أو الأجزاء زمان الاستطاعة، ففي الحقيقة يرجع ذلك إلىٰ ما يحكم به العرف و العقلاء في مقدار امتثال الأمر الوجوبي.

هذا ما أفاده سيّدنا العلّامة الأُستاذ (قدّس سرّه).

و لكنّه لا يخفى أنّ التكلّم في المراد من النبوي: تارة يقع فيه من حيث هو مع قطع النظر عن ذلك الصدر، و أُخرى مع ملاحظته، فنقول:

أمّا الكلام فيه من حيث هو: فلا يخفى أنّ لفظ الشي ء و إن كان عامّاً، شاملًا للطبيعة التي لها أفراد و مصاديق و الطبيعة التي لها أجزاء و أبعاض، إلّا أنّ الجمع بين كون كلمة «من» بمعنى التبعيض و كون كلمة «ما» مصدريّة زمانيّة، لا يستقيم مطلقاً، فإنّه يصير معناه بناء علىٰ ذلك: أنّه إذا أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا من هذه الطبيعة زمان الاستطاعة.

كما أنّه لا يستقيم في الطبيعة ذات الأجزاء أيضاً، فإنّه

يصير معناه إذا أمرتكم بطبيعة مركّبة فأتوا من أجزائها زمان الاستطاعة.

فالتبعيض لا يلائم إلّا مع كون كلمة «ما» موصولة، كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام.

نعم لو كانت كلمة «من» بمعنى الباء لكانت ملائمة مع حمل كلمة «ما» على الزمانيّة، بل لا بدّ من حملها عليها بناء علىٰ هذا.

و حينئذٍ فنقول: إنّ «ما» موصولة، كما هو الشائع فيها، و كلمة «من» للتبعيض، كما هو الشائع فيها أيضاً، بل هو معناها. نعم حمل الشي ء علىٰ عمومه و إبقاؤه عليه ينافي ذلك، فيرفع اليد عن العموم، فيصير معنى الرواية: أنّه إذا أمرتكم بطبيعة مركّبة فأتوا من أجزائها ما استطعتم منها.

و يؤيّده: استدلال كثير منهم بهذه القاعدة لوجوب الإتيان بالأجزاء بعد تعذّر بعضها.

و أمّا الكلام فيه مع ملاحظة الصدر المذكور فنقول:

إنّ الظاهر بملاحظة قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): «و لو وجب ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم»، أنّ المراد به وجوب الإتيان بالطبيعة المأمور بها زمان الاستطاعة، فيكون المراد نفي الوجوب عند عدمها، و لا تعرض له للمقدار الواجب من الأفراد أو الأجزاء، بل يكون المقصود مجرّد اختصاص وجوب الامتثال بزمان الاستطاعة و نفيه عند عدمها.

هذا تمام الكلام في هذه القاعدة التي اشتهر التمسّك بها وبأُختيها في ألسنة المتأخّرين فقط.

و منه يظهر: عدم كون الشهرة جابرة لإرسالها؛ لأنّ الشهرة الجابرة هي الشهرة بين القدماء من الأصحاب- رضوان اللّٰه عليهم أجمعين كما حقّق في محلّه (أ).

و أمّا قوله (عليه السّلام) في العلوي: «ما لا يُدرَك كلُّه لا يُترك كلُّه» (ب).

فالظاهر من كلمة «كلّ» و إن كان هو الكلّ المجموعي إلّا أنّه لا يستفاد منه الوجوب؛ لأنّ- أ تهذيب الأُصول 2: 100 103.

ب عوالي اللآلي 4: 58/

207.

القاعدة تجري في المندوبات أيضاً، و عليه فيكون المراد بقوله: «لا يترك» هو مطلق مرجوحيّة الترك، كما لا يخفى.

و أمّا قوله (عليه السّلام): في العلوي أيضاً: «الميسور لا يسقط بالمعسور» (أ).

فيحتمل أن يكون المراد به: أنّ الميسور من أفراد الطبيعة لا يسقط بمعسورها، و يحتمل أن يكون المراد به: أنّ الميسور من أجزاء الطبيعة المركّبة لا يسقط بالمعسور من أجزائها.

ثمّ إنّ التعبير بالسقوط يدلّ على الثبوت في محلّ مرتفع؛ إذ بدونه لا يصدق عليه السقوط، و نفي السقوط عن نفس الميسور- كما هو ظاهر العبارة الظاهر في ثبوته بنفسه، إنّما هو لكونه ثابتاً علىٰ ذمّة المكلّف، كما ورد في بعض الأخبار التعبير عن الصلاة: بأنّها دَين اللّٰه (ب).

فإنّ هذا التعبير و نظائره، ظاهر في ثبوتها بنفسها في ذمّة المكلّف و علىٰ عُهدته، بل نقول: إنّ الثابت على الذمّة لا يعقل أن يكون غير الواجب، فإنّ الحكم الذي هو الوجوب عبارة عن نفس الثبوت على الذمّة، و لا يعقل أن يكون الثبوت عين الثابت، كما هو واضح.

و بالجملة: فالرواية ظاهرة في نفي سقوط الميسور بنفسه، و هذا المعنىٰ لا ينافي احتمال كون المراد منها هو الميسور و المعسور من الأجزاء.

وجه توهّم المنافاة: أنّ الميسور من الأجزاء لم يكن ثابتاً على الذمّة أصلًا؛ حتّى لا يسقط بالمعسور منها، بل الثابت إنّما هو مجموع الأجزاء الذي هو عبارة عن الكلّ، و لا معنىٰ لبقائه بعد كونه معسوراً.

بيان عدم المنافاة: أنّ الميسور من الأجزاء و إن لم يكن ثابتاً على الذمّة بنفسه مستقلا، إلّا أنّه ثابت عليها بتبع ثبوت الكلّ، و هذا المقدار يكفي في استناد عدم السقوط إليه، كما هو ظاهر.

- أ عوالي اللآلي 4: 58/ 205.

ب الفقيه

2: 195/ 884، ذكرى الشيعة: 75، بحار الأنوار 85: 315، وسائل الشيعة 8: 282، كتاب الصلاة، أبواب قضاء الصلاة، الباب 12، الحديث 26.

ثمّ إنّه ربما يشترط في وجوب الإتيان بالأجزاء الميسورة كونها بمقدار يصدق عليها أنّها ميسور الطبيعة بمعنى صدق الطبيعة عليها.

و لكنّه لا يخفى أنّ هذا الاشتراط إنّما يتمّ لو كان المراد من قاعدة الميسور هو الاحتمال الأوّل، الذي يرجع إلى الميسور من أفراد الطبيعة؛ لأنّ الطبيعة لا بدّ و أن تصدق علىٰ أفرادها، فلو فرض عدم صدقها علىٰ بعض الأشياء لما وجب الإتيان به؛ نظراً إلىٰ هذه القاعدة.

و أمّا لو كان المراد به هو الاحتمال الثاني، فلا وجه لذلك الاشتراط أصلًا، كما أنّ القاعدة الثانية المتقدّمة تعمّ الجميع و تنافي الاشتراط.

و أمّا القاعدة الاولىٰ فلو كان المراد منها: أنّه إذا أمرتكم بطبيعة ذات أفراد فأتوا بها ما استطعتم من أفرادها، فللاشتراط وجه، بخلاف سائر الاحتمالات، فتدبّر.

إذا عرفت ما ذكرنا علمت: أنّ القواعد الثلاث كلّها بعيدة عن المقام بمراحل؛ لأنّ الطهارة المعتبرة في الصلاة ليست بمعنى النظافة العرفيّة حتّى يتصوّر لها مراتب، ثمّ يتصوّر لها الميسور و المعسور، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم لا يتعقل لها أجزاء و مراتب و أفراد و مصاديق، فإنّ الثوب و البدن إمّا أن يكونا طاهرين، و إمّا أن لا يكونا كذلك شرعاً، و هذا واضح جدّاً.

ثمّ إنّ الجواب عن الاستدلال بما ذكر، إنّما هو بعد تسليم إمكان كون الطهارة شرطاً للصلاة، و إلّا فلو قلنا باستحالته لما عرفت: من أنّ الطهارة الخبثيّة ليست أمراً وجودياً، بل تكون من الأُمور العدميّة.

و العدم لا يُعقل أن يكون مؤثّراً في الوجود، فلا بدّ أن تكون النجاسة مانعة، لا أنّ

الطهارة شرطاً، فعدم جريان القواعد- حينئذٍ أظهر من أن يخفىٰ علىٰ أحد، بعد وضوح كون مجراها هو خصوص الواجبات، أو الأعمّ منها و من المستحبّات، فتأمّل جيّداً، [المقرر دام ظلّه].

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 307

حول لزوم تقليل النجاسة

نعم يمكن الاستدلال علىٰ لزوم تقليل النجاسة، أو سائر الموانع التي يعتبر عدمها في الصلاة؛ بتعلّق النهي بالصلاة في النجس، كما يستفاد من الأخبار

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 308

الواردة في الموارد الجزئيّة المعلّلة بأنّها رجس «1»، فإنّ العرف لا يفهم منه إلّا تعلّق النهي بالصلاة في الرجس مطلقاً، أو بالصلاة في أجزاء غير المأكول، كما في موثّقة ابن بكير- المعروفة «2» و غيرها.

وجه الاستدلال: أنّ الأمر و النهي و إن كانا غير مختلفين في نظر العقل؛ من حيث تعلّقهما بالطبيعة المهملة المتحقّقة بوجود فردٍ ما، و المعدومة أيضاً بعدم فردٍ ما، أو بالطبيعة السارية في جميع وجوداتها؛ بمعنى أنّ متعلّق الأمر كما يحتمل في نظر العقل أن يكون هي الطبيعة المهملة؛ حتّى يتحقّق الامتثال بإيجاد فردٍ ما من أفرادها و وجودٍ من وجوداتها، كذلك يحتمل أن يكون هو الوجود الساري في جميع الوجودات، و كذا النهي، فإنّ متعلّقه يمكن أن يكون هي الطبيعة المهملة المتحقّقة بترك بعض وجوداتها، كما أنّه يمكن أن يكون هي الطبيعة السارية في جميع أفرادها؛ حتّى لا يتحقّق الامتثال إلّا بترك الجميع.

و بالجملة: لا فرق بين الأمر و النهي في نظر العقل أصلًا، فما اشتهر بينهم- من أنّ الأمر يبعث إلى الوجود، و الطبيعة تتحقّق بوجود فردٍ ما، و النهي يزجر عن الوجود، و الطبيعة لا تنعدم إلّا بعدم جميع الأفراد «3» لا ينطبق على البرهان، بل هو علىٰ خلافه، فإنّ

الطبيعة كما توجد بوجود فردٍ ما، كذلك تنعدم بعدمه؛ إذ لا يعقل أن يكون وجود بعض الأفراد وجوداً لها، و لا يكون عدمه عدماً لها.

______________________________

(1) الكافي 3: 405/ 5، تهذيب الأحكام 1: 279/ 819، الإستبصار 1: 189/ 662، وسائل الشيعة 3: 418، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 13، الحديث 2، و: 469، الباب 38، الحديث 4.

(2) الكافي 3: 397/ 1، تهذيب الأحكام 2: 209/ 818، وسائل الشيعة 4: 345، كتاب الصلاة، أبواب لباس المصلّي، الباب 2، الحديث 1.

(3) كفاية الأُصول: 172 و 182 و 183.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 309

و السرّ في ذلك: أنّ كلّ فرد من أفراد الطبيعة هو تلك الطبيعة بتمامها، فزيد تمام الإنسان، و كذا عمرو و بكر و غيرهما، فبوجوده يوجد و بعدمه ينعدم، و لا ينافي عدمها بانعدام زيد وجودها بوجود عمرو، فإنّها متكثّرة حسب تكثّر الأفراد و الوجودات، فلا يلزم اجتماع النقيضين، كما أنّ الإنسان أبيض لبياض بعض أفراده و أسود لسواد البعض الآخر؛ من دون استلزام ذلك لاجتماع الضدّين أصلًا، كما هو ظاهر.

و بالجملة: فمعنىٰ قولهم: «إنّ الطبيعة المهملة توجد بوجود فردٍ ما» أنّ كلّ فرد من أفرادها تمام الطبيعة، و إلّا فلو كانت متحصّصة بحصص كثيرة حسب كثرة الأفراد و الوجودات، يلزم أن يكون وجودها وجود جميع تلك الحصص، و حينئذٍ فمع كون الطبيعة متحقّقة بوجود بعض أفرادها- كما هو المسلّم بينهم كيف يمكن القول بأنّ انعدامها يتوقّف على انعدام الجميع، فإنّ زيداً- مثلًا لو كان تمام حقيقة الإنسان بحيث توجد بوجوده، فكيف يمكن أن لا يكون عدمه موجباً لانعدام الإنسان، فتأمّل في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام، كما يظهر بمراجعة كلمات الأعلام، و ليرجع

إلىٰ محلّه لتفصيل الكلام «1».

و بالجملة: فالعقل و إن كان لا يرى فرقاً بين الأمر و النهي أصلًا، إلّا أنّ العرف يحكم بتحقّق الفرق بينهما، و أنّه يكفي في تحقّق امتثال الأمر المتعلّق بالطبيعة إيجاد فرد منها، بخلاف النهي، فإنّه لا يصدق الامتثال فيه إلّا بعد ترك جميع الأفراد، و حينئذٍ فكما يستفيد العرف من دليل تحريم الخمر: أنّ مطلوب المولى عدم تحقّق شربه في الخارج أصلًا، فلو اضطرّ إلىٰ شربه لا يسقط بذلك التحريم مطلقاً؛ حتّى يجوز له شربه زائداً على المقدار المضطرّ إليه، كذلك

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 104، تهذيب الأُصول 1: 373.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 310

الحكم في الأحكام الوضعية، فإنّ النهي عن الصلاة في النجس و إن كان مدلوله مانعيّة النجس عنها، إلّا أنّها لا تكون مدلولًا أوّليّاً للنهي؛ بحيث لم يكن فرق بين النهي كذلك و بين جعل المانعية للمنهيّ عنه ابتداء، بل الظاهر أنّ مفاده الأوّلي هو الزجر عن متعلّقه، كالنواهي الدالّة على الأحكام التكليفيّة، غاية الأمر أنّه يستفاد من الزجر في الأوّل البطلان و المانعيّة.

و حينئذٍ فيظهر الوجه في عدم الفرق بين التحريم المتعلّق بشرب الخمر، المستفاد منه مبغوضيّته في ضمن أيّ وجود حصل، و بين الزجر عن الصلاة في النجس، فإنّ مدلوله بنظر العرف هو مبغوضيّة الصلاة فيه في ضمن أيّ فرد تحقّق، فلو اضطُرّ إلى الصلاة في النجس لأجل عدم القدرة على التطهير، أو إلى الصلاة في أجزاء غير المأكول لبرد أو غيره من المسوّغات، فلا يجوز ذلك إلّا بالمقدار المضطرّ إليه، فلو كان ثوبه أو بدنه نجساً، و لم يكن قادراً إلّا علىٰ تطهير بعضه، فلا تجوز الصلاة فيه مع عدم التطهير، و

كذا لو اضطُرّ إلىٰ بعض أجزاء غير المأكول، فلا تجوز له الصلاة في غير الجزء المضطرّ إليه، كما عرفت.

الاستدلال بصحيحة ابن سنان علىٰ تقليل النجاسة

ثمّ إنّه يمكن أن يستفاد ذلك ممّا ورد في وجوب الغسل من بول ما لا يؤكل لحمه- كما في صحيحة ابن سنان «1» أو كلّ ما لا يؤكل لحمه- كما في صحيحته الأُخرىٰ «2» بتقريب: أنّ الأمر بغسل الثوب منه ليس إلّا لنجاسته، لا لكونه

______________________________

(1) الكافي 3: 57/ 3، تهذيب الأحكام 1: 264/ 770، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 2.

(2) الكافي 3: 406/ 12، وسائل الشيعة 3: 405، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 8، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 311

جزءاً لغير المأكول؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ عدم كونه جزءاً له حقيقة لو كان وجوب الغسل لأجل كونه جزءاً، لا للنجاسة، لكان الواجب عدم استصحابه بأيّ وجه اتّفق، و لا ريب في أنّه لا ينحصر التخلّص منه بالغسل، بل يحصل بتعريضه للشمس أو للنار حتّى تحصل اليبوسة له، فإنّه لا عين له- كما ورد في الأخبار التعبير عنه: بأنّه ماء، فراجع «1».

و بالجملة: فالمستفاد عرفاً من الأمر بغسل الثوب من بول غير المأكول ليس إلّا لكونه نجساً، و بعد إلغاء الخصوصيّة يفهم من ذلك وجوب غسله من جميع النجاسات.

و حينئذٍ فنقول: إنّ الحكم بالاجتناب عن النجس في الصلاة لو ورد بلسان الأمر- كما هو المفروض و قد عرفت أنّ العرف يحكم- في باب الأوامر بتحقّق الامتثال بأوّل وجود حصل من الطبيعة المأمور بها «2»، يكون مفادُ هذا النحو من الأمر بنظره، وجوبَ إزالة النجاسة عن الثوب بحيث يصير خالياً عن جميع النجاسات، و لذا لا يكتفي في امتثاله

بغسل بعض أطرافه فقط.

و توهّم: أنّ المأمور به هو غسل الثوب، و غسل بعض الأطراف لا يصدق عليه أنّه غسل الثوب، بل لا يتحقّق ذلك إلّا بإزالة جميع النجاسات و غسله بأجمعه «3».

مدفوع: بأنّ لازم ذلك هو أنّه لو تنجّس بعض أطرافه فقط لم يجب

______________________________

(1) الكافي 3: 55/ 1، تهذيب الأحكام 1: 249/ 714، المستطرفات، ضمن السرائر 3: 557، وسائل الشيعة 3: 395 و 396، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1، الحديث 4 و 7.

(2) تقدّم في الصفحة 309.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 66.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 312

غسله؛ لأنّ الواجب هو غسل الثوب، أو وجب غسل جميع الأطراف، و هو باطل إجماعاً، بل الضرورة علىٰ خلافه.

و بالجملة: فمفاد هذا الأمر بنظر العرف هو وجوب إزالة جميع النجاسات عن الثوب؛ بحيث يصير خالياً عنها بأجمعها، نظير ما يفهم من النهي المتعلّق بشرب الخمر و غيره من المنهيّات، و حينئذٍ فلو اضطُرّ إلى الصلاة في النجس؛ بأن لم يتمكّن من غسل ثوبه- مثلًا لفقدان الماء أو غيره بناءً علىٰ وجوب تقديم الصلاة في النجس على الصلاة عارياً كما هو أحد القولين في تلك المسألة «1» فلا تجوز الصلاة في المقدار الزائد على المقدار المضطرّ إليه، نظير شرب الخمر و أمثاله.

و قد تلخّص من جميع ما ذكرنا: أنّ الواجب- بمقتضىٰ ما عرفت من الروايات هو تقليل الموانع لو اضطُرّ إلىٰ واحد منها أو أزيد حتّى ينتهي إلى المقدار المضطرّ إليه، فلو اضطُرّ أو أُكره على الصلاة في الثوب المأخوذ من وبر غير المأكول، فلا يجوز له تنجيسه- مثلًا أو لبس الزائد على المقدار المضطرّ إليه أو المكره عليه، و غير ذلك من الصور.

و المسألة

بعد محتاجة إلى التأمّل و النظر في الأدلّة الواردة في الموانع و الشروط، و لعلّه يجي ء تفصيل الكلام فيها إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

______________________________

(1) راجع مفتاح الكرامة 1: 182/ السطر 25، العروة الوثقى 1: 97 98.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 313

أقلّ ما يُجزي في غسل البول
اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و أقلّ ما يُجزي مِثلا ما على المخرج» «1».

أقول: هذا هو المشهور «2»، و مستنده رواية نشيط بن صالح، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: سألته كم يُجزي من الماء في الاستنجاء من البول؟ فقال

مِثلا ما على الحَشَفَة من البلل «3».

في الاستدلال برواية نشيط بن صالح

و نوقش في الاستدلال بها بضعف السند؛ لاشتماله علىٰ مروك بن عبيد، و هو مجهول «4»، و لكن نقل «5» في محكيّ «الخلاصة» «6» عن الكشّي أنّه حكى عن محمّد بن مسعود، أنّه قال: سألت علي بن الحسن الفضّال عن مروك بن عبيد بن سالم بن أبي حفصة، فقال: «ثقة شيخ صدوق» «7».

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 10.

(2) جامع المقاصد 1: 93، مسالك الأفهام 1: 29، جواهر الكلام 2: 17، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 62.

(3) تهذيب الأحكام 1: 35/ 93، الإستبصار 1: 49/ 139، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب الخلوة، الباب 26، الحديث 5.

(4) رجال النجاشي: 425، رجال الطوسي: 406، انظر الفهرست: 168، منتهى المطلب 1: 44/ السطر 5 و 6، معجم رجال الحديث 18: 125 126.

(5) جواهر الكلام 2: 18.

(6) رجال العلّامة الحلّي: 172 173.

(7) اختيار معرفة الرجال: 563.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 314

و لكن في السند أيضاً هيثم بن أبي مسروق النهدي، و هو أولىٰ بالمناقشة؛ إذ لم يرد قول بوثاقته. نعم ذكر النجاشي في ترجمته: أنّه قريب الأمر «1»، و مراده منه- كما يستفاد من المواضع الأُخر «2» هو كونه قريباً إلى الإماميّة من حيث المذهب؛ بمعنى عدم التباعد بين مذهبه و مذهب الإماميّة كثيراً، و هذا التعبير لو لم يدلّ علىٰ قدحه لا يدلّ علىٰ وثاقته بوجه.

نعم حُكي «3»

عن العلّامة (قدّس سرّه) «4» أنّه صحّح في بعض الموارد السند المشتمل علىٰ هيثم المذكور، و لكن الذي يسهّل الخطب انجبار السند- علىٰ تقدير الضعف بفتوى المشهور قديماً و حديثاً علىٰ مضمونها، بل عبّروا في فتاويهم بعين متنها، و ليس ذلك إلّا لكون الرواية معتبرة عندهم، خصوصاً مع كون العبارة خارجة عن العبارات المتداولة المعروفة في المحاورات العرفيّة.

و بالجملة: فالمناقشة في الاستدلال بالرواية من طريق ضعف السند، ممّا لا ينبغي أن يصغى إليها.

و أمّا دلالتها: فلا يخفى أنّ ظاهرها هو وجوب غسل المخرج بضعف ما عليه من القطرة أو أزيد.

و توهّم: أنّ البلل بمعنى الرطوبة، و هي من الأعراض، و الماء لا يكون مثلًا له؛ لأنّه من الجواهر، فيجب رفع اليد عن ظاهر الرواية «5».

مدفوع: بوضوح كون المراد منه- في المقام هي ما يشمل القطرة

______________________________

(1) رجال النجاشي: 437/ 1175.

(2) رجال النجاشي: 315/ 864، و: 421/ 1126، و: 448/ 1209.

(3) تنقيح المقال 3: 306/ السطر 2.

(4) رجال العلّامة الحلّي: 281، جامع الرواة 2: 318.

(5) انظر مستند الشيعة 1: 369، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 70.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 315

الموجودة في المحلّ، كما ورد نظيره في الأخبار أيضاً؛ حيث عبّروا عمّا يخرج من الذكر بعد الاستبراء بالبلل المشتبه، فراجع «1».

نعم قد يحتمل في الرواية أن يكون المراد بالمِثْلَين الغسلتين «2»، و لكنّه من الضعف بمكان.

و مثله في الضعف احتمال أن يكون المراد من السؤال: أقلّ مقدار يحتاج إليه في الاستنجاء من البول «3»، فتكون الرواية متعرّضة لهذا المعنىٰ، لا لكيفيّة التطهير، فلا ينافي اعتبار تعدّد الغسل، نظير ما ورد في الوضوء و الغسل من استحباب التوضّي بمُدّ و الغسل بصاع «4».

و لكن هذا الاحتمال-

مضافاً إلىٰ كونه بعيداً عن ظاهر اللفظ منافٍ لاعتبار تعدّد الغسل؛ إذ لا يمكن التعدّد مع المثلين؛ لأنّ الغسل الواحد لا يتحقّق بدون ذلك؛ لأنّه يعتبر في صدقه جري الماء و قاهريّته، و من الواضح لزوم أكثريّة الماء بالإضافة إلى المغسول في تحقّق الغسل.

و من هنا ربما يحتمل «5» في رواية أُخرى لنشيط بن صالح، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

يُجزي من البول أن تغسله بمثله «6»

أن

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 51/ 150، الاستبصار 1: 56/ 165.

(2) جامع المقاصد 1: 93، جواهر الكلام 2: 19.

(3) انظر جامع المقاصد 1: 93، جواهر الكلام 2: 19.

(4) راجع وسائل الشيعة 1: 481، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 50.

(5) جواهر الكلام 2: 19.

(6) تهذيب الأحكام 1: 35/ 94، الإستبصار 1: 49/ 140، وسائل الشيعة 1: 344، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 26، الحديث 7.

و احتمل الشيخ (قدّس سرّه) أن يكون قوله: «بمثله» راجعاً إلى البول لا على ما بقي على الحشفة، [المقرر دام ظلّه].

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 316

يكون قد وقع الاشتباه في الكتابة، و كان الأصل «بمثليه»؛ لأن الجمع من الغسل و المثل ممّا لا يمكن، كما عرفت، و مع جريان هذا الاحتمال في هذه الرواية، لا تصلح للمعارضة مع الرواية الأُولىٰ، مضافاً إلىٰ كونها مرسلة، و إلى عدم خُلوّ متنها عن الاضطراب، كما هو غير خفيّ.

الاستدلال علىٰ كفاية الغسلة الواحدة

ثمّ إنّه ربما يستدلّ علىٰ كفاية الغسلة الواحدة بصحيحة يونس بن يعقوب المتقدّمة، الواردة في الوضوء الذي افترضه اللّٰه على العباد لمن جاء من الغائط أو بال «1».

بتقريب: أنّ ظاهرها- بقرينة السؤال كونها مسوقة لبيان تمام ما هو الواجب عليه، فترك التعرّض دليل

علىٰ عدم اعتبار التعدّد في الغسل، خصوصاً مع تصريحه (عليه السّلام) بالتكرار في الوضوء مع كونه مستحبّاً «2».

و أنت خبير: بأنّ الظاهر كون المراد بالوضوء هو الوضوء الشرعي المقابل للغسل، و عليه فيكون ذكر غسل الذكر و إذهاب الغائط من باب المقدّمة، فلا يمكن الاستدلال بهما، و الدليل علىٰ ذلك: أنّه لو كان المراد به هو الوضوء اللغوي بمعنى الغسل لكان قوله (عليه السّلام)

و يتوضّأ مرّتين مرّتين

غير مناسب مع السؤال.

إن قلت: لو كان المراد بالوضوء هو المعنى المعروف عند المتشرّعة، يلزم أيضاً ما ذكر من عدم المناسبة بين السؤال و الجواب؛ إذ مورد السؤال- بناء عليه إنّما هو كيفيّة الوضوء، و لا يستفاد ذلك من الجواب، فلا بدّ من أن يكون

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 47/ 134، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 5.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 73.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 317

المراد به هو معناه اللغوي، و عليه فيكون قوله (عليه السّلام)

و يتوضّأ مرّتين مرّتين

غير مرتبط بالسؤال، و لا بأس به؛ لأنّه مذكور تبعاً.

قلت: إنّه يظهر من الجواب أنّ السؤال إنّما هو من هذه الحيثيّة، و الوجه فيه: اشتهار جواز التوضّي أزيد من مرّتين مرّتين بين العامّة، فمقصود السائل إنّما هو هذه الجهة، لا السؤال عن أصل كيفيّة الوضوء.

و يؤيّد كون المراد بالوضوء هو الوضوء بالمعنى المعروف: أنّ الوضوء بالمعنى اللغوي- الشامل للاستنجاء بالماء ممّا لم يفرضه اللّٰه على العباد، بخلاف الوضوء بالمعنى المعهود؛ إذ التعبير بمثل ذلك إنّما هو فيما ورد حكمه في القرآن المجيد «1»، و أمّا لو ثبت حكمه من طريق السنّة فلم يُعهد فيه ذلك التعبير، كما هو غير خفيّ.

الاستدلال علىٰ وجوب التعدّد بأخبار التطهير من البول

ثمّ

إنّ الاستدلال «2» للمقام بالأخبار الكثيرة، الواردة في حكم البول إذا أصاب الجسد أو الثوب «3»، و أنّه يجب صبّ الماء عليه مرّتين، كما ربما يتوهّم؛ بتقريب: أنّه لا خصوصيّة بنظر العرف للجسد أو الثوب، بل ذلك إنّما هو حكم البول في أيّ محلّ كان و أيّ موضع تحقّق.

مردود: بعدم جواز إلغاء الخصوصيّة؛ بعد ما يحتمل قويّاً من الفرق بين الاستنجاء و غيره، و ثبوت بعض التسهيلات في بعض موارده، كالاستنجاء من الغائط، فإنّه يكفي فيه المسح بالأحجار و بغيرها، مع أنّه لا إشكال في عدم

______________________________

(1) المائدة (5): 6.

(2) انظر المعتبر 1: 127، مستند الشيعة 1: 369، جواهر الكلام 2: 21.

(3) راجع وسائل الشيعة 3: 395، كتاب الطهارة، أبواب النجاسات، الباب 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 318

الاكتفاء بغير الماء لو أصاب الغائط الجسد أو الثوب.

و بالجملة: فمع احتمال التفاوت و ثبوت الفرق بين الموردين- بالتسهيل في المقام في التطهير لأجل كثرة الابتلاء أو غيرها، خصوصاً مع ثبوته في الاستنجاء من الغائط لا يجوز إلغاء الخصوصيّة؛ و تعميم الحكم بالنسبة إلىٰ كلّ موضع متنجّس بالبول، كما هو ظاهر.

الاستدلال بصحيحة ابن المغيرة لكفاية الغسلة الواحدة

و قد يستدلّ «1» علىٰ كفاية الغسل الواحد بصحيحة ابن المغيرة، قال: قلت له: هل للاستنجاء حدّ؟ قال

لا؛ حتّى ينقىٰ ما ثمّة.

قال: قلت له: فإنّه ينقىٰ ما ثمّة، و يبقى الريح؟ قال

الريح لا يُنظر إليها «2».

بتقريب: أنّ الاستنجاء عامّ يشمل الاستنجاء من البول.

و لكن قد يناقش فيه: بالانصراف إلى الاستنجاء من الغائط «3»، خصوصاً مع التعبير بالنقاء الذي لا يناسب الاستنجاء من البول، فإنّ المناسب له التنشيف و نظائره، كما لا يخفى.

هذا، و لكن لو منعنا الانصراف، و حكمنا بالشمول للاستنجاء من البول،

فلا مجال لجعل الذيل قرينة علىٰ إرادة خصوص الاستنجاء من الغائط؛ لأنّه لا منافاة بين كون السؤال الأوّل عامّاً و الثاني خاصّاً؛ إذ حكم السؤال الأوّل إنّما هو مع قطع النظر عن الثاني؛ بحيث يفرض كالعدم؛ إذ لا يجوز للإمام (عليه السّلام) الحكم

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 164.

(2) الكافي 3: 17/ 9، تهذيب الأحكام 1: 28/ 75، وسائل الشيعة 1: 322، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 13، الحديث 1.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 74.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 319

بنحو الإطلاق؛ اتّكالًا علىٰ أنّ السائل إنّما يسأل بعده عن الخصوصيّات.

و بالجملة: فالذيل لا يكون قرينة علىٰ إرادة خصوص الاستنجاء من الغائط لو فرض شموله للاستنجاء من البول، كما عرفت.

فالرواية- حينئذٍ تدلّ علىٰ كفاية مجرّد الغسل في الاستنجاء من البول؛ إذ لا دليل علىٰ تقييد النقاء، إلّا ما يدلّ علىٰ عدم كفاية حصول النقاء بغير الماء في مقام التطهير، فيقتصر عليه، و أمّا اعتبار تعدّد الغسل فلا دليل عليه حتّى يقيّد به إطلاق النقاء، كما لا يخفى.

الاستدلال برواية هارون بن حمزة لكفاية الغسلة الواحدة

ثمّ إنّه يمكن الاستدلال للاكتفاء بالغسل الواحد ببعض الأخبار الأُخر أيضاً و إن لم يظهر منهم الاستدلال به، أظهرها في الدلالة رواية هارون بن حمزة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

يُجزيك من الغسل و الاستنجاء ما ملئت يمينك «1».

بتقريب: أنّ المراد ليس كفاية هذا المقدار، الذي يكفي في بلّة اليمين في الغسل و الاستنجاء؛ إذ لا معنىٰ للاكتفاء بهذا المقدار في الغسل، الذي أقلّ ما يكفي فيه من الماء ما يبلّ جميع البدن، فاللازم أن يكون المراد بيان الكيفيّة التي يحصل بها التطهير؛ و أنّه يكفي في الغسل و الاستنجاء مجرّد حصول البلّة الذي هو

أقلّ مراتب الغسل، و حيث إنّه يكفي في الاستنجاء من الغائط المسح بالأحجار و بغيرها، و لا يعتبر فيه الغسل بالماء، فلا بدّ و أن يكون المراد منه الاستنجاء من البول فقط، و حينئذٍ فتدلّ الرواية علىٰ أنّه لا يعتبر في تطهير البول إلّا أقلّ ما يتحقّق به مسمّى الغسل.

______________________________

(1) الكافي 3: 22/ 6، تهذيب الأحكام 1: 138/ 386، وسائل الشيعة 1: 322، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 13، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 320

و ممّا ذكرنا يظهر: أنّه لا وجه لتفسير الاستنجاء بالتطهير من المنيّ بقرينة ذكر الغسل- كما عن «الوافي» «1» أو بالوضوء بقرينة ذكر اليمين أيضاً- كما عن «مجمع البحرين» «2» فإنّ ذكر الغسل لا دلالة فيه علىٰ كون المراد بالاستنجاء شي ء ممّا ذكراه، كما هو واضح، و كذلك ذكر اليمين.

و يؤيّد المطلب: ما ورد في بعض الأخبار من تشبيه البول بالبراز «3» و الحكم بوجوب غسل ما أصابه من البول، كما في بعض الأخبار الواردة في كيفيّة غسل الجنابة «4».

و قد تحصّل من جميع ما ذكرنا: أنّ الأقوىٰ عدم اعتبار تعدّد الغسل و إن كان هو الأحوط.

ثمّ إنّ الظاهر عدم اختصاص الحكم بالذكر، بل يعمّ الأُنثىٰ و الخُنثىٰ و من ليس له ذكر أو ليس له حشفة، و غيرها من الفروض؛ لعدم مدخليّة خصوصيّة الحَشَفَة، و ذكرها في بعض الأخبار إنّما هو لكون السائل مذكّراً، و الغالب فيه أن يكون ذا حَشَفَة. هذا مضافاً إلىٰ خُلوّ بعض الأخبار المتقدّمة بل أكثرها عن ذكرها.

و بالجملة فالواضح شمول الحكم المذكور لجميع الفروض.

نعم لو خرج البول من مخرج غير معتاد، كما إذا خرج من البطن الذي حدثت فيه ثقبة- مثلًا

فالظاهر أنّ حكمه حكم من أصاب البول جسده أو ثوبه. و سيجي ء الكلام فيه إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

______________________________

(1) الوافي 6: 524.

(2) مجمع البحرين 1: 410.

(3) الكافي 3: 19/ 17، تهذيب الأحكام 1: 50/ 146، الإستبصار 1: 55/ 162، وسائل الشيعة 1: 319، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 10، الحديث 5.

(4) تهذيب الأحكام 1: 131/ 363، الإستبصار 1: 123/ 419، وسائل الشيعة 2: 230، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 26، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 321

غسل مخرج الغائط

لا إشكال في عدم لزوم غسل الباطن، كما يدلّ عليه بعض الروايات «1»، و إنّما الواجب غسل الظاهر فقط. كما أنّه لا إشكال في عدم لزوم الغسل في الاستنجاء من الغائط، بل يكفي المسح بالأحجار و بغيرها، كما سيأتي «2».

إنّما الإشكال في المراد من كلمات الأعلام؛ حيث صرّحوا: بأنّه يجب في الاستنجاء بالماء إزالة العين و الأثر «3»، و لا يجب في الاستنجاء بغير الماء إلّا إزالة العين فقط «4».

و وجه الإشكال أوّلًا: في المراد من الأثر الذي تجب إزالته في الغسل، و لا تجب في المسح.

و ثانياً: في الفرق بين المقامين؛ حيث يعتبر في الأوّل إزالة الأثر أيضاً، دون الثاني.

فنقول: قد يقال- كما قيل بأنّ المراد بالأثر هو اللون «5»، و ربما يناقش فيه: بأنّه من الأعراض، و لا يصدق عليه اسم العَذَرة حتّى يجب غسلها «6» أيضاً،

______________________________

(1) راجع وسائل الشيعة 1: 347، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 29، الحديث 1 و 2.

(2) يأتي في الصفحة 328.

(3) المقنعة: 40، شرائع الإسلام 1: 10، مفتاح الكرامة 1: 43، جواهر الكلام 2: 23 24، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 77.

(4) الوسيلة إلىٰ نيل الفضيلة: 47، تحرير الأحكام

1: 7/ السطر 31، التنقيح الرائع 1: 72، مستند الشيعة 1: 374 375، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 453.

(5) التنقيح الرائع 1: 72.

(6) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 77.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 322

و لكن لا يخفى أنّ المراد باللون، ليس هو اللون الذي لا تجب إزالته في الغسل بالماء؛ نظراً إلىٰ أنّ لون الشي ء يعدّ مغايراً له عرفاً، لا من أجزائه، كما هو كذلك بنظر العقل، نظير لون الدم الباقي على الثوب غير الزائل بغسله.

بل المراد به هو اللون الذي يُعدّ بنظر العرف أيضاً من أجزاء العين الزائلة و آثارها، و من شؤونه أنّه لو باشره الرجل بيده الرطبة لأحسّ فيه لزوجة و لصوقة، و من المعلوم أنّ الغسل لا يتحقّق إلّا بإزالته و إن كان تحقّق النقاء بغير الماء لا يتوقّف علىٰ إزالته، و لكن ذلك لا يخرجه عن كونه تتمّة للعين الزائلة و جزءاً لها.

و بالجملة: حكمهم بوجوب إزالة العين و الأثر، يدلّ علىٰ كون المراد بالأثر هو الذي يجب غسله؛ لكونه جزءاً باقياً، و إلّا فلا وجه لوجوب غسله أصلًا.

و حينئذٍ فلا بدّ أن يكون المراد بالأثر- الذي لا تجب إزالته في الاستجمار هو هذا المعنىٰ؛ إذ لا مجال لتوهّم الفرق بكون الأثر هناك يعدّ عذرة يجب غسله، بخلافه هنا، فإنّه لا يعدّ بنظر العرف عذرة؛ لأنّ العرف و إن كان حاكماً بالفرق بين الغسل و المسح؛ و أنّ الأوّل لا يتحقّق إلّا بإزالة الأثر أيضاً، دون الثاني، إلّا أنّه من الواضح أنّه ليس ذلك لكون شي ء واحد عَذَرَة في مقام، و غيرها في مقام آخر، كما لا يخفى.

فلا بدّ و أن يقال بكون الأثر الباقي بعد الاستجمار، هو

ما يكون من أجزاء العَذَرة؛ بحيث يجب غسله بالماء لو استنجىٰ به.

و حينئذٍ فإمّا أن يقال: بأنّه طاهر؛ حتّى يستلزم ذلك، الالتزام بتخصيص عمومات نجاسة العَذَرة؛ و دعوىٰ خروج هذا الفرد من حكمها.

أو يقال: بأنّه عَذَرة معفوّ عنها في الصلاة و غيرها.

و لكنّه لا يخفى أنّ الالتزام بالتخصيص يتوقّف علىٰ ثبوت دليل يدلّ علىٰ

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 323

طهارته؛ إذ مجرّد جواز الصلاة معه أعمّ من الطهارة، و ليس في الأخبار ما يمكن أن يستشعر منه ذلك، عدا صحيحة زرارة المتقدّمة؛ حيث قال الإمام (عليه السّلام) فيها

لا صلاة إلّا بطهور، و يُجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله «1».

و تقريب دلالتها أن يقال: إنّ الحكم بكفاية الأحجار في الاستنجاء من الغائط، بعد نفي الصلاة عمّا لا تكون مع الطهور، ظاهر في أنّ المسح بالأحجار يؤثّر في حصول الطهارة، المعتبرة في الصلاة المنتفية عند عدمها.

و أنت خبير بما فيه: فإنّ التعبير بالإجزاء لو لم يكن قرينة علىٰ عدم حصول الطهارة، فلا أقلّ من أن يكون مانعاً عن ظهوره في حصول الطهارة، و لو سلّم فغاية الأمر إشعار الرواية بذلك، و هو لا يكفي في رفع اليد عن تلك العمومات.

هذا مضافاً إلىٰ أنّه يظهر من بعض الأخبار: أنّه لا تحصل الطهارة بالمسح بالأحجار، بل يتوقّف حصولها على الغسل بالماء:

منها: صحيحة مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السّلام)

أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال لبعض نسائه: مُرِي نساء المؤمنين أن يستنجين بالماء و يُبالغْنَ، فإنّه مَطْهرة للحواشي و

مَذْهبة للبواسير «2».

فإنّ ظاهرها أنّ تطهير الحواشي و هو حواشي الدبر، التي هي عبارة عن حلقته يتوقّف على الاستنجاء بالماء، و لا يحصل بالاستنجاء بغيره.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 299.

(2) الكافي 3: 18/ 12، الفقيه 1: 21/ 62، تهذيب الأحكام 1: 44/ 125، الإستبصار 1: 51/ 147، وسائل الشيعة 1: 316، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 324

و منها: الأخبار الكثيرة الواردة في شأن نزول قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ التَّوّٰابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ «1» و انّه ورد في رجل من الأنصار؛ حيث أكل طعاما فلان بطنه، فاستنجى بالماء، فدعاه رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم

هل علمت في يومك هذا شيئاً؟

فقال له: نعم يا رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم إنّي و اللّٰه ما حملني على الاستنجاء بالماء، إلّا أنّي أكلت طعاما فلان بطني فلم تغن عنّي الحجارة شيئا، فاستنجيت بالماء.

فقال له رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم

هنيئاً لك، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ قد أنزل فيك آية، فكنت أنت أوّل التوّابين و أوّل المتطهّرين «2».

و تقريب الدلالة: أنّه لو كان الاستنجاء بالأحجار أو بغيرها سوى الماء مؤثّراً في حصول الطهارة؛ بحيث لم يكن فرق بينه و بين الاستنجاء بالماء، لما كان وصف التطهّر مختصّاً بالرجل، فضلا عن أن يكون أوّل المتطهّرين.

ثمّ إنّ المحكيّ عنهم «3» في المسألة قولان و لم تحقّق الشهرة على أحدهما و إن كان ربما ينسب القول بالطهارة إلى ظاهر كلمات الأكثر «4»، إلّا أنّه مضافا إلى كونهم من المتأخّرين «5» يعارضه ادّعاء بعضهم

______________________________

(1) البقرة (2): 222.

(2) وسائل الشيعة 1: 354،

كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 34.

(3) المعتبر 1: 130، منتهى المطلب 1: 74/ السطر 3، تذكرة الفقهاء 1: 133، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 264.

(4) المعتبر 1: 130، منتهى المطلب 1: 47/ السطر 3 4، ذكرى الشيعة 1: 172، جامع المقاصد 1: 98، روض الجنان: 24/ السطر 5، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 462.

(5) انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 462.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 325

كالمحقّق «1» و العلّامة «2» الإجماع على القول بالعفو، كما هو المحكيّ عنهما «3».

فينحصر مستند المسألة في الأخبار، و قد عرفت أنّه مضافا إلى أنّ التخصيص يحتاج إلى الدليل، و مع عدمه تبقى العمومات على حالها يكون ظاهر الأخبار أيضا ذلك.

فلا محيص عن القول بالعفو، إلّا أنّه ينبغي الاقتصار على خصوص الأحكام و الآثار التي عُفي عنها بمقتضى الدليل؛ لأنّه لم يرد نصّ بهذا اللفظ؛ حتّى يُدّعىٰ ظهوره في العموم بالنسبة إلىٰ جميع أحكام النجاسة، بل هو مقتضى الجمع بين تلك العمومات، و بين الأدلّة الواردة في بعض الموارد الدالّة علىٰ معاملة الطهارة معها فيه «4»، فتجب متابعتها و عدم التعدّي عنها، كما لا يخفى.

فرع: تعيّن الغسل بالماء إذا تعدّى الغائط المخرج
اشارة

لا إشكال بل لا خلاف في عدم إجزاء غير الماء في صورة التعدّي عن المخرج «5». و إنّما الكلام في المراد من المخرج، بعد وضوح أنّه لا يكون ظاهره- الذي هو عبارة عن الموضع الذي يخرج منه بمقصود لهم؛ ضرورة أنّه بناء عليه ينحصر مورد الاستنجاء بغير الماء- من الأحجار و غيرها بما إذا خرج الغائط نحو خروج البعرة، و هو مستلزم لرفع اليد عن الأخبار الكثيرة الواردة في

______________________________

(1) المعتبر 1: 130.

(2) منتهى المطلب 1: 47/ السطر 3

4.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 462.

(4) تهذيب الأحكام 1: 49/ 144، الإستبصار 1: 55/ 160، وسائل الشيعة 1: 315، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 9، الحديث 1.

(5) المعتبر 1: 128، جواهر الكلام 2: 28.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 326

الاستنجاء بالأحجار و بغيرها، مع أنّ كثيراً منها صادر من الصادقَين (عليهما السّلام) «1»، و من المعلوم أنّ أغذية الناس- بحسب النوع لم تكن منحصرة في البُسْر، كما في صدر الإسلام و ما قبله، علىٰ ما رواه الجمهور عن عليّ (عليه السّلام) أنّه قال

إنّكم كنتم تُبعرون بَعْراً .. «2»

إلىٰ آخره، خصوصاً مع كون أكثر الرواة من أهل الكوفة، و حال الكوفة في ذلك الزمان معلوم.

و بالجملة: لا ينبغي الارتياب في عدم كون مرادهم من هذا اللفظ، ما هو ظاهره بحسب اللغة.

و من هنا اختلفت عباراتهم في تفسيره و بيان المراد منه.

و الذي يوافقه التحقيق في المراد من هذا اللفظ ما يظهر من السيّد (قدّس سرّه) في «الانتصار»؛ حيث قال في مقام الردّ على العامّة الطاعنين علىٰ فقهائنا الإماميّة، الفارقين بين البول و الغائط بالحكم؛ بجواز الاستجمار في الثاني دون الأوّل؛ و أنّه لا يكفي فيه إلّا الغسل، و بيان الفرق بينهما:

«و يمكن أن يكون الوجه في الفرق بين نجاسة البول و نجاسة الغائط أنّ الغائط قد لا يتعدّى المخرج إذا كان يابساً، و يتعدّى إذا كان بخلاف هذه الصفة، و لا خلاف في أنّ الغائط متى تعدّىٰ المخرج فلا بدّ من غسله بالماء؛ لأنّه مائع جارٍ، و لا بدّ من تعدّيه المخرج، و هو في وجوب تعدّيه له أبلغ من رقيق الغائط، فوجب فيه ما وجب فيما يتعدّى المخرج من مائع

الغائط، و لا خلاف في وجوب غسل ذلك» «3».

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 30.

(2) عوالي اللآلي 2: 181/ 47، مستدرك الوسائل 1: 278، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 25، الحديث 6، السنن الكبرى، البيهقي 1: 106، كنز العمّال 9: 521.

(3) الانتصار: 16.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 327

و أنت خبير: بأنّ ظاهره أنّ المراد بالغائط المتعدّي الذي لا يجزي فيه إلّا الغسل، هو الذي له نحو من الجريان و الميعان، نظير البول الذي يسري إلىٰ أطراف المخرج، فحيث وجب في الأوّل الغسل يجب في الثاني أيضاً؛ لأنّ البول في التعدّي أبلغ من رقيق الغائط، فيصير المراد أنّه إذا تعدّىٰ عن محلّ العادة لا يكفي إلّا الغسل، فيوافق مع ما رواه الجمهور عنه (عليه السّلام).

و بالجملة فالظاهر أنّ مرادهم بالمخرج محلّ العادة، فإذا تجاوز و تعدّى عنها- كما فيمن لان بطنه و نظائره فلا تُجزي الأحجار و نظائرها.

و يؤيّده: ما عرفت من أنّه لو كان حدّ الاستنجاء الذي يجوز بالاستجمار أقلّ من ذلك، يلزم طرح أخبار الاستنجاء بالأحجار، خصوصاً مع ملاحظة تعارفه في ذلك الزمان.

حكم الشكّ في التعدّي

ثمّ إنّه لو شكّ في التعدّي عن الحدّ الذي يجوز الاستجمار فيه، فإن كانت الشبهة موضوعيّة فالأصل عدمه؛ لو قلنا: بجريان الأصل في إعدام موضوعات الأحكام، و إلّا فالمرجع هو استصحاب النجاسة أو حكمها.

كما أنّ المرجع هو الاستصحاب لو كانت الشبهة حكميّة، كما لا يخفى وجهه.

ثمّ إنّ الحكم في صورة التعدّي، هل هو وجوب غسل خصوص المقدار الذي تعدّىٰ أو وجوب غسل المجموع؟ وجهان.

و الظاهر هو الأخير، كما يظهر من استثنائهم صورة التعدّي عن أدلّة جواز الاستنجاء بالأحجار، كما عرفت.

كتاب الطهارة (تقريرات،

للإمام الخميني)، ص: 328

الاستنجاء بالأحجار
اشارة

هل الواجب- في الاستنجاء بالأحجار المسح بالثلاثة؛ بحيث لا يُجزي بأقلّ من ذلك و إن حصل النقاء بالأقلّ «1»، أو أنّ حدّه النقاء، فلا يجب أزيد ممّا يحصل به النقاء، بل يستحبّ المسح بالثلاثة «2»، أو يجب ذلك تعبّداً و إن كان حدّه النقاء «3»؟ وجوه، بل أقوال.

أدلّة وجوب ثلاثة أحجار

ربما يستدلّ للأوّل بالأخبار الكثيرة الواردة في الاستنجاء بالأحجار «4»:

منها: صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة علىٰ أنّه

يُجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) «5».

تقريب الاستدلال: أنّ الظاهر كون الإمام (عليه السّلام) في مقام بيان أقلّ ما يكفي في الاستنجاء بالأحجار، و يؤيّده- بل يدلّ عليه التعبير بالإجزاء الظاهر في أنّه أقلّ المجزي، كما هو الشائع في استعمال هذا اللفظ، و عليه فيكون المراد من

______________________________

(1) المقنعة: 62، السرائر 1: 96، ذكرى الشيعة 1: 170، روض الجنان: 24/ السطر 19.

(2) الخلاف 1: 104، المهذّب 1: 40، مجمع الفائدة و البرهان 1: 92، مدارك الأحكام 1: 168 169.

(3) المعتبر 1: 127، منتهى المطلب 1: 45/ السطر 19، جامع المقاصد 1: 97، انظر جواهر الكلام 2: 35.

(4) المعتبر 1: 129، منتهى المطلب 1: 45/ السطر 22، جواهر الكلام 2: 36، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 453، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 85 86.

(5) تقدّم في الصفحة 299.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 329

السنّة، السنّة بمعنى الفرض و الوجوب.

هذا و لكن التأمّل في الرواية- بقرينة قوله (عليه السّلام)

و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله

يقضي بأنّ الإمام (عليه السّلام) إنّما كان في مقام بيان الفرق بين البول و الغائط؛ و أنّه لا بدّ في الأوّل من الغسل بالماء،

بخلاف الثاني، فإنّه يكفي فيه الاستجمار و غيره.

و من هنا يظهر الجواب عن الاستدلال «1» برواية بريد بن معاوية، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، أنّه قال

يُجزي من الغائط المسح بالأحجار، و لا يُجزي من البول إلّا الماء «2».

و منها: موثّقة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن التمسّح بالأحجار فقال

كان الحسين بن عليّ (عليهما السّلام) يمسح بثلاثة أحجار «3».

و أنت خبير: بأنّها لا تدلّ على الوجوب لو لم نقل بدلالتها علىٰ عدمه؛ من حيث إنّ ظاهرها اختصاص التمسّح بالثلاثة بالحسين (عليه السّلام)، مع أنّه لو كان واجباً لما كان مختصّاً به، فتدبّر.

و منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

جرت السنّة في أثر الغائط بثلاثة أحجار أن يمسح العجان و لا يغسله، و يجوز أن يمسح رجليه و لا يغسلهما «4».

______________________________

(1) جواهر الكلام 2: 36، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 453.

(2) تهذيب الأحكام 1: 50/ 147، الإستبصار 1: 57/ 166، وسائل الشيعة 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 30، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 1: 209/ 604، وسائل الشيعة 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 30، الحديث 1.

(4) تهذيب الأحكام 1: 46/ 129، وسائل الشيعة 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 30، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 330

و فيها: أنّها لا تدلّ علىٰ أنّ الواجب في الاستنجاء بغير الماء إنّما هو ثلاثة أحجار، و يؤيّده: أنّ مسح العجان- بناء علىٰ ما فسّره في «مجمع البحرين»: من أنّه ما بين الخصْية و حلقة الدُّبُر «1» غير واجب قطعاً.

التحقيق في المقام

و بالجملة: فقد عرفت أنّه لا يستفاد من شي ء من الأخبار المتقدّمة

أنّ حدّ الاستنجاء بالأحجار- الذي لا يُكتفى بما دونه إنّما هو ثلاثة أحجار، فتبقىٰ صحيحة ابن المغيرة المتقدّمة «2» الصريحة في نفي الحدّ له، بل تدلّ علىٰ أنّ اللازم إنقاء ما ثمّة بلا معارض، فالمدار علىٰ حصول النقاء و لو تحقّق بما دون الثلاثة.

و ما ذكره الشيخ (قدّس سرّه): من اختصاص الصحيحة بالاستنجاء بالماء «3»، لا دليل عليه، و القرائن الكثيرة التي أقامها علىٰ ذلك، لا شهادة فيها على الاختصاص بوجه، كما لا يخفى علىٰ من تأمّل فيها.

و أمّا صحيحة يونس بن يعقوب المتقدّمة «4»، الدالّة علىٰ لزوم غسل الذَّكَر و إذهاب الغائط، فقد عرفت أنّها إنّما هي في مقام بيان الوضوء، و ذكر الجملتين إنّما يكون مقدّمة له «5»، فتأمّل.

______________________________

(1) مجمع البحرين 6: 281.

(2) تقدّم في الصفحة 318.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 455.

(4) تقدّم في الصفحة 316.

(5) تقدّم في الصفحة 316.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 331

فتلخّص: أنّ حدّ الاستنجاء إنّما هو النقاء لا غير.

ثمّ لو سُلّم دلالة الأخبار المتقدّمة علىٰ أنّ حدّه التمسّح بالثلاثة، فلا مجال للقول بكونها مقيِّدة لإطلاق صحيحة ابن المغيرة- كما ذكره صاحب المصباح «1» فإنّ الجمع العرفي بينهما يقضي بالحكم بأنّ ذكر الثلاثة في تلك الأخبار إنّما هو لحصول النقاء بها غالباً و توقّفه عليها كذلك لا لبيان نفي كون النقاء حدّا، فإنّ مناسبة الحكم و الموضوع المرتكزة في أذهان العرف، ربما تقضي بأنّ اعتبار الثلاثة لتوقّف تحقّق النقاء عليها؛ إذ من البعيد عندهم أن يكون الشارع قد تعبّدهم بلزوم استعمال الثلاثة و إن حصل النقاء بما دونها، كما لا يخفى.

و بالجملة: صحيحة ابن المغيرة صريحة في نفي الحدّ، فكيف يمكن أن يقيّدها ما يدلّ بظاهره

علىٰ أنّ حدّ الاستنجاء ثلاثة أحجار، فلا بدّ من رفع اليد عن هذا الظهور، خصوصاً مع ما عرفت من مناسبة الحكم و الموضوع المرتكزة عندهم.

فالإنصاف: أنّ مقتضى الجمع العرفي بينهما هو الالتزام بأنّ حدّه مجرّد النقاء.

ثمّ إنّه بناء على القول بلزوم استعمال الثلاثة، فالظاهر اختصاصها بالأحجار؛ لأنّ الأدلّة الظاهرة في ذلك إنّما وردت في خصوص الأحجار، فلا مجال- حينئذٍ لرفع اليد عن إطلاق الصحيحة بالنسبة إلىٰ غير الأحجار. نعم لو قيل باختصاصها بالاستنجاء بالماء- كما ذكره الشيخ (قدّس سرّه) فيمكن الحكم بلزوم الثلاثة مطلقاً؛ نظراً إلىٰ أنّ الخصوصيّة ملغاة بنظر العرف، فتدبّر.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 87.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 332

ثمّ إنّ في الاستنجاء بالأحجار كلاماً من جهات:
الاولىٰ: في كيفيّة المسح بالأحجار

هل يجب أن يمسح بكلّ حجر مجموع الموضع «1»، أم يكفي توزيع الأحجار علىٰ أجزاء الموضع؟ وجهان، بل قولان، و الثاني هو المشهور «2».

و لا يخفىٰ أنّ هذا النزاع، إنّما يجري بناءً علىٰ أن يكون حدّ الاستنجاء التمسّح بالثلاثة، و أمّا لو قلنا بأنّ حدّه النقاء- كما عرفت أنّه الأقوىٰ «3» فلا يبقى مجال للنزاع أصلًا، فإنّ المدار علىٰ حصوله بأيّ نحو تحقّق و بأيّة كيفيّة حصل.

و كيف كان، فبناء علىٰ ذلك القول يكون مقتضىٰ إطلاق الأخبار الاكتفاء بالتوزيع، فإنّ غاية مدلولها إنّما هو لزوم استعمال الثلاثة، و عدم الاكتفاء بما دونها، و أمّا كيفيّة الاستعمال فلا يستفاد منها أصلًا. و دعوىٰ تبادر المسح بالمجموع «4» ممنوعة جدّاً.

ثمّ إنّه لو شككنا في ذلك و قلنا بإجمال هذه الأخبار، فلا مجال للتمسّك بالاستصحاب- كما ذكره صاحب المصباح «5» فإنّ القاعدة تقتضي الرجوع إلى المطلق مع إجمال دليل المقيِّد، و هنا يكون الأمر كذلك، فإنّك عرفت: أنّ غاية مدلول تلك الأخبار هو لزوم

استعمال الثلاثة، فالحجّة الأقوىٰ إنّما هي متحقّقة بالنسبة إلىٰ هذا المقدار، و أمّا بالإضافة إلىٰ كيفيّة الاستعمال- التي قد عرفت

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 11، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 461.

(2) انظر جواهر الكلام 2: 41، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 89.

(3) تقدّم في الصفحة 331.

(4) انظر جواهر الكلام 2: 41، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 87.

(5) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 87.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 333

إجمال الدليل بالنسبة إليها فلا بدّ من الرجوع إلى الإطلاق و الأخذ به. نعم لو قلنا باختصاص الصحيحة بالاستنجاء بالماء كما يظهر من الشيخ «1» فللتمسّك بالاستصحاب وجه.

ثمّ إنّ جواز توزيع الأحجار الثلاثة علىٰ أجزاء الموضع- كما عرفت أنّه المشهور يدلّ علىٰ أنّ حدّ الاستنجاء النقاء؛ إذ لا يعقل أن تكون طهارة الموضع- الذي مسح بالحجر الأوّل أو العفو عنه، موقوفة علىٰ مسح الحجر الثاني و الثالث علىٰ بقيّة أجزاء الموضع، و هكذا، و هذا واضح جدّاً.

الثانية: في لزوم حصول النقاء بالزيادة إذا لم ينقَ بالثلاثة

لا إشكال و لا خلاف في أنّه إذا لم ينقَ بالثلاثة، فلا بدّ من الزيادة حتّى ينقىٰ «2»، و إنّما الكلام في مستند هذا الحكم، فنقول:

لو قلنا: بأنّ حدّ الاستنجاء النقاء فقط من دون مدخليّة للثلاثة أصلًا؛ بحيث لو حصل بدونها لم تجب الزيادة عليه- كما قوّيناه فمستند لزوم الزيادة إذا لم يحصل النقاء بالثلاثة واضح.

و أمّا لو لم نقل بذلك، بل باعتبار الثلاثة في حدّ الاستنجاء؛ نظراً إلىٰ ظاهر الروايات الدالّة علىٰ إجزائها، فيشكل الحكم في المقام؛ لأنّ عمدة تلك الروايات هي صحيحة زرارة المتقدّمة الدالّة علىٰ أنّه

يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار «3»

، و الاستدلال بها إنّما كان مبتنياً علىٰ أن يكون معنى الرواية: كون

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة

330.

(2) الخلاف 1: 104 105، مدارك الأحكام 1: 170، جواهر الكلام 2: 42، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 463.

(3) تقدّم في الصفحة 299.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 334

الثلاثة أقلّ المجزي؛ بمعنى أن تكون الرواية متعرّضة لطرف النقيصة، و أنّه لا يُكتفى بأقلّ من الثلاثة، فلا تعرّض لها لجانب الزيادة أصلًا، فالمرجع- حينئذٍ إمّا صحيحة ابن المغيرة «1» بناءً علىٰ شمولها للاستنجاء بغير الماء، أو الأصل بناءً على اختصاص الصحيحة به.

و أمّا لو كان معنى الرواية هي عدم لزوم الزيادة، كما ربما يمكن أن يدّعىٰ أنّه الشائع في استعمال لفظ الإجزاء، أو كان معناها كون الثلاثة تمام الموضوع؛ بحيث لا يكفي أقلّ منها، و لا يلزم الزيادة عليها، فالرواية تدلّ علىٰ خلاف مطلوبهم كما هو ظاهر، و حيث إنّ الرواية محتملة للاحتمالات الثلاثة، و ليس لها ظهور في أحدها، فلا بدّ من رفع اليد عنها و الرجوع إلى الأصل.

و يمكن أن يستأنس له بموثّقة أبي خديجة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

كان الناس يستنجون بثلاثة أحجار؛ لأنّهم كانوا يأكلون البُسْر، و كانوا يُبْعرون بعراً، فأكل رجل من الأنصار الدَّبا، فلان بطنه فاستنجىٰ بالماء، فبعث إليه النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال: فجاء الرجل و هو خائف، يظنّ أن يكون قد نزل فيه شي ء يسوؤه في استنجائه بالماء فقال له: هل عملت في يومك هذا شيئاً؟ فقال: نعم يا رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إنّي و اللّٰه ما حملني على الاستنجاء بالماء، إلّا أنّي أكلت طعاماً فلان بطني، فلم تُغنِ عنّي الحجارة شيئاً، فاستنجيت بالماء «2»

الحديث.

و طريق الاستئناس من وجهين:

أحدهما: قوله (عليه السّلام)

كان الناس يستنجون

بثلاثة أحجار؛ لأنّهم كانوا يأكلون البُسْر

؛ من حيث إنّ ظاهره أنّ الاكتفاء بالثلاثة، إنّما هو لكونهم يأكلون

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 318.

(2) علل الشرائع: 286/ 1، وسائل الشيعة 1: 355، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 34، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 335

البُسر، و لازمه حصول النقاء بها لعدم توقّفه علىٰ أزيد منها.

ثانيهما: قوله- أي الأنصاري: «فلم تُغنِ عنّي الحجارة شيئاً»؛ من حيث إنّه لو كان الواجب في الاستنجاء، هو استعمال الثلاثة و لو لم يحصل النقاء بها، لم يكن وجه لعدم إغناء الحجارة، و ليس ذلك إلّا لكون المرتكز في أذهانهم، إنّما هو الاستعمال إلىٰ حدّ يحصل النقاء، و هذا لا ينافي ما ذكروه: من عدم الاكتفاء بما دون الثلاثة لو حصل النقاء به «1»، كما لا يخفى.

ثمّ لا يذهب عليك: أنّ ما ذكرناه في معنىٰ رواية ابن المغيرة «2»: من كونها محتملة للاحتمالات الثلاثة المتقدّمة «3»، إنّما هو مع قطع النظر عمّا استظهرناه منها سابقاً «4»، و أمّا مع ملاحظته فتصير الاحتمالات أربعة.

الثالثة: في كفاية المسح بالحجر الواحد من ثلاث جهات

هل يكفي استعمال الحجر الواحد من ثلاث جهات، أم لا؟

ظاهر قوله

يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار

و إن كان عدم الاكتفاء بالحجر الواحد؛ لعدم كونه ثلاثة، إلّا أنّ العرف لا يفهم منه إلّا لزوم تحقّق ثلاث مسحات، و عدم الاكتفاء بأقلّ منها، خصوصاً مع ملاحظة جواز الاستنجاء بالموضع الطاهر من الحجر، المستعمل في استنجاء شخص آخر، أو في استنجاء آخر غير هذا الاستنجاء و لو بالنسبة إلىٰ شخص واحد، فإنّ الفرق بين المقام و بين المسألتين؛ بعدم الجواز في الأوّل دونهما، بعيد بنظرهم للغاية، و يحتاج

______________________________

(1) المقنعة: 62، السرائر 1: 96، ذكرى الشيعة 1: 170، روض الجنان:

24/ السطر 19.

(2) الصحيح رواية «زرارة» بدل «ابن المغيرة».

(3) تقدّمت في الصفحة 334333.

(4) انظر ما تقدّم في الصفحة 330329.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 336

بيانه إلىٰ تعبّد صريح.

لا نقول: بكوننا قاطعين بعدم مدخليّة الانفصال، و كيف يمكن دعوى القطع مع تحقّق الخلاف بينهم؟! بل نقول: إنّ العرف- الذي يكون نظره متّبعاً في باب فهم الأخبار لا يفهم منها أزيد من لزوم ثلاث مسحات، كما لا يخفى على من راجعهم. هذا كلّه في الأحجار.

و أمّا التعدّي عنها إلىٰ كلّ جسم طاهر مزيل للنجاسة فقد ادُّعي الإجماع عليه «1»، و قد يتمسّك له بإطلاق النقاء «2»، الوارد في صحيحة ابن المغيرة المتقدّمة.

و لكن الإنصاف: كما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) «3» أنّ الرواية متعرّضة لبيان حدّ الاستنجاء و المقدار الذي يجب أن يستنجىٰ إليه، لا لبيان ما يستنجىٰ به، كما يُشعر بذلك التعبير بالحدّ و بكلمة «حتّى»، كما في بعض نسخ الرواية «4».

نعم لو ثبت الجواز بدليل آخر، فالرواية تدلّ علىٰ وجوب مسحه إلى النقاء الذي جعل فيها حدّا للاستنجاء، و أمّا أصل الجواز فلا يثبت بها.

و الذي يسهّل الخطب عدم الخلاف ظاهراً في جواز الاستنجاء بكلّ شي ء طاهر مزيل للنجاسة إلّا ما استثني، و إلّا فلا يجوز إلّا بما ورد فيه النصّ بخصوصه؛ إذ لا تكون خصوصيّة الحجريّة ملغاة عند العرف؛ حتّى لا نحتاج في إثبات الجواز إلى الأدلّة الخاصّة الواردة في الموارد الخاصّة.

ثمّ إنّك عرفت أنّ صحيحة يونس بن يعقوب المتقدّمة «5»، إنّما تكون

______________________________

(1) الخلاف 1: 106، غنية النزوع 1: 36، انظر جواهر الكلام 2: 39.

(2) المبسوط 1: 17، المعتبر 1: 131 132.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 466.

(4) تهذيب الأحكام 1: 28/

75.

(5) تقدّم في الصفحة 316.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 337

مسوقة لبيان كيفيّة الوضوء، و ذكر غَسْل الذَّكَر و إذهاب الغائط إنّما هو من باب المقدمة، و عليه فلا يمكن التمسّك بإطلاقها؛ و الحكم بأنّ الواجب في باب الاستنجاء إنّما هو إذهاب الغائط بأيّ شي ء أمكن، كما لا يخفى.

الرابعة: المراد من الحجر المستعمل

لا يجوز استعمال الحجر المستعمل و لا استعمال الأعيان النجسة.

و هل المراد بالحجر المستعمل الحجر المتأثّر بالنجاسة؛ حتّى يرجع النهي عن استعماله إلىٰ شرطيّة الطهارة، كما يمكن استظهاره ممّن اكتفىٰ بذكر اشتراط الطهارة فقط، و صرّح به المحقّق- الذي قيل في حقّه: إنّه لسان القدماء «1» في «المعتبر»؛ حيث قال: «إنّ مرادنا بالمنع من الحجر المستعمل الاستنجاء بموضع النجاسة منه، أمّا لو كسر و استعمل المحلّ الطاهر منه جاز، و كذا لو أُزيلت النجاسة عنه بغسل أو غيره» «2»؟

أو أنّ المراد بالحجر المستعمل الحجر المستعمل في الاستنجاء؛ سواء انفعل أم لا، و سواء مسح بالموضع الطاهر منه، أم بالموضع النجس، كما ربما يدلّ عليه الجمع بين اعتبار عدم الاستعمال و اعتبار الطهارة و الخلوّ عن النجاسة، كما في كلام بعض «3»؟ وجهان:

لا يبعد الأوّل، خصوصاً بملاحظة ما عرفت من «المعتبر» من نسبته إلى الأصحاب.

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 1: 467.

(2) المعتبر 1: 133.

(3) كشف اللثام 1: 211، انظر كشف الغطاء: 113/ السطر 23، جواهر الكلام 2: 46.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 338

و أمّا بناءً على الوجه الثاني فيقع الكلام في مستنده، و قد عرفت أنّ روايتي ابن المغيرة و يونس غير مرتبطتين بالمقام؛ لأنّ الأُولىٰ مسوقة لبيان حدّ الاستنجاء، و الثانية متعرّضة لكيفيّة الوضوء «1». نعم يمكن التمسّك لعدم اعتبار ذلك بصحيحة

زرارة المتقدّمة؛ بناءً علىٰ أن يكون قوله

و يُجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار «2»

ناظراً إلى الصدر الذي يدلّ على اشتراط الصلاة بالطهارة و متفرّعاً عليه، فإنّه- حينئذٍ يكون بصدد بيان حصول الطهارة التي هي شرط للصلاة، أو العفو المجوّز للدخول فيها، فعدم تقييد الأحجار بشي ء- مع كونه في مقام البيان من هذه الجهة دليل علىٰ عدم مدخليّة شي ء من القيود، كما هو الشأن في جميع المطلقات.

ثمّ لا يخفى أنّ هذا لا يستلزم القول بوجوب إكمال الثلاثة و لو حصل النقاء بما دونها؛ لأنّ هذا القول مبنيّ علىٰ ثبوت المفهوم للعدد، و قد حقّق في محلّه عدم ثبوت المفهوم للشرط و الوصف «3»، فضلًا عن العدد. نعم لو قلنا بكون الرواية ناظرة إلى الفرق بين البول و الغائط؛ و أنّه يعتبر في الأوّل الغسل دون الثاني- كما هو المحتمل قويّاً فتكون الرواية مسوقة لبيان هذه الجهة، فهي- حينئذٍ تصير أجنبيّة عن المقام.

و قد يتمسّك لذلك أيضاً بموثّقة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن التمسّح بالأحجار فقال

كان الحسين بن علي (عليهما السّلام) يمسح بثلاثة أحجار «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 316 و 318 و 336.

(2) تقدّم في الصفحة 329.

(3) مناهج الوصول 2: 182، 215، تهذيب الأُصول 1: 426، 452.

(4) تهذيب الأحكام 1: 209/ 604، وسائل الشيعة 1: 348، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 30، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 339

بتقريب: أنّ الجواب و إن كان مشتملًا علىٰ حكاية الفعل، و الفعل لا إطلاق له، إلّا أنّه حيث تكون الحكاية لبيان الحكم الشرعي، و كان المقصود منها بيان الجواب عن السؤال، فلو كان بعض القيود معتبراً في الأحجار لكان اللازم ذكره،

و حيث لم يذكر يستفاد عدم مدخليّة شي ء آخر.

هذا، و لو قلنا بأنّه لا يستفاد من الإطلاقات ذلك، فمقتضى استصحاب بقاء النجاسة أو عدم ثبوت العفو، وجوب الاستنجاء بالحجر الذي لم يكن مستعملًا و إن لم يكن عليه أثر الانفعال، أو أُزيل بالغسل. هذا كلّه في الحجر المستعمل.

و أمّا الأعيان النجسة و كذا الأجسام المتنجّسة و لو بسائر النجاسات، فيدلّ علىٰ عدم جواز الاستنجاء بها- مع كون المطلقات خالية عن اعتبار عدمه مغروسيّة ذلك في أذهان العرف و معهوديّته عندهم؛ بحيث تكون المطلقات منصرفة عن ذلك عندهم، مضافاً إلىٰ أنّه ربما يتأثّر المحلّ منه، فلا يكفي في رفعه- حينئذٍ إلّا الغسل بالماء.

الخامسة: في الأشياء التي لا يستنجى بها

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و لا- يعني لا يُستعمل العظم، و لا الروث، و لا المطعوم، و لا صيقل يزلق عن النجاسة، و لو استعمل ذلك لم يطهر» «1».

أقول: أمّا عدم جواز الاستنجاء بالعظم و الروث فلا خلاف فيه ظاهراً، بل عن غير واحد دعوى الإجماع عليه «2»، و الأخبار الكثيرة

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 11.

(2) غنية النزوع 1: 36، المعتبر 1: 132، منتهى المطلب 1: 46/ السطر 20، روض الجنان: 24/ السطر 7، مفتاح الكرامة 1: 48/ السطر 2، جواهر الكلام 2: 48، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 98.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 340

الواردة في هذا الباب «1» و إن كان كلّها غير نقيّة السند، إلّا أنّ الشهرة العظيمة كافية في جبرها.

و أمّا عدم جواز الاستنجاء بالمطعوم، فلوضوح أنّ الاستنجاء به موجب لكفران نعم اللّٰه تعالىٰ، بل ربما ينتهي إلى الارتداد و الكفر، كما هو غير خفيّ.

و أمّا عدم جوازه بالصَّيْقل، فلأنّ صقالته مانعة عن إزالة النجاسة، فلا يحصل

النقاء الذي هو شرط في التطهير.

ثمّ إنّ النهي عن الاستنجاء بما ذكر ليس علىٰ نسق واحد، فإنّ النهي عن بعضها نهي شرعي تحريمي، كالنهي عن استعمال العظم و الروث، فإنّ المتّفق عليه إنّما هي حرمة استعمالهما.

نعم قد يستدلّ على الفساد بالملازمة بين الفساد و الحرمة «2»، و لكنّها ممنوعة جدّاً؛ فإنّ الملازمة بين الحرمة و الفساد، إنّما هي فيما إذا كان التحريم متعلّقاً بالعبادات، لا بالمعاملات بالمعنى الأعمّ، كما قد حقّق في الأُصول «3».

نعم يمكن أن يقال: إنّ الشهرة القائمة علىٰ حرمة استعمال العظم و الروث في الاستنجاء، إنّما تكفي في جبران ضعف السند، و أمّا الدلالة فمنوطة باجتهاد الناظر، فلعلّه يفهم من الأخبار النهي الوضعي الذي مرجعه إلى الإرشاد إلىٰ عدم حصول الاستنجاء المؤثّر في الطهارة أو العفو بهما.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 357 358، كتاب الطهارة، أبواب أحكام الخلوة، الباب 35، الحديث 1 و 4 و 5.

(2) المبسوط 1: 17.

(3) مناهج الوصول 2: 161، تهذيب الأُصول 1: 416.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 341

و بالجملة: فالنهي عن استعمال الأشياء المذكورة ليس علىٰ نحو واحد، بل بعضه تحريمي شرعي، و بعضه وضعي إرشادي، كالصيقل و نظائره، و حينئذٍ فإذا استعمل المنهي عنه بالنهي التحريمي- جهلًا أو نسياناً أو عصياناً فالظاهر حصول الطهارة أو العفو؛ و إن تحقّق العصيان بالنسبة إلى النهي في بعض الموارد.

و منه يظهر: الإشكال على المحقّق في العبارة المتقدّمة لو كان الضمير في قوله: «و لو استعمل» راجعاً إلىٰ جميع المذكورات.

هذا، و لكنّك قد عرفت «1»: أنّه لا دليل على التعدّي عن الأجسام المنصوصة إلّا الاتّفاق؛ إذ لا يجوز إلغاء الخصوصيّة من قوله (عليه السّلام)

ثلاثة أحجار

و نظائره.

و قد عرفت أيضاً: أنّ

صحيحة ابن المغيرة مسوقة لبيان حدّ الاستنجاء و أنّ رواية يونس لا ترتبط بالمقام أصلًا «2»، فلا بدّ- حينئذٍ من الاقتصار علىٰ ما يشمله معقد الإجماع يقيناً، و مع الشكّ فمقتضى الاستصحاب عدم حصول الطهارة أو العفو، كما هو ظاهر.

الثالث من أحكام الخلوة: سننها

و البحث عنها موكول إلى الكتب المفصّلة الفقهيّة.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 336.

(2) تقدّم في الصفحة 316، و 318، و 336.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 343

المسألة الرابعة في كيفيّة الوضوء
اشارة

و فروضه خمسة:

الفرض الأوّل: النيّة
اشارة

و تفصيل الكلام في هذا المقام و تحقيقه يحتاج إلىٰ بسطه في طيّ مطالب:

المطلب الأوّل: في التعبّدي و التوصّلي
اشارة

و فسّر الأوّل: بأنّه عبارة عمّا لا بدّ في سقوط الأمر به من إتيانه بقصد امتثال الأمر المتعلّق به.

و الثاني: بأنّه عبارة عمّا يسقط أمره بمجرّد تحقّقه في الخارج كيفما اتّفق «1»، و قد اختلفوا في موارد الشكّ في أنّ الأصل، هل يقتضي التعبّديّة أو التوصّليّة؟

و التحقيق أن يقال: إنّ الأفعال التي تجعل متعلّقة للطلب علىٰ أقسام:

منها: ما يكون المقصود مجرّد تحقّقه في الخارج و خروجه من كتم العدم إلىٰ عرصة الوجود؛ من دون أن تكون مباشرة المكلّف أو قصد عنوانه أو قصد

______________________________

(1) جواهر الكلام 9: 155، كفاية الأُصول: 94، درر الفوائد، المحقّق الحائري 1: 94.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 344

إطاعة أمره دخيلًا في تحقّق مطلوبه أصلًا، بل بحيث لو تحقّق في الخارج و لو من غير الإنسان، يكفي ذلك في سقوط الأمر المتعلّق به.

و منها: ما لا يكون المقصود مجرّد تحقّقه في الخارج بل المطلوب هو حصوله عن مباشرة المكلّف و لكن لا يلزم فيه قصد عنوانه أو قصد إطاعة أمره.

و منها: ما لا بدّ في تحقّق المطلوب من قصد عنوانه؛ لكون الفعل من العناوين القصديّة التي لا تتحقّق بدون القصد.

و منها: ما لا بدّ في سقوط أمره من أن يؤتىٰ به بداعي الأمر المتعلّق به، و لكن لا يكون عبادة للمولىٰ، فإنّ كلّ ما يكون مقرّباً للمولىٰ لا يلزم أن يكون عبادة له، بل العباديّة أمر زائد على التقرّب؛ أ لا ترى أنّ إكرام زيد- مثلًا للتقرّب إليه لا يعدّ عبادة له، و إلّا يلزم أن يكون محرّماً لحرمة عبادة غير اللّٰه تعالىٰ.

و منها: ما لا

بدّ في سقوط أمره من إتيانه بداعي أمره، و لكن يكون عبادة للمولىٰ، كالصلاة و نظائرها.

و ممّا ذكرنا ينقدح: أنّ الأولى التعبير- بدل التعبّدي بالتقرّبي؛ و ذلك لأنّ التعبّدي لا يشمل إلّا القسم الأخير، مع وضوح كون المراد الأعمّ من القسم الرابع.

إذا عرفت ذلك نقول: إذا شككنا- بعد تعلّق الأمر بفعل في أنّه هل يعتبر في سقوط أمره المباشرة أو قصد الأمر أو لا؟ فمجرّد تعلّق الأمر به- مع قطع النظر عن الدليل الخارجي لا يقتضي أزيد من اعتبار المباشرة؛ و ذلك لأنّ ظاهر الهيئة توجّه البعث إلى المكلّف، و من المعلوم أنّه يحتاج إلى الجواب، و لا يكفي في ذلك مجرّد تحقّقه و لو من غيره؛ إذ للمولىٰ أن يقول: إنّ المطلوب حصوله منك مستنداً إلىٰ توجيه أمره إليه، و أمّا الزائد علىٰ قيد المباشرة فلا يقتضي مجرّد تعلّق الأمر اعتباره أصلًا؛ لأنّ الأمر لا يبعث المكلّف و لا يدعوه إلّا إلىٰ متعلّقه؛ إذ لا يعقل أن يكون المبعوث إليه زائداً علىٰ ما أُخذ في لسان الدليل

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 345

متعلّقاً للأمر، فإذا لم يدلّ دليل علىٰ أنّ سقوط الأمر متوقّف علىٰ إتيان متعلّقه بداعيه- كما هو المفروض فمن أين يحكم بلزوم ذلك، خصوصاً بعد إمكان أخذ قصد التقرّب قيداً في المتعلّق، كما اخترناه و حقّقناه في الأُصول «1».

كلام المحقّق الحائري في المقام

ثمّ إنّ بعض محقّقي المعاصرين (قدّس سرّه) ذهب في أواخر عمره إلىٰ أنّ الأصل يقتضي التعبّديّة؛ نظراً إلىٰ أنّ العلل التشريعيّة كالعلل التكوينيّة فكما أنّه في العلل التكوينيّة يكون مقتضىٰ تأثيرها حصول المعلول المستند إليها؛ إذ النار لا تؤثّر إلّا في حصول الإحراق المستند إليها، لا أن يكون وصف الاستناد إليها

مستنداً إلىٰ تأثير النار، بل الإحراق المعلول لها إنّما يكون محدوداً بحدود الاستناد إليها، فكذلك في العلل التشريعيّة يكون مقتضىٰ تأثيرها حصول المعلول المستند إليها، و حينئذٍ فالأمر حيث يكون علّة تشريعيّة- إذ هو تحريك للمكلّف نحو العمل فلا بدّ أن يكون معلوله- و هو العمل مستنداً إليه؛ بمعنى أنّ الواجب هو إتيانه علىٰ نحوٍ يكون هو المؤثّر في حصوله، و ذلك لا يتحقّق إلّا بإتيانه منبعثاً عن البعث المتعلّق به و مدعوّاً بدعوته، و هو عين التعبّديّة، كما هو واضح جدّاً «2». و يرد عليه:

أوّلًا: أنّا لانسلّم ذلك في العلل التكوينيّة، فضلًا عن العلل التشريعيّة إلّا بالنسبة إلى اللّٰه- تبارك و تعالى و تحقيقه في موضعه «3».

______________________________

(1) مناهج الوصول 1: 260، تهذيب الأُصول 1: 148.

(2) انظر الفوائد الخمسة، ضمن الرسائل العشرة، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 186، مناهج الوصول 1: 275 276.

(3) راجع مناهج الوصول 1: 276 277، تهذيب الأُصول 1: 161 162.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 346

و ثانياً: أنّه لو سُلّم ذلك في العلل التكوينيّة، فما الدليل علىٰ كون العلل التشريعيّة مثلها، فأيّة آية أو رواية وردت في ذلك، و ليس هذا الأمر إلّا صِرف الادّعاء من دون أن يقوم دليل عليه.

و الإنصاف: أنّ هذه القاعدة الكلّيّة التي بنىٰ هذا المحقّق عليها مباحث كثيرة في الأُصول، كمسألة عدم تداخل الأسباب، و فوريّة الأمر، و تعبّديّة الواجب المشكوك، و نظائرها ممّا لا يتّكي إلىٰ ركن وثيق.

أدلّة أصالة التعبّديّة

ثمّ إنّه ربما يتمسّك «1» لأصالة التعبّديّة ببعض الآيات و الروايات «2»، مثل قوله تعالىٰ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3».

و قوله تعالىٰ وَ مٰا أُمِرُوا إِلّٰا لِيَعْبُدُوا اللّٰهَ مُخْلِصِينَ «4».

و أُورد على

الاستدلال بالآية الأُولىٰ:

أوّلًا: بأنّ الأمر بإطاعة اللّٰه أمر إرشاديّ، و إلّا يلزم الدور «5»، كما لا يخفى.

و ثانياً: بأنّ لازم ذلك أن يكون إطاعة الرسول و أُولي الأمر، بمعنى إتيان متعلّقه بداعي الأمر واجبة، و لا يظنّ بأحد أن يلتزم بذلك.

و ثالثاً: بأنّ المراد بالإطاعة هو معناها العرفي الراجع إلى الموافقة بإتيان

______________________________

(1) مبادئ الوصول إلىٰ علم الأُصول: 114 115، الفصول الغرويّة: 69 70، انظر مطارح الأنظار: 61/ السطر 24.

(2) انظر وسائل الشيعة 1: 46، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 5.

(3) النساء (4): 59.

(4) البيّنة (98): 5.

(5) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 135 137.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 347

المأمور به، لا الإطاعة بمعناها المصطلح، كما هو غير خفيّ «1».

و الجواب عن الاستدلال بالآية الثانية و بالروايات مذكور في الكتب الفقهية المطوّلة، فراجعها «2».

المطلب الثاني: في حقيقة النيّة و ماهيّتها شرعاً

و هي بمعنى العزم و الإرادة و القصد، كما هو معناها لغة «3» و عرفاً، و لزومها في صدق الإطاعة و الامتثال ممّا لا شكّ فيه و لا ارتياب؛ لتوقّف اختياريّة الفعل عليها، و حينئذٍ فيصير حكم العبادات من هذه الحيثيّة حكم سائر الأفعال الاختياريّة، فكما أنّه في الأفعال الاختياريّة المركّبة، لا بدّ أوّلًا من تعلّق الإرادة بالمركّب ثمّ تعلّقها بالأجزاء؛ لكونه متوقّفاً عليها لا بنحو الوحدة، بل بنحو التعدّد حسب تعدّد الأجزاء، و تعلّقها بها بعد تعلّقها به، ليس مستنداً إلىٰ كون الإرادة المتعلّقة بالمركّب علّة لتعلّق الإرادة بمقدّماته؛ بحيث تترتّب عليها قهراً، بل كما أنّ الإرادة المتعلّقة بذي المقدّمة ناشئة من مبادئها؛ من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و سائر المقدّمات، كذلك الإرادة المتعلّقة بالمقدّمة ناشئة عن مبادئ نفسها، غاية الأمر أنّ الفائدة المنظورة في تحقّق هذا المراد،

إنّما ترجع إلىٰ تحقّق المراد بالإرادة الأُولىٰ، فكذلك في العبادات المركّبة- كالوضوء و الصلاة و أشباههما لا بدّ أوّلًا من تعلّق الإرادة بعنوانها، ثمّ تترشّح منها

______________________________

(1) مطارح الأنظار: 62/ السطر 34، و انظر 63/ السطر 1 5.

(2) انظر الحدائق الناضرة 2: 172، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 11، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 137.

(3) الصحاح 6: 2516، معجم مقاييس اللغة 5: 366، المصباح المنير: 631، القاموس المحيط 4: 400، مجمع البحرين 1: 423.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 348

إرادة أُخرى بفعل الأجزاء و المقدّمات.

و ممّا ذكرنا ظهر: أنّه لا فرق بين الجزء الأوّل و الأخير من حيث تعلّق الإرادة، غاية الأمر أنّه قد يغفل عن المراد و عن تعلّق الإرادة؛ بحيث ربما يتخيّل صدوره بلا إرادة، و لكنّه في الواقع ليس كذلك.

و كيف كان، فالمراد بالنيّة- المعتبرة في العبادات- هي الإرادة المعتبرة في جميع الأفعال الاختياريّة، فما وقع في كلماتهم في هذا المقام- ممّا يوهم خلاف ما ذكرنا أو ظاهر فيه، لا ينبغي أن يُعتنىٰ به أصلًا.

كما أنّ توصيف الإرادة بالتفصيليّة و الإجماليّة «1» أيضاً كذلك، فإنّ الإرادة ليست علىٰ قسمين، غاية الأمر أنّه قد يغفل عنها و عن المراد، و الظاهر أنّه المراد بالإرادة الإجمالية، فتأمّل.

المطلب الثالث: في تعيين المأمور به
اشارة

و قبل الشروع في المقصود لا بدّ من تقديم مقدّمة:

و هي أنّه لا إشكال في أنّ الحاكم بالاستقلال- في باب الإطاعة و العصيان هو العقل.

و قد يقال- كما عن بعض الأعلام و المحقّقين بأنّه يمكن أن يتصرّف الشارع في مقام الإطاعة؛ نظراً إلىٰ أنّ حكم العقل إنّما هو بلحاظ أمر الشارع، فكيف لا يكون للشارع مدخل فيه؟! و استشهد لذلك بحكم الشارع ببطلان العبادة في بعض

مراتب الرياء، مع أنّ العقل لا يحكم فيه بالبطلان، و بحكمه بالصحّة في موارد قاعدتي الفراغ و التجاوز، مع أنّ مقتضىٰ حكم العقل البطلان و وجوب

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 19، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 141.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 349

الإعادة؛ نظراً إلىٰ أنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينيّة «1».

و أنت خبير: بأنّ تصرّف الشارع في مقام الإطاعة؛ إذا لم يرجع إلىٰ تقييد في المأمور به و تصرّف فيه فهو ممّا لا يعقل، فإنّه كيف يمكن- بعد إتيان متعلّق أمره بجميع قيوده التي اعتبرها فيه أن يحكم بعدم حصول الامتثال المستلزم لعدم سقوط الأمر، و ما ذكره من الأمثلة راجع إلىٰ تصرّف في المأمور به، فإنّ حكمه بالبطلان في بعض موارد الرياء الذي لا يحكم فيه العقل بالبطلان، إنّما يرجع إلىٰ أنّ قصد التقرّب المعتبر في العبادة، عبارة عمّا يكون مرجعه إلى الخلوص من دون مدخليّة لشي ء آخر، كما أنّ حكمه بالصحّة في موارد قاعدتي الفراغ و التجاوز، إنّما يرجع إلىٰ أنّ جزئيّة المشكوك إتيانه، إنّما هي بالإضافة إلىٰ خصوص العالم الملتفت، أو الشاكّ الذي لم يتجاوز أو لم يفرغ، و أمّا الشاكّ في صورة التجاوز أو الفراغ فلا يكون المشكوك جزءاً بالنسبة إليه.

فانقدح ممّا ذكرنا: أنّ الحاكم في أمثال هذه المقامات إنّما هو العقل، فكلّ شي ء حكم العقل بلزومه في مقام الإطاعة، فلا بدّ من الإتيان به، و إذا شكّ في لزومه فيه فمقتضى القاعدة العقليّة الاحتياط.

إذا تمهّدت لك هذه المقدّمة، فنقول:

أنحاء العناوين المأخوذة في متعلّق الأمر

إنّ العناوين المأخوذة في متعلّق الأمر علىٰ أنحاء:

منها: ما يكون العنوان من العناوين القصديّة، التي لا تتحقّق في الخارج إلّا مع القصد إليها، كالتعظيم و التوهين

و النيابة و أشباهها.

و منها: ما يكون مقوّماً لماهيّة المأمور به من حيث كونه مأموراً به،

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 68.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 350

كعنوان الصلاة و الأنواع المندرجة تحتها، كالظهر و العصر و نظائرهما.

و منها: ما لا يكون اعتباره راجعاً إلىٰ تقييد في متعلّقه كصوم يوم، فإنّ تخصيصه بفردٍ ما ليس لكونه مؤثّراً في حصول قسم خاصّ من الطبيعة؛ و قد تعلّق الغرض بإيجاد ذلك القسم.

و هذا التقسيم الذي ذكرنا أولىٰ ممّا صنعه صاحب المصباح في بيان الأقسام، فإنّ مراده بالقسم الأوّل الذي ذكره، و هو ما يكون القيد محقّقاً لنفس العنوان المأمور به، كالقيود المنوّعة للطبيعة، كما لو كُلّف بإحضار حيوان ناطق «1»، إن كان هو القيود التي لها مدخل في ماهيّة المأمور به من حيث كونه مأموراً به، فحينئذٍ يرد عليه سؤال الفرق بينه و بين القسم الثاني، فإنّ قيد الظهريّة و العصريّة ممّا له مدخل في تحقّق ماهيّة المأمور به، و هي صلاة الظهر أو العصر.

و إن كان مراده هو القيود التي لها مدخليّة في ماهيّة المأمور به مع قطع النظر عن تعلّق الأمر به فهذا ممّا لا إشكال في عدم وجوب قصده فهل يجب علىٰ من أمر بإحضار إنسان أن يقصد كونه حيواناً و كونه ناطقاً؟! و هذا واضح.

و كيف كان، فنقول:

أمّا القسم الأوّل: فلا إشكال في وجوب القصد فيه، لا لوجوب الإطاعة و كونها متوقّفة على القصد، بل لوجوب الموافقة، و هي لا تتحقّق في المقام إلّا معه؛ لما عرفت من أنّ الفعل لا يتحقّق بدونه؛ لكونه من الأُمور القصديّة التي تتقوّم بالقصد، و لذا يجب أن يتعلّق بها القصد في الواجبات التوصّليّة

أيضاً، فوجوب قصد تلك العناوين لا ارتباط له بباب الإطاعة و الامتثال، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 145.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 351

و أمّا القسم الثاني: فالظاهر فيه وجوب قصد العنوان؛ لأنّ امتثال الأمر المتعلّق بصلاة الظهر- مثلًا لا يتحصّل إلّا بعد تمييز كون المأتيّ به هي صلاة الظهر؛ إذ المطلوب إنّما هو هذا العنوان، و تميّزه عن غيره لا يتحقّق إلّا بالقصد؛ لوضوح أنّ انصراف العمل المشترك بينها و بين صلاة العصر من جميع الجهات- بحيث لم يكن فرق بينهما من حيث الكيفيّة أصلًا إلىٰ خصوصيّة إحداهما، متوقّف على القصد؛ إذ لا يكون هنا شي ء يحصل بسببه التمييز إلّا القصد.

كما أنّ عنوان الأدائيّة و القضائيّة أيضاً كذلك، فلو فرض أنّه يجب عليه قضاء صلاة الظهر لليوم الماضي و أداء صلاة الظهر لليوم الحاضر، فانصراف العمل المشترك صورة بينهما إلىٰ إحداهما لا يتحقّق إلّا بقصد الإتيان بالقضاء أو بالأداء كما هو واضح.

و بالجملة: فكلّما توقّف عليه تمييز المأمور به عن غيره فيجب الإتيان به؛ لوضوح عدم تحقّق الامتثال و إتيان المأمور به بداعي الأمر المتعلّق به، إلّا بعد تمييزه عن غيره، كما لا يخفى.

و من هنا يظهر: أنّه لا يجب الإتيان بالفعل لغاية وجوبه أو استحبابه أو وجههما، فإنّه هل يشكّ أحد في تحقّق الامتثال بالنسبة إلى المكلّف الذي يعلم بتوجّه الأمر إليه، و لكنّه لا يعلم أنّه للوجوب أو للاستحباب، فأتىٰ به بداعي الأمر المتعلّق به، بل لو نوى الاستحباب فيما كان للوجوب، أو الوجوب فيما كان للاستحباب، فذلك لا يضرّ بصحّة إطاعته؛ إذ نيّة الخلاف لا تؤثّر في تغيير الشي ء عمّا هو عليه في الواقع، فبعد كون المفروض أنّ

الداعي له إلى العمل، إنّما هو ملاحظة أمر المولى الذي هو موجود شخصيّ؛ لا يمكن أن يقع علىٰ وجوه متعدّدة، فلا مانع من صحّة عبادته، و تخيّل كونه للاستحباب فيما كان للوجوب

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 352

لا يؤثّر في ذلك الأمر الموجود. و من هنا يمكن أن يورد على القائل بالفرق بين المسألتين المعروفتين- في باب الاقتداء و الائتمام «1»: بسؤال الفرق بينهما، فإنّ الاقتداء- فيما لو اقتدىٰ بالإمام بعنوان أنّه زيد- مثلًا هل هو بالعنوان أو بذلك الفرد الموجود الذي يشار إليه؟ لا مجال للأوّل، و على الثاني لا فرق بينه و بين المسألة الأُخرىٰ- التي حكموا فيها بالصحّة أصلًا.

و أمّا القسم الثالث: فلا إشكال في عدم وجوب قصد القيد؛ لوضوح أنّ أخذه قيداً ليس لكونه مؤثّراً في حصول قسم خاصّ من الطبيعة، و قد تعلّق الغرض بإيجاد ذلك القسم، بل لأنّ الغرض إنّما تعلّق بإيجاد الطبيعة في ضمن أيّ مصداق تحقّقت، فإذا قصد إيجادها في ضمن فرد بداعي الأمر المتعلّق بها، فلا محالة يحصل الغرض، كما هو ظاهر.

المطلب الرابع: في الجزم بالنيّة
اشارة

و نقول: هل يعتبر في تحقّق الإطاعة و حصولها عند العقل الجزمُ بالنيّة؛ بمعنى العلم بالأمر و بانطباق المأمور به على المأتيّ به مطلقاً «2»، أو لا يعتبر مطلقاً «3»، أو يفصّل بين الموارد ببعض التفصيلات، التي سيجي ء ذكرها «4»؟ وجوه، بل أقوال:

و قد يستدلّ للأوّل بما لازمه سدّ باب الاحتياط في جميع الموارد و هو أنّ

______________________________

(1) انظر جواهر الكلام 13: 235 236، العروة الوثقىٰ 1: 768، المسألة 12، مستمسك العروة الوثقىٰ 7: 185 186.

(2) إيضاح الفوائد 1: 37.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 161 و 164 165.

(4) يأتي في الصفحة 355.

كتاب

الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 353

صدق الإطاعة- بنظر العقل موقوف علىٰ أن يكون الداعي و المحرّك للمكلّف نحو العمل، هو بعث المولى و أمره.

و بعبارة اخرىٰ: يعتبر أن يكون الانبعاث متحقّقاً عن بعثه، و في صورة التردّد و الشكّ- إمّا في نفس الأمر، و إمّا في المأمور به لا يكون المحرّك هو بعث المولى:

أمّا فيما كان الشكّ في نفس البعث فواضح؛ ضرورة أنّ الداعي له في هذه الصورة هو احتمال البعث لا نفسه.

و أمّا فيما كان الشكّ في متعلّقه، فلأنّ الداعيَ له إلىٰ إتيان هذا المحتمل بخصوصه، احتمالُ تعلّق الأمر به و كونه منطبقاً عليه عنوان المأمور به، كما أنّ الداعي له إلى الإتيان بالمحتمل الآخر أيضاً هو احتمال انطباق المأمور به عليه «1».

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 353

و يرد علىٰ هذا الاستدلال: أنّ الانبعاث لا يعقل أن يكون مستنداً إلىٰ نفس بعث المولى؛ بحيث يكون وجوده و تحقّقه في الواقع مؤثّراً في حصول الانبعاث، و إلّا لزم أن لا ينفكّ عنه مع أنّه نرىٰ بالوجدان عدم تحقّق الانبعاث بالنسبة إلى العصاة، و كذلك يلزم أن لا يتحقّق الانبعاث بدونه، مع أنّه نرىٰ تحقّقه بالنسبة إلى الجاهل المركّب، فلا يدور الانبعاث مدار البعث وجوداً و عدماً.

التحقيق في المقام

و الحقّ: أنّ الانبعاث إنّما يكون مستنداً إلى العلم ببعث المولى، و بما يترتّب على امتثاله من الفوائد و علىٰ مخالفته من المضارّ فهو موقوف علىٰ وجوده العلمي.

لا أقول: إنّ العلم له مدخل في تحقّقه؛ بحيث لا يمكن أن يتحقّق بدونه،

______________________________

(1) فوائد الأُصول

(تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 72 73.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 354

بل المقصود نفي كونه مستنداً إلىٰ نفس البعث، و إلّا فمن الواضح تحقّقه بالنسبة إلى الآتي بالفعل بداعي احتمال تعلّق الأمر به.

إلّا أن يقال: إنّه في صورة العلم يكون الانبعاث مستنداً إلى البعث بالعرض دون صورة الاحتمال.

و كيف كان، فدعوى: عدم صدق الإطاعة على العبادة التي لا يعلم تعلّق الأمر بها، بل إنّما أتى بها بداعي احتمال تعلّق الأمر، محلّ نظر بل منع، فإنّه لا يعتبر في صدقها أزيد من أن يكون الإتيان بالمأمور به بداعي الأمر و بقصد امتثاله، و لا يتوقّف ذلك علىٰ إحرازه، بل يكفي احتماله؛ لأنّ الآتي بالفعل احتياطاً؛ لامتثال الأمر المحتمل و الخروج عن عهدته علىٰ تقدير ثبوته، إنّما الباعث له قصد الامتثال.

بل نقول: إنّ صدقها لا يتوقّف على احتمال الأمر أيضاً، بل تصدق و لو علم بعدم تعلّق الأمر بها؛ فيما كان ذلك لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

أ لا ترى أنّهم يجيبون عن الشيخ البهائي (قدّس سرّه) المنكر لترتّب الثمرة علىٰ مسألة اقتضاء الأمر بالشي ء للنهي عن الضدّ- بدعوىٰ: أنّ بطلان الضدّ فيما كان عبادة لا يتوقّف علىٰ تعلّق النهي بها، بل يكفي فيه مجرّد عدم تعلّق الأمر بها «1» بما حاصله: أنّ صحّة العبادة لا تتوقّف على الأمر أصلًا، بل يكفي فيها مجرّد المحبوبيّة الذاتيّة «2».

و بالجملة: فلا فرق في حصول الامتثال و تحقّق الإطاعة بين العالم بالأمر و المحتمِل له أصلًا؛ لو لم نقل بكون الصدق في الثاني أولىٰ، كما لا يخفى.

______________________________

(1) انظر زبدة الأُصول: 99، هداية المسترشدين: 244 245، كفاية الأُصول: 165.

(2) كفاية الأُصول: 166.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 355

حول التفصيلين المحكيّين عن الشيخ في المقام

ثمّ

إنّه حُكي «1» عن الشيخ (قدّس سرّه) التفصيل بين من كان عازماً من أوّل الأمر علىٰ إحراز الواقع بالاحتياط، و بين من لم يكن كذلك؛ ببطلان عبادة الثاني دون الأوّل؛ نظراً إلىٰ أنّ الشاكّ في كون المأتي به موافقاً للمأمور به كيف يتقرّب به «2».

و أنت خبير: بأنّ هذا الوجه مشترك بين الصورتين، فإنّ العازم علىٰ إحراز الواقع بالاحتياط، أيضاً لا يعلم بانطباق المأمور به علىٰ هذا بخصوصه و ذاك بخصوصه، فالداعي له إلىٰ إتيان كلٍّ من المحتملين بخصوصه، ليس إلّا احتمال تعلّق الأمر به و انطباق المأمور به عليه، و العزم علىٰ إتيان المحتمل الثاني لا يؤثّر في الفرق بينهما أصلًا.

كما أنّ تخصيص الصورة الثانية بالواجبات؛ و الحكم ببطلان من لم يكن عازماً على الامتثال- بنحو الإطلاق في خصوص الواجبات دون المستحبّات- كما حكي عن السيّد الجليل المحقّق الميرزا المجدّد الشيرازي (قدّس سرّه) «3» نظراً إلىٰ أنّ كون القصد فيها مشوباً بالتجرّي، موجب للشكّ في صدق الإطاعة و الامتثال. ممّا لا يعرف له وجه، فإنّ التجرّي إنّما حصل من ناحية عدم تعلّق القصد بإتيان المحتمل الآخر، و هذا لا ارتباط له بحصول الامتثال بالنسبة إلىٰ إتيان المحتمل الأوّل فيما لو انكشف التطابق.

و توهّم: أنّه كيف يمكن اجتماع التجرّي و الامتثال بالنسبة إلىٰ أمر واحد،

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 165.

(2) فرائد الأُصول 2: 519.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 163 164.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 356

و لازمه ثبوت العقاب على الأوّل و استحقاق الثواب على الثاني، فاجتمع الثواب و العقاب في خصوص أمر واحد «1».

مدفوع: بأنّ التجرّي إنّما هو فعل من أفعال القلب، و لا ارتباط له بالعمل الخارجي، و الامتثال إنّما يتحقّق بإيجاد

الفعل في الخارج بداعي أمره و حينئذٍ فلا بأس بأن يترتّب العقاب على الفعل القلبي و الثواب على العمل الخارجي.

ثمّ إنّه حكي عن الشيخ (قدّس سرّه) تفصيل آخر «2»: و هو بطلان العبادة فيما لو استلزم تكرار العمل بجملته، دون ما لم يكن كذلك؛ و لو استلزم تكرار بعض العمل؛ نظراً إلىٰ أنّ تكرار العمل يعدّ لعباً بأمر المولى «3».

و غير خفيّ: أنّ مورد النزاع إنّما هو فيما إذا كان اختيار الامتثال الإجمالي لغرض عقلائيّ، مضافاً إلىٰ أنّ اللعب إنّما هو في كيفيّة إطاعة أمره، و لا دليل علىٰ كونه موجباً لفساد العبادة، بل الدليل على العدم، فإنّ خصوصيّات المأمور به مستندة غالباً إلىٰ أغراض شهوانيّة، كالوضوء بالماء البارد أو الحارّ.

و لو سُلّم جميع ذلك، فالفرق بين هذه الصورة و بين ما إذا كان الاحتياط مستلزماً لتكرار جزء من العمل لا جملته، ممّا لا يعرف له وجه فإنّ من يعلم بوجوب سورة من القرآن عليه في صلاته- مثلًا و يشكّ في تعيينها، فصلّى مع قراءة جميع السور، يعدّ لا عباً، فلم يبقَ فرق بين الصورتين.

فانقدح من جميع ما ذكرنا: عدم اعتبار الجزم بالنيّة بالمعنى الذي ذكرنا، و صحّة الاحتياط في جميع الموارد.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 168.

(2) نفس المصدر.

(3) فرائد الأُصول 2: 507 508.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 357

المطلب الخامس: في وجوب نيّة رفع الحدث أو الاستباحة
اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و هل تجب نيّة رفع الحدث، أو نيّة استباحة شي ء ممّا يشترط فيه الطهارة؟ و الأظهر أنّه لا تجب نيّة شي ء منهما» «1».

أقول: الوجوه المتصوّرة في اعتبار نيّة الرفع أو الإباحة في الوضوء ثلاثة:

الأوّل: أن يكون المراد أنّ الوضوء الذي يترتّب عليه الرفع و الاستباحة، و يؤثّر في

حصولهما، هو الوضوء المأتي به بنيّة الرفع أو الإباحة؛ بحيث يكون للقصد دَخْل في حصول الأثرين و ترتّب الأمرين، كالعناوين القصديّة التي يكون القصد مقوّماً لتحقّقها.

و لكن لا يخفى أنّ هذا الوجه ممّا لا يعقل، فإنّه لو فرض أنّ الأثر لا يترتّب علىٰ نفس الوضوء بمجرّده، بل لقصده أيضاً مدخليّة في حصوله و ترتّبه، فكيف يمكن- حينئذٍ أن يتعلّق القصد بالوضوء المبيح أو الرافع، مع العلم بعدم كونه بذاته مؤثّراً في حصول الإباحة و الرفع؟ فإنّه ليس المراد من القصد مجرّد الإخطار بالبال؛ حتّى يقال: لا بأس بأن يتصوّر أثر لشي ء مع العلم بعدم ترتّبه عليه و عدم كونه أثراً له، بل المراد به هي الإرادة الواقعيّة الناشئة من مبادي مخصوصة، و حينئذٍ فلا يعقل تعلّقها بشي ء مقيّداً بكونه مؤثّراً في أثر يعلم بعدم تأثيره فيه.

و كيف كان، فلا يعقل أن يتعلّق القصد بالوضوء المبيح أو الرافع مع العلم بعدم كون الرفع أو الإباحة أثراً لذات الوضوء، بل للوضوء المقيّد بهذا القصد، و هل يمكن أن يتعلّق قصد المرتعش بعدم الارتعاش مع علمه بعدم انفكاكه

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 358

عنه؟! و هذا واضح جدّاً.

الثاني: أن يكون المراد أنّ الوضوء المؤثّر في الرفع و الإباحة هو الوضوء بعنوانهما، و لا يكون للقصد مدخل في ذلك، بل هو إنّما يتعلّق بالوضوء المقيّد بهذا العنوان.

و يرد علىٰ هذا الوجه أمران:

أحدهما: الاستحالة العقليّة؛ ضرورة أنّ عنوان الرافعيّة- مثلًا إنّما ينتزع لذات الوضوء بعد اعتبار كونه بنفسه مؤثّراً في الرفع، و لا يعقل أن يكون العنوان الذي يتأخّر رتبة عن تأثير الشي ء في أثر، دخيلًا في تأثيره في حصول ذلك الأثر؛ بداهة أنّه

يلزم أن يكون الأثر في رتبة المؤثّر، بل متقدّماً عليه.

ثانيهما: ما أورد عليه الشيخ (قدّس سرّه) في كتاب الطهارة ما حاصله: أنّ لازم ذلك كون الوضوء مؤثّراً في حصول الرفع مع قطع النظر عن إتيانه بقصد التقرّب و داعي أمره؛ لأنّه- بناءً عليه يأتي بالوضوء الرافع بقصد التقرّب لا بالوضوء المقرّب المترتّب عليه الرفع، و حينئذٍ فتصير الطهارة الحدثيّة كالطهارة الخبثيّة من الواجبات التوصّليّة، التي يُكتفىٰ في سقوط أمرها بمجرّد وجودها في الخارج كيفما اتّفق، و ضرورة الفقه علىٰ خلافه «1».

الثالث: أن يكون المراد أنّ اعتبار نيّة الرفع أو الإباحة إنّما هو لتعدّد ماهيّة الوضوء؛ و كون الوضوء الرافع مغايراً حقيقة لوضوء الجُنُب و الحائض مثلًا، فاعتبار نيّة الرفع إنّما هو لتمييز الماهيّة المأمور بها عن غيرها؛ لعدم طريق إلىٰ تشخيصها غير هذا القصد.

و يرد عليه:- مضافاً إلىٰ منع تعدّد ماهيّة الوضوء؛ و تغاير الوضوء الرافع مع غيره بحسب الذات و الحقيقة أنّه يمكن أن يحصل التمييز من غير طريق هذا

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 51.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 359

القصد؛ بأن يأتي به بداعي الأمر الشخصي المتوجّه إليه المقصود امتثاله.

فانقدح من جميع ما ذكرنا: عدم اعتبار نيّة الرفع أو الإباحة في الوضوء؛ لما عرفت من أنّ اعتبارها علىٰ بعض الوجوه غير معقول، و على البعض الآخر خالٍ عن الدليل، فالأقوىٰ- وفاقاً لأكثر المتأخّرين «1» هو العدم.

و هاهنا فروع

و ينبغي قبل التكلّم فيها، التعرّض للمسألة المعنونة في أوّل كتاب الطهارة: و هي أنّ الوضوء قد يكون واجباً، و هو فيما إذا كان مقدّمة لواجب آخر، من الصلاة و الطواف و نحوهما من الواجبات المشروطة بالوضوء، و قد يكون مستحبّاً، و هو

فيما إذا كان مقدّمة للغايات المندوبة، و هي كثيرة، و قد جمعها السيّد (قدّس سرّه) في «المدارك»، فراجع «2».

حول الملازمة بين المقدّمة و ذي المقدّمة

و أنت خبير: بأنّ هذا الكلام مبني علىٰ ثبوت الملازمة بين الأمر المتعلّق بذي المقدّمة و الأمر المتعلّق بنفس المقدّمة؛ ضرورة أنّ القائل بعدم الملازمة ينكر كون الوضوء متعلّقاً للأمر- وجوبيّاً كان أو استحبابياً إذ الظاهر أنّ الأمر بالوضوء في الآيات و الروايات إرشاد إلىٰ شرطيّته للصلاة و نحوها، لا أنّه أمر مولوي، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 189، مشارق الشموس: 90/ السطر 25، كشف اللثام 1: 507، مستند الشيعة 2: 63، جواهر الكلام 2: 89، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 51، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 177 178.

(2) مدارك الأحكام 1: 12 13.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 360

و نحن و إن حقّقنا الكلام في مبحث المقدمة في الأُصول، و أنكرنا الملازمة العقليّة بما لا مزيد عليه «1»، إلّا أنّه لا بأس بالإشارة إجمالًا إلىٰ دليل عدم الملازمة؛ ليظهر الحال، فنقول و على اللّٰه الاتّكال:

إنّه إن كان مراد القائل بالملازمة، ثبوت الملازمة العقليّة بين نفس البعث المتعلّق بالمقدّمة و البعث المتعلّق بذيها؛ بحيث كانت الملازمة متحقّقة بين نفس البعثين؛ بمعنى أنّه لا يمكن انفكاك البعث إلى المقدّمة عن البعث إلىٰ ذيها؛ بحيث لا يعقل أن يبعث المولى عبده نحو شي ء بلا صدور بعث منه نحو مقدّمته.

فيردّه: حكم الوجدان بثبوت الانفكاك بينهما كثيراً، فإنّا نرىٰ بالوجدان في الأوامر العرفيّة- الصادرة من الموالي بالنسبة إلى العبيد تعلّق البعث بذي المقدّمة فقط كثيراً و عدم تعلّقه بالمقدّمة، و كذلك في الأوامر الشرعيّة.

و بالجملة: فبطلان هذه الدعوىٰ أظهر من أن يخفىٰ علىٰ أحد.

و إن كان مراده

ثبوت الملازمة العقليّة بين إرادة البعث إلى المقدّمة و إرادة البعث إلىٰ ذيها؛ بحيث كانت الملازمة بين الإرادتين.

فيردّه استحالة تعلّق الإرادة بالبعث إلى المقدّمة.

بيان ذلك: أنّه إن كان المراد من ثبوت الملازمة بين الإرادتين، أنّه بمجرّد تعلّق الإرادة بالبعث إلىٰ ذي المقدّمة تتولّد إرادة اخرىٰ بالبعث إليها؛ بحيث كانت الإرادة الأوّليّة بمنزلة العلّة الفاعليّة لتحقّق الإرادة الثانويّة.

فيرد عليه: أنّ تعلّق الإرادة بشي ء مطلقاً- مقدّمة كانت أو غيرها لا بدّ أن يكون مستنداً إلىٰ مبادئها؛ من التصوّر و التصديق بالفائدة و غيرهما من سائر

______________________________

(1) مناهج الوصول 1: 410 415، تهذيب الأُصول 1: 278.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 361

مقدّمات الإرادة، و كما أنّ الإرادة المتعلّقة بالبعث إلىٰ ذي المقدّمة تكون ناشئة من مبادئها، كذلك الإرادة المتعلّقة بالبعث إليها لا بدّ أن تكون مسبوقة بمبادئ نفسها.

و إن كان المراد به ثبوت الملازمة بين الإرادتين، لا بالوجه المتقدّم، بل بوجه لا ينافي استناد إرادة البعث إليها إلىٰ مبادئها.

فنقول: إنّ تحقّق المبادئ بالنسبة إلىٰ هذه الإرادة ممّا لا يمكن؛ ضرورة أنّ من جملتها التصديق بفائدة المراد، مع أنّه في المقام خالٍ عن الفائدة رأساً، فإنّ البعث إلىٰ شي ء إنّما هو لغرض انبعاث المكلّف، و هو في المقام: إمّا حاصل، و إمّا غير ممكن؛ ضرورة أنّ المكلّف: إمّا أن يكون منبعثاً عن الأمر المتعلّق بذي المقدّمة، فلا محالة يأتي بالمقدّمة تحصيلًا لتحقّق المبعوث إليه، و إمّا أن لا يكون منبعثاً عن ذلك الأمر، فلا يعقل تحقّق الانبعاث بالنسبة إلىٰ مقدّمته.

و بالجملة: حيث يكون البعث إلى المقدّمة ممّا لا فائدة فيه أصلًا، فلا يمكن تعلّق الإرادة به لعدم تحقّق مبادئها.

و من هنا يظهر: أنّ قياس الإرادة التشريعيّة بالإرادة التكوينيّة

«1» قياس مع الفارق؛ ضرورة أنّه في الإرادة التكوينيّة، بعد ملاحظة أنّ مطلوبه الأقصىٰ لا يتحقّق بدون هذه المقدّمة، فلا محالة يريد إيجادها في الخارج ليمكن له التوصّل إليه، غاية الأمر أنّ الفائدة المترتّبة علىٰ هذا المراد إنّما هو إمكان التوصّل إلىٰ مطلوب آخر، و هذا بخلاف الإرادة التشريعيّة؛ لما عرفت من عدم تحقّق مبادئها؛ لعدم ثبوت فائدة في المراد أصلًا.

ثمّ إنّه لو أُغمض النظر عمّا ذكرنا: من استحالة تعلّق الإرادة بالبعث إلى المقدّمة، و قلنا بإمكان ذلك، فلا يثبت الملازمة أيضاً؛ ضرورة أنّه لو كانت

______________________________

(1) أجود التقريرات 1: 230.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 362

الملازمة متحقّقة بين الإرادتين لترتّب عليهما بعثان: بعث إلىٰ ذي المقدّمة، و بعث إلىٰ نفس المقدّمة؛ إذ لا يكون فرق بين الإرادتين أصلًا، فَلِمَ ترتّب المراد على الإرادة الأُولىٰ و تعلّق البعث بذي المقدّمة، و لم يترتّب على الإرادة الثانية و لم يتعلّق بعث بها، فمن ذلك يستكشف عدم تعلّق الإرادة بالبعث إلى المقدّمة أصلًا، كما أنّه يستكشف من تعلّق البعث إلىٰ ذيها تعلّق الإرادة به، فأين الملازمة بين الإرادتين.

فظهر من جميع ما ذكرنا: عدم ثبوت الملازمة؛ لا بين نفس البعثين، و لا بين الإرادتين المتعلّقتين بهما.

الوضوء بنفسه من العبادات المستحبّة

إذا عرفت ما ذكرنا يظهر لك: أنّ الوضوء لا يكون واجباً بعنوان المقدّميّة، و لا مندوباً كذلك، و الاستدلال علىٰ ذلك بالآية و الرواية و الإجماع- كما في كلامهم «1» لا يفيد أصلًا، فإنّه- مضافاً إلىٰ ما عرفت: من أنّ ظاهرها الإرشاد إلىٰ شرطيّة الوضوء للصلاة «2» و عدم تماميّتها بدونه بعد حكم العقل بعدم الملازمة، لا بدّ من تأويلها لو سُلّم كون ظاهرها الأمر المولوي الغيري. نعم يكون الوضوء بنفسه-

لا بعنوان المقدّميّة من المندوبات النفسيّة و العبادات المستحبّة و هو بهذه الصفة مقدّمة للأفعال المشروطة به، لا أن يكون نفس الوضوء مقدّمة لها، و قد حقّق في الأُصول عباديّة الطهارات الثلاث، فراجع «3».

______________________________

(1) نهاية الإحكام 1: 19، مدارك الأحكام 1: 9، جواهر الكلام 1: 8.

(2) تقدّم في الصفحة 359.

(3) نهاية الأفكار 1 2: 328، مناهج الوصول 1: 385 387، تهذيب الأُصول 1: 251.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 363

حول وجوب الوضوء بالنذر

ثمّ إنّه قد يتوهّم: أنّه ربما يعرض للوضوء الحكم الوجوبي، و هو فيما إذا صار متعلَّقاً للنذر و شبهه «1»، و لكنّه لا يخفى أنّ تعلّق النذر به، لا يوجب عروض الوجوب علىٰ عنوان الوضوء؛ ضرورة أنّ الوجوب إنّما تعلّق بعنوان الوفاء بالنذر و شبهه، و إلّا لكان ذلك منافياً لتعلّق الاستحباب به؛ ضرورة عدم إمكان اجتماع الوجوب و الاستحباب في شي ء واحد، مضافاً إلىٰ أنّ صحّة النذر المتعلّق به إنّما هي لكون الوضوء راجحاً مستحبّاً، فكيف يمكن أن يصير تعلّق النذر علّة لرفع الحكم الاستحبابي المتعلّق به؟! فاجتماع الحكمين دليل على اختلاف المتعلّقين و عدم تحقّق تضادّ في البين.

فلنرجع إلىٰ ذكر الفروع التي أوردوها في هذا المقام،
اشارة

فنقول:

الفرع الأوّل فيمن نوىٰ بوضوئه الوجوب و ليس لديه وضوء واجب

حُكي عن العلّامة (قدّس سرّه) «2» في جملة من كتبه: من أنّ من ليس عليه وضوء واجب إذا نوىٰ بالوضوء الوجوب و صلّى به، أعاد الصلاة؛ فإن تعدّدتا- يعني الصلاة و الطهارة مع تخلّل الحدث أعاد الأُولىٰ «3».

أقول: أمّا بناءً علىٰ ما ذكرنا من عدم ثبوت الملازمة بوجه، و عدم كون

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 3، تذكرة الفقهاء 1: 148، جواهر الكلام 1: 58.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 56 57.

(3) تذكرة الفقهاء 1: 148، منتهى المطلب 1: 56، قواعد الأحكام 1: 10/ السطر 16، نهاية الإحكام 1: 32.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 364

الوضوء واجباً و لا مستحبّاً غيريّاً، بل هو مستحبّ نفسيّ فقط، فنيّة الوجوب لغو لا تؤثّر في فساد وضوئه، فإنّ عباديّته ليست لكونه تعلّق به الوجوب الغيري أو الاستحباب الغيري، بل إنّما هي لكونه متعلّقاً للأمر النفسي الاستحبابي، و المفروض إنّ إتيانه في الخارج إنّما هو بداعي ذلك الأمر النفسي؛ لما عرفت: من أنّ الوضوء بوصف العباديّة مجعول مقدّمة للصلاة و الطواف و نظائرهما، و حينئذٍ فلا يبقى وجه لبطلان وضوئه، كما هو ظاهر.

و أمّا بناءً علىٰ مذهبهم- من ثبوت الوجوب المقدّمي و الاستحباب الغيري بالنسبة إلى الوضوء فلا وجه لبطلانه أيضاً، فإنّ عنوان الوضوء لا يتعلّق به الحكم الغيري، بل المتعلّق له إنّما هو عنوان المتوصّل به إلىٰ ذي المقدّمة- و سيأتي توضيحه في الفرع الثاني فلا يكون الوضوء واجباً أصلًا؛ حتّى تكون نيّة الوجوب فيما إذا لم يكن واجباً مضرّاً بصحّته و قادحاً فيها.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ الوجوب الناشئ عن وجوب ذي المقدّمة إنّما يتعلّق بذات الوضوء، فيمكن أن يقال أيضاً بصحّته في الموارد المفروض

نظراً إلىٰ أنّ عباديّته ليست لتعلّق الأمر الغيري به، بل إنّما هي لتعلّق الأمر الاستحبابي النفسي به، و سقوط أمره النفسي- بناءً علىٰ هذا القول، و هو كون معروض الأمر الغيري ذوات المقدّمات لا يوجب أن تكون عباديّته بسبب ذلك الأمر الغيري.

كيف! و قد عرفت أنّ الأمر الغيري إنّما يتعلّق بالمقدّمة، و الوضوء مع قطع النظر عن عباديّته لا يكون مقدّمة أصلًا، بل عباديّته في هذه الصورة إنّما هي لرجحانه الذاتي؛ إذ لا يعتبر فيها ثبوت الأمر الفعلي، بل يكفي فيها ملاكه.

نعم لو قلنا بأنّ متعلّق الأمر الغيري إنّما هو ذات المقدّمة، و أنّ عباديّته إنّما

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 365

هي بسبب ذلك الأمر الغيري، فلا يبقى وجه لصحّة الوضوء في مفروض المسألة، إلّا أن يقال بالصحّة أيضاً فيما إذا كان هناك أمر واحد، فتوهّم كونه للوجوب، فأتىٰ بالمأمور به بداعي وجوبه؛ لما عرفت في بعض المسائل المتقدّمة: من أنّ تقييد الموجود الخارجي بحسب التوهّم لا يؤثّر في تقييده بحسب الواقع «1»؛ ضرورة أنّ التقييد الموجب للتغاير، إنّما هو بالنسبة إلى المفاهيم لا الموجودات الخارجيّة.

فانقدح ممّا ذكرنا: صحّة الوضوء بحسب جميع المذاهب، و عليه فلا يبقى وجه لوجوب إعادة الصلاة في الفرضين.

الفرع الثاني في جواز الوضوء الندبي لمن عليه وضوء واجب

هل يجوز لمن عليه وضوء واجب أن يتوضّأ بنيّة التوصّل إلى الغايات المندوبة، أم لا؟ فيه وجهان، و الأقوى هي الصحّة:

أمّا بناءً علىٰ ما عرفت منّا في باب الملازمة فواضح.

و أمّا بناءً على القول بوجوب المقدّمة و ثبوت الملازمة، فنقول:

إنّه لا محيص- بناءً عليه عن القول بالمقدّمة الموصلة، كما حقّقناه في الأُصول، و أجبنا عن كلّ ما أُورد عليه: من إشكال الدور و التسلسل و غيرهما من الإشكالات «2»، و

حينئذٍ فنقول: إنّ حيثيّة التوصّل و إن كانت من الجهات التعليليّة لثبوت الحكم، إلّا أنّه قد حقّق في محلّه: أنّ الجهات التعليليّة كلّها ترجع إلى

______________________________

(1) انظر ما تقدّم في الصفحة 351.

(2) مناهج الوصول 1: 392 396 و 401، تهذيب الأُصول 1: 261 264.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 366

الجهات التقييديّة «1».

و حينئذٍ ينقدح: أنّ ذات الوضوء لا يكون متعلَّقاً للأمر الغيري؛ حتّى يقال: إنّه في صورة الوجوب يسقط الاستحباب، فلا يبقى وجه لصحّة وضوئه؛ لأنّ الاستحباب المتوهّم ثبوته غير ثابت، و المفروض أنّه لم يأتِ به بنيّة الوجوب، بل المتعلَّق للأمر الغيري إنّما هو عنوان الموصل إلىٰ ذي المقدّمة، و حينئذٍ فلا يبقى وجه لسقوط الاستحباب في صورة الوجوب؛ لا الاستحباب النفسي المتعلّق بذات الوضوء، و لا الاستحباب الغيري المتعلّق بالموصل إلى الغاية المندوبة؛ ضرورة اختلاف متعلّق الأحكام الثلاثة، فإنّ متعلَّق الوجوب هو الموصل إلىٰ ذي المقدّمة الواجب، و متعلّق الاستحباب الغيري هو الموصل إلى الغاية المندوبة، و متعلّق الاستحباب النفسي هو نفس عنوان الوضوء، فأين يلزم من ثبوت الوجوب سقوط الاستحبابين، بعد ثبوت الاختلاف و تحقّقه في البين؟!

الفرع الثالث حول اشتراط الوضوء الواجب للصلاة بوقوع الصلاة بعده

متى وقع الوضوء الواجب الرافع للحدث المبيح للصلاة، هل يترتّب عليه أثره- و هو الرفع منجَّزاً من غير توقّف علىٰ تحقّق الصلاة بعده، أو يتوقّف علىٰ تحقّقها؟ قولان.

ظاهر المشهور الأوّل «2»، و حكىٰ في «الحدائق» عن بعض: أنّه لا يجوز فعل الوضوء لمن لم يكن من نيّته فعل الصلاة، و أنّه لو كان من نيّته فعل الصلاة

______________________________

(1) مناهج الوصول 1: 390 391، تهذيب الأُصول 1: 259.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 67، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 203.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص:

367

و لم يفعلها تبيّن بطلانه «1».

و قد استشكل علىٰ ذلك بلزوم الدور الواضح؛ ضرورة أنّ صحّة الصلاة و تحقّقها، متوقّفة على الوضوء الرافع للحدث أو المبيح للصلاة، فلو كانت صحّة الوضوء و تأثيره في الرفع أو الإباحة، متوقّفة علىٰ تحقّق الصلاة بعده، كما هو ظاهر هذا القول، يلزم الدور «2».

و لكنّه لا يخفى أنّه يمكن توجيه هذا الكلام بما لا يرد عليه هذا الإيراد الواضح؛ بأن يقال:

إنّه حيث كان متعلّق الأمر الغيري هو الوضوء الموصل إلى الصلاة، فحيث لم تتحقّق الصلاة بعده، يكشف عن عدم تحقّق متعلّق الأمر الغيري.

و يؤيّد ذلك: أنّه لو كان مرادهم توقّف صحّة الوضوء علىٰ تحقّق الصلاة بعده، فعدم تحقّقها يوجب عدم تماميّة الوضوء، لا أنّه يكشف عن بطلانه؛ ضرورة أنّ الصلاة- حينئذٍ تصير شرطاً للوضوء، و من المعلوم أنّ فقدان الشرط يوجب عدم تماميّة المشروط و نقصانه، لا أنّه يكشف عن بطلانه، فتعبيرهم بالكشف و التبيّن دليل علىٰ عدم كون مرادهم ذلك المعنىٰ.

لا أقول: إنّ القول بالمقدّمة الموصلة مستلزم للقول ببطلان الوضوء فيما إذا لم يعقّبه بالصلاة، فإنّ ذلك باطل، كما سيجي ء بيانه.

بل أقول: إنّ ظاهر كلامهم يأبىٰ عن كون مرادهم ذلك المعنىٰ، الذي بلحاظه أشكل بالدور على القائل به.

ثمّ إنّ ابتناء كلامهم على القول بالمقدّمة الموصلة- الظاهر في استلزام القول بها للقول ببطلان الوضوء في الفرض المذكور، كما في «المصباح»؛ حيث

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 2: 218.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 203.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 368

إنّه اعترض عليهم ببطلان المقدّمة الموصلة «1» ممّا لا يكاد يتمّ أصلًا، فإنّ القول بها- كما هو التحقيق بناءً علىٰ ثبوت الملازمة «2» لا ينافي القول بصحّة الوضوء في مفروض المسألة؛

ضرورة أنّ مجرّد توقّف تحقّق متعلّق الأمر الغيري علىٰ حصول الصلاة بعده، لا يوجب بطلان الوضوء؛ لما عرفت من أنّه بوصف كونه عبادةً مجعولٌ مقدّمة للصلاة و الطواف و نظائرهما، و أنّ المصحّح لعباديّته إنّما هو الاستحباب النفسي المتعلّق بعنوانه، لا الوجوب الغيري «3»، و حينئذٍ فلا يبقى مجال لتوهّم بطلانه بناءً علىٰ هذا القول أيضاً.

الفرع الرابع في انكشاف الحدث الأصغر بعد الوضوء الاستحبابي

لو توضّأ بنيّة التجديد، فانكشف كونه محدثاً، أو توضّأ عقيب المذي استحباباً بزعم كونه متطهّراً، فانكشف العدم، أو توضّأ استحباباً بزعم الحيض أو الجنابة، فظهر خلافهما؛ و أنّه كان مُحدثاً بالحدث الأصغر، فالأقوىٰ صحّة الوضوء في جميع هذه الصور؛ لأنّ الوضوء التجديدي، و كذا وضوء الحائض و الجُنُب، و كذا الوضوء عقيب المذي، لا يكون لها ماهيّات مغايرة للوضوء الرافع، بل لا يكون للوضوء إلّا ماهيّة واحدة و حقيقة فأرده، كما يشهد بذلك غير واحد من الأخبار، غاية الأمر أنّه بالنسبة إلى الحائض و الجُنُب، لا يكون المحلّ قابلًا للتأثير التامّ، بل يؤثّر الوضوء بالنسبة إليهما في تخفيف الحدث و رفع الحرمة بالإضافة إلىٰ بعض الغايات، و هكذا الوضوء التجديدي، فإنّه أيضاً

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 203 204.

(2) مناهج الوصول 1: 401، تهذيب الأُصول 1: 267.

(3) تقدّم في الصفحة 362.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 369

يكون مثل الوضوء الأوّل، غاية الأمر أنّه لو لم يصادف الحدث يؤكّد الطهارة.

و يؤيّده: ما عن «الذكرى» «1» ناسباً له إلىٰ ظاهر الأخبار و الأصحاب: من أنّ الحكمة في تشريعه تدارك ما في الطهارة الاولىٰ من الخلل «2».

و كيف كان، فلا ينبغي الإشكال في وحدة ماهيّة الوضوء و اتّحاد حقيقته، و معه لا مجال لبطلانه في مثل الفروض المذكورة، فتدبّر جيّداً.

المطلب السادس: في الضميمة
اشارة

و تفصيل الكلام في هذا المقام يتوقّف على التكلّم في مقامات ثلاث: لأنّ الضميمة قد تكون مباحة، و قد تكون راجحة، و قد تكون محرّمة.

و قبل الخوض في بيان أحكام الصور الثلاثة، لا بدّ أوّلًا من تحرير محلّ النزاع و مورد البحث، فنقول:

تحرير محلّ النزاع

محلّ الكلام في هذا المقام ما إذا ضمّ إلىٰ نيّة التقرّب إرادة شي ء آخر، متعلّقة بنفس الفعل العبادي الذي يتقرّب به.

و بعبارة اخرىٰ: كانت الدواعي الأُخر داعية أيضاً إلىٰ نفس طبيعة الفعل المأمور به، كما أنّ داعي القربة يدعو إليها.

و أمّا إذا كانت الدواعي الأُخر، باعثة علىٰ ترجيح بعض أفراد الطبيعة المأمور بها على البعض الآخر، فالظاهر خروجه عن مورد النزاع؛ إذ لا ينبغي

______________________________

(1) ذكرى الشيعة 2: 210.

(2) جواهر الكلام 2: 371، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 210.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 370

الإشكال في صحّته؛ لأنّ المعتبر في العبادة أن يكون الداعي إلىٰ إتيان متعلّق الأمر هو قصد القربة، و من المعلوم أنّ المأمور به إنّما هي نفس الطبيعة، و الخصوصيّات خارجة عنه، فمجرّد كون الداعي علىٰ بعض الخصوصيّات غير داعي القربة، لا يوجب بطلان العبادة، بعد ما كان الداعي إلىٰ أصل الطبيعة المتعلّقة للأمر داعياً إلٰهيّاً، بل لا يجوز قصد القربة بالنسبة إلى الخصوصيّات فيما لم تكن راجحة شرعاً؛ لما عرفت من خروجها عن متعلّق الأمر، فلا يعقل أن يصير الأمر داعياً إليها؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلّا إلىٰ متعلّقه.

و بالجملة: لا إشكال في الصحّة في هذه الصورة؛ لأنّ الداعي القربي صار داعياً إلىٰ نفس متعلّق الأمر، و الداعي النفساني صار داعياً إلىٰ بعض الخصوصيّات الخارجة عن دائرة تعلّق الأمر، و عليه فلا إشكال في صحّة الوضوء بالماء البارد

في الصيف، و بالماء الحارّ في الشتاء؛ سواء كان الداعي النفساني، مؤثّراً في ترجيح بعض الخصوصيّات على البعض الآخر في مقام الامتثال فقط؛ بمعنى أنّه لو لم يكن الداعي الإلٰهي في البين؛ و بعبارة اخرىٰ: لو لم يكن قاصداً للوضوء لم يكن قاصداً للتبريد أو التسخين أصلًا، و لكن حيث إنّه مريد لامتثال أمر الوضوء، يوجد في نفسه داعٍ نفساني إلى امتثاله في ضمن بعض الخصوصيّات، الذي هو مقتضىٰ شهوة النفس و ميلها، دون البعض الآخر، أو كان الداعي النفساني مستقلا في الداعويّة إلى التبريد و التسخين مثلًا؛ بمعنى أنّه لو لم يكن الداعي إلى الوضوء متحقّقاً، لكان الداعي النفساني يحرّكه إلىٰ مدعوّ النفس.

و بعبارة اخرىٰ: كان هنا داعيان مستقلّان يؤثّر كلّ واحد منهما و لو انفرد عن الآخر: أحدهما ما يدعو إلىٰ طبيعة الوضوء، و الآخر ما يدعو إلىٰ طبيعة التبريد مثلًا.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 371

وجه الصحّة في الصورة الأُولىٰ ما عرفت.

و أمّا الصورة الثانية فالوجه في صحّتها: هو أنّ الداعي الإلٰهي بالنسبة إلىٰ متعلّق الأمر- و هو الوضوء خالص غير مشوب بالضميمة أصلًا، و داعويّة الداعي الآخر إلى الوضوء بالماء البارد، إنّما ترجع أيضاً إلىٰ ترجيح بعض الخصوصيّات على البعض الآخر؛ بمعنى أنّه صار داعياً إلى استعمال الماء البارد في الوضوء؛ إذ لا يعقل أن يصير داعياً إلىٰ نفس الوضوء؛ لأنّ طبيعة الوضوء لا تكون مبرّدة، و إلّا يلزم بطلان الوضوء بالماء الحارّ.

و بالجملة: فالداعي النفساني يدعو إلىٰ طبيعة مغايرة للطبيعة التي يدعو إليها الداعي الإلهي القُربي، و مجرّد اتّحادهما في الوجود لا يوجب سراية أحدهما إلىٰ مدعوّ الآخر، و إلّا يلزم ذلك في الصورة الأُولىٰ أيضاً.

فظهر من جميع ذلك:

أنّ مورد النزاع، إذا كان الداعي النفساني داعياً إلىٰ نفس الطبيعة المأمور بها التي يدعو إليها الداعي القُربي.

المقام الأوّل: في الضميمة المباحة و أقسامها
اشارة

و يتصوّر فيها أربعة أقسام:

الأوّل: ما يكون قصدها تابعاً لقصد التقرّب؛

بمعنى أنّ ما يستند إليه التأثير إنّما هو الداعي القُربي، و لا يكون قصد الضميمة المباحة مؤثّراً في ذلك أصلًا. نعم ثمرته تأكّد غرضه و شدّة اشتياقه، و لا إشكال في صحّة العبادة في هذا القسم؛ لعدم منافاة هذا النحو من القصد للإخلاص المعتبر في العبادة.

الثاني: ما يكون قصد التقرّب تابعاً لقصد الضميمة

بالمعنى الذي عرفت عكس القسم الأوّل، و لا إشكال في البطلان في هذا القسم؛ لعدم استناد الفعل إلىٰ قصد التقرّب المعتبر في صحّة العبادة أصلًا.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 372

الثالث: أن يكون قصد التقرّب و الضميمة كلاهما مؤثّرين في حصول الفعل؛

بحيث كان كلّ منهما جزء المؤثّر علىٰ نحو لو لم يكن الآخر لما تحقّق الفعل في الخارج، و لا إشكال أيضاً في بطلان العبادة في هذا القسم؛ لأنّه يعتبر في صحّة العبادة، أن يكون الداعي له إليها هو قصد التقرّب مستقلا، و المفروض في هذه الصورة قصوره عن التأثير.

الرابع: أن يكون كلٌّ من القصدين مستقلا في الدعوة و التأثير؛
اشارة

بحيث لو انفرد عن الآخر لكان باعثاً على الفعل، لكن اجتماعهما علىٰ شي ء واحد أوجب خروجهما عن الاستقلال؛ لامتناع توارد علّتين مستقلّتين علىٰ معلول واحد.

حول تقريب القول بالصحّة في القسم الرابع

و قد حُكي «1» القول بالصحّة في هذا القسم عن كاشف الغطاء (قدّس سرّه) «2» و تقريبه بوجهين:

أحدهما: ما أفاده الشيخ (قدّس سرّه) في توجيهه؛ حيث قال في «كتاب الطهارة»: «و لعلّه لدعوىٰ صدق الامتثال- حينئذٍ و جواز استناد الفعل إلىٰ داعي الأمر؛ لأنّ وجود الداعي المباح و عدمه- حينئذٍ على السواء، نعم يجوز استناده إلى الداعي المباح أيضاً، لكن القادح عدم جواز الاستناد إلى الأمر، لا جواز الاستناد إلىٰ غيره؛ أ لا ترى أنّه لو أمر المولى بشي ء، و أمر الوالد بذلك الشي ء، فأتى العبد مريداً لامتثالهما؛ بحيث يكون كلٌّ منهما كافياً في بعثه لو انفرد، عُدّ ممتثلًا لهما» «3».

ثانيهما: ما أفاده بعض المحقّقين من المعاصرين في كتابه في الصلاة

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 96.

(2) كشف الغطاء: 90/ السطر 25 و 318/ السطر 23 24.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 96.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 373

و اختاره؛ حيث قال: «و لعلّ الوجه في ذلك: أنّ المعتبر في العبوديّة أن يصير العبد بحيث يكون تأثير أوامر المولى في نفسه- بالنسبة إلىٰ متعلّقاتها كتأثير العلل التكوينيّة في معلولاتها، و من ارتاض نفسه بهذه المثابة و وصل إلىٰ هذه المرتبة، فمتىٰ يأمر المولى يتحرّك عضلاته نحو المأمور به بواسطة الأمر، و يتقرّب بواسطة تلك الحركة إلى المولى؛ لأنّه عبد تهيّأ لتحصيل مقاصد المولى، غاية الأمر لو لم يكن له غرض نفسانيّ في الفعل فالمستند في إيجاد الفعل هو الأمر مستقلا، و إن كان له غرض أيضاً

فالمستند هو المجموع، لا من باب عدم تأثير أمر المولى في نفسه، بل من جهة عدم قابليّة المحلّ لأن يستند إلىٰ كلّ واحد مستقلا، و استحالة الترجيح من غير مرجّح .. إلىٰ أن قال:

و يشهد لهذا: أنّه لو أمر آمران بفعل واحد، و كان الشخص بحيث يؤثّر كلّ واحد من الأمرين في نفسه، ثمّ أتى بذلك الفعل امتثالًا لهما يصير مقرّباً عند كلّ منهما .. إلىٰ أن قال:

و آية الإخلاص «1» تدلّ علىٰ وجوب تخليص عبادة اللّٰه عن عبادة الأوثان، و الأدلّة الحاصرة للعباد فيمن يعمل طمعاً في الثواب، و من يعمل خوفاً من العقاب، و من يعمل حبّا للّٰه تعالىٰ «2»، إنّما تدلّ علىٰ بطلان العمل المستند إلىٰ شي ء آخر بدل هذه الأُمور، و لا تنافي صحّة عمل من يوجد أحد هذه الأُمور في نفسه تامّاً، و إنّما استند العمل فعلًا في الخارج إليه و إلى شي ء آخر؛ لعدم قابليّة المحلّ لأن يكون مستنداً إلىٰ كلّ واحد مستقلا.

و الحاصل: ليس في الأدلّة ما يدلّ علىٰ لزوم استقلال داعي الطاعة، بعد

______________________________

(1) البيّنة (98): 5.

(2) نهج البلاغة: 510، الحكم 237، وسائل الشيعة 1: 63، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 9، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 374

وصوله مرتبة يصلح لأن يكون مؤثّراً» «1».

أقول: أمّا التقريب الأوّل:

فقد أجاب عنه الشيخ (قدّس سرّه) بما حاصله: منع جواز استناد الفعل إلىٰ كلٍّ منهما؛ لامتناع وحدة الأثر و تعدّد المؤثّر، و لا إلىٰ أحدهما للزوم الترجيح من دون مرجّح، بل هو مستند إلى المجموع، و المفروض أنّ ظاهر أدلّة اعتبار القُربة ينفي مدخليّة شي ء آخر، و أمّا المثال فيمنع فيه صدق امتثال كلٍّ منهما. نعم حيث

إنّه اجتمع الأمران في فعل واحد شخصيّ لا يمكن التعدّد فيه، فلا بدّ من الإتيان به مريداً لامتثال كلٍّ منهما؛ إذ لا يمكن موافقة الأمر في هذا الفرض بوجهٍ آخر، بخلاف المقام، فإنّه يمكن تخليص الداعي لموافقة الأمر؛ و تحصيل التبرّد بغير الوضوء إن أمكن، و إلّا فعليه تضعيف داعي التبرّد و تقوية داعي الإخلاص، فإنّ الباعثين المستقلّين يمكن ملاحظة أحدهما دون الآخر. ثمّ أتى بمثال لذلك «2»، فراجع.

و أمّا التقريب الثاني:

فيرد عليه: أنّ مجرّد كون العبد واصلًا إلى المرتبة التي تتحرّك عضلاته نحو المأمور به بمجرّد صدور الأمر من المولى، لا ينفع بالنسبة إلىٰ هذا الفعل الخارجي الذي لم يكن أمر المولى داعياً مستقلا له و باعثاً تامّاً علىٰ تحقّقه، و كونه بحيث لو لم يكن له غرض نفساني يحرّكه الأمر نحو المأمور به، لا يُجدي بملاحظة الفعل الخارجي، الصادر منه مستنداً إلىٰ كلّ واحد من الداعيين بنحو الجزئيّة.

و بالجملة: فاللازم ملاحظة كيفيّة تحقّق الفعل في الخارج؛ و أنّه هل

______________________________

(1) الصلاة، المحقّق الحائري: 131 132.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 96.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 375

صدر عن داعٍ قُربيّ فقط، أو كان شي ء آخر دخيلًا في تحقّقه، و من المعلوم أنّ المستفاد من الأدلّة إنّما هو اعتبار الإخلاص و نفي مدخليّة الغير.

و أمّا المثال الذي ذكره، فتحقّق موافقة كلٍّ من الأمرين و حصول غرض كلٍّ من الشخصين، إنّما هو باعتبار كون المأمور به من التوصّليّات، لا التعبّديّات المعتبرة في صحّتها نيّة التقرّب و الإخلاص.

فالأقوىٰ بطلان العبادة في هذا القسم.

و حينئذٍ فإن أمكن له تضعيف الداعي النفساني و تخليص الداعي لموافقة الأمر، و إلّا فالواجب: إمّا القول بانتقال فرضه إلى التيمّم

في مثل مسألة الوضوء، و إمّا القول بكفاية هذا المقدار في صحّة العبادة مع العجز عن التخليص؛ لأنّه القدر الممكن من الامتثال، و الأحوط الجمع بين الوضوء و التيمّم في هذه الصورة.

المقام الثاني: في الضمائم المحرّمة
و الكلام في هذا المقام يقع من جهتين:
اشارة

الاولىٰ فيما تقتضيه القاعدة في مطلق الضمائم المحرّمة، الثانية فيما تقتضيه القاعدة و كذا الأخبار الواردة في بعض أفرادها، كالرياء و نحوه.

أمّا الجهة الأُولىٰ:

فالشي ء المحرّم الذي انضمّ قصده إلىٰ نيّة التقرّب؛ إن كان متّحداً وجوداً مع الفعل العبادي، فلا إشكال في البطلان في جميع الأقسام الأربعة المتصوّرة المتقدّمة- و إن قلنا بجواز اجتماع الأمر و النهي كما هو التحقيق «1» لأنّ الفعل المحرّم لا يمكن أن يكون مقرِّباً للعبد؛ لامتناع كون وجود

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 128 134، تهذيب الأُصول 1: 391.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 376

واحد مقرّباً و مبعّداً معاً؛ لأنّهما عنوانان متضادّان لا يعقل اجتماعهما في شي ء واحد، و هذا بخلاف عنواني الصلاة و الغصب المجتمعين في الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأنّ النسبة بينهما التخالف، لا التضادّ المانع عن الاجتماع.

هذا، و ربما يتوهّم: إمكان كون شي ء واحد مقرّباً من حيثيّة و مبعّداً من حيثيّة أُخرى؛ نظراً إلىٰ أنّ المقرّب ليس هو وجود الصلاة حتّى يقال: إنّ وجودها هو بعينه وجود الغصب، و كذا ليس المقرّب هي طبيعة الصلاة بما هي؛ مع قطع النظر عن تحقّقها في الخارج؛ حتّى يقال: إنّ الطبيعة من حيث هي لا تكون مقرّبة، كما هو واضح، بل المقرّب هي الصلاة المتّصفة بوصف الوجود، و كذا المبعّد إنّما هي طبيعة الغصب الموجودة في الخارج، و من المعلوم أنّ الطبيعتين موجودتان في الخارج و لو بوجود واحد، فالوجود و إن كان واحداً إلّا أنّ الموجود متعدّد.

و قد ظهر: أنّ وصف المقرّبيّة و المبعّديّة إنّما يعرض للموجود لا للوجود، و حينئذٍ فلا مجال للإشكال: في أنّ الوجود الواحد لا يمكن أن يجتمع فيه الوصفان؛ لأنّ ذلك مبنيّ علىٰ أن يكون موصوفهما

هو الوجود، و المفروض أنّ المعروض هو الموجود، و هو متعدّد.

و أنت خبير: بفساد هذا التوهّم، فإنّه من الواضح أنّه ليس في الخارج إلّا شي ء واحد؛ يكون بتمامه مصداقاً لعنوان الصلاة و منطبقاً عليه عنوان الغصب، و لا يكون هنا حيثيّتان وجوديّتان؛ حتّى يقال: إنّ المبعّد حيثيّته مغايرة لحيثيّة المقرّب، بل لا تكون إلّا حيثيّة واحدة، غاية الأمر أنّ العقل يحلّلها إلىٰ شيئين، و يحكم عليه بعنوانين، فهما- أي العنوانان و إن كانا متغايرين إلّا أنّهما بأنفسهما لا يكونان مقرّباً و مبعّداً، و المفروض أنّ ما يعرض له أحد هذين الوصفين- و هو الوجود الخارجي لا يكون متعدّداً.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 377

فانقدح من ذلك: بطلان الصلاة في الدار المغصوبة و إن قلنا بجواز الاجتماع، كما هو مقتضى التحقيق.

هذا كلّه فيما لو كان الشي ء المحرّم متّحداً مع الفعل العبادي في الوجود الخارجي.

و أمّا لو كان مترتّباً عليه في الخارج و ملازماً له في التحقّق، فحكمه حكم المباح في جميع الأقسام الأربعة المتقدّمة.

هذا لو لم نقل بسراية الحرمة من ذلك الشي ء إلى الفعل العبادي من غير جهة المقدّميّة. و أمّا لو قلنا بذلك فحكمه حكم الصورة الأُولىٰ، كما لا يخفى.

و أمّا الحرمة من جهة المقدّميّة- بناء علىٰ حرمة مقدّمة الحرام فلا تضرّ بعد ما ثبت في محلّه من أنّ الحرمة المقدّميّة حرمة غيريّة، و لا يترتّب علىٰ مخالفتها بنفسها عقاب؛ إذ لا تكون بذاتها مبغوضة أصلًا «1».

نعم مع ثبوت النهي الفعلي المتعلّق بها لا يعقل أن تكون متعلَّقة للأمر أيضاً. و حينئذٍ يكون بطلان العبادة مستنداً إلىٰ عدم الأمر؛ لو قلنا بعدم كفاية الملاك في صحّة العبادة؛ و توقّفها علىٰ تعلّق الأمر الفعلي بها.

و

لكن قد عرفت سابقاً فساد هذا القول «2»؛ و أنّ صحّة العبادة لا تتوقّف علىٰ تعلّق الأمر الفعلي، مضافاً إلىٰ ما عرفت من أنّ الحكم المقدّمي لا يكون متعلّقاً بنفس المقدّمة «3»، و ما يكون محمولًا له هذا العنوان بالحمل الشائع كما قيل «4»

______________________________

(1) انظر مناهج الوصول 1: 378 382 و 415، تهذيب الأُصول 1: 247 و 282.

(2) تقدّم في الصفحة 354.

(3) تقدّم في الصفحة 364.

(4) انظر فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1 2: 286 288، نهاية الأفكار 1 2: 333 338.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 378

بل متعلّقه إنّما هو نفس عنوان المقدّمة؛ لأنّ الحيثيّات التعليليّة كلّها ترجع إلى الحيثيّات التقييديّة، و حينئذٍ فلا مانع من أن يجتمع النهي الفعلي مع الأمر، بعد كون متعلّق الأوّل هي نفس عنوان المقدّمة، و متعلّق الثاني هو ذات الفعل بعنوانه.

و أمّا الجهة الثانية:

فنقول:

إن قلنا بأنّ المحرّم في باب الرياء هو نفس الفعل العبادي، الذي يُراد بسببه طلب المنزلة عند الناس، فيصير حكم العمل المراءى به حكم ما لو كان الحرام متّحداً مع العبادة في الوجود الخارجي، فيبطل مطلقاً؛ سواء كان قصده تابعاً لنيّة القربة أو العكس، أو كان داعياً مستقلا كنيّة القُربة، أو كان جزء المؤثّر.

و الوجه فيه: ما عرفت من أنّ المحرّم لا يمكن أن يكون عبادة و مقرِّباً للعبد.

و إن قلنا بأنّ المحرّم في باب الرياء هو القصد، لا نفس العمل الخارجي، فيصير حكمه حكم الضميمة المباحة.

و نحن و إن حكمنا فيها بصحّة القسم الأوّل من الأقسام الأربعة المتصوّرة المتقدّمة- و هو ما يكون الداعي النفساني تابعاً لقصد التقرّب إلّا أنّه لا يخفى أنّ الحكم بالصحّة فيه أيضاً محلّ نظر بل منع؛ و ذلك لأنّه

لا ريب في أنّ اشتياق النفس إلى الفعل بعد وجود الداعي الضعيف، أيضاً يكون أشدّ ممّا إذا لم يكن فيه هذا الداعي، و من المعلوم- كما حقّق في محلّه «1» أنّه ليس نفس طبيعة الاشتياق- الصادقة على الاشتياق غير الشديد أيضاً شيئاً و وصف الشدّة فيه شيئاً آخر؛ بحيث يكون هنا شيئان: أحدهما طبيعة الاشتياق، و الآخر شدّته، بل ليس هنا إلّا وجود واحد و هويّة فأرده، نظير النور الشديد و الوجود الشديد

______________________________

(1) الحكمة المتعالية 6: 338 343.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 379

و نظائرهما، و حينئذٍ يكون هذا الوجود الواحد، متولّداً من الداعي القُربي القوي و الداعي النفساني الضعيف، و إن كان المفروض أنّه لو لم يكن الداعي النفساني موجوداً في البين، لكان الداعي القُربي مؤثّراً في حصول الاشتياق، إلّا أنّ ذلك لا يؤثّر بالنسبة إلىٰ هذا الاشتياق الخارجي المتولّد منهما معاً، و إلّا لكان اللازم القول بالصحّة في القسم الرابع أيضاً؛ لعدم الفرق بينهما من هذه الجهة، و قد عرفت أنّ التحقيق يقتضي بطلان العبادة فيه «1».

و حينئذٍ فالفعل المستند إلى الإرادة الناشئة من الاشتياق المتولّد من الداعيين معاً، يكون مستنداً إلىٰ كليهما، فيكون فاقداً لما يعتبر في العبادة من الإخلاص و عدم الاستناد إلّا إلىٰ نيّة القُربة.

و بالجملة: فالداعي و إن كان ضعيفاً، إلّا أنّه لا محالة له تأثير في حصول الاشتياق و لو بنحو الجزئيّة، و إلّا لا يكون داعياً بوجه، و مع فرض استناد الاشتياق إليه و لو بنحوها، لا يبقى مجال للقول بالصحّة أصلًا.

فالتحقيق: بطلان العبادة في جميع الأقسام المتقدّمة.

هذا كلّه في الرياء في أصل الفعل العبادي.

حول الرياء في الأجزاء الواجبة

و أمّا لو كان الرياء في بعض أجزائه، فتارة يكون

ذلك الجزء من الأجزاء الواجبة، التي لها مدخليّة في حقيقة الأمر العبادي و ماهيّته، و أُخرى يكون من الأجزاء المستحبّة.

أمّا لو كان الرياء في الجزء الواجب، فلا إشكال في وقوع ذلك الجزء الذي

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 375372.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 380

وقع الرياء فيه فاسداً، و حينئذٍ فإن لم يمكن التدارك فالعمل فاسد، و إن أمكن التدارك و تدارك، فالبطلان مبنيّ علىٰ صدق الزيادة العمديّة، التي ورد في الأخبار أنّها مبطلة للصلاة، مثل ما عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

من زاد في صلاته فعليه الإعادة «1».

نعم قد يقال بعدم صدق عنوان الزيادة في المقام؛ إمّا لأنّ المراد بالزيادة ما يكون من قبيل الزيادة في العمر في قولك: زاد اللّٰه في عمرك، فيكون المقدّر الذي جعلت الصلاة ظرفاً له هي الصلاة، فينحصر المورد بما كان الزائد مقداراً يمكن أن يطلق عليه الصلاة مستقلا كالركعة «2».

و إمّا لأنّ صدق عنوان الزيادة المبطلة على الفعل الزائد، متوقّف علىٰ كونه من حين إيجاده متّصفاً بذلك و صادراً بهذا العنوان، مع أنّه في المقام ليس كذلك فإنّ الركوع الواقع رياء- مثلًا لا يصدق عليه عنوان الزيادة بمجرّد وقوعه و صدوره، بل لو ركع ثانياً خالصاً غير مشوب بالرياء- كما هو المفروض يصير ذلك سبباً لاتّصاف الركوع الأوّل الواقع رياء بعنوان الزيادة قهراً، و هذه الزيادة لا تكون مبطلة «3».

و أنت خبير: بأنّ المراد بالزيادة المذكورة في الأخبار، هو مطلق ما يكون خارجاً عن الصلاة إذا أتى به بما أنّه من الصلاة داخل فيها، فكلّ شي ء- سواء كان مسانخاً لأجزاء الصلاة، أو مخالفاً لها- إذا زاده المصلّي في صلاته بعنوان

______________________________

(1) الكافي 3: 355/

5، تهذيب الأحكام 2: 194/ 764، الإستبصار 1: 376/ 1429، وسائل الشيعة 8: 231، كتاب الطهارة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الباب 19، الحديث 2.

(2) الصلاة، المحقّق الحائري: 312.

(3) مصباح الفقيه، الصلاة: 540/ السطر 10 19.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 381

أنّه من الصلاة و داخل فيها، فهو من الزيادة المبطلة، و حينئذٍ فالركوع المأتي به رياءً- من حيث إنّه خارج عن الصلاة، و لا يصلح لوقوعه جزءاً لها و ائتلافه مع سائر الأجزاء، و المفروض أنّ الغرض من الإتيان به هو كونه من الصلاة و داخلًا فيها مصداق للزيادة المبطلة.

و ما ذكر من عدم صدق الزيادة عليه حين وقوعه، و اللازم إنّما هو الاتّصاف بهذا الوصف حتّى يؤثّر في البطلان «1».

مدفوع: أوّلًا: بأنّ العرف يشهد بصدق الزيادة العمديّة عليه، و هو المرجع في مفاهيم الألفاظ الواردة في لسان الروايات، كما هو واضح.

و ثانياً: بمنع توقّف صدقها عليه علىٰ تحقّق الركوع الخالص بعده؛ إذ هو حين وقوعه يتّصف بالزيادة العمديّة لأجل عدم صلاحيّته للجزئيّة للصلاة، و المفروض إنّ إتيانه إنّما هو بعنوان أنّه جزء لها و داخل فيها.

فالحقّ: صدق الزيادة العمديّة في المقام.

و منه يظهر: أنّ البطلان فيما إذا لم يمكن التدارك إنّما يستند إلىٰ وقوع الزيادة في الصلاة، لا إلىٰ فقدانها لبعض أجزائها الواجبة؛ إذ اتّصاف الجزء المأتي به رياءً بعنوان الزيادة، مقدّم على اتّصاف الصلاة بفقدانها لبعض الأجزاء؛ لأنّ هذا الوصف إنّما ينتزع من عدم الإتيان بالجزء الصحيح بعد ذلك الجزء هذا كلّه في الرياء في الأجزاء الواجبة.

الرياء في الأجزاء المستحبّة

و أمّا الرياء في الأجزاء المستحبّة، فمقتضى القاعدة عدم بطلان العبادة بسبب بطلان تلك الأجزاء؛ سواء كان معنى استحبابها في الصلاة- مثلًا و جزئيّتها

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الصلاة: 540/ السطر 19 20.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 382

لها كذلك أنّها مستحبّة في نفسها، غاية الأمر أنّ ظرفها إنّما هي الصلاة؛ بمعنى أنّها مستحبّة فيما لو وقعت فيها لا في غيرها، و لا يؤثّر إيجادها في الصلاة مزيّة فيها أصلًا، أو كان معنى استحبابها أنّ لها مدخليّة فيها؛ و مؤثّرة في حصول مزيّة لها، غاية الأمر أنّها لا تكون دخيلة في حقيقة الصلاة و ماهيّتها، بل لها دَخْل في حصول المرتبة الراجحة من مراتب الصلاة المختلفة، و يتحقّق بها أفضل أفرادها.

أمّا على المعنى الأوّل فواضح أنّه لا مدخليّة لبطلانها في بطلان العبادة أصلًا.

و أمّا على المعنى الثاني فالظاهر أنّه أيضاً كذلك؛ لأنّ بطلان الأجزاء المستحبّة إنّما يؤثّر في عدم تحقّق الصلاة بمرتبتها الكاملة، و لا ينافي ذلك تحقّقها بمرتبتها النازلة؛ إذ المفروض أنّه ليس لها دَخْل في قوام ماهيّة الصلاة و حقيقتها، فالحقّ أنّه لا تبطل العبادة ببطلانها أصلًا.

هذا كلّه في الرياء في أصل العمل أو في أجزائه.

الرياء في خصوصيّات العبادة

و أمّا لو كان الرياء في خصوصيّات العبادة: فتارة: يرجع إلى الرياء في نفس العبادة، مثل ما إذا صلّىٰ بمحضر من الناس لأجل تحصيل المحبوبيّة عندهم، و أُخرى: لا يرجع إليها، مثل ما إذا صلّىٰ في المسجد؛ لأجل إراءة الناس و طلب المنزلة عندهم بسبب الكون في المسجد، لا بالصلاة فيه.

أمّا القسم الأوّل: فالظاهر بطلان العبادة فيه؛ سواء كان داعي إراءة طاعته ليمدحه الناس، ناشئاً من قِبَل أمر الشارع؛ بمعنى أنّه لولا الأمر بالصلاة لم يكن

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 383

له هذا الداعي أصلًا، و لكن لمّا ألجأه الشارع إلىٰ إتيانها، يأتي بها بمحضر من الناس بداعي

مدحهم إيّاه، أو كان داعياً مستقلا؛ بحيث لولا الأمر بالصلاة لتوصّل إلىٰ غرضه بطريق آخر.

وجه البطلان: أنّ هذا الداعي إنّما يرجع إلىٰ نفس العبادة؛ إذ مدح الناس إيّاه إنّما هو علىٰ أصل عبادته، لا علىٰ إيجادها بمحضرهم، و حينئذٍ فلا يتمّ ما عن بعض المحقّقين من المعاصرين- في كتابه في الصلاة من عدم بطلان العبادة في هذه الصورة؛ نظراً إلىٰ أنّ الأمر بالصلاة لا يقتضي إلّا إتيان الطبيعة المذكورة؛ من دون اقتضاء كيفيّة خاصّة، و هذا المصلّي إنّما يتحرّك إلىٰ أصل الصلاة من قِبَل الأمر بها خاصّة، و لكن اختيار إيجادها بمحضر من الناس يكون من جهة مدحهم إيّاه «1».

وجه عدم التماميّة: ما عرفت من أنّ هذا الداعي إنّما يرجع إلىٰ أصل العبادة؛ إذ المدح إنّما يترتّب عليه، لا علىٰ كيفيّته و خصوصيّته، و هذا بخلاف مسألة الوضوء بالماء البارد التي قد عرفت خروجها عن موضع النزاع؛ و أنّه لا إشكال في صحّته؛ لأنّ التبريد إنّما هو أثر استعمال الماء البارد في الوضوء، لا نفس طبيعته «2».

و أمّا القسم الثاني: فهو من مصاديق اجتماع الأمر و النهي، و قد عرفت الإشارة إلىٰ بطلان مورد الاجتماع فيما إذا كان عبادة- بناءً على القول بالجواز «3»، كما هو مقتضى التحقيق «4» و منشأه استحالة أن يكون فعل واحد مقرّباً من جهة

______________________________

(1) الصلاة، المحقّق الحائري: 135.

(2) تقدّم في الصفحة 369.

(3) تقدّم في الصفحة 375.

(4) مناهج الوصول 2: 128 134، تهذيب الأُصول 1: 391.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 384

و مبعّداً من جهة أُخرى و نحن و إن جزمنا بذلك- أي بالاستحالة إلّا أنّه لا يخلو عن مناقشة نبّهنا عليها في الأُصول «1».

هذا كلّه فيما تقتضيه القاعدة

في مسألة الرياء مع قطع النظر عن ملاحظة الأخبار الواردة فيه.

حول مسألة الرياء بحسب مفاد الأخبار

و أمّا مع ملاحظتها فالتكلّم فيه من هذه الحيثيّة يقع من جهات:

من جهة: أنّ المحرّم في باب الرياء هل هو نفس العمل أو القصد؟

و من جهة: أنّه هل يستلزم الرياء بطلان العبادة من رأس، أو يوجب سقوطها عن مرتبة القبول؛ بمعنى ترتّب الثواب عليه، كما هو المحكيّ «2» عن المرتضىٰ (قدّس سرّه) «3»؟

و من جهة: أنّ المحرّم هل هو الرياء في خصوص العبادة، أو مطلق الرياء و لو كان في الكمالات الأُخر؟

و من جهة: شمول أخبار الباب لجميع الصور المتقدّمة: ممّا إذا كان الرياء في أصل العمل، أو في أجزائه الواجبة، أو في الأجزاء المستحبّة، أو في كيفيّته و خصوصيّاته، أو اختصاصها ببعض هذه الصور؟

و من جهة: شمولها للأقسام الأربعة المتقدّمة: و هي ما إذا كان داعي القُرْبة مستقلا و الداعي النفساني تبعاً، و العكس، و ما إذا كان الداعيان جزءين

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 133 136، تهذيب الأُصول 1: 397.

(2) جواهر الكلام 2: 96، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 224.

(3) انظر الانتصار: 17.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 385

للمؤثّر بنحو الاستقلال، أو بغيره؟

ثمّ لا يخفى أنّه لا يترتّب على التكلّم في الأخبار من الجهة الثالثة- الراجعة إلىٰ أنّ المحرّم هل هو الرياء في خصوص العبادة أو مطلقاً كثير فائدة؛ لأنّه علىٰ فرض دلالة الأخبار على التحريم مطلقاً، فلا يمكن الالتزام بذلك؛ للزوم كون أغلب أعمال أكثر أرباب الكمالات حراماً؛ لأنّهم لا يقصدون منها إلّا إظهار كمالاتهم تحصيلًا للمحبوبيّة عند الناس، مضافاً إلىٰ أنّه لو كان مثل ذلك محرّماً لكانت حرمته بديهيّة عند المتشرّعة؛ لعموم الابتلاء به، كما هو واضح، فلو فرض دلالة

الأخبار عليه فلا بدّ من رفع اليد عن ظاهرها.

و أمّا المناقشة في الجهة الثانية، التي ترجع إلىٰ أنّ الرياء هل يوجب البطلان، أو السقوط عن مرتبة القبول؛ من حيث عدم معقوليّة كون العمل صحيحاً و مع ذلك كان غير مقبول؛ نظراً إلىٰ أنّ معنىٰ صحّة العمل كونه موافقاً للمأمور به، فكيف يمكن أن يكون مردوداً مع اشتماله علىٰ جميع ما يعتبر فيه «1».

فغير سديدة؛ لأنّ اشتمال العمل علىٰ مجرّد شروط الصحّة، لا يترتّب عليه إلّا مجرّد رفع العقاب الذي يستحقّه العامل بسبب المخالفة، و أمّا ترتّب الثواب عليه أيضاً فلم يدلّ عليه دليل، فمن الممكن أن يكون ترتّب الثواب علىٰ عمل مشروطاً بما لا يشترط في صحّته أيضاً، كما يستفاد ذلك من الأخبار، فإنّ فيها ما يدلّ علىٰ أنّه قد يتقبّل اللّٰه نصف الصلاة أو ثلثها «2» مثلًا، و من المعلوم أنّ توصيف بعض الأجزاء بالصحّة دون البعض الآخر ممّا لا يصحّ، فإنّ الصلاة: إمّا أن تقع صحيحة بتمامها، و إمّا أن تقع باطلة كذلك.

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 224.

(2) دعائم الإسلام 1: 158 159، بحار الأنوار 84: 265 266، مستدرك الوسائل 4: 109، كتاب الصلاة، أبواب أفعال الصلاة، الباب 3، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 386

و بالجملة: فالإشكال في انفكاك القبول عن الصحّة؛ و كونه أخصّ بالإضافة إليها، ممّا لا ينبغي.

كما أنّ النزاع في الجهة الاولىٰ مع ظهور جُلّ الأخبار- لو لم يكن الكلّ في حرمة نفس العمل، و كذا في الجهة الثانية مع ظهورها أيضاً في البطلان، ممّا لا يترتّب عليه كثير فائدة.

إنّما المهمّ هما الجهتان الأخيرتان، فنقول:

قد يقال- كما قيل «1» بعدم بطلان العبادة فيما إذا كان الرياء

موجباً لترجيح فرد من بين سائر أفراد طبيعة الطاعة، كما إذا صلّىٰ بمحضر من الناس؛ نظراً إلىٰ أنّ مدلول الأخبار، أنّ ما يكون محرّماً هو إظهار العبادة علىٰ خلاف ما في السريرة؛ بمعنى أنّه يظهر للناس كون العمل خالصاً لوجه اللّٰه، و لم يكن كذلك في الواقع، فلا يدخل فيها من يظهر العمل الخالص للّٰه لغرضه النفساني.

و بعبارة اخرىٰ: لم يظهر من أخبار الباب فساد العمل من جهة إظهار ما في سريرته واقعاً، بل الفساد فيما أظهر ما لم يكن في سريرته.

و أنت خبير: بدلالة بعض الروايات على البطلان في هذه الصورة أيضاً، و هو ما رواه ابن محبوب، عن داود، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

من أظهر للناس ما يُحبّ اللّٰه عزّ و جلّ، و بارز اللّٰه بما كرهه، لقي اللّٰه و هو ماقت له «2».

حيث إنّ ظاهره أنّ الممقوت هو إظهار ما يحبّه اللّٰه، و هو العمل الخالص، و مع عدم الخلوص لا يكون محبوباً للّٰه تعالىٰ أصلًا، فالعبادة الخالصة من الرياء

______________________________

(1) الصلاة، المحقّق الحائري: 135.

(2) الكافي 2: 295/ 10، وسائل الشيعة 1: 64، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 11، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 387

و نحوه إذا أظهرها للناس- كما في هذه الرواية أو تزيّن بها- كما في نظيرها «1» يكون إظهارها و التزيّن بها ممقوتاً عند اللّٰه، فتكون فاسدة.

ثمّ إنّه لا إشكال في دلالة الأخبار علىٰ بطلان العبادة؛ في غير ما إذا كان الداعي النفساني ضعيفاً و داعي القربة قويّاً من الأقسام الأربعة المتقدّمة؛ لأنّه عملٌ أدخل فيه رضا أحد من الناس.

و أمّا في هذه الصورة، و هي ما إذا كان داعي الطاعة في

نفسه تامّاً مؤثّراً مستقلا، و لكن كان في نفسه داعٍ آخر ضعيف، فالظاهر بمقتضى الأخبار أيضاً بطلان العبادة فيها؛ لدلالتها علىٰ أنّه من عمل عملًا أدخل فيه رضا أحد من الناس فهو مشرك «2»، و قد عرفت أنّ الداعي- و لو بلغ من الضعف الغاية و من القصور النهاية له تأثير في الشوق الذي تنبعث منه الإرادة الموجدة للفعل «3»، فهو- أي الفعل أدخل فيه رضا غيره تعالىٰ؛ لاستناده إلى الإرادة الناشئة من الشوق المركّب من الداعيين معاً. نعم السرور- الذي ورد في حسنة زرارة «4» نفي البأس عنه لا يكون داعياً مؤثّراً بوجه، بل إنّما هو الاشتياق إلىٰ رؤية الناس عبادته، فهو متأخّر عن تحقّق العبادة، لا أنّه مؤثّر فيها و ضميمةٌ لداعي الطاعة أصلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) قرب الإسناد: 92/ 309، وسائل الشيعة 1: 68، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 11، الحديث 14.

(2) المحاسن: 122/ 135، ثواب الأعمال: 289/ 1، وسائل الشيعة 1: 67، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 11، الحديث 11.

(3) تقدّم في الصفحة 378 379.

(4) الكافي 2: 297/ 18، وسائل الشيعة 1: 75، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 15، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 388

ثمّ إنّه لا إشكال أيضاً في دلالة الأخبار علىٰ بطلان عبادة المرائي؛ فيما إذا كان رياؤه في مجموع العمل.

الرياء بالأجزاء بحسب مفاد الأخبار

و أمّا الرياء في الأجزاء، فشمول الأخبار له مبنيّ علىٰ أنّ كلّ واحد من أجزاء العبادة، هل هو عمل مستقلّ، و هي مركّبة من أعمال، أو أنّها بأجمعها عمل واحد، فعلى الأوّل لا دلالة للأخبار إلّا علىٰ بطلان الجزء الذي راءى فيه، و حينئذٍ فلا بدّ في استفادة حكم مجموع العبادة من

الرجوع إلى القاعدة، و قد عرفت مقتضاها «1»، و على الثاني يستفاد من الأخبار بطلان مجموع العبادة؛ لأنّه أدخل في هذا العمل الواحد رضا غيره تعالىٰ، فهو مشرك.

و الظاهر هو الوجه الثاني؛ لأنّ الصلاة و نظائرها عند المتشرّعة عمل واحد؛ يفتتح بالتكبير، و يختتم بالتسليم، و لا يكون كلّ واحد من أجزائها عملًا مستقلا بنظرهم، و هذا بخلاف الحجّ و أشباهه، فإنّ أجزاءه كلّ واحد منها عمل بحياله و عبادة مستقلّة. و الفارق بينهما من هذه الجهة هو عرف المتشرّعة، و حينئذٍ فالاستناد في كون أجزاء الصلاة أعمالًا مستقلّة إلى الحجّ، كما في «المصباح» «2»، لا مجال له بوجه.

فالحقّ بطلان الصلاة بالرياء في أجزائها مطلقاً؛ لأنّه يصدق بنظر العرف أنّه عمل له تعالىٰ و لغيره، بل التعبير بأنّ من عمل عملًا أدخل فيه رضا أحد من الناس فهو مشرك، كالصريح في الدلالة علىٰ بطلان العبادة بالرياء في أجزائها؛

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 375.

(2) مصباح الفقيه، الصلاة: 239/ السطر 10 12.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 389

لأنّ الإدخال في العمل لا يتحقّق إلّا بكون العمل ظرفاً للمدخل، و هو رضا الغير في المقام، و ظرفيّته له إنّما هي بكونه داخلًا فيه، و هو لا ينطبق إلّا على الرياء في الأجزاء.

هذا كلّه بالنسبة إلى الرياء في أصل العمل و أجزائه.

الرياء في خصوصيّات العبادة و كيفيّاتها

و أمّا الرياء في خصوصيّاته و كيفيّاته: فإن كانت تلك الكيفيّة متّحدة مع العبادة في الوجود الخارجي كإيقاعها في المسجد رياء أو بالإضافة إلى الكون فيه، فالظاهر بطلان العبادة من رأس، و من هذا القبيل صلاة المعتكف رياء، فإنّ الكون في المسجد يصير- حينئذٍ محرّماً، و المفروض اتّحاده مع الصلاة فتفسد، و كذا الوضوء مستقبلًا للقبلة؛ بناءً

علىٰ كون الاستقبال شرطاً في كماله، و أمّا بناءً علىٰ كونه مستحبّاً مستقلا و ظرفه الوضوء، فالرياء فيه لا يسري إلىٰ أصل الوضوء حتّى يفسده، و كذا المضمضة و الاستنشاق المستحبّان قبل الوضوء، فإنّ الرياء فيهما يوجب بطلانه لو قلنا بكونهما شرطين في كماله، و كذا سائر الكيفيّات المتّحدة مع العبادة كهيئة التخضّع و التخشّع المستحبّة في الصلاة، و إن لم تكن الكيفيّة متّحدة مع العبادة، كما إذا راءى في التحنّك لا في الصلاة معه، فذلك لا يوجب بطلانها، و منه ما إذا قرأ الفاتحة مع التجويد؛ رياءً و إظهاراً أنّه يحسن القراءة و يكون عارفاً بالتجويد، و أمّا إذا رجع رياؤه فيه إلى الرياء في العبادة؛ بحيث كان مقصوده إراءة أنّه يصلّي كذلك، فالظاهر بطلانها.

فتلخّص من جميع ما ذكرنا: بطلان العبادة مع الرياء بجميع الأقسام إلّا في خصوص قسم واحد، و هو الرياء في الخصوصيّات غير المتّحدة مع العبادة؛ إذا لم يرجع إلى الرياء في نفس العبادة.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 390

تذنيب: حول تفسير الشيخ للرياء

ذكر الشيخ (قدّس سرّه) في تفسير الرياء ما ملخّصه:

«أنّ الرياء- كما ذكره بعض علماء الأخلاق طلب المنزلة عند غيره تعالىٰ «1»، و ظاهره الاختصاص بداعي مدح الناس، فلو قصد بذلك رفع الذمّ عن نفسه، كما إذا راعى في القراءة آدابها غير الواجبة؛ دفعاً لنسبة النقص إليه بجهله بطريق القرّاء، لم يكن بذلك بأس، و ظاهر الأخبار الواردة في باب الرياء أيضاً الاختصاص بذلك.

نعم لو كان دفع الضرر داعياً مستقلا إلىٰ أصل العمل دون خصوصيّاته فسد، و لو كان جزء الداعي فحكمه حكم الضميمة المباحة؛ لأنّه أحد أفرادها، و علىٰ هذا فمطلق الرياء ليس محرّماً؛ لأنّ التوصّل إلىٰ دفع الضرر و

لو بطلب المنزلة عند الناس لا دليل علىٰ تحريمه، بل قد يجب، و ظاهر الأخبار حرمة الرياء بقول مطلق، و الأجود تخصيص حقيقته بما هو ظاهر التعريف الأوّل، فدفع الضرر من الضمائم غير المحرّمة.

نعم يبقىٰ علىٰ ما ذكرنا: طلب المنزلة عند الناس لتحصيل غاية راجحة، كترويج الحقّ و إماتة الباطل، فالظاهر عدم دخوله في الرياء؛ لأنّ مرجعه إلىٰ طلب المنزلة عند اللّٰه.

و لو نوقش في الصدق، منعنا حرمته؛ لأنّ حرمة الرياء معارضة بعموم رجحان تلك الغاية» «2».

______________________________

(1) انظر المحجّة البيضاء 6: 148، جامع السعادات 2: 373.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 105 106.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 391

و الظاهر- كما اعترف به في ذيل كلامه إطلاق أدلّة الرياء؛ و شمولها أيضاً لما إذا قصد به رفع المذمّة عن نفسه، و حينئذٍ فكلام ذلك البعض لا يصلح مخصّصاً له، و المفروض أنّه لا دليل على التخصيص سواه، فلا مناص عن الأخذ بالإطلاق و الحكم بحرمته مطلقاً.

و أمّا ما ذكره في الذيل: من أنّه لو جعل طلب المنزلة طريقاً إلىٰ تحصيل غاية راجحة، فلا يكون ذلك رياء أصلًا.

فيرد عليه: منع ذلك و إطلاق الأخبار بالنسبة إليه أيضاً، و تعارضها مع عموم رجحان تلك الغاية لا يوجب نفي حرمته؛ لأنّه لو كانت تلك الغاية الراجحة مستحبّة فمن الواضح ترجيح جانب الحرمة، و إن كانت واجبة فالواجب مراعاة قواعد باب التعارض؛ و الرجوع إلى المرجّحات السنديّة، و مع عدمها فالتخيير، و لو فرض كون المقام من مصاديق باب التزاحم، فيبتني علىٰ إحراز أهمّيّة تلك الغاية بالإضافة إلىٰ ترك الواجب و الإتيان بالمحرّم.

هذا كلّه في الرياء.

الكلام في السمْعة و حكمها

و أمّا السمْعة التي معناها: أن يقصد بالعمل سماع الناس به

فيعظم مرتبته عندهم بسببه، فحكمه حكم الرياء في جميع ما تقدّم، بل هو من أفراده، و كثير من الأخبار الواردة في باب الرياء يشمله، بل بعضها صريح في ذلك، فراجع «1».

______________________________

(1) الكافي 2: 293/ 4، وسائل الشيعة 1: 71، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 12، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 392

الكلام في العُجب
اشارة

و الكلام فيه يقع من جهات:

الجهة الاولىٰ: في حقيقته و معناه

و الظاهر أنّه عبارة عن إعظام الإنسان نعمة أو عملًا أو اعتقاداً أو غيرها؛ ممّا يحسبه المعجب فضيلة عظيمة، و ربما يتحقّق بالنسبة إلىٰ بعض الأعمال القبيحة و الرذائل التي يرتكبها المعجب، فيعجب بها و يزعمها كمالًا و فضيلة.

و لا يخفىٰ أنّ هذه الصفة- كالتكبّر و الحسد و نحوهما من رذائل الأخلاق التي تكون من المهلكات، و منشأه الركون إلىٰ عمل نفسه و الغفلة عن حقيقة نفسه و عن أعمال العباد الصالحين و الأولياء و المقرّبين؛ إذ بالتفكّر فيها يعلم بأنّ عمله في مقابل أعمالهم لا يعدّ شيئاً، فضلًا عن كونه فضيلة و كمالًا، و قد ورد في الأخبار الكثيرة- التي سيأتي نقلها الذمّ عليه و التوبيخ.

الجهة الثانية: في اختيارية العجب

هل العجب أمر اختياري قابل لتعلّق التكليف به، أم لا؟

و الظاهر أنّه لا يكون أمراً اختياريّاً؛ بمعنى أن تكون علّة وجوده الإرادة، نظير أفعال الجوارح الاختياريّة الصادرة من الإنسان بحيث توجد بالإرادة، بل له مبادئ في النفس يوجد بوجودها قهراً، و ينتفي بانتفائها كذلك، نظير الحسد و نحوه من الصفات الرذيلة. نعم نفس تلك المبادئ تكون من الأُمور الاختياريّة؛ بمعنى أنّه يمكن إزالتها بالتفكّر و الارتياض، فتعلّق التكاليف به لا بدّ و أن يرجع إلىٰ تلك المبادئ، كما هو ظاهر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 393

الجهة الثالثة: في فساد العمل بالعُجْب و الرياء المتأخّرين
اشارة

هل يمكن أن يكون العُجْب المتأخّر عن العمل و كذا الرياء المتأخّر عنه مُفسداً له، أو لا يمكن؟

قد يقال- كما في «المصباح» بعدم الإمكان؛ نظراً إلىٰ أنّ اعتبار عدم العُجْب المتأخّر: إمّا أن يكون من قبيل الشروط؛ بمعنى أنّ عدم العجب المتأخّر يكون شرطاً في سببيّة الصلاة السابقة لإسقاط أمرها، كالإجازة في الفضولي؛ بناءً على القول بكونها ناقلة، و إمّا أن يكون من قبيل اعتبار الوصف الموجود في الشي ء المنتزع من وجود الشي ء المتأخّر، كالإجازة بناءً على الكشف، و كلاهما غير معقول في المقام.

أمّا الأوّل فلأنّ شرطيّة العدم مرجعها إلىٰ مانعيّة الوجود، و لا يعقل التمانع بين الشي ء و ما يتأخّر عنه في الوجود، فتأثير العجب المتأخّر نظير الحدث الواقع عقيب الصلاة في إبطال ما وقع غير معقول، و هذا بخلاف ما إذا كان الشرط أمراً وجوديّاً ذا أثر، فإنّه يعقل أن يتوقّف تأثير السبب الناقص على الوجود المتأخّر عنه، كالإجازة في المثال.

و أمّا الثاني فوجهه واضح؛ لأنّ الأمر بالصلاة مطلق، فلا يعقل اختصاص الصحّة بفعل بعض دون بعض؛ لأنّ الأمر يقتضي الإجزاء عقلًا «1». انتهىٰ ملخّص ما

في «المصباح».

و أنت خبير: بأنّ ما أفاده من عدم معقوليّة التمانع بين الشي ء و ما يتأخّر عنه في الوجود، إنّما يتمّ في التكوينيّات، و نحن نزيد عليه عدم معقوليّة جعل

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 239 241.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 394

المتأخّر شرطاً أيضاً؛ لأنّه لا يعقل أن يؤثّر الأمر المعدوم بعد وجود الشرط؛ إذ المفروض كون المشروط معدوماً حين وجود شرطه و إلّا يصير شرطاً مقارناً، و حينئذٍ فكيف يعقل أن يؤثّر المشروط المعدوم حين تحقّق شرطه، و لازم ذلك بطلان القول بكون الإجازة ناقلة؛ إذ العقد المركّب من الألفاظ المخصوصة التي شأنها الانعدام بمجرّد التحقّق، لا يكون باقياً حقيقة عند الإجازة، فكيف يؤثّر في الملكيّة، بل تصير دائرة الإشكال أوسع من ذلك، و يكون لازمه بطلان كلّ عقد؛ إذ تأثير الإيجاب متوقّف علىٰ تحقّق القبول بعده، و من المعلوم انعدامه و انصرامه حينه، فكيف يؤثّر ما ليس بموجود فعلًا؟!

التحقيق في المقام

و الحلّ: أنّ ذلك كلّه إنّما هو في الأُمور التكوينيّة، و أمّا الأُمور الاعتباريّة- كالعبادات و المعاملات فتدور مدار الاعتبار، و حينئذٍ فلا إشكال في أن يكون تأثير السبب الاعتباري متوقّفاً على الشرط المتأخّر بحسب الاعتبار؛ بمعنى أنّ العقلاء- مثلًا لا يعتبرون الملكيّة في عقد الفضولي بمجرّد العقد، بل بعد تحقّق الإجازة من المالك، فكأنّهم يرون العقد أمراً باقياً إلىٰ حين الإجازة، و حينئذٍ فلو فرض الدليل علىٰ مانعيّة العُجْب المتأخّر، يصير معناه عدم تحقّق الصلاة بنظر الشارع إلّا فيما لو لم يتعقّبها عُجْب أو رياء مثلًا، و يكون العجب المتأخّر مانعاً عن تحقّق الصلاة باعتبار الشارع.

و يرد على الأمر الثاني لعدم المعقوليّة- و هو أنّ الأمر يقتضي الإجزاء عقلًا: أنّ كلامنا

إنّما هو بعد فرض وجود الدليل علىٰ مبطليّة العُجْب المتأخّر، و حينئذٍ فكيف يكون الأمر بالصلاة مطلقاً؟! بل المأمور به- حينئذٍ إنّما هي الصلاة التي لا يعرضها العُجْب، فعروضه يكشف عن عدم تحقّق المأمور به

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 395

بجميع ما اعتبر فيه، فكيف يكون مُجزياً.

وَ لَعَمري إنّ هذا واضح جدّاً، و دعوىٰ وضوح خلافه- كما عرفت في كلامه بعيد عن مقامه.

الجهة الرابعة: في حرمة العُجْب بحسب مفاد الأخبار

في مفاد الأخبار من حيث حرمة العجب و كونه مفسداً للعمل، فنقول:

أمّا الحرمة: فلا يستفاد من شي ء منها على اختلاف مضمونها، كما يظهر لمن راجعها.

و أمّا الإفساد: فربما يتوهّم أنّه تدلّ عليه رواية يونس بن عمّار، عن الصادق (عليه السّلام)، قال: قيل له و أنا حاضر: الرجل يكون في صلاته خالياً، فيدخله العجب؟ فقال

إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك، فليمضِ في صلاته و لْيخسأ الشيطان «1».

نظراً إلىٰ أنّ مفهومها يدلّ على المطلوب، و منطوقها علىٰ عدم الإفساد لو وقع في الأثناء.

و قد حُكي الاستدلال بهذه الرواية عن صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «2» و لكنّه اعترض عليه في «المصباح» بما حاصله:

أنّ هذا لا يخلو عن غفلة؛ لابتنائه على اعتبار مفهوم اللقب، و تقديمه علىٰ ظاهر المنطوق في الشرطيّة، و هو سببيّة الشرط للجزاء.

بيانه: أنّ قوله (عليه السّلام)

فلا يضرّه ما دخله بعد ذلك

، لا يكون جزاءً

______________________________

(1) الكافي 3: 268/ 3، وسائل الشيعة 1: 107، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 24، الحديث 3.

(2) جواهر الكلام 2: 101 102.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 396

للشرط؛ لعدم صلاحيّته لذلك؛ لأنّه يلزم أن يكون مفاد القضيّة بحسب المفهوم: أنّ العُجْب الذي يدخله بعد ذلك

يضرّه علىٰ تقدير فقد الإخلاص في النيّة، و هو غير صحيح؛ لأنّ التضرّر علىٰ هذا التقدير يحصل من فقد الإخلاص، لا من العجب الذي دخله بعد ذلك.

و حينئذٍ فالجملة جملة خبريّة سادّة مسدّ الجزاء، و التقدير: إذا كان أوّل صلاته بنيّة يريد بها ربّه فصلاته صحيحة، و تلك الجملة متفرّعة عليه، و حينئذٍ فظاهر القضيّة الشرطيّة- الدالّة علىٰ سببيّة الشرط للجزاء أنّ العلّة لصحّة الصلاة هو الإخلاص، و لا يضرّ بها العُجْب.

نعم قوله

فلا يضرّه بعد ذلك

، يدلّ بمفهومه علىٰ أنّ العُجْب لو وقع عند الشروع يكون مضرّاً، و لكن هذا من قبيل مفهوم اللقب، و قد بُيّن في الأُصول عدم الاعتداد به «1». انتهىٰ.

أقول: و كأنّ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) زعم أنّ نيّة إرادة الربّ تنافي العُجْب، فتخيّل أنّ مدلول الرواية بحسب المفهوم أنّه إن لم يكن أوّل صلاته بنيّة إرادة الربّ؛ بمعنى كونه مُعجِباً، فلا يضرّه العُجْب الواقع في الأثناء، مع أنّه- مضافاً إلىٰ عدم التنافي بينهما أصلًا؛ ضرورة أنّ العُجْب لا يكون من قبيل الدواعي الباعثة على العمل يرد عليه: أنّ فقدان نيّة إرادة الربّ و لو كان في الأثناء يضرّ بالصلاة؛ ضرورة اعتبار استدامة نيّة القربة إلىٰ آخر الصلاة.

و الإنصاف:- بعد عدم ثبوت المنافاة بينهما أن يقال: إنّ الشرط في القضيّة مسوق لبيان تحقّق الموضوع، فيصير معنى الرواية هكذا: إذا كان قد دخل في الصلاة صحيحاً- يعني: إذا كانت صلاته صحيحة من سائر الجهات فلا يضرّه العُجْب

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 244 245.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 397

أصلًا، و قد بُيّن في محلّه: أنّ هذا النحو من القضايا الشرطيّة ليس لها مفهوم أصلًا، كقوله: «إن رُزقت ولداً فاختنْه»،

أو «إن ركب الأمير فخذ ركابه»، و نحوهما من الأمثلة «1»، فالرواية تدلّ بمنطوقها علىٰ عدم كون العُجْب مُفسداً للعمل.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا: أنّ العُجْب لا يكون موضوعاً للحرمة مطلقاً؛ لا الحرمة التكليفيّة، و لا الحرمة الوضعيّة.

المقام الثالث: في الضمائم الراجحة
اشارة

و ليعلم أوّلًا: أنّ فرض الضميمة إنّما هو فيما إذا كان قصد الأمر الآخر- مباحاً كان أو محرّماً أو راجحاً داعياً أيضاً إلىٰ نفس طبيعة المأمور بها و أصل الفعل العبادي.

و أمّا إذا صار داعياً إلىٰ شي ء آخر غير نفس الفعل فلا يتحقّق فرض الضميمة، كما هو واضح.

و قد عرفت في صدر المبحث تفصيل ذلك «2»، و حينئذٍ فما ذكروه من المثال في المقام- تقريباً لعدم كون الضميمة الراجحة مبطلة و هو ما إذا تصدّق على العالم الهاشمي المؤمن- مثلًا قاصداً به امتثال الأوامر المتعدّدة المتعلّقة بإكرام العالم و إكرام الهاشمي و إكرام المؤمن، فإنّه يتحقّق امتثال الجميع بلا ريب، خارج عن باب الضميمة و لا ارتباط له به؛ لأنّ الداعي علىٰ إكرام العالم إنّما هو خصوص الأمر المتعلّق به، و كذا إكرام الهاشمي و المؤمن، فإنّ الداعي علىٰ كلّ منهما إنّما هو نفس الأمر المتعلّق بهما؛ ضرورة أنّه لا يعقل أن يكون الأمر المتعلّق بإكرام العالم داعياً

______________________________

(1) انظر فرائد الأُصول 1: 118، فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 2: 482.

(2) تقدّم في الصفحة 369.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 398

إلى إكرام الهاشمي؛ لأنّ الأمر لا يدعو إلّا إلىٰ متعلّقه، فالداعي الإتيان بكلٍّ من المتعلقات إنّما هو خصوص أمره بلا ضميمة شي ء آخر أصلًا.

و كذا ما جعلوه مثالًا للضميمة الراجحة- و هو الوضوء المتوقّف على القصد و من المعلوم أنّ الواجب إنّما هو عنوان الوضوء؛

لأنّ مجرّد الغسلتين و المسحتين لا يتّصف بهذا العنوان لو لم يتحقّق قصده. فالأمر إنّما يدعو المكلّف إلىٰ عنوان الوضوء و داعي التعليم إنّما يدعوه إلى إيجاد صورته فيما يتوضّأ بقصد التعليم أيضاً، فمدعوّاهما مختلف. فظهر أنّ هذا المثال و نظائره خارج عن باب الضميمة، نعم في المثال السابق لو فرضنا قصور تلك الأوامر المتعدّدة عن أن يصير كلّ واحد منها داعياً مستقلا للمكلّف إلىٰ إتيان متعلّقه؛ بمعنى أنّ المكلّف لا يتحرك من كلّ منها مع قطع النظر عن الباقي، بل المجموع صار داعياً له إلىٰ إكرام من يتصادق عليه تلك العناوين يتحقّق الضميمة؛ لأنّ المفروض أنّ الباعث له علىٰ إكرام ذلك الشخص إنّما هو مجموع الأوامر المتعدّدة المتعلّقة كلّ واحد منها بغير ما تعلّق به آخر.

لا يقال: إنّ المجموع ليس أمراً وراء مفرداته فبعد ما لم يكن مفرداته داعياً و محركاً له- كما هو المفروض لا يكون هنا شي ء آخر يكون هو الداعي و الباعث.

فإنّا نقول: قد مرّ سابقاً أنّ الانبعاث لا يكون مستنداً إلىٰ نفس البعث الخارجي بل إنّما ينشأ من تصوّره مع ما يترتّب على مخالفته و موافقته من المثوبة و العقوبة، و من المعلوم أنّه يمكن تصوّر الأوامر المتعدّدة و لحاظها شيئاً واحداً كما هو واضح. و لا يخفى أنّ الحكم في هذا الفرض- الذي يكون مصداقاً للضميمة صحّة العبادة و تحقّق امتثال جميع الأوامر؛ لأنّه لا دليل على اعتبار أزيد من كون العمل للّٰه تعالى من دون مدخلية داعٍ نفساني في إيجاده. و أمّا لزوم أن يكون كلّ أمرٍ داعياً مستقلا للمكلّف إلىٰ إتيان متعلّقه فلا يستفاد من دليل أصلًا، كما لا يخفى، فتأمّل في المقام فإنّه قد وقع الخلط

فيه من الأعلام و على اللّٰه التوكّل و به الاعتصام.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 399

تفريع: في كفاية وضوء واحد عن أسباب متعدّدة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «إذا اجتمعت أسباب مختلفة توجب الوضوء كفىٰ وضوء واحد بنيّة التقرّب، و لا يفتقر إلىٰ تعيين الحدث الذي يتطهّر منه، و كذا لو كان عليه أغسال.

و قيل: إذا نوىٰ غسل الجنابة أجزأ عن غيره، و لو نوىٰ غيره لم يجز عنه و ليس بشي ء» «1».

مقدمة أُصوليّة في تداخل الأسباب و المسبّبات

أقول: ينبغي- قبل التعرّض لخصوص مسألة الوضوء و الغسل التكلّم في مسألة التداخل التي عُنونت في الأُصول، و وقعت معركة لآرائهم؛ حتّى تظهر موافقته للأصل، فيصار إليه في جميع الموارد الخالية عن القرينة على الخلاف، أو مخالفته له، فيُقتصر علىٰ خصوص مورد قيام القرينة على الوفاق، فنقول و باللّٰه المستعان:

إنّ التداخل قد يكون في الأسباب، و يسمّى تداخل الأسباب، و قد يكون في المسبّبات، و يسمّى تداخل المسبّبات، و قد وقع النزاع في كلا الأمرين، و لكن العمدة هو الأمر الأوّل، و المراد به أنّه إذا رتّب المولى جزاءً واحداً علىٰ أسباب متعدّدة، فهل الظاهر تأثير كلّ سبب في حصول الجزاء علىٰ نحو الاستقلال، أو أنّ تأثيره مستقلا مشروط بعدم اقترانه أو مسبوقيّته بسبب آخر؟

قد نسب إلى المشهور القول بعدم التداخل «2»، و المحكيّ عن المحقّق

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 12.

(2) كفاية الأُصول: 239.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 400

الخوانساري خلافه «1»، و عن الحلّي التفصيل بين اتّحاد الجنس و تعدّده «2».

و ليعلم أوّلًا: أنّ محلّ النزاع إنّما هو فيما يكون الجزاء قابلًا للتعدّد، كالوضوء و الغسل و الضرب و الإكرام و أشباهها. و أمّا ما لا يكون كذلك، كقتل زيد مثلًا، فلا ينبغي الإشكال في خروجه عن محلّ النزاع.

حول عدم تداخل الأسباب في الأنواع المختلفة
اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم: أنّه قد استدلّ للقول المنسوب إلى المشهور بوجوه:

منها: ما هو المذكور في تقريرات المحقّق النائيني (قدّس سرّه) من أنّ الأصل اللفظي يقتضي عدم تداخل الأسباب؛ لأنّ تعلّق الطلب بصرف الوجود من الطبيعة و إن كان مدلولًا لفظيّاً، إلّا أنّ عدم قابليّة صرف الوجود للتكرّر ليس مدلولًا لفظيّاً، بل من باب حكم العقل بأنّ المطلوب الواحد إذا امتُثل لا يمكن

امتثاله ثانياً، و أمّا أنّ المطلوب واحد أو متعدد فلا يحكم به العقل، فإذا دلّ ظاهر الشرطيّتين علىٰ تعدّد المطلوب لا يعارضه شي ء أصلًا.

و ممّا ذكرنا انقدح ما في تقديم ظهور القضيّتين؛ من جهة كونه بياناً لإطلاق الجزاء؛ لأنّه- علىٰ ما ذكرنا ظهور الجزاء في الاكتفاء بالمرّة ليس من باب الإطلاق أصلًا؛ حتّى يقع التعارض، بل يكون ظهور القضيّة الشرطيّة في تأثير الشرط مستقلا في الجزاء، رافعاً حقيقة لموضوع حكم العقل، و وارداً عليه، بل علىٰ فرض ظهور الجزاء في المرّة يكون ظهور الشرطيّة حاكماً عليه «3». انتهىٰ ملخّصاً.

______________________________

(1) مشارق الشموس: 61/ السطر 31.

(2) السرائر 1: 258.

(3) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 2: 493 494.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 401

و أنت خبير: بأنّ هنا ظهورين:

أحدهما: ظهور القضيّة الشرطيّة في تأثير الشرط مستقلا في الجزاء.

و ثانيهما: ظهور الجزاء في كون متعلّقه هو نفس الطبيعة بلا مدخلية شي ء آخر.

و من المعلوم أنّ هذين الظهورين في كلّ قضيّة شرطيّة مع قطع النظر عن الأُخرىٰ، لا يكونان متعارضين أصلًا؛ لوضوح أنّه لا مانع من أن يكون النوم- مثلًا سبباً مستقلا لإيجاب نفس طبيعة الوضوء، و كذا البول سبباً مستقلا لإيجاب نفس طبيعته، فإنّ كلّ واحد من هاتين القضيّتين من حيث هي- مع قطع النظر عن الأُخرىٰ لا تعارض بين ظهور نفسها و ظهور جزأيها أصلًا، نعم بعد ملاحظتهما معاً لا يعقل اجتماعهما؛ لأنّه يستحيل أن يؤثّر سببان مستقلّان في إيجاد حكمين علىٰ طبيعة واحدة، فاللازم إمّا رفع اليد عن ظهور الشرطية في تأثير الشرط مستقلا؛ و القول بأنّ السبب هو الأمر الجامع بين الشرطين، و إمّا رفع اليد عن ظهور الجزاء في إطلاق متعلّقه؛ و القول

بأنّ الواجب هي الطبيعة المقيّدة بغير الفرد المأتي به أوّلًا.

و منه تظهر المناقشة في كلامه (قدّس سرّه): لأنّ المراد بإطلاق الجزاء ليس ظهوره في الاكتفاء بالمرّة؛ حتّى يورد عليه: بأنّه ليس من باب الإطلاق، و إنّما هو حكم العقل بعد ما تعلّق الطلب بصرف وجود الطبيعة، بل المراد به إطلاقه من حيث المتعلّق؛ و أنّ الطلب إنّما تعلّق بنفس الطبيعة المطلقة من دون أن تكون مقيّدة بشي ء؛ إذ قد عرفت أنّه لا يعقل اجتماع حكمين علىٰ طبيعة مهملة، فهذا الإطلاق غير حكم العقل بالاكتفاء بالمرّة، و قد عرفت التعارض بينه و بين ظهور القضيّة الشرطيّة؛ و أنّ التخلّص لا ينحصر برفع اليد عنه، فتدبّر جيّداً.

و منها: ما يظهر من الشيخ (قدّس سرّه) و من تبعه: من أنّ مقتضىٰ إطلاق الجزاء و إن كان كفاية ما يصدق عليه الطبيعة؛ من غير تقييد بغير الفرد المأتي به أوّلًا، إلّا

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 402

أنّ ظهور القضيّة الشرطيّة في السببيّة المستقلّة مقدّم عليه؛ لأنّ الظهور في الأوّل إطلاقيّ يتوقّف علىٰ مقدّماته التي منها عدم البيان، و من المعلوم أنّ إطلاق السبب منضمّاً إلىٰ حكم العقل: بأنّ تعدّد المؤثّر يستلزم تعدّد الأثر، يكون بياناً للجزاء، و معه لا مجال للتمسّك بإطلاقه، و ليس المقام من قبيل تحكيم أحد الظاهرين على الآخر حتّى يطالب بالدليل، بل لأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثاني يتوقّف علىٰ إطلاق سببيّته، و معه يمتنع إطلاق الجزاء بحكم العقل، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه، نعم التمسّك بالإطلاق إنّما يحسن في الأوامر الابتدائيّة المتعلّقة بطبيعة واحدة، لا في ذوات الأسباب، فإنّ مقتضىٰ إطلاق الجميع كون ما عدا الأوّل تأكيداً له، و احتمال التأسيس ينفيه أصالة الإطلاق

«1».

و يرد عليه: ما عرفت آنفاً من أنّ إطلاق الجزاء في كلّ قضيّة، لا ينافي ظهور تلك القضيّة في السببيّة المستقلّة أصلًا؛ لأنّه لا مانع من أن يكون النوم- مثلًا علّة مستقلّة لوجوب طبيعة الوضوء غير مقيّدة بشي ء، بل العقل بعد ملاحظة القضيّتين أو القضايا، يحكم بعدم إمكان الاجتماع؛ لأنّه لا يُعقل أن يؤثّر سببان مستقلّان أو أزيد في إيجاد حكمين أو أحكام علىٰ طبيعة واحدة، فعدم الاجتماع حكم عقليّ بعد ملاحظة مجموع القضيّتين معاً.

و حينئذٍ فمجرّد كون الظهور في الجزاء إطلاقيّاً- يتوقّف علىٰ عدم البيان لا يوجب ترجيح الظهور الأوّل عليه؛ إذ لا فرق في نظر العقل بين رفع اليد عن ظهور الصدر أو ظهور الذيل.

و هل يتوهّم أحد فيما لو حكم العقل- مثلًا بامتناع اجتماع الحكمين اللّذين أحدهما عامّ و الآخر مطلق ترجيحَ الأوّل على الثاني؛ لكونه أظهر في

______________________________

(1) مطارح الأنظار: 179/ السطر 8 24، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 261.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 403

الدلالة منه؟! فإنّ قوّة الظهور و ضعفه خارجان عمّا هو ملاك الرجحان و المرجوحيّة بنظر العقل.

هذا كلّه، مضافاً إلىٰ أنّه لانسلّم ظهور القضيّة الشرطيّة في السببيّة، فضلًا عن السببيّة المستقلّة، فإنّ معنى السببية هو التأثير في إيجاد المسبّب.

تحقيق المقام

و حينئذٍ فنقول: إنّ السبب في المقام هل هو طبيعة الشرط، أو الشرط بوجوده الخارجي؟ و المسبّب هل هو وجوب الوضوء- مثلًا أو إيجابه، أو نفس الوضوء بطبيعته، أو بوجوده الخارجي؟ و كلّها غير صحيح؛ لأنّا نرىٰ بالوجدان أنّ النوم- مثلًا لا يكون سبباً للوضوء خارجاً بحيث يوجد عند وجوده، و سببيّة طبيعة لطبيعة أُخرى غير معقولة، و إيجاب الوضوء أيضاً لا يكون مسبَّباً عن النوم، بل عن

إرادة الشارع الناشئة من العلم بمصلحة الوضوء عقيب النوم، و الوجوب ينتزع من البعث، و لا معنىٰ لأن يكون مسبّباً عن النوم، فظهور القضيّة الشرطيّة في التشريعيّات في السببية لا مجال لادّعائه.

نعم لها ظهور في كون الشرط تمام الموضوع لترتّب الجزاء من دون مدخليّة شي ء آخر، و هذا الظهور ليس من باب دلالة اللفظ، بل إنّما هو حكم العقل: بأنّ المتكلّم الفاعل المختار- بعد كونه بصدد بيان تمام ما هو الموضوع لحكمه إذا لم يأخذ إلّا نفس الطبيعة يستفاد من ذلك عدم مدخليّة شي ء آخر في ترتّب حكمه، فقوله: «إذا نمت فتوضّأ» بمنزلة قوله: «النائم يتوضّأ»، و حينئذٍ فالظهور في الصدر إنّما هو من باب الإطلاق، كظهور الجزاء، لا من باب ظهور اللفظ في السببيّة.

و نحن و إن اخترنا في الأُصول إمكان تعلّق الجعل بالسببيّة في الأُمور

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 404

الاعتباريّة، كجعل عقد البيع سبباً لحصول النقل و الانتقال «1»، إلّا أنّ ذلك خلاف ظاهر القضيّة الشرطيّة، فيدور الأمر في المقام بين رفع اليد عن إطلاق الشرط في كلٍّ من القضيّتين، و بين تقييد إطلاق الجزاء فيهما، و لعلّ الترجيح مع الثاني، لا ترجيحه على الأوّل من حيث هو، بل لأنّ العرف إذا القي عليه هذا النحو من القضايا الشرطيّة، يفهم منه عدم التداخل؛ و أنّ كلّ سبب يؤثّر في مسبّب واحد؛ من غير التفات إلىٰ إطلاق متعلّق الجزاء و لزوم تقييده لو قيل بالتعدّد، و هذا المقدار من الظهور العرفي كافٍ في المقام، و منشأه: إمّا قياس تلك القضايا الشرطيّة الواردة في الشريعة على القضايا العرفيّة، المتداولة بينهم التي يفهمون منها التعدّد، و إمّا فهمهم ثبوت الارتباط بين الشرط و

متعلّق الجزاء؛ بحيث يكون كلّ شرط مستحقّاً لجزاء علىٰ حدة، و إمّا غير ذلك ممّا لا نعلمه، فإنّ العمدة هي أصل ثبوت الظهور العرفي، لا الاطّلاع علىٰ منشئه، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّه قد يقال: بأنّه لا يمكن تقييد إطلاق الجزاء في أمثال المقام ممّا لا ترتّب بين الأسباب، بل يمكن أن يوجد كلّ واحد منهما قبل الآخر و بعده؛ لأنّه لا يمكن تقييد الوضوء في قوله: «إذا بلت فتوضّأ»، بكلمة «الآخر» و نحوها؛ لأنّه يمكن أن يوجد البول قبل النوم، و كذا لا يمكن تقييد الوضوء في قوله: «إذا نمت فتوضّأ» بمثل كلمة «الآخر» لإمكان أن يوجد النوم قبل البول.

و من هنا يظهر: أنّه لا يمكن تقييد كلّ منهما، و هذا بخلاف ما إذا أمر بالوضوءين دفعة من دون التعليق علىٰ شي ء، أو جمع بين السببين، فقال: إذا نمت و بلت فتوضّأ وضوءين، أو كان السبب الثاني مترتّباً على السبب الأوّل دائماً، كما إذا فرض أن يكون البول مترتّباً على النوم كذلك، فإنّه يجوز ذلك، و لا يلزم

______________________________

(1) الاستصحاب، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 69 71.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 405

إشكال من تقييد القضيّة التي فيها السبب- الذي يوجد بعد السبب الأوّل دائماً بمثل كلمة «الآخر»، كما لا يخفى «1».

و أنت خبير: بأنّه يمكن التقييد بما لا يرد عليه هذا الإشكال، مثل تقييد الوضوء في القضيّة الأُولىٰ بالوضوء لأجل البول، و في الثانية بالوضوء لأجل النوم، و ما يستلزم ذلك أن يكون ما يجي ء من قِبَل العلّة مأخوذاً في المعلول، و هو محال؛ إذ لا يعقل أن تكون الشمس علّة للحرارة الجائية من قِبَلها؛ بحيث يكون هذا القيد مأخوذاً في المعلول. و ذلك-

أي وجه عدم الاستلزام أنّ ما ذكر إنّما هو في العلل و المعلولات التكوينيّة، لا في مثل المقام.

هذا كلّه في الأنواع المختلفة.

حول عدم تداخل الأسباب في الأفراد من نوع واحد
اشارة

و أمّا في الأفراد من نوع واحد، فهل القاعدة تقتضي التداخل بالنسبة إليها، أو عدم التداخل؟

صرّح في تقريرات المحقّق النائيني (قدّس سرّه) بالثاني؛ نظراً إلىٰ أنّ القضيّة الشرطيّة كالقضيّة الحقيقيّة، فكما أنّ قوله: «المستطيع يحجّ»، عامّ لمن استطاع في أيّ وقت، فكذلك قوله: «إن استطعت فحجّ»؛ لأنّ كلّ قضيّة حقيقيّة راجعة إلى الشرطيّة و بالعكس، غاية الأمر أنّهما متعاكستان، فالشرطيّة صريحة في الاشتراط، و تتضمّن عنوان الموضوع، و الحقيقيّة صريحة في عنوان الموضوع، و تتضمّن الاشتراط، و لازم الانحلال أن يترتّب علىٰ كلّ شرط جزاء غير ما رُتّب على الآخر، فعلى هذا لا إشكال في عدم التداخل في مورد تعدّد الشرط من جنس واحد، فضلًا عمّا إذا تعدّد من أجناس مختلفة فيصير هذا

______________________________

(1) نهاية الأُصول: 308.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 406

الظهور قرينة للجزاء، و يصير بمنزلة أن يقال: إذا بلت فتوضّأ، و إذا بلت ثانياً فتوضّأ وضوءً آخر.

ثمّ إنّ طريق استفادة الانحلال: إمّا الوضع كالعموم الأُصولي المستفاد من نحو «متى»، و «أنّىٰ»، و «أين»، و «إذا»، و «مهما»، و «حيثما»، و إمّا الإطلاق ك «إن» و أخواتها، و إمّا قيام الإجماع، أو دلالة العقل عليه «1». انتهىٰ ملخّصاً.

و يرد عليه: أنّ قياس القضيّة الشرطيّة بالقضيّة الحقيقيّة- الظاهر في ثبوت المغايرة بينهما ممّا لا يصحّ، فإنّ القضيّة الشرطيّة قد تكون قضيّة حقيقيّة، كما إذا قال: يجب على الناس الحجّ إذا استطاعوا، و قد تكون غيرها، كما إذا قال: إذا استطاع زيد يجب عليه الحجّ.

ثمّ إنّ انحلال القضايا الحقيقيّة إنّما هو بالنسبة

إلىٰ مصاديق الموضوع، كزيد المستطيع، و عمرو المستطيع، و أمّا بالنسبة إلىٰ مصداق واحد كزيد، فلا انحلال أصلًا، فتأمّل.

و كيف كان فإثبات عدم التداخل من هذا الطريق مشكل.

التحقيق في المقام

فالتحقيق: ابتناء المسألة- كما أفاده في «المصباح» «2» علىٰ أنّ الشرط هل هو الطبيعة أو الأفراد و الوجودات؟

فإن كان هو الأوّل فاللازم القول بالتداخل؛ لأنّ الطبيعة بحسب نظر العرف لا تتكرّر، فزيد و عمرو فردان من طبيعة الإنسان عند العرف، لا إنسانان، كما هو كذلك بنظر العقل.

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 1: 494 495.

(2) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 264 266.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 407

و إن كان هو الثاني فاللازم القول بعدم التداخل.

و لا يخفىٰ أنّ مثل كلمة «كلّما» ظاهر في الثاني، و مثل «إنْ» و «إذا» ظاهر في الأوّل.

ثمّ إنّه مع فرض كون الشرط هو الأفراد، لا يبقى مجال لظهور الجزاء في إطلاق متعلّقه؛ لأنّه لا يعقل اجتماعهما، فبعد فرض وجود الأوّل يستحيل تحقّق الثاني.

و من هنا يظهر: أنّ القول بعدم التداخل في الأفراد من جنس واحد، لا يستلزم القول به في الأفراد من أجناس مختلفة- كما عرفت في كلام النائيني (قدّس سرّه) «1» و ذلك لما عرفت: من أنّ التعارض بين إطلاق متعلّق الجزاء و ظهور القضيّة الشرطيّة في الأوّل، إنّما يكون تعارضاً بين صدر القضيّة و ذيلها، و مع ترجيح الأوّل لكونه ظهوراً وضعيّاً لا يبقى مجال للثاني، و في الثاني قد عرفت أنّه لا تعارض بين صدر كلّ قضيّة و ذيلها، بل العقل يحكم بعدم إمكان اجتماع الإطلاقين في كلّ قضيّة معهما في الأُخرىٰ، و لا ترجيح لإطلاق الشرط فيهما علىٰ إطلاق الجزاء مع قطع النظر عن حكم

العرف، فأولويّة الثاني بالنسبة إلى الأوّل ممنوعة جدّاً.

الكلام في تداخل المسبّبات

ثمّ إنّه لو قيل بالتداخل في الأسباب، لا يبقى مجال للنزاع في تداخل المسبّبات ضرورة.

و أمّا لو قيل بعدم التداخل فالظاهر أنّه لا وجه للنزاع فيه أيضاً؛ لأنّ تداخل المسبّبات، إنّما هو فيما إذا كانت العناوين الموضوعة للأحكام، قابلة للانطباق علىٰ موجود واحد، كاجتماع عناوين «العالم» و «الهاشمي» و «المؤمن» علىٰ زيد مثلًا

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 405.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 408

و أمّا إذا كانت العناوين متباينة فلا يعقل فيهما الاجتماع؛ حتّى ينازع في التداخل و عدمه، و ما نحن فيه من هذا القبيل، فإنّ مرجع القول بعدم تداخل الأسباب إلىٰ تقييد إطلاق متعلّق الجزاء بقيد مثل كلمة «الآخر»، و من الواضح أنّه لا يعقل اجتماع عنوان الوضوء و الوضوء الآخر علىٰ وضوء واحد، كما هو واضح.

هذا كلّه في أصل مسألة التداخل التي هي مسألة أُصوليّة.

رجع إلىٰ أصل الفرع

و أمّا مسألة الوضوء- التي هي مورد البحث في المقام فهي خارجة عن النزاع في ذلك الباب؛ للإجماع على الاكتفاء بوضوء واحد عقيب الأسباب المختلفة «1»، و علىٰ أنّ السبب إنّما هو الحدث، و البول و الغائط و غيرهما من النواقض من مصاديق عنوان الحدث، لا أنّ كلّ واحد سبب مستقلّ.

و بالجملة: فالضرورة و الإجماع قائمان علىٰ إجزاء وضوء واحد، عقيب الأجناس المختلفة أو الأفراد من جنس واحد من النواقض، فلا ينبغي البحث فيه.

و إنّما الكلام في مسألة الغسل، فنقول:

كفاية غسل واحد عن أسباب متعدّدة
اشارة

لو قلنا بأنّ الحدث الأكبر طبيعة واحدة غير قابلة للشدّة و الضعف، نظير الحدث الأصغر، لكان اللازم الاكتفاء بغسل واحد فيما لو اجتمعت أسباب مختلفة، كما أنّه لو كان طبائع مختلفة- كالسواد و البياض فإن قلنا بتغاير الأغسال؛ بمعنى أنّ الغسل الرافع لحدث الحيض مغاير لما هو الرافع لحدث

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 193، جواهر الكلام 2: 110، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 123، مستمسك العروة الوثقىٰ 2: 305.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 409

الجنابة، فلا إشكال في وجوب التعدّد حسب تعدّد الأسباب، و إن قلنا بأنّ الغسل إنّما يرفع جنس الحدث فلا إشكال في الاكتفاء بالواحد.

و لو قلنا بأنّ الحدث الأكبر طبيعة واحدة قابلة للشدّة و الضعف: فتارة يكون كلّ سبب مؤثّراً في حصول مرتبة واحدة من مراتبه، و أُخرى يكون بعض أسبابه مؤثّراً في حصول المرتبة الشديدة مع وحدته، فعلى الأوّل يجب الغسل متعدّداً حسب كثرتها؛ على القول بتغاير الأغسال، و على الثاني يكفي الغسل لذلك السبب عن الباقي، و لا يكفي الغسل للباقي عنه؛ بناءً علىٰ ذلك القول أيضاً.

و كيف كان، فلو أُحرز شي ء من الصور المتقدّمة فالحكم هو ما

ذكرنا، و إلّا فمقتضى القاعدة التعدّد؛ لعدم التداخل كما عرفت.

دلالة الأخبار علىٰ كفاية غسل واحد عن الأغسال المتعدّدة

إلّا أنّه ورد في المقام بعض الأخبار الدالّة علىٰ كفاية غسل واحد عن الأغسال المتعدّدة:

منها: صحيحة زرارة- التي هي العمدة في الباب؛ لصحّة سندها و قوّة دلالتها عن أبي جعفر (عليه السّلام)

إذا اغتسلتَ بعد طلوع الفجر، أجزأك غُسلُك ذلك للجنابة و الجمعة و عرفة و النحر و الحلق و الذبح و الزيارة، فإذا اجتمعت للّٰه عليك حقوق أجزأك غسل واحد.

ثمّ قال

و كذلك المرأة يجزيها غسل واحد لجنابتها و إحرامها و جُمعتها و غُسلها من حيضها و عيدها «1».

و قد ورد في بعض النسخ بدل «الجمعة» «الحجامة» «2»، و الظاهر أنّه اشتباه

______________________________

(1) الكافي 3: 41/ 1، تهذيب الأحكام 1: 107/ 279، المستطرفات، ضمن السرائر 3: 588، وسائل الشيعة 2: 261، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 2: 261، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 43، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 410

من النُّسّاخ نشأ من تشابههما في الكتابة؛ لأنّهم لم يكونوا يكتبون الألف في مثلها.

ثمّ إنّه يحتمل- قوياً أن يكون المراد بالغسل في قوله عليه السلام

إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر

هو غسل الجنابة؛ لأنّ مفاده: أنّ الغسل الذي يمكن الإتيان به قبل طلوع الفجر إذا أخّرته إلىٰ بعده، أجزأك إلىٰ آخره، و المتبادر من الغُسل الكذائي هو غسل الجنابة، و التقييد بقوله: «بعد الفجر» إنّما هو لتحقّق الأسباب الأُخر و حينئذٍ يصير حاصل مدلول الجملة الأُولىٰ كفاية الغسل للجنابة عنها و عن غيرها من الأسباب، و التفريع بقوله: «فإذا اجتمعت»، للدلالة علىٰ عدم اختصاص الإجزاء عن الجميع بخصوص غسل الجنابة، بل يتحقّق ذلك بكلّ غسل مستحبّاً كان أو واجباً،

فإذا اغتسل للجمعة- مثلًا يكفي عنها و عن الجنابة و عن غيرهما من الأسباب.

فحاصل مدلول الرواية: كفاية غسل واحد- لجنابة كان أو لغيرها عن الأغسال المتعدّدة، و حينئذٍ فلا يبقى مجال للنزاع في أنّ كفاية الغسل الواحد عن الأغسال المتعدّدة، هل تختصّ بما إذا نوىٰ جميع الأسباب، أو يعمّ ما إذا نوىٰ سبباً واحداً أيضاً؟ و ذلك لأنّ الرواية ظاهرة في أنّ الغسل لخصوص الجنابة يكفي عن الجميع، و كذا كلّ غسل لسبب مخصوص.

ثمّ إنّه لو قلنا بأنّ ظهور صدر الرواية في غسل الجنابة ليس ظهوراً عرفيّاً، بل غايته حصول الظنّ بذلك، و لا اعتبار به في فهم الرواية، فاللازم الحكم بشمولها لجميع الأغسال.

نعم يبقىٰ حينئذٍ دعوى أنّ الرواية مسوقة لمجرّد بيان: أنّ الغسل الواحد يكفي عن الأغسال المتعدّدة في الجملة و أمّا أنّ كفايته عنها، هل هي بنحو الإطلاق أو تختصّ بخصوص إذا نوى الجميع فلا تكون الرواية

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 411

متعرضة له أصلًا «1».

و لكن الدعوىٰ مدفوعة: بأنّ ظاهر الصدر يأبىٰ عن ذلك- و إن كانت الجملة الثانية غير منافية له لأنّ مفاده أنّ الغسل الذي يمكن أن توقعه قبل الفجر، إذا أوقعته بعده أجزأك إلىٰ آخره، و من الواضح أنّ الغسل قبل الفجر إنّما يؤتىٰ به لخصوص بعض الأسباب؛ إذ لا يعقل الإتيان به بنيّة جميعها مع عدم تحقّق بعضها، كما هو ظاهر.

و توهّم: أنّه يمكن أن يكون قوله (عليه السّلام)

للجنابة و الجمعة ..

إلىٰ آخره في الصدر، و

و لجنابتها و إحرامها ..

إلىٰ آخره في الذيل، متعلّقاً بقوله

غسلك ذلك

في الأوّل، و

غسل واحد

في الثاني، لا بقوله

أجزأك

و

يجزيها.

مندفع: بأنّه و إن كان ممكناً، إلّا أنّ الفهم العرفي-

الذي هو الكاشف عن الظهور علىٰ خلافه، كما يشهد به سياق الرواية، مضافاً إلىٰ أنّ في الذيل قرينة علىٰ خلافه، و هي قوله

غسلها من حيضها

الذي هو معطوف علىٰ قوله

لجنابتها

؛ إذ لا معنىٰ لتعلّقه بالغسل، كما لا يخفى.

فالرواية تدلّ علىٰ كفاية الغسل بنيّة بعض الأسباب- جنابة كان أو غيرها عن الجميع، و لا حاجة إلىٰ نيّتها بأجمعها.

ثمّ إنّه استشكل في إطلاق الرواية- بناء على القول به، كما استفدناه من الرواية: بأنّ ظهور قوله: «يجزيك» في كون الكفاية رُخصة- لا عزيمة ينافي الإطلاق؛ إذ لا يُعقل مع الاكتفاء بغسل الجنابة- مثلًا عن الأغسال الأُخر- المستلزم لحصول أغراضها الترخيصُ في الإتيان بها بعده، كما هو ظاهر «2».

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 271 272.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 271.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 412

و أنت خبير بما فيه: أمّا أوّلًا: فلأنّا لا نسلّم ظهور الإجزاء في كون الكفاية رُخصة، كما يشهد له ملاحظة موارد استعمال كلمة «الإجزاء»؛ أ لا ترى أنّ الأُصوليّين يعنونون في الأُصول مسألة الإجزاء، الراجعة إلىٰ أنّ الإتيان بالمأمور به علىٰ وجهه يقتضي الإجزاء، و من المعلوم أنّه ليس المراد به الكفاية بنحو الرخصة؛ إذ لا يعقل تبديل الامتثال بامتثال آخر، كما حُقّق في محلّه «1». و دعوىٰ كون مثله من الاستعمالات استعمالًا مسامحيّاً مجازيّاً، لا يُصغى إليها.

و أمّا ثانياً: فلأنّه علىٰ تقدير تسليم ظهور الإجزاء في كون الكفاية رُخصة نقول:

إنّه لا مانع عقلًا من أن يكون للطهارة مراتب، و يكون الغسل بعنوان مخصوص، مؤثّراً في حصول المرتبة التي يؤثّر سائر الأغسال في حصولها أيضاً، و بسببه يسقط الأمر الوجوبي أو الاستحبابي المتعلّق بها؛ لحصول غرضها، و يكون الإتيان بها بعده، مؤثّراً

في حصول مرتبة أقوى من تلك المرتبة يستحبّ تحصيلها، نظير الوضوء على الوضوء الذي هو نور علىٰ نور، فكما أنّه لا مانع- عقلًا من الأمر الوجوبي بغسل الجنابة مرّة و الأمر الاستحبابي به أُخرى؛ لأنّه يستكشف منه أنّ الإتيان به ثانياً، يوجب حصول مرتبة قويّة من الطهارة مطلوبة للمولى استحباباً، كذلك لا إشكال أصلًا في الاكتفاء بغسل واحد عن الأغسال المتعدّدة، و كون الإتيان بها ثانياً مطلوباً استحبابيّاً للمولىٰ، مستفاداً ذلك من التعبير بالإجزاء.

هذا، مضافاً إلىٰ أنّ الإشكال لا ينحصر بالقول بكفاية الغسل بعنوان

______________________________

(1) مناهج الوصول 1: 304 309، تهذيب الأُصول 1: 182.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 413

مخصوص عن الأغسال الكثيرة، بل يجري على القول بكفاية الغسل مع نيّة جميع الأغسال عنها.

و لكن الحقّ: ما عرفت من عدم المانع عقلًا، و كيف يمكن دعوى ذلك مع ذهاب المشهور إلى الاكتفاء بغسل الجنابة عن الجميع؟! و قد قوّاه المستشكل في ذيل كلامه «1»، فراجع.

ثمّ إنّ هنا شبهة اخرىٰ: و هي أنّه كيف يعقل أن يكفي غسل واحد عن الواجب و المستحبّ؟! و هل هذا إلّا اجتماع الوجوب و الاستحباب في شي ء واحد شخصيّ؟! و كذا لا يعقل اجتماع الوجوبين أو الاستحبابين؛ لاستحالة اجتماع المِثْلين كاجتماع الضدّين.

و لا يخفىٰ عدم اختصاص هذه الشبهة بالقول بكفاية الغسل بعنوان واحد عن الأغسال المتعدّدة، بل تجري على القول بكفاية الغسل بنيّة الجميع عنها، بل جريانها على القول الثاني أولىٰ، كما لا يخفى.

و قد أجاب عنها في «المصباح» بما حاصله: أنّ في أمثال المسألة يكون المجتمع هي جهات الطلب لا نفسها، غاية الأمر أنّه يتولّد منها حكم عقليّ متأكّد، فإن كان فيه جهة ملزمة يتبعها الطلب العقلي، و

يكون الفرد لأجل اشتماله علىٰ جهات أُخر راجحة أفضل أفراد الواجب، و إن لم يكن فيه جهة ملزمة يكون الإتيان بهذا الفرد مستحبّاً مؤكّداً «2».

و نحن قد حقّقنا في الأُصول- في مبحث اجتماع الأمر و النهي: أنّ متعلّق الأحكام هي نفس الطبائع و العناوين، و أنّه لا يُعقل أن يكون الموجود الخارجي متعلَّقاً لها؛ لأنّه قبل وجوده لا يكون متحقّقاً ثابتاً حتّى يتعلّق به الحكم، و بعده

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 282.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 287.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 414

يحصل المطلوب أو المزجور عنه، و لا يعقل تعلّق الطلب أو الزجر به حينئذٍ، فلا مانع علىٰ هذا التقدير من أن يكون متعلّق الأمر الوجوبي، هو غسل الجنابة بعنوانه، و متعلّق الأمر الاستحبابي هو غسل الجمعة بعنوانه، و اجتماعهما علىٰ موجود واحد شخصيّ، لا يوجب تعلّق حكمين بشي ء واحد، و تفصيل الكلام موكول إلىٰ ذلك المبحث «1».

ثمّ إنّ هنا روايات أُخر بعضها يدلّ علىٰ بعض المطلوب، و بعضها يُتوهّم منه التعارض مع صحيحة زرارة المتقدّمة، و لكن أكثرها لا يخلو من ضعف أو إرسال، و توهّم التعارض في بعضها ناشئ من عدم التأمّل فيها، و قد جمعها صاحب الوسائل في الباب الثالث و الأربعين من أبواب الجنابة، من كتاب «الوسائل»، فراجعها و تأمّل فيها «2».

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 130 131، تهذيب الأُصول 1: 392 394.

(2) وسائل الشيعة 2: 261، كتاب الطهارة، أبواب الجنابة، الباب 43.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 415

الفرض الثاني: غسل الوجه
حول تعريف الوجه
اشارة

و قد عرّف الوجه المحقّق في «الشرائع» بقوله:

«و هو ما بين منابت الشعر في مقدّم الرأس إلىٰ طرف الذقن طولًا، و ما اشتملت عليه الإبهام و الوسطى عرضاً» «1».

أقول:

المستند في ذلك صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، أنّه قال لأبي جعفر الباقر (عليه السّلام): أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي أن يوضّأ الذي قال اللّٰه عزّ و جلّ. فقال

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 415

الوجه الذي قال اللّٰه و أمر اللّٰه عزّ و جلّ بغسله، الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه و لا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، و إن نقص منه أثِم، ما دارت عليه الوسطىٰ و الإبهام من قصاص شعر الرأس إلى الذقن، و ما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديراً فهو من الوجه، و ما سوىٰ ذلك فليس من الوجه.

فقال له: الصدغ من الوجه؟ قال

لا «2».

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 13.

(2) الكافي 3: 27/ 1، الفقيه 1: 28/ 88، تهذيب الأحكام 1: 54/ 154، وسائل الشيعة 1: 403، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 17، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 416

و المراد أنّ الوجه هو ما يُحيط به الإصبعان المذكوران في الرواية، و يدوران عليه؛ مبتدئاً من القصاص و منتهياً إلى الذقن؛ بمعنى وضعهما على القصاص و فتحهما ثمّ إدارتهما؛ بحيث تنتهي الدورة إلى الذقن، و يحصل من ذلك شكل هندسي شبيه بالدائرة، و الظاهر أنّ المراد بقوله (عليه السّلام)

مستديراً

، هو فتح اليدين بنحو يحصل منه شكل شبيه بنصف الدائرة، و الوجه فيه: أنّ الوجه ليس جسماً مسطّحاً، بل له نوع من الانحناء، ففتح اليدين إلى الغاية مستلزم لعدم إمكان اتّصالهما بسطح الوجه، كما هو غير خفيّ.

حول كلام الشيخ البهائي في تفسير الرواية

ثمّ إنّ

ما ذكره شيخنا البهائي (قدّس سرّه) في تفسير الرواية: من أنّ كلّا من طول الوجه و عرضه هو ما اشتمل عليه الإصبعان؛ إذا ثبت وسطه و أُدير علىٰ نفسه حتّى يحصل شبه الدائرة «1».

فيه: أنّ ذلك خلاف ما هو المتفاهم من الرواية بنظر العرف؛ لأنّ الوجه لا يكون مستديراً عرفاً، بل و لا لغة، مضافاً إلى استلزام ذلك لعدم وجوب غسل بعض ما يكون غسله واجباً، و لوجوب غسل بعض ما لا يجب غسله اتّفاقاً.

ثمّ إنّه- بناءً علىٰ ما ذكرنا لا مجال لتوهّم وجوب غسل ما هو خارج عن الوجه؛ نظراً إلىٰ أنّ فتح الإصبعين إلىٰ طرف الذقن مستلزم لدخول مقدار ممّا وقع تحته؛ و ذلك لوضوح أنّ المراد من التحديد ليس إدخال ما هو خارج عن الوجه قطعاً، بل المراد بيان الحدود المشتبهة التي يحتمل أن تكون داخلة في الحدّ، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الحبل المتين: 14/ السطر 15 16، الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 102.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 417

التحديد في الروايات بحسب الخِلْقة المتعارفة

ثمّ إنّه من الواضح أنّ التحديد في الروايات، إنّما يكون الملحوظ فيه هو الأشخاص المتناسبة الأعضاء التي تتعارف خلقتهم بحسبها، فلو فُرض خروج شخص عن الخِلْقة المتعارفة- إمّا لكِبَر وجهه، أو صِغَره، أو طول أصابعه، أو قِصَرها مثلًا فالواجب عليه الرجوع إلى المتعارف؛ لا بمعنى جعل أصابع الناس ملاكاً لمعرفة حدود وجهه، فإنّه قد تكون أصابعه كأصابعهم، و لكن التفاوت و عدم التناسب بملاحظة كبر وجهه، فيلزم- حينئذٍ غسل مقدار من وجهه فقط، مع أنّ من الواضح وجوب غسل جميع الوجه علىٰ جميع المكلّفين.

بل بمعنى مقايسة نفسه مع الناس؛ و ملاحظة أنّ المقدار المحاط بالإصبعين المتعارفين إذا أُجريا على الوجه المناسب معهما- بأيّ

مقدار فيغسل من وجهه بنسبة ذلك المقدار، و الظاهر أنّ هذا هو المراد من الرجوع إلى المتعارف المذكور في كتاب «العروة» «1» و غيره «2».

ثمّ إنّه بعد كون حدّ الوجه عبارة عمّا تقدّم، لا جدوىٰ للنزاع في غسل بعض الموارد التي اختلفوا فيها، فإنّ المناط هو إحاطة الإصبعين، فكلّ ما يحيطان به فالواجب غسله، و ما لا يحيطان به لا يجب غسله.

و دعوىٰ وجوب غسل مقدار يسير من الأطراف الخارجة عن الحدود بحكم العقل؛ مقدّمة لحصول الواجب «3».

______________________________

(1) العروة الوثقىٰ 1: 202، فصل في أفعال الوضوء.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 170.

(3) مسالك الأفهام 1: 36، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 294.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 418

مدفوعة: بأنّ ذلك إنّما هو في غير المقام ممّا لا يحصل الجزم إلّا بذلك، و أمّا في أمثال المقام ممّا كان التحديد بمثل الإصبعين- الذي لا يكاد يعرض له الاشتباه بعد جريهما بالنحو المتقدّم فلا، إلّا أن يكون منشؤه احتمال اختلاف المقدار الواقع منهما في أحد طرفي الوجه، مع المقدار الآخر الواقع في الطرف الآخر.

حول وجوب الغسل من الأعلى إلى الأسفل
اشارة

ثمّ إنّه حُكي «1» عن المشهور- بل ربما ادُّعي الإجماع «2» علىٰ أنّ الواجب في غسل الوجه هو أن يغسل من أعلى الوجه إلى الذقن، و أنّه لو غسل منكوساً لم يُجْزِهِ.

و نحن نقول: ينبغي أوّلًا النظر في الإطلاقات الواردة في الوضوء؛ و أنّه هل يستفاد منها الإطلاق بالنسبة إلى المقام، أم لا؟

الظاهر دلالة الآية الشريفة «3» علىٰ أنّ الواجب مجرّد الغسل؛ للأمر به مطلقاً مع كونها في مقام البيان، كما يظهر من تحديدها الأيدي و الأرجل.

و دعوىٰ: انصراف الغسل إلى الغسل على الوجه المتعارف في باب الوضوء؛ و هو الغسل من

الأعلى إلى الأسفل «4».

مدفوعة: بمنعها؛ فإنّ منشأها مجرّد التعارف و غلبة الوجود، و الوجه

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 199، الحدائق الناضرة 2: 230، مفتاح الكرامة 1: 240/ السطر 13.

(2) جواهر الكلام 2: 148، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 296.

(3) المائدة (5): 6.

(4) الحبل المتين: 12/ السطر 16 17، جواهر الكلام 2: 150.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 419

فيه: أنّ الغسل بهذا النحو أسهل من العكس، و ذلك لا يوجب الانصراف، مع أنّ تعارف الغسل من أعلى الوجه غير ثابت.

الاستدلال بالروايات علىٰ لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل

و أمّا الروايات فيستفاد من بعضها الإطلاق أيضاً؛ حيث إنّه أُمر فيها بمجرّد غسل الوجه مع كونها في مقام البيان، فاللازم- حينئذٍ ملاحظة الأخبار التي تُوهِّم دلالتها علىٰ ذلك، فنقول:

عمدتها: ما رواه في «قُرب الإسناد» عن أحمد بن محمّد، عن ابن محبوب، عن أبي جرير الرقاشي، قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السّلام): كيف أتوضّأ للصلاة؟ فقال

لا تعمّق في الوضوء، و لا تلطم وجهك بالماء لطماً، و لكن اغسله من أعلىٰ وجهك إلىٰ أسفله بالماء مسحاً، و كذلك فامسح الماء علىٰ ذراعيك و رأسك و قدميك «1».

و أنت خبير: بأنّ الاستدلال بالرواية علىٰ ذلك ممنوع:

أمّا أوّلًا: فلضعف سندها؛ لأنّ أبا جرير الرقاشي مجهول.

و دعوى: انجبار ضعف السند بعمل المشهور و فتواهم علىٰ طبقها «2».

مدفوعة: بأنّ ذلك إنّما يُجدي فيما لو علم استناد المشهور إليها، و أمّا مع احتمال استنادهم إلىٰ أُمور أُخر- كالانصراف، أو قاعدة الشغل، أو الأخبار البيانيّة التي ستجي ء إن شاء اللّٰه تعالىٰ فلا مجال لدعوى الانجبار بوجه.

______________________________

(1) قرب الإسناد: 312/ 1215، وسائل الشيعة 1: 398، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 22.

(2) مستند الشيعة 2: 95، جواهر الكلام 2: 150.

كتاب الطهارة

(تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 420

و أمّا ثانياً: فلأنّه علىٰ تقدير تسليم خلوّها عن المناقشة من حيث الصدور، فدلالتها علىٰ ما ذكروه ممنوعة؛ لأنّ ظاهر السؤال و إن كان راجعاً إلى السؤال عن كيفيّة الوضوء، إلّا أنّ الجواب بمثل ذلك لا يناسبه، فاللازم حمله علىٰ ما يناسب الجواب، و التأمّل فيه يقضي بأنّ محطّ النظر إنّما هو عدم لزوم الغسل بنحو التعمّق و اللطم، بل يكفي الغسل بنحو المسح، فقوله (عليه السّلام)

و لكن اغسله ..

إلىٰ آخره، إنّما سيق لبيان ذلك، لا أن يكون المقصود منه هو الغسل من الأعلى إلى الأسفل، و كونه بالماء و كونه بنحو المسح؛ حتّى يقال: إنّ حمل الأمر على الاستحباب في الأخير، لا ينافي الوجوب بالنسبة إلى الأوّلين، فإنّ الظاهر كونه مسوقاً لبيان حكم واحد، و هو الغسل بالمسح، كما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام)

و كذلك فامسح علىٰ ذراعيك ..

إلىٰ آخره، و حينئذٍ فالواجب حمله على الاستحباب، و ذكر

من أعلىٰ وجهك إلىٰ أسفله

إنّما هو لبيان كفاية الغسل بالمسح في جميع الوجه، و عدم لزوم الغسل بالنسبة إلىٰ بعضه و كفاية المسح في خصوص البعض الآخر، بل يكفي المسح في الجميع.

و يؤيّد الحمل على الاستحباب: كون النهي المتعلّق بالتعمّق و اللطم نهياً تنزيهيّاً، و المراد بالأوّل ما هو المتداول بين الوسواسيين و بالثاني إمّا ذلك، و إمّا ما هو عادة المتسامحين.

و كيف كان، فالإنصاف: أنّ الرواية لا تدلّ علىٰ مطلوبهم أصلًا.

و قد يستدلّ لذلك «1» بالأخبار الكثيرة «2» الحاكية لفعل رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و وضوءه، ففي كثير منها- على اختلاف تعبيراتها قد ذكر ذلك؛ أي الغسل من أعلى الوجه، و من المعلوم أنّ ذكر

الرواة الحاكين لفعل الإمام (عليه السّلام)، الذي صدر

______________________________

(1) جواهر الكلام 2: 148 149، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 296.

(2) انظر وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 421

منه حكاية لوضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و تعرّضهم لهذه الخصوصيّة، إنّما هو لكونها ملحوظة لهم، و كان مقصودهم بيانها في مقابل العامّة المعروفين بالخلاف، كما أنّ تعرّضهم للخصوصيّات الأُخر إنّما هو لغرض إفادة هذه الجهة.

و أنت خبير: بأنّ التمسّك بها إنّما يتمّ لو علم كون هذه الخصوصيّة ملحوظة لديهم، و أمّا مع احتمال العدم- لو لم نقل بالظهور فيه؛ نظراً إلىٰ أنّه لم يقع التعرّض لها في بعض الروايات مع اتّحاد الراوي «1» فلا؛ لأنّ هنا خصوصيّات أُخر يمكن أن يكون الملحوظ هي تلك الخصوصيّات، كعدم الاحتياج إلىٰ غسل اليدين قبل غسل الوجه، و لزوم غسل اليدين من المرفقين إلى الأصابع و عدم جواز ردّ الماء إلى المرفق- كما وقع التصريح به في بعضها «2» و أنّ الوضوء مرّة

______________________________

(1) عن زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام): «أ لا أحكي لكم وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)؟ فقلنا: بلى، فدعا بقعب فيه شي ء من ماء، فوضعه بين يديه، ثمّ حسر عن ذراعيه، ثمّ غمس فيه كفّه اليمنى، ثمّ قال: هكذا، إذا كانت الكفّ طاهرة، ثمّ غرف مِلأها ماء، فوضعها على جبينه، ثمّ قال: بسم اللّٰه، و سدله علىٰ أطراف لحيته، ثمّ أمرّ يده على وجهه، و ظاهر جبينه، مرّة واحدة، ثمّ غمس يده اليسرى، فغرف بها مِلأها، ثمّ وضعه على مرفقه اليمنىٰ، فأمرّ كفّه على ساعده حتّى

جرى الماء علىٰ أطراف أصابعه، ثمّ غرف بيمينه مِلأها، فوضعه على مرفقه اليسرىٰ، فأمرّ كفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه، و مسح مقدّم رأسه و ظهر قدميه، ببلّة يساره، و بقيّة بلّة يمناه.

قال: و قال أبو جعفر (عليه السّلام): إنّ اللّٰه وتر، يحبّ الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلّة يمناك ناصيتك، و ما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، و تمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى.

وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 2، و أيضاً راجع الأحاديث 3 و 6 و 10 و 11.

(2) وسائل الشيعة 1: 392، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 422

مرّة لا مرّتين «1»، و غير ذلك من الخصوصيّات، التي يحتمل قويّاً كونها هي الملحوظة لدى الرواة، و مجرّد كون الحكاية لبيان الحكم و تعليم كيفيّة الوضوء، لا دلالة فيه علىٰ وجوب مراعاة جميع الخصوصيّات، كما هو واضح.

و ما عن «2» العلّامة في «المنتهىٰ» «3» و الشهيد في «الذكرى» «4»: من أنّهما ذكرا- بعد حكاية بعض تلك الروايات و نقلها ما هذا لفظهما: روي عنه أنّه قال بعد ما توضّأ: «أنّ هذا وضوء لا تقبل الصلاة إلّا به»، فمضافاً إلىٰ أنّها رواية مرسلة، و دلالتها على المدّعىٰ غير ظاهرة، يرد على الاستدلال بذلك: أنّ الصدوق (قدّس سرّه) في «الفقيه» إنّما ذكرها هكذا: قال الصادق (عليه السّلام)

إنّه ما كان وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلّا مرّة مرّة، و توضّأ النبيّ مرّة مرّة فقال: هذا وضوء لا يقبل اللّٰه الصلاة إلّا به «5»

،

و حينئذٍ فالمشار إليه بكلمة «هذا» هو الوضوء مرّة مرّة، فلا ربط لهذه العبارة بالمقام.

و أمّا التمسّك بقاعدة الشغل «6»، فمضافاً إلىٰ أنّه لا مجال له، بعد دلالة إطلاق الآية و بعض الروايات علىٰ وجوب غسل الوجه مطلقاً- كما عرفت «7» يرد عليه: أنّ القاعدة تقتضي البراءة، كما هو كذلك في جميع موارد

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 437 438، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 6 و 7 و 10 و 11.

(2) جواهر الكلام 2: 149، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 171.

(3) منتهى المطلب 1: 58/ السطر 16 17.

(4) ذكرى الشيعة 2: 121.

(5) الفقيه 1: 25/ 76.

(6) انظر الحدائق الناضرة 2: 233 234، مستند الشيعة 2: 96، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 303.

(7) تقدّم في الصفحة 418 419.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 423

الأقلّ و الأكثر الارتباطيّين.

و توهّم: كون المقام من قبيل الشكّ في المحصّل «1»؛ نظراً إلىٰ أنّ الواجب هو تحصيل الطهور، كما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام)

لا صلاة إلّا بطهور «2».

مدفوع: بأنّ الظاهر كون الطهور بمعنى الوضوء، و هو عبارة عن نفس الغسلتين و المسحتين، لا عنوان حاصل منهما و متحقّق بهما، و اعتبار بعض الأشياء ناقضاً له، الدالّ علىٰ أنّه أمر مستمرّ باقٍ مع عدم ذلك الشي ء، لا دلالة فيه علىٰ أنّ هنا شيئاً يؤثّر أفعال الوضوء في حصوله، فإنّه لا إشكال في اعتبار البقاء لنفس الوضوء، نظير اعتبار بقاء العقد في الفضولي ليلحق به الإجازة أو الردّ.

و دعوىٰ: عدم الفرق بين المقام و بين غسل اليدين الذي يجب من المرفق إلى الأصابع، و لا يجزي النكس «3».

مدفوعة: بوجود الفصل و القول به من القائلين بعدم اعتبار ذلك في

غسل الوجه.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الأقوىٰ كفاية الغسل من الأسفل إلى الأعلى.

ثمّ إنّه لو قلنا باعتبار الغسل من الأعلى إلى الأسفل، فالمراد منه ما يصدق عليه عرفاً: أنّه غسل من أعلىٰ وجهه إلىٰ أسفله، و أمّا اعتبار أن لا يغسل الجزء السافل إلّا بعد غسل ما فوقه حقيقة؛ ممّا في سمته، أو جميع ما فوقه من الأجزاء، فلا دليل عليه أصلًا.

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 173، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 305.

(2) الفقيه 1: 35/ 129، تهذيب الأحكام 1: 49/ 144 و 209/ 605، الاستبصار 1: 55/ 160، وسائل الشيعة 1: 365 366، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 1، الحديث 1 و 6.

(3) مستند الشيعة 2: 96، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 303.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 424

فرعان:
الأوّل: في عدم وجوب غسل ما استرسل من اللحية

و المراد بالمسترسل ما خرج عن حدود الوجه، و الوجه في عدم وجوب غسله واضح، بعد صراحة صحيحة زرارة المتقدّمة في انحصار ما يجب غسله من الوجه؛ بما دارت عليه الإبهام و الوُسطى من قصاص الشعر إلى الذقن «1».

نعم قد يقال- كما عن الإسكافي: باستحباب غسل ذلك «2». و يردّه: أنّه لم يدلّ دليل عليه. و ما في بعض الأخبار الحاكية لفعل النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): من أنّه «غرف ملأ كفّه اليُمنىٰ ماء، فوضعها علىٰ جبهته، ثم قال: بسم اللّٰه، و سدله علىٰ أطراف لحيته، ثم أمرّ يده علىٰ وجهه و ظاهر جبينه مرّة واحدة» «3»، لا يدلّ علىٰ ذلك؛ لأنّ جريان الماء علىٰ أطراف اللحية لا ينافي عدم استحباب غسلها.

مضافاً إلىٰ أنّ مجرّد وضع الماء على الجبهة و تسديله عليها، لا يوجب غسلها ما لم تمرّ يده عليها،

و الرواية تدلّ علىٰ أنّ إمرار اليد على الوجه، إنّما هو بعد التسديل، فهي أجنبيّة عن المقام.

و كذا لا يدلّ على الاستحباب ما ورد من الرواية «4» الدالّة علىٰ جواز الأخذ من مائها للمسح عند الجفاف؛ و ذلك لأنّ ماءها يمكن أن يعدّ من بقيّة بلل الوجه لأجل العُلقة بينهما، مضافاً إلىٰ أنّ الحكم تعبّديّ.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 415.

(2) ذكرى الشيعة 2: 127، جواهر الكلام 2: 155، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 177، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 307.

(3) الكافي 3: 25/ 4، الفقيه 1: 24/ 74، وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 2.

(4) انظر وسائل الشيعة 1: 407، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 425

الثاني: في عدم وجوب تخليل اللحية

و المراد بالتخليل هو إيصال الماء في خلال اللحية لغسل ما استتر بها من البشرة و الشعر، كما أنّ المراد بالتبطين هو إيصال الماء إلىٰ باطن الشعر الذي لا يقع عليه حسّ البصر.

هذا ما يتعلّق بالموضوع. و أمّا الحكم فلا يخفى أنّه لو لم يكن في البين إلّا ما يدلّ- من الآية الشريفة «1» و الرواية «2» علىٰ وجوب غسل الوجه، فالظاهر أنّه لا دلالة لهما بنظر العرف، إلّا علىٰ وجوب غسل البشرة فيما إذا لم تكن مستورة بالشعر، و وجوب غسل الشعر في المقدار المستور منها به، لا لأنّ عنوان الوجه- الظاهر بحسب وضعه اللغوي في خصوص البشرة ينتقل في ذي اللحية إلىٰ ما يشمل الشعر أيضاً. بل لما ذكر: من أنّ المتفاهم عند العقلاء، هو غسل ظاهر الشعر من دون ارتكاب تكلّف إيصال الماء إلى البشرة المحاط به.

فالإنصاف: أنّ الحكم مع قطع النظر عن الأخبار الدالّة

عليه ممّا لا ينبغي الإشكال فيه. و من هنا تعرف: أنّ نسبة صحيحة زرارة الآتية و أمثالها إلى الأدلّة الآمرة بغسل الوجه، ليست نسبة الحاكم إلى المحكوم كما في «المصباح» «3» فإنّك عرفت أنّه لا تعارض بينهما، بل كلٌّ منهما يدلّ علىٰ عدم وجوب غسل المقدار الذي أحاط به الشعر كما مرّ، هذا بالنسبة إلىٰ من له شعر كثيف محيط بالبشرة؛ بحيث لا يقع عليها حسّ البصر.

و أمّا بالنسبة إلىٰ ذي الشعر الخفيف فيمكن أن يقال فيه أيضاً: بأنّه

______________________________

(1) المائدة (5): 6.

(2) وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 311.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 426

لا يستفاد من الأدلّة الواردة في غسل الوجه أزيد من غسل البشرة الواقعة عليها الباصرة و الشعر المحيط ببعضها من دون أن يجب عليه التخليل، مضافاً إلىٰ صحيحة زرارة قال: قلت: أ رأيت ما كان تحت الشعر؟ قال

كلّ ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء «1».

هذا ما رواه الشيخ (قدّس سرّه) بإسناده عنه «2»، و رواه الصدوق بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) هكذا: قلت له: أ رأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال

كلّ ما أحاط به من الشعر فليس للعباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه .. «3»

إلىٰ آخره.

و كيف كان، فقوله (عليه السّلام)

كلّ ما أحاط به الشعر

يعمّ المقدار الذي إحاطة الشعر الخفيف أيضاً. و يمكن استفادته أيضاً من الرواية المذكورة في المسألة السابقة الحاكية لفعل النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) «4» فإنّه لا خفاء في أنّ ابتداء منبت شعر اللحية في الوجه، كان

محاطاً بالشعر الخفيف، مع أنّ الإمام (عليه السّلام) اكتفىٰ في غسله بمجرّد إمرار اليد على الوجه مرّة من دون أن يخلّل. و يدلّ علىٰ عدم وجوب التبطين أيضاً صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام)، قال

سألته عن الرجل يتوضّأ أ يبطّن لحيته؟ قال: لا «5».

و قد ظهر مما ذكرنا: أنّه لا يجب التخليل و لا التبطين مطلقاً- لا في الشعر الكثيف، و لا في الشعر الخفيف فتدبّر.

______________________________

(1) الفقيه 1: 28/ 88، تهذيب الأحكام 1: 364/ 1106، وسائل الشيعة 1: 476، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 46، الحديث 2.

(2) تهذيب الأحكام 1: 364/ 1106.

(3) الفقيه 1: 28/ 88.

(4) تقدّم في الصفحة 424.

(5) الكافي 3: 28/ 2، تهذيب الأحكام 1: 360/ 1084، وسائل الشيعة 1: 476، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 46، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 427

الفرض الثالث: غسل اليدين
اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و الواجب فيه- يعني غسل اليدين غسل الذراعين و المرفقين» «1».

أقول: ينبغي التكلّم هنا في مقامات:
الأوّل: في المراد من المرفق

و المحكيّ «2» عن صاحب «الحدائق» أنّه قال فيها: «المرفق- كمنبر و مجلس المفصل، و هو رأس عظمي الذراع و العضد- كما هو المشهور أو مجمع عظمي الذراع و العضد، فعلى هذا شي ء منه داخل في الذراع و شي ء منه داخل في العضد» «3»، و المحكيّ «4» عن أكثر اللغويين هو المعنى الأوّل «5»؛ حيث فسّروه بالمفصل أو الموصل على اختلاف التعابير، و لكن الظاهر رجوعه إلى المعنى

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 13.

(2) جواهر الكلام 2: 162، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 195 196.

(3) الحدائق الناضرة 2: 240.

(4) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 195 196، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 319.

(5) الصحاح 4: 1482، القاموس المحيط 3: 244، مجمع البحرين 5: 170.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 428

الثاني، فإنّ المراد بالمفصل ليس ما فسّره به في محكيّ عبارة «الحدائق»، و هو رأس العظمين؛ حتّى يورد عليه- كما في «المصباح»: بأنّه يبعد أن يكون نزاعهم في دخوله في المحدود و خروجه عنه في هذا المعنىٰ «1»؛ لأنّ رأسهما الذي هو انتهاؤهما أمر انتزاعيّ غير قابل لأن ينازع فيه؛ لأنّه لا يكون ذا أجزاء أصلًا؛ حتّى يقع النزاع في دخولها و خروجها، بل المراد به هو الجزء الذي يتقوّم به المفصل، الذي يكون أمراً ذا أجزاء، و عليه فيرجع إلى المعنى الثاني، كما هو غير خفيّ.

الثاني: في وجوب غسل المرفق و عدمه

قد يقال بالعدم «2»؛ نظراً إلىٰ أنّ ظاهر الآية الشريفة «3» التي عُبّر فيها بكلمة «إلىٰ» يقتضي العدم؛ لخروج الغاية و مدخول «إلىٰ» عن المحدود المغيّا، كما صرّح به جمع كثير «4»، بخلاف التحديد بكلمة «حتّى». هذا بناءً علىٰ كونها في الآية غاية للمغسول.

و أمّا بناءً علىٰ كونها غاية

للغَسْل فهي أجنبيّة عن المقام.

و لكن قد يُتمسّك للوجوب ببعض الأخبار:

منها: رواية هيثم بن عروة التميمي، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن قوله تعالىٰ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ، فقلت: هكذا، و مسحت من ظهر كفّي إلى المرفق؟ فقال

ليس هكذا تنزيلها، إنّما هي: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 319.

(2) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 320.

(3) المائدة (5): 6.

(4) الفصول الغرويّة: 153/ السطر 22، انظر نهاية الأفكار 1 2: 498.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 429

وَ أَيْدِيَكُمْ من الْمَرٰافِقِ، ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلىٰ أصابعه «1».

بتقريب: أنّ ظاهر الرواية كون الآية في الأصل نازلة مع كلمة «من»، علىٰ تقدير كون الرواية هكذا، و من المعلوم أنّ مدخولها داخل في المحدود «2».

و أنت خبير: بأنّه ليس المراد بقوله

هكذا تنزيلها

كون الآية نازلة مع كلمة «من»، كيف و هذا ممّا يقطع بخلافه في جميع آيات القرآن عموماً، و في هذه الآية خصوصاً؟! نظراً إلى التمسّك بها مع كلمة «إلىٰ» في كثير من الأخبار الصحيحة المرويّة عنهم (عليهم السّلام) «3».

بل المراد إنّما هو لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل، خلافاً لما توهّمه السائل، فالرواية إنّما تكون مسوقة لبيان هذه الجهة، و التعبير بكلمة «من» لإفادة هذا المعنىٰ، لا لكون «إلىٰ» بمعنى «من» حتّى يترتّب عليه جميع أحكامها، التي منها كون مدخولها داخلًا في المحدود.

هذا، مضافاً إلىٰ أنّه لانسلّم دخول مدخول كلمة «من» في المحدود؛ فيما إذا كان أمراً ممتدّاً ذا أجزاء قابلًا للنزاع في دخوله و خروجه، و الدليل علىٰ ذلك مراجعة الاستعمالات العرفيّة، فإنّ قوله: سرت من البصرة إلى الكوفة، لا يدلّ علىٰ أنّ ابتداء السير كان من آخر بلد البصرة.

و

بالجملة: فالرواية أجنبيّة عن الدلالة علىٰ وجوب غسل المرفق أيضاً.

______________________________

(1) الكافي 3: 28/ 5، تهذيب الأحكام 1: 57/ 159، وسائل الشيعة 1: 405، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 19، الحديث 1.

(2) الحدائق الناضرة 2: 241.

(3) وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3 و 23، و 412، الباب 23، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 430

و منها: بعض الأخبار الحاكية لوضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) الدالّ علىٰ أنّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) وضع الماء علىٰ مرفقه، فأمرّ كفّه علىٰ ساعده «1»، و في آخر: «فغرف بها غرفة فأفرغ علىٰ ذراعه اليمنىٰ، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها إلى المرفق «2»».

و لا يخفىٰ أنّ وضع الماء عليه لا يدلّ علىٰ غسله بأجمعه، كما أنّ الغسل من المرفق لا يدلّ علىٰ دخوله في المغسول- كما عرفت بل التأمّل في جميع الروايات البيانيّة يقضي بعدم دلالة شي ء منها علىٰ ذلك، بل في بعضها إشعار أو دلالة على الخلاف، فراجعها.

و لكن الذي يسهّل الخطب، دعوى إجماع الأُمّة علىٰ وجوب غسل المرفق من كثير من الأصحاب «3»؛ بحيث بلغ حدّ الاستفاضة، بل التواتر، بل لم ينقل الخلاف فيه من أحد من المسلمين، إلّا عن بعض العامّة «4» الذي لا عبرة بخلافه، و الظاهر كون الوجوب وجوباً أصليّاً، لا تبعيّاً من باب حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين بتحقّق المأمور به.

______________________________

(1) الكافي 3: 25/ 4، الفقيه 1: 24/ 74، وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 2.

(2) الكافي 3: 25/ 6، تهذيب الأحكام 1: 81/ 211، وسائل الشيعة 1: 388، كتاب

الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3.

(3) الخلاف 1: 78، المعتبر 1: 143، منتهى المطلب 1: 58/ السطر 25، مفتاح الكرامة 1: 243/ السطر 14 20، جواهر الكلام 2: 159 160.

(4) أحكام القرآن، الجصّاص 2: 341، المبسوط، السرخسي 1: 6، التفسير الكبير 11: 159.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 431

الثالث: في وجوب الغسل من الأعلى إلى الأسفل أو العكس أو التخيير

و الذي صرّح به المحقّق في «الشرائع» «1» هو الأوّل، و منشأ توهّم الخلاف التعبير بكلمة «إلىٰ» في الآية الشريفة.

بتقريب: أنّ المرفق غاية للغسل، و الآية متعرّضة لبيان كيفيّة الغسل؛ و أنّه يجب الابتداء من الأصابع إلى المرفق.

و لكنّه لا يخفى ظهورها في كون المرفق غاية للمغسول، كما يظهر بملاحظة أمثال الآية من الاستعمالات، فإنّ التتبّع فيها يقضي بكون استعمال «إلىٰ» إنّما هو لمجرّد التحديد، فإنّه لو قال المولى لعبده: اغسل من هذا المكان إلى المكان الفلاني، فلا يفهم العبد منه إلّا مجرّد كون الواجب عليه هو غسل ذلك المقدار المحدود، و أمّا الكيفيّة و وجوب الابتداء من المكان الأوّل و الانتهاء إلى المكان الثاني، فلا يخطر بباله أصلًا.

و بالجملة: فالظاهر كون المرفق غاية للمغسول؛ و أنّه لا يجب غسل المقدار الباقي من اليد، الذي لو لم يكن التحديد بالمرفق لشملته كلمة «اليد»؛ إذ الظاهر- حينئذٍ وجوب غسل جميع أجزائها، فهي تدلّ علىٰ تحديد المقدار المغسول، و أمّا بالنسبة إلىٰ كيفيّة الغسل فهي مطلقة لا تدلّ علىٰ تعيين أحد الأمرين؛ بحيث لو لم يكن في البين ما يدلّ علىٰ لزوم الغسل من المرفق إلىٰ أطراف الأصابع علىٰ سبيل التعيين، لقلنا بالتخيير بينهما.

و لكن ورد في المقام أخبار تدلّ علىٰ تعيّنه، و بها يقيّد إطلاق الآية و سائر الروايات المطلقة

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 13.

كتاب

الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 432

منها: رواية التميمي المتقدّمة «1» و الأصحّ أنّها صحيحة، و قد عرفت المراد بقوله

ليس هكذا تنزيلها «2»

، فهي صحيحة من حيث السند تامّة من حيث الدلالة، فلا إشكال في صلاحيّتها للتقييد.

و منها: بعض الأخبار الحاكية لوضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) المشتملة علىٰ ذكر هذه الخصوصيّة الظاهرة في كونها ملحوظة للرواة بخصوصها، و منها: غير ذلك من الأخبار «3» التي لا تتمّ من حيث السند.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 428.

(2) تقدّم في الصفحة 429.

(3) انظر وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 433

فروع
الأوّل: في حكم المقطوع بعض يديه
اشارة

من قُطع بعض يديه ممّا دون المرفق لا إشكال في وجوب غسل اليد عليه لصدقها علىٰ ما بقي، و هو قادر علىٰ غسله إلى المرفق، و لم يقع في دليلٍ التحديدُ في الطرف الآخر برؤوس الأصابع مثلًا؛ حتّى يقال بأنّه لا يقدر علىٰ غسل ذلك المقدار بل التحديد إنّما هو في ناحية المرفق كما هو ظاهر الآية الشريفة فوجوب غسل الباقي عليه ممّا يدلّ عليه نفس الآية؛ من دون حاجة إلىٰ دليل آخر.

و مع ذلك تدلّ عليه رواية رفاعة، عن الصادق (عليه السّلام)، قال: سألته عن الأقطع فقال

يغسل ما قُطع منه «1».

و دلالتها على المقام مبنيّة علىٰ أن يكون مورد السؤال هو وضوء الأقطع، و المراد بالجواب هو الموضع الذي قطع منه.

كما يظهر من روايته الأُخرىٰ عن الصادق (عليه السّلام)، التي يحتمل قويّاً اتّحادها مع الرواية الأُخرىٰ، لا كونهما روايتين؛ حيث قال: سألته عن الأقطع اليد و الرجل كيف يتوضّأ؟ قال

يغسل ذلك المكان الذي قُطع منه «2»

، فإنّ المستفاد من الجواب

كون وجوب غسل ما بقي من يده إلى المرفق، مسلّماً في نظر السائل و مفروغاً عنه عنده، و إنّما كان مورد شكّه وجوب غسل المكان الذي

______________________________

(1) الكافي 3: 29/ 8، وسائل الشيعة 1: 479، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 49، الحديث 1.

(2) تهذيب الأحكام 1: 359/ 1078، وسائل الشيعة 1: 480، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 49، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 434

قُطع منه، الذي كان مستوراً سابقاً و مكشوفاً فعلًا، فأجاب (عليه السّلام) بوجوب غسله أيضاً.

و توهّم: كون ظاهر الجواب وجوب غسل ذلك المكان فقط «1» ممّا لا يتخيّله عاقل، فضلًا عن فاضل، و الحكم بوجوب الغسل مطلقاً في اليد و الرجل، مع أنّ الواجب في الثاني المسح دون الغسل، لا يضرّ بعد عدم كونه بصدد بيان هذا المعنىٰ، بل المقصود وجوب التعامل مع موضع القطع معاملة العضو المقطوع لو كان متّصلًا؛ من وجوب غسله أو مسحه، و حينئذٍ فلا وجه لحمل الرواية على التقيّة «2» أصلًا.

و يدلّ على الحكم أيضاً: رواية محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال: سألته عن الأقطع اليد و الرجْل؟ قال

يغسلهما «3».

و دلالتها على المقام مبنيّة علىٰ كون مورد السؤال هو وضوء الأقطع، مع أنّه يحتمل قويّاً أن يكون مورد السؤال هو غسله، كما يدلّ عليه قوله (عليه السّلام)

يغسلهما

كما لا يخفى.

و كيف كان، الظاهر أنّ الآية الشريفة «4» و رواية رفاعة المتقدّمة «5»، تدلّان علىٰ وجوب غسل ما بقي من يد الأقطع، الذي قطع يده ممّا دون مرفقه.

______________________________

(1) مشارق الشموس: 110/ السطر 10، الحدائق الناضرة 2: 244.

(2) انظر وسائل الشيعة 1: 480، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 49، ذيل الحديث 3، الطهارة،

ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 200، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 330.

(3) الكافي 3: 29/ 7، تهذيب الأحكام 1: 360/ 1085، وسائل الشيعة 1: 480، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 49، الحديث 3.

(4) المائدة (5): 6.

(5) تقدّم تخريجها في الصفحة 433.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 435

حول الاستدلال بالاستصحاب للمقام

و قد يتمسّك له أيضاً بالاستصحاب «1»، و تقريره بوجوه:

الأوّل: استصحاب وجوب غسل ذلك المقدار الباقي الذي كان في السابق متيقّناً؛ لأنّه كان واجباً من باب المقدّمة لحصول غسل مجموع اليد، المتوقّف علىٰ غسله و غسل العضو المقطوع، فوجوبه المقدّمي كان متيقّناً، و ارتفاع ذلك الوجوب و إن كان معلوماً؛ لأنّه لا يبقى وجوب للمقدّمة بعد ارتفاعه عن ذيها، إلّا أنّ المستصحب هو الوجوب الكلّي المتحقّق في ضمنه، المشكوك ارتفاعه بارتفاعه، فهو من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي.

و يرد علىٰ هذا التقرير: أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من أن يكون المستصحب: إمّا حكماً مجعولًا، أو موضوعاً ذا حكم مجعول، و هذا الشرط مفقود في المقام؛ لأنّ المستصحب فيه لا يكون حكماً مجعولًا، و لا موضوعاً كذلك:

أمّا الثاني فواضح. و أمّا الأوّل: فلأنّ المجعول هو الوجوب المتعلّق بموضوع خاصّ، و أمّا الوجوب الكلّي فهو أمر انتزاعيّ لا يجوز استصحابه؛ لعدم تعلّق الجعل به. هذا كلّه علىٰ تقدير القول بوجوب المقدّمة و ثبوت الملازمة بينه و بين وجوب ذيها.

و أمّا بناءً علىٰ عدمه- كما هو التحقيق «2»، و قد عرفت سابقاً «3» فلا مجال للاستصحاب أصلًا، كما هو ظاهر.

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 205، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 199، مستمسك العروة الوثقىٰ 1: 352.

(2) مناهج الوصول 1: 410 415، تهذيب الأُصول 1: 278.

(3) تقدّم في

الصفحة 360.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 436

الثاني: استصحاب الوجوب الضمني المتعلّق في السابق بذلك المقدار الباقي من اليد؛ لإثبات الوجوب الاستقلالي فعلًا، نظير التقرير الأوّل، فإنّه أيضاً من قبيل القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي؛ إذ الوجوب الضمني يرتفع قطعاً بارتفاع الوجوب عن الكلّ المعلوم في المقام، فالمشكوك بقاء نفس الوجوب في ضمن فرد آخر.

و يرد عليه:- مضافاً إلىٰ عدم تصوير الوجوب الضمني، كما ذكرنا في محلّه «1» ما أوردناه على التقرير الأوّل.

الثالث: استصحاب الوجوب المتعلّق بغسل مجموع اليد- من رؤوس الأصابع إلى المرفق بالبناء على المسامحة العرفيّة في موضوعه.

و يظهر هذا التقرير من المحقّق الهمداني (قدّس سرّه) في «المصباح» «2».

و يرد عليه: أنّ جريان الاستصحاب مبنيّاً على المسامحة العرفيّة، إنّما هو فيما إذا كان الشي ء الحادث أو الزائل، مورداً للشكّ في أنّه هل يكون واسطة في العروض أو في الثبوت، كالتغيّر بالنسبة إلى الماء، فإنّ الشكّ في أنّه هل يكون من قبيل الأوّل أو الثاني، صار سبباً للشكّ في بقاء النجاسة للماء بعد زواله بنفسه. و أمّا لو فرض كونه دخيلًا في الموضوع علىٰ فرض وجوده قطعاً- كما في المقام ضرورة أنّ الأصابع المقطوعة قبل قطعها يجب غسلها قطعاً، و لم يكن مورداً للشكّ أصلًا، فلا مجال للاستصحاب بعد كون اليد المقطوعة و غيرها موضوعين بنظر العرف.

و يرد على التقريرات الثلاثة:- مضافاً إلىٰ ما ذكر أنّ التمسّك بالاستصحاب- علىٰ تقدير تماميّته لا يجري في جميع صور المسألة، بل مجراه

______________________________

(1) تهذيب الأُصول 1: 154 و 253، و 2: 326.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 330.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 437

خصوص ما إذا قطع يده بعد البلوغ و صيرورته مكلّفاً، كما هو

واضح.

و أمّا قاعدة الميسور فقد عرفت الكلام فيها مفصّلًا «1»، فراجع.

هذا كلّه فيمن قطعت يده ممّا دون المرفق.

و أمّا الأقطع الذي قطعت يده من المرفق؛ بحيث بقي من أجزاء يده- التي يجب غسلها عظم العضد المتداخل في عظم الذراع، فالظاهر وجوب غسله؛ لا للآية الشريفة، فإنّ ظاهرها- كما عرفت خروج المرفق عن المقدار الذي يجب غسله من اليد «2»؛ لوقوعه غاية لها بكلمة «إلىٰ» الظاهرة في خروجه عن المغيّا. نعم لو كانت كلمة «إلىٰ» بمعنى «مع» كما حُكي «3» عن الشيخ دعوى إجماع الأُمّة عليه «4» فلا تبعد استفادة الوجوب منها.

بل لرواية عليّ بن جعفر، عن أخيه (عليه السّلام): عن الرجل قطعت يده من المرفق، كيف يتوضّأ؟ قال

يغسل ما بقي من عضده «5».

فإنّ الظاهر كون المراد بها وجوب غسل ما بقي من أجزاء يده- التي يجب غسلها في الوضوء الذي هو عبارة عن بعض العضد.

و أمّا احتمال أن تكون «من» بياناً لكلمة «ما»؛ بحيث يكون مدلولها: وجوب غسل العضد بأجمعه نيابة عن المقدار المقطوع، فبعيد.

و كذا احتمال كون «من» متعلّقة بقوله: «يغسل»؛ بحيث كان مرجعه إلىٰ

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 302 303.

(2) تقدّم في الصفحة 428.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 190.

(4) الخلاف 1: 78.

(5) الكافي 3: 29/ 9، الفقيه 1: 30/ 99، تهذيب الأحكام 1: 360/ 1086، وسائل الشيعة 1: 479، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 49، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 438

وجوب الغسل مبتدَأً من العضد؛ أي المقدار الواجب غسله منه في الوضوء «1»، و إن كان هذا الاحتمال لا يُنافي دلالتها علىٰ أصل وجوب غسل ذلك المقدار، فتدبّر.

و أمّا الأقطع الذي قطعت يده من المرفق؛ بحيث لم

يبقَ من الأجزاء التي يجب غسلها بعنوان اليد شي ء، فالظاهر سقوط غسل اليد بالنسبة إليه؛ لفوات محلّه، و قد نقل عن جماعة حكاية الإجماع عليه «2».

و رواية رفاعة المتقدّمة «3» لا تشمل هذا الفرض، فإنّ موردها ما إذا قطع لا من المرفق، و لذا سأل عن حكم موضع القطع، فإنّ سؤاله عنه، يدلّ علىٰ مفروغيّة وجوب غسل المقدار الباقي من أجزاء اليد الواجب غسلها، و إلّا فكان الأولى السؤال عن أصل وجوب غسل اليد و عدمه، كما هو غير خفيّ.

الفرع الثاني: حكم من له زيادة دون المرفق

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «لو كان له ذراعان دون المرفق، أو أصابع زائدة، أو لحم نابت، وجب غسل الجميع» «4».

أقول: الحقّ هو التفصيل- بمقتضى القواعد بين ما كان منها بنظر العرف تعدّ جزءاً لليد كالذراعين أو الأصابع الزائدة، فإنّ مثلهما لا يكون خارجاً من اليد زائداً عليها، بل هي لأجل اشتمالها عليه تعدّ مخالفة لمقتضى العادة و الخِلْقة

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 2: 245.

(2) منتهى المطلب 1: 59/ السطر 12، كشف اللثام 1: 535، مفتاح الكرامة 1: 245، جواهر الكلام 2: 165 166، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 330.

(3) تقدّم تخريجها في الصفحة 433.

(4) شرائع الإسلام 1: 13.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 439

الأصليّة، و بين ما كان خارجاً عن اليد زائداً عليها، كاللحم الكثير النابت، فيجب غسلها في الأوّل بمقتضى الآية الشريفة، الدالّة علىٰ وجوب غسل الأيدي إلى المرافق، دون الثاني؛ لعدم الدليل علىٰ وجوب غسل ما هو خارج عن اليد.

و ما ورد في بعض الروايات الواردة في غسل اليدين: من أنّه «ليس له أن يدع من ذلك شيئاً إلّا و غسله» «1»، لا يدلّ إلّا علىٰ وجوب غسل ما هو جزء

لليد، لا ما هو خارج عنها.

و دعوىٰ: عدم الخلاف «2»، أو الإجماع «3»، أو نفي الريب «4»، لا تُجدي بعد كون المسألة من المسائل التفريعيّة المستحدثة بين المتأخّرين، و لا يكشف الإجماع في مثلها عن وجود دليل معتبر، كما قرّر في محلّه «5».

و لو كان شي ء من تلك الأُمور فوق المرفق لم يجب غسله؛ لخروجه عن حدّ الواجب و لو انسلخ و تدلّىٰ إلىٰ داخل الحدّ، كما أنّ ما يجب غسله في المسألة السابقة، لا يخرج عن الوجوب بالتدلّي إلىٰ خارج الحدّ.

الفرع الثالث: فيمن كانت له يد زائدة

من كان له يد زائدة: إمّا أن تكون تلك اليد نابتة من فوق المرفق، و إمّا أن تكون فيما دون المرفق، و على التقديرين:

إمّا أن تكون متميّزة عن اليد الأصليّة؛ بحيث لا تكون مشتبهة بنظر العرف

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 388 389، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3.

(2) جواهر الكلام 2: 166، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 332.

(3) مشارق الشموس: 109/ السطر 25.

(4) مدارك الأحكام 1: 206.

(5) انظر فرائد الأُصول 1: 102.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 440

و إمّا أن تكون مشتبهة مع اليد الأصليّة؛ بحيث لا يمكن التمييز بينهما.

أمّا الفرض الأوّل: و هو ما إذا كانت متميّزة عنها: سواء كانت نابتة ممّا دون المرفق، أو ممّا فوقه.

فالظاهر عدم وجوب غسلها؛ و إن كان مثل هذا المكلّف مشمولًا للخطاب في قوله تعالىٰ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ .. «1» الآية، و تلك اليد الزائدة غير خارجة عن صدق عنوان اليد، إلّا أنّ الظاهر انصراف الأيدي- في الآية الشريفة إلى الأيدي المتعارفة، كما يظهر بمراجعة الاستعمالات العرفيّة، فإنّ المولى إذا أمر عبده- الموصوف بهذا الوصف بغسل يده، لا ينصرف

إلىٰ ذهنه إلّا مجرّد وجوب غسل اليد الأصليّة، و كذلك سائر الأحكام المترتّبة على اليد، و كأنّ هذا ممّا لا ينبغي الخدشة فيه.

و أمّا الفرض الثاني: و هو ما إذا كانت له يد زائدة غير متميّزة عن اليد الأصليّة بوجه.

فقد يقال فيه بوجوب غسلها أيضاً؛ نظراً إلىٰ إطلاق الآية الشريفة الآمرة بغسل الأيدي بصيغة الجمع، لا اليدين «2».

و لكن مع ذلك لا يبعد دعوى الانصراف؛ و كون المقصود وجوب غسل اليدين فقط؛ لظهور أنّ التعبير بصيغة الجمع إنّما هو لملاحظة المضاف إليه، الذي هو جميع المؤمنين، نظير الوجه المعبّر عنه في الآية بصيغة الجمع.

و يؤيّد ذلك- بل يدلّ عليه ما ورد في بعض الأخبار: من تفسير الآية الشريفة بوجوب غسل اليدين، فإنّه لو كان الواجب هو غسل الأيدي و لو زادت عن اثنين، لما كان وجه لتفسيرها به، بعد كون مثل هذا الشخص مشمولًا

______________________________

(1) المائدة (5): 6.

(2) تذكرة الفقهاء 1: 160.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 441

للخطاب في الآية الكريمة، كما عرفت:

منها: الرواية التي ستأتي إن شاء اللّٰه تعالىٰ في مسألة مسح الرأس حيث قال في مقام التفسير: «فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه ..» «1» الحديث.

و منها: بعض الأخبار الأُخر المذكورة في «الوسائل» في باب كيفيّة الوضوء، الذي هو الباب الخامس عشر من أبواب الوضوء «2»، فراجع.

و بالجملة: فالظاهر- خصوصاً بملاحظة الأخبار الواردة في تفسير الآية الشريفة كون المراد هو غسل اليدين فقط؛ لتعارفهما بين الناس.

نعم يجب عليه- في المقام أن يغسل إحدىٰ يديه من الطرف الأيمن و إحداهما من الطرف الأيسر، و لا يُجزي غسل اليدين من طرف واحد، كما هو ظاهر.

هذا، و لو تنزّلنا عن ذلك، و قلنا: بأنّه لا يستفاد

واحد من طرفي المسألة من الآية و سائر الأدلّة، و وصلت النوبة إلى الأُصول العمليّة، فمقتضاها وجوب غسل المجموع، لو جعلنا الطهور المعتبر في الصلاة أمراً حاصلًا من الوضوء، و لم يكن عبارة عن نفس الوضوء؛ لرجوعه إلى الشكّ في المحصِّل و القاعدة فيه تقتضي الاحتياط، و لو قلنا بأنّ الطهور هو نفس الوضوء، لا شي ء متحصّل منه؛ لعدم الدليل عليه، فمقتضى الأصل عدم وجوب غسل الزائد على اليدين؛ لكون المسألة- حينئذٍ من صغريات مسألة الأقلّ و الأكثر الارتباطيّين، و التحقيق فيها الرجوع إلى البراءة، و لازمه التخيير هنا في مقام الامتثال؛ لأنّه لا مائز بين اليد الأصليّة و غيرها.

______________________________

(1) الفقيه 1: 56/ 212، وسائل الشيعة 1: 413، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1.

(2) وسائل الشيعة 1: 387 399، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3 و 23.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 442

تتمّة: في الشعر النابت على اليد

الشعر النابت على اليد: تارة يقع الكلام فيه من جهة وجوب الغسل و عدمه، و أُخرى من حيث كفاية غسله عن البشرة المستورة و عدمها، فنقول:

أمّا الجهة الأُولىٰ: فالظاهر هو الوجوب؛ لأنّه لا يعدّ شعر اليد بنظر العرف أمراً خارجاً عن اليد، بل هو تبع لها، و كأنّه من أجزائها، فالأمر بغسل اليدين يدلّ علىٰ وجوب غسله أيضاً.

و أمّا الجهة الثانية: فظاهر الآية الشريفة هو عدم الكفاية؛ لوضوح أنّ شعر اليد بحسب النوع، لا يكون بالغاً من الكثرة إلىٰ حدّ يوجب إطلاق اليد علىٰ نفس الشعر، كما في اللحية بالنسبة إلى الوجه؛ حيث إنّه- قد عرفت سابقاً أنّ المتفاهم من غسل الوجه- بنظر العرف ليس إلّا غسل أجزائه الظاهرة و ظاهر اللحية «1»، و هذا بخلاف اليد،

فإنّ المنسبق إلى الأذهان من إطلاقها هو نفس البشرة، كما لا يخفى.

و بهذا يمكن أن يفرّق بين مسح الرأس و مسح الرجْل؛ بجوازه على الشعر في الأوّل، دون الثاني.

و بالجملة: فظاهر الآية الشريفة تدلّ علىٰ وجوب غسل اليد الظاهرة في البشرة، و مقتضاها عدم إجزاء غسل الشعر عنها، إلّا أنّ ظاهر صحيحة زرارة عدم وجوب غسلها؛ حيث قال: قلت: أ رأيت ما كان تحت الشعر؟ قال

كلّ ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء «2».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 425.

(2) تهذيب الأحكام 1: 364/ 1106، وسائل الشيعة 1: 476، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 46، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 443

و قد استشكل في الاستدلال بالرواية؛ لعدم وجوب غسل ما أحاط به الشعر من اليدين: بمنع دلالة الموصول على العموم، و القدر المعلوم إرادته منه هو ما أحاط بالوجه لا غير، و سند المنع وجوه ثلاثة مذكورة في «المصباح» «1» و غيره «2»:

منها: قوله (عليه السّلام)- في ذيل الرواية

و لكن يجري عليه الماء

؛ ضرورة عدم جريان هذا الحكم في الرأس و الرجلين، فليس المراد كلّ موضع أحاط به الشعر من مواضع الوضوء، بل المراد: إمّا خصوص ما أحاط بالوجه، أو الأعمّ منه و من اليدين، و لا ترجيح للثاني.

و منها: ذكره في «الفقيه» «3» عقيب صحيحة زرارة المتقدّمة، الواردة في تحديد الوجه بما دارت عليه الإصبعان، و ظاهره كونها تتمّة لتلك الرواية، و عدم ذكره في «التهذيب» «4» عقيبها لعلّ منشأه التقطيع، فلا يدلّ علىٰ كونه رواية مستقلّة.

و منها: شهادة البداهة بكون هذا السؤال مسبوقاً ببيان الإمام (عليه السّلام) حكم شي ء، مثل

وجوب غسل الوجه أو تحديده أو غسل الوجه و اليدين مثلًا، فسؤاله هذا منزّل علىٰ ما كان موضوعاً لديهم في الحكم بغسله، و لا يمكن تعيين ذلك الحكم بسبب الأصل و القدر المتيقّن دلالته علىٰ حكم الوجه لاستناد العلماء إليه فيه فإثبات شموله لغيره محتاج إلى الدليل.

هذا، و لكن لا يخفى أنّ مجرّد ذكره في «الفقيه» عقيب تلك الرواية، لا يدلّ

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 333.

(2) انظر الحدائق الناضرة 2: 249، مستمسك العروة الوثقىٰ 2: 349 و 350.

(3) الفقيه 1: 28/ 88.

(4) تهذيب الأحكام 1: 364/ 1106.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 444

علىٰ كونه تتمّة لها، بعد ما كان دأب مؤلّفه علىٰ نقل الروايات الواردة في موارد مختلفة بعضها إثر بعض، مضافاً إلىٰ أنّه قد يذكر فتاويه بينها، و خصوصاً في مثل المقام؛ لأنّ الظاهر من عبارته كونه رواية مستقلّة؛ حيث إنّ القاعدة تقتضي أن يعطف هذا السؤال علىٰ سابقه بكلمة «الفاء» لا «الواو»، كما فعل مثله في ذيل تلك الصحيحة؛ حيث قال بعد بيان التحديد من الإمام (عليه السّلام): فقال زرارة له: الصدْغ من الوجه؟ فقال

لا «1»

، مع أنّ المقام عطف بالواو.

و كيف كان، فمجرّد هذا لا يقتضي كونه تتمّة لها، إلّا أنّ الوجه الأخير من الوجوه الثلاثة، مضافاً إلى استناد العلماء إليه في باب غسل الوجه، ربما يوجب الاطمئنان بكونه ذيلًا لتلك الرواية.

و مع ذلك فلا اختصاص للحكم المذكور فيه بالوجه أصلًا؛ لأنّه لو فرض كون مورد السؤال هو الوجه فقط، إلّا أنّ العدول في الجواب عن ذكره بخصوصه، و التعبير بكلمة «كلّ» المفيدة للعموم، يقتضي عدم اختصاص الحكم بالوجه، و شموله لغسل اليدين، بل جميع مواضع الوضوء؛ ضرورة أنّه

لو كان الحكم مختصّاً بالوجه لم يكن وجه لهذا التعبير، و قوله (عليه السّلام): «يجري عليه الماء» لا ينافي عموم الموصول لجميع مواضع الوضوء؛ لأنّ الظاهر أنّه بيان لبعض المواضع، بل لعلّه مذكور من باب المثال.

و بالجملة: الظاهر تماميّة الاستدلال بالرواية لعدم وجوب غسل البشرة في المقام؛ و لو قلنا بكونها تتمّة لتلك الرواية، و لكن قد يُدّعى الإجماع علىٰ عدم كفاية غسل الشعر «2» و العهدة علىٰ مدّعيه.

______________________________

(1) الفقيه 1: 28/ 88.

(2) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 203، مستمسك العروة الوثقىٰ 2: 349.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 445

الفرض الرابع: مسح الرأس
الكلام في مقدار المسح

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و الواجب فيه ما يسمّىٰ به ماسحاً» «1».

أقول: لا خلاف بين المسلمين في وجوب المسح؛ أي مسح الرأس في الوضوء، و يدلّ عليه الكتاب «2» و السنّة «3» و الإجماع «4».

و لا يلزم استيعابه بالمسح؛ لظاهر الآية الشريفة؛ حيث قال تبارك و تعالى وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، فإنّ التعبير بكلمة الباء يدلّ علىٰ ذلك.

توضيحه: أنّه لا ينبغي الإشكال في عدم كون الباء في الآية زائدة؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ أنّ الموارد التي يجوز الإتيان فيها بالباء الزائدة قياساً محدودة، و ليس المورد منها «5» نقول

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 13.

(2) المائدة (5): 6.

(3) انظر وسائل الشيعة 1: 416 422، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 24 25.

(4) الانتصار: 19، الخلاف 1: 81 82، المعتبر 1: 144، منتهى المطلب 1: 59/ السطر 28 29، جواهر الكلام 2: 170.

(5) مغني اللبيب 1: 144.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 446

إنّ في المقام خصوصيّة تقتضي نفي ذلك الاحتمال، و هي أنّ العدول عن التعبير في الوجه و الأيدي، و تغيير الأُسلوب بإدراج كلمة

الباء في الرأس، يوجب الاطمئنان بكون الإتيان بها لغرض إفهام معنىً من المعاني، خصوصاً مع ملاحظة أنّ مادّة «مسح» ممّا يتعدّىٰ بنفسه، و خصوصاً مع أنّ الإتيان بها- لو كانت زائدة يوجب الإخلال بالمقصود، كما هو ظاهر.

و بالجملة: لا ريب في بطلان احتمال الزيادة، و حينئذٍ فلا بدّ من حملها علىٰ أحد معانيها المذكورة في الكتب النحويّة، و المناسب بالمقام: إمّا التبعيض، و إمّا الإلصاق، و إلّا فسائر معانيها- كالاستعانة و السببية و غيرهما لا يناسب بوجه.

و الظاهر أنّ الإلصاق أيضاً مستبعد بعد كون المسح بمادّته متضمّناً لمعنى الإلصاق؛ إذ لا يتحقّق بدونه. و إن أبيت عن ذلك فلا يضرّ بالمطلب أصلًا؛ لأنّ الإلصاق يتحقّق بمسمّى المسح، و لذا حكىٰ في «المجمع» عن ابن مالك في «شرح التسهيل»: أنّه قال- بعد ذكر أنّ الباء تأتي بمعنى «من» التبعيضية، و الاستشهاد عليه بكلام أئمّة اللغة ما هذا لفظه:

«و قال النحاة: تأتي للإلصاق و مثّلوه بقولك: مسحت يدي بالمنديل؛ أي لصقتها به، و الظاهر أنّه لا يستوعبه، و هو عرف الاستعمال، و يلزم من هذا الإجماعُ علىٰ أنّها للتبعيض» «1». انتهىٰ.

فإنّ ظاهر كلامه- بل صريحه أنّ مجي ء الباء للإلصاق مستلزم لمجيئها بمعنى التبعيض.

و كيف كان، فالظاهر أنّ كلمة الباء في الآية الشريفة بمعنى «من»

______________________________

(1) مجمع البحرين 4: 196.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 447

التبعيضيّة، و إنكار سيبويه مجي ء الباء للتبعيض «1»، لا ينافي ذلك بعد تصريح كثير من أئمّة أهل اللغة و أكابر النحويّين بذلك، فقد نصّ عليه ابن قتيبة و أبو علي الفارسي و ابن جنّي و ابن مالك في «شرح التسهيل» و غيرهم، و استشهد عليه ابن مالك بذهاب الشافعي- الذي هو من

أئمّة اللسان و أحمد و أبي حنيفة إليه «2»، و نقل عن ابن عباس مجيئها بمعنى «من» في قوله تعالىٰ أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللّٰهِ «3»، و مثله قوله تعالىٰ فَاعْلَمُوا أَنَّمٰا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللّٰهِ «4»؛ أي من علم اللّٰه.

و بالجملة: فإنكار ذلك مكابرة محضة و قد عرفت أنّ المناسب بالآية من بين المعاني إنّما هو هذا المعنىٰ، لا المعاني الأُخر.

و من هنا يُعرف الخلل فيما في «المصباح» «5» و غيره «6»؛ من أنّ منع دلالة الآية لا يتوقّف علىٰ إنكار مجي ء الباء بمعنى «من»، بل يكفي- في عدم ظهورها في ذلك عدمُ القرينة علىٰ تعيّن إرادته؛ لأنّ حمل المشترك علىٰ بعض معانيه يحتاج إلىٰ قرينة معيّنة.

وجه الخلل: أنّه مع تسليم مجي ء الباء بمعنى «من» لا مجال لهذا الإشكال أصلًا، بعد ما عرفت من أنّ المناسب من بين المعاني إنّما هو خصوص هذا المعنىٰ.

______________________________

(1) الكتاب، سيبويه 2: 365، انظر مختلف الشيعة 1: 267، جواهر الكلام 2: 171.

(2) انظر مجمع البحرين 4: 196، مغني اللبيب 1: 142.

(3) لقمان (31): 31، مجمع البحرين 4: 196.

(4) هود (11): 14، مجمع البحرين 4: 196.

(5) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 342.

(6) انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 208.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 448

و بالجملة: فالإنصاف أنّ دلالة الآية الشريفة علىٰ ذلك ممّا لا شبهة فيه و لا ارتياب، خصوصاً مع تفسير الإمام (عليه السّلام) الآية بذلك في صحيحة زرارة؛ حيث قال

قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): أ لا تخبرني من أين علمت و قلت: إنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله

و سلّم) و نزل به الكتاب من اللّٰه عزّ و جلّ؛ لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ثمّ قال وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصّل بين الكلام، فقال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، فعرفنا حين قال بِرُؤُسِكُمْ أنّ المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس، كما وصل اليدين بالوجه، فقال وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح علىٰ بعضهما، ثمّ فسّر ذلك رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) للناس فضيّعوه

الحديث «1».

و هذه الرواية تدلّ دلالة واضحة علىٰ مجي ء كلمة الباء بمعنى التبعيض و كونه هو المراد في آية الوضوء علىٰ ما يدلّ عليه ظاهرها؛ و ذلك لأنّ السؤال إنّما هو عن مدرك الحكم؛ و مستند القول بجواز المسح ببعض الرأس؛ بحيث لو التفت إليه من لا يقول بإمامة أئمّتنا المعصومين- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين للزم عليه القول بذلك، و جواب الإمام (عليه السّلام) أيضاً إنّما هو مع قطع النظر عن التعبّد و حجّية قولهم، فإنّه مبنيّ علىٰ ما يستفاد من الآية بحسب معاني ألفاظها في اللغة.

______________________________

(1) الكافي 3: 30/ 4، الفقيه 1: 56/ 212، تهذيب الأحكام 1: 61/ 168، الإستبصار 1: 62/ 186، وسائل الشيعة 1: 412، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 449

و الإنصاف: أنّ هذه الرواية- مع قطع النظر عن حجّيّة قول الأئمّة بمقتضى المذهب شهادة من الشخص العارف بلسان العرب علىٰ مجي ء الباء بمعنى التبعيض، خصوصاً مع تصديق الراوي الذي هو كوفي «1»، و هذا المقدار

يكفي لنا بعد ما عرفت من عدم مناسبة سائر المعاني المذكورة لكلمة الباء للآية الشريفة.

و ممّا يدلّ أيضاً على المطلوب صحيحة أُخرى لزرارة و بكير، عن أبي جعفر (عليه السّلام) فيما حكاه عن وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و في ذيلها

ثمّ قال وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فإذا مسح بشي ء من رأسه أو بشي ء من قدميه، ما بين الكعبين إلىٰ أطراف الأصابع، فقد أجزأه «2»

الحديث.

و رواية اخرىٰ لهما أيضاً، عن أبي جعفر (عليه السّلام) أنّه قال في المسح: «تمسح على النعلين، و لا تدخل يدك تحت الشراك، و إذا مسحت بشي ء من رأسك أو بشي ء من قدميك، ما بين كعبيك إلىٰ أطراف الأصابع، فقد أجزأك» «3».

ثمّ لا يخفى أنّ مدلول هذه الروايات، هو إجزاء المسح ببعض الرأس و عدم وجوب استيعابه به، و أمّا كفاية المسمّى، أو لزوم المسح بإصبع واحدة، أو وجوب مسح مقدار ثلاث أصابع، فلا يستفاد شي ء منها من هذه الروايات؛ لأنّها مسوقة لبيان عدم وجوب الاستيعاب، خصوصاً صحيحة زرارة الطويلة.

______________________________

(1) رجال الطوسي: 201/ 90.

(2) الكافي 3: 25/ 5، تهذيب الأحكام 1: 76/ 191، وسائل الشيعة 1: 389، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3.

(3) تهذيب الأحكام 1: 90/ 237، وسائل الشيعة 1: 414، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 450

نعم يستفاد منها ما عرفت من كون كلمة الباء بمعنى «من»، و حينئذٍ فيمكن التمسّك بإطلاق الآية الشريفة- الدالّة علىٰ وجوب المسح ببعض الرأس علىٰ كفاية مجرّد المسمّى طولًا و عرضاً؛ لأنّ المفروض أنّها بصدد البيان من جميع الجهات، فإطلاقها من حيث الماسح و الممسوح،

دليل علىٰ عدم كون شي ء منهما محدوداً بحدّ بل المدار علىٰ صدق الاسم، و هو الذي نُسب إلى المشهور «1».

حول الاستدلال علىٰ كفاية المسح بمقدار الإصبع

ثمّ إنّه قد استدلّ «2» لكفاية مقدار الإصبع؛ و عدم اعتبار ما زاد عليه في عرض الرأس بمرسلة حمّاد، عن أحدهما (عليهما السّلام): في الرجل يتوضّأ و عليه العمامة؟ قال

يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه، فيمسح علىٰ مقدّم رأسه «3».

و بروايته الأُخرىٰ، عن الحسين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت لأبي عبد الهّٰع (عليه السّلام): رجل توضّأ و هو معتمّ، فثقل عليه نزع العمامة لمكان البرد؟ فقال

ليدخل إصبعه «4».

و لكن لا يخفى ما في الاستدلال بهما من الضعف؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ أنّ الاولىٰ مرسلة، و الثانية ضعيفة؛ لجهالة الحسين نقول: إنّهما مسوقتان لبيان أنّه لا يجب رفع العمامة، و كفاية إدخال اليد من تحتها، و لا تعرّض فيهما لبيان

______________________________

(1) مدارك الأحكام 1: 207.

(2) جواهر الكلام 2: 172، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 344.

(3) تهذيب الأحكام 1: 90/ 238، الإستبصار 1: 60/ 178، وسائل الشيعة 1: 416، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 24، الحديث 1.

(4) الكافي 3: 30/ 3، تهذيب الأحكام 1: 90/ 239، الإستبصار 1: 61/ 183، وسائل الشيعة 1: 416، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 24، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 451

المسح و المقدار المجزي منه أصلًا، بل الظاهر كون الراوي عالماً بهذه الجهة، و إنّما كان مورد شكّه هي الجهة الأُولىٰ. و هذا واضح جدّاً.

الاستدلال علىٰ وجوب المسح بمقدار ثلاث أصابع
اشارة

ثمّ إنّه قد استُدلّ للقول بوجوب مسح مقدار ثلاث أصابع بروايات «1»:

منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)

المرأة يجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمه قدر ثلاث أصابع، و لا تُلقي عنها خمارها «2».

بناءً علىٰ أنّه لا فرق بين الرجل و المرأة، و ذكرها إنّما هو من باب المثال، نظير

ذكر الرجل في كثير من الأخبار، الدالّة علىٰ بيان الأحكام غير المختصّة بالرجل قطعاً.

و أنت خبير: بما في هذا الاستدلال من النظر؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ أنّ ذكر المرأة ليس كذكر الرجل، بل تخصيصها به في مقام بيان حكم من الأحكام ظاهر في اختصاصه بها، بخلاف الرجل، كما لا يخفى يرد عليه: أنّ ذيل الرواية، و هو قوله (عليه السّلام)

لا تُلقي عنها خمارها

، قرينة واضحة علىٰ أنّ الرواية مسوقة لبيان عدم وجوب إلقاء الخمار، و كفاية المسح علىٰ مقدّم الرأس من دون إلقائه، و لا تعرّض فيها لبيان كيفيّة المسح من حيث الماسح و الممسوح، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ هنا احتمالًا آخر في معنى الرواية، لعلّه أقوى من سائر الاحتمالات: و هو أن يكون قوله (عليه السّلام)

قدر ثلاث أصابع

، بياناً لمقدّم الرأس

______________________________

(1) انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 210 211.

(2) الكافي 3: 30/ 5، تهذيب الأحكام 1: 77/ 195، وسائل الشيعة 1: 416، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 24، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 452

الذي يجب مسحه، لا وصفاً للمسح المقدّر الذي هو مفعول مطلق لقوله

أن تمسح

، فيكون معنى الرواية: أنّ المرأة يُجزيها من مسح الرأس أن تمسح مقدّمه، الذي هو قدر ثلاث أصابع، و هو المقدار الظاهر الذي يكون خارجاً من الخمار؛ إذ الخمار المتعارف فيما بين نساء العرب، كان يستر جميع الرأس عدا هذا المقدار من مقدّمه- كما هو المتداول الآن أيضاً فالمعنىٰ- حينئذٍ كفاية المسح على الناصية بدل المسح على الرأس، و لا دلالة فيها علىٰ وجوب مسح جميع مقدار ثلاث أصابع؛ لأنّه لا تعرّض فيها من هذه الجهة، بل محطّ النظر فيها قيام ذلك المقدار مقام

الرأس في كفاية المسح عليه.

و الذي يؤيّد هذا الاحتمال، بل يدلّ عليه: أنّ كلمة «يُجزي منه أو عنه» لا تستعمل إلّا فيما إذا كان المقصود بيان قيام شي ء مقام شي ء آخر و إغنائه عنه. قال في «المنجد» «أجزي الأمر منه أو عنه: قام مقامه و أغنى عنه» «1».

و حينئذٍ فلو كان قوله (عليه السّلام)

قدر ثلاث أصابع

، وصفاً للمسح المقدّر يصير معنى الرواية: المرأة يُجزيها من مسح الرأس، أن تمسح مقدّمه مسحاً قدر ثلاث أصابع، و لازمه أن يكون الواجب في الأصل هو مسح جميع الرأس؛ حتّى يكون مسح ذلك المقدار قائماً مقامه و مُغنياً عنه، مع أنّ ضرورة فقه الإماميّة علىٰ خلافه.

و هذا بخلاف المعنى الذي ذكرنا، فإنّه يرجع إلىٰ قيام مقدّم الرأس الذي هو قدر ثلاث أصابع- مقام موضع مسح الرأس، الذي كان المسح عليه واجباً في الأصل.

______________________________

(1) المنجد: 90.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 453

و يؤيّده أيضاً: ما روي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

لا تمسح المرأة بالرأس كما يمسح الرجال، إنّما المرأة إذا أصبحت مسحت رأسها و تضع الخمار عنها، و إذا كان الظهر و العصر و المغرب و العشاء تمسح بناصيتها «1».

فإنّها أيضاً تدلّ علىٰ جواز المسح بالناصية للمرأة، كما تدلّ عليه الرواية المتقدّمة بناءً على المعنى الذي ذكرنا.

و منها: رواية معمّر بن عمر، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

يجزي من المسح على الرأس موضع ثلاث أصابع، و كذلك الرجل «2».

و يرد على الاستدلال بها: ما عرفته من الاحتمال الأخير الجاري في الرواية المتقدّمة، مضافاً إلىٰ أنّ ظهور كلمة «يُجزي» في كون فاعلها أقلّ المجزي ممنوع، كما عرفت في بعض المباحث السابقة «3».

و منها: ما ورد في

بعض الروايات الحاكية لوضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): من أنّ أبا جعفر (عليه السّلام)، بعد حكايته لوضوئه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال

إنّ اللّٰه وتر يحبّ الوتر، فقد يجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلّة يمناك ناصيتك «4»

الحديث.

و لكن لا يخفى أنّ المقصود منه بيان كون المسح ببلّة اليمنىٰ في قبال

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 77/ 194، وسائل الشيعة 1: 414، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 5.

(2) الكافي 3: 29/ 1، وسائل الشيعة 1: 417، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 24، الحديث 5.

(3) تقدّم في الصفحة 334 335.

(4) الكافي 3: 25/ 4، الفقيه 1: 24/ 74، وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 454

العامّة القائلين باستحباب المسح بالماء الجديد «1»، و لا نظر فيها إلىٰ وجوب مسح جميع الناصية أو بعضها.

ثمّ إنّه ظهر لك ممّا تقدّم: أنّه كما لا يدلّ شي ء من الروايات المتقدّمة علىٰ وجوب المسح مقدار ثلاث أصابع، كذلك لا يدلّ على الاستحباب؛ لأنّها مسوقة لبيان حكم آخر، و لا دلالة لها علىٰ هذا المعنىٰ أصلًا. نعم لو قلنا بذلك فالظاهر كون استحباب ذلك بالنسبة إلىٰ عرض الرأس فيتحقّق العمل بالاستحباب بمجرّد وضع ثلاث أصابع في عرض الرأس و إن اكتفىٰ في جانب الطول بمجرّد المسمّى، نعم الأحوط مراعاته في طرف الطول أيضاً.

و لو قلنا باستحباب مسح مقدار الثلاث في طول الرأس، فلا إشكال في أنّه لو أوجد مسح هذا المقدار دفعة يتّصف هذا المسح الخارجي بالوجوب و أمّا لو أوجده تدريجاً بأن وضع رأس إصبعه

على الرأس و أمرّها إلىٰ جهة الطول فهل يتّصف المجموع بكونه أفضل أفراد الواجب، أو يتّصف ما عدا مقدار أقلّ الواجب بالاستحباب؟

و تظهر الثمرة فيما لو بدا له إتمام مقدار الثلاث بعد فراغه منه عرفاً، فعلى الأوّل لا مجال له بعد حصول إطاعة الواجب، و انتفاء الأمر الاستحبابي، بخلاف الثاني.

التحقيق في المقام

و التحقيق أن يقال باتّصاف ما عدا مقدار المسمّى بالاستحباب؛ لعدم معقوليّة أفضل أفراد الواجب بحسب القواعد.

______________________________

(1) انظر الخلاف 1: 80، المسألة 28، بداية المجتهد 1: 13، المغني، ابن قدامة 1: 117، المجموع 1: 401.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 455

توضيحه: أنّه إذا تعلّق الأمر بالطبيعة أو بأفراد العامّ، فلا إشكال في عدم سراية الأمر من الطبيعة إلى الأفراد على الأوّل، بل يكون متعلّقه هي نفس الطبيعة، و الأفراد لا تكون مطلوبة حتّى يكون بعضها أفضل من البعض الآخر.

و على الثاني لا إشكال في أنّ نسبة الأمر إلىٰ أفراد العامّ إنّما تكون علىٰ نهج واحد؛ إذ لا يعقل ترجيح بعض الأفراد على البعض الآخر بنفس ذلك الأمر، بل لا بدّ من تعلّق أمر استحبابي آخر حتّى يستفاد منه الأفضليّة.

و حينئذٍ نقول: إن كان متعلّق الأمر الاستحبابي هو نفس متعلّق الأمر الوجوبي، فلا شبهة في استحالة ذلك كما هو واضح، فلا بدّ إمّا أن يكون متعلّقه عنواناً آخر متصادقاً عليه في الوجود الخارجي في بعض الموارد، أو نفس متعلّق الأمر الوجوبي مقيّداً بقيد زائد- بناءً علىٰ دخول العامّين مطلقاً في محلّ النزاع؛ في جواز اجتماع الأمر و النهي المعنون في الأُصول فيجري فيه القول بالجواز لو قيل به في سائر الموارد، و على التقديرين يكون الاستحباب مستنداً إلىٰ تصادق عنوان آخر عليه، و لا يوجب

ذلك ترجيحاً له بالنسبة إلى الأمر الوجوبي المتعلّق بالجميع.

نعم يمكن أن يقال بإمكان أن يكون للمولىٰ أغراض بالإضافة إلىٰ طبيعة واحدة؛ بعضها واجب التحصيل دون البعض الآخر، و كانت أفراد الطبيعة أيضاً مختلفة؛ بعضها مؤثّر في حصول خصوص الغرض الذي يجب تحصيله، و بعضها يترتّب عليه الغرض الآخر أيضاً، و استكشاف ذلك إنّما هو من الأمر الذي يرشد إلى الإتيان- في مقام امتثال الأمر بالطبيعة بذلك الفرد الذي يؤثّر في حصول أغراض المولى بتمامها. هذا، و لكن ذلك لا يوجب أيضاً تحقّق عنوان أفضل أفراد الواجب، فتأمّل.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 456

في إلقاء المرأة خمارها في وضوء الصلاة

ثمّ إنّه حكي «1» عن ظاهر الصدوقين «2» و الشيخين (قدّس سرّهم) «3» وجوب إلقاء الخمار عن المرأة في وضوء صلاة الصبح و المغرب.

و صرّح بعض باستحبابه لها فيهما «4»، أو في خصوص صلاة الغداة خاصّة «5».

و عن آخر استحبابه لها في جميع الصلوات «6».

و مدرك المسألة ما رواه الصدوق في «الخصال»، عن جابر الجُعفي، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

المرأة لا تمسح كما تمسح الرجال، بل عليها أن تُلقي الخمار عن موضع مسح رأسها في صلاة الغداة و المغرب، و تمسح عليه، و في سائر الصلاة تدخل إصبعها فتمسح علىٰ رأسها من غير أن تلقي عنها خمارها «7»

، و الرواية المتقدّمة الدالّة علىٰ وجوب وضع الخمار و مسح الرأس في صلاة الصبح، و الاكتفاء بالمسح على الناصية في سائر الصلوات «8».

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 2: 273، جواهر الكلام 2: 174، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 356 357.

(2) الفقيه 1: 30/ 99، المقنع: 15.

(3) المقنعة: 45، المبسوط 1: 22.

(4) ذكرى الشيعة 2: 141، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 356.

(5) مشارق الشموس: 115/ السطر

2، انظر الحدائق الناضرة 2: 273، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 356.

(6) المعتبر 1: 146، منتهى المطلب 1: 61/ السطر 20، انظر جواهر الكلام 2: 174، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 356.

(7) الخصال: 585/ 12.

(8) تقدّم في الصفحة 452 453.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 457

و أنت خبير: بأنّ مدلول الروايتين ليس وجوب وضع الخمار بنفسه أو استحبابه كذلك، بل ظاهرهما كون وضعه مقدّمة لتحقّق المسح على الرأس، الواجب عليها لولا الخمار، فذكر إلقاء الخمار تمهيد لذلك.

و بالجملة: فمفاد الروايتين وجوب المسح علىٰ مقدّم الرأس الذي هو فوق الناصية على المرأة في صلاة الصبح، أو هي مع المغرب، أو استحبابه و كفاية مسحها في سائر الصلاة، و يستفاد منهما أنّ الواجب أو المستحب للرجال أيضاً مسح فوق الناصية، و لا دلالة لهما على المقام، و هو وجوب إلقاء الخمار بنفسه أو استحبابه أصلًا.

ثمّ إنّ في مسح الرأس أحكاماً أُخر:
الحكم الأوّل: اختصاص موضع المسح بمقدّم الرأس
اشارة

و التحقيق فيه: أنّ المستفاد من الآية الشريفة- و لو بضميمة الرواية المتقدّمة الواردة في تفسيرها «1» هو وجوب مسح بعض الرأس، و حيث إنّها بصدد بيان الوضوء و كيفيّته، فإطلاقها من هذه الجهة، يدلّ علىٰ كفاية المسح بكلّ بعض من أبعاض الرأس؛ بلا فرق بين المقدّم و المؤخّر و الجانبين أصلًا، و لو لم يكن في البين دليل آخر من نصّ أو إجماع، لم يكن بدّ من الأخذ بإطلاق الآية و القول بعدم الفرق بين أبعاضه، و الظاهر أنّه ليس هنا دليل يدلّ بإطلاقه علىٰ ذلك سوى الآية الشريفة؛ لأنّ الروايات الدالّة علىٰ أنّ المسح ببعض الرأس، مسوقة لبيان حكم آخر، مثل رواية زرارة المتقدّمة الواردة في تفسير الآية «2»،

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 448.

(2) تقدّم في الصفحة 448.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)،

ص: 458

المسوقة لبيان الاستدلال علىٰ عدم وجوب الاستيعاب، و غيرها من الروايات الأُخر، و مثل الروايتين المتقدّمتين في مسألة كفاية المسح بالبعض اللتين رواهما زرارة و بكير عن أبي جعفر (عليه السّلام) «1».

و بالجملة: فالإطلاق إنّما يستفاد من خصوص الآية الشريفة.

أدلّة اختصاص المسح بمقدّم الرأس

و لكن الظاهر عدم الخلاف في اختصاص موضع المسح بمقدّم الرأس، و يدلّ عليه أخبار كثيرة:

منها: رواية محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

مسح الرأس علىٰ مقدّمه «2».

و منها: رواية أُخرى له أيضاً قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

امسح الرأس علىٰ مقدّمه «3».

و في بعض النسخ بدل قوله: «امسح» ذكر «المسح»، كما في الرواية الأُولىٰ «4».

و علىٰ تقدير أن يكون «امسح» فتقييد إطلاق الآية بها بمجرّدها مشكل؛ لأنّ البعث لا ينافي الاستحباب لعدم اختلاف البعث في الوجوب و الاستحباب

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 449.

(2) تهذيب الأحكام 1: 62/ 171، الإستبصار 1: 60/ 176، وسائل الشيعة 1: 410، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 22، الحديث 1.

(3) الكافي 3: 29/ 2، وسائل الشيعة 1: 410، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 22، الحديث 2.

(4) تهذيب الأحكام 1: 91/ 241.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 459

أصلًا، و إلزام العقل العبد بإتيان المبعوث إليه، إنّما هو لكونه بمجرّده حجّة عليه تحتاج إلى الجواب، و هنا يكون الإطلاق دليلًا علىٰ عدم الوجوب، و يصحّ للعبد الاحتجاج به على المولى، كما لا يخفى. نعم الرواية الأُولى الظاهرة في أنّ المسح الواجب في الوضوء إنّما هو المسح على المقدّم مقيّدة للإطلاق بلا إشكال.

و منها: مرسلة حمّاد، عن أحدهما (عليهما السّلام): في الرجل يتوضّأ و عليه العمامة؟ قال

يرفع العمامة بقدر ما يدخل إصبعه فيمسح علىٰ

مقدّم رأسه «1».

و الرواية- مضافاً إلىٰ كونها مرسلة مخدوشة من حيث الدلالة؛ لعدم دلالتها علىٰ وجوب المسح علىٰ مقدّم الرأس؛ لكونها مسوقة لبيان عدم وجوب رفع العمامة.

و منها: رواية زرارة الواردة في نقل ما حكاه أبو جعفر (عليه السّلام) من وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) حيث قال بعد ذكر الغسلتين

و مسح مقدّم رأسه «2».

و منها: رواية علي بن يقطين المحكيّة عن «إرشاد المفيد»، و فيها بعد أمره (عليه السّلام) بالوضوء علىٰ وجه التقيّة، و فعله كما أمره (عليه السّلام)، و صلاح حاله عند الرشيد، أنّه كتب إليه

يا عليّ توضّأ كما أمر اللّٰه تعالىٰ؛ اغسل وجهك مرّة واحدة فريضة، و أُخرى إسباغاً، و اغسل يديك من المرفقين، و امسح مقدّم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف عليك «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 450.

(2) الكافي 3: 25/ 4، وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 2.

(3) الإرشاد، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 11، الجزء الثاني: 227 229، وسائل الشيعة 1: 444، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 32، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 460

و قوله (عليه السّلام)

امسح مقدّم رأسك

و إن لم يدلّ على الوجوب بمجرّده- بحيث يقيّد به إطلاق الآية إلّا أنّ سياق الرواية، خصوصاً بملاحظة قوله (عليه السّلام)

توضّأ كما أمر اللّٰه

، يقتضي كونه للوجوب، إلّا أنّ سند الرواية مخدوش؛ من حيث إنّه لا يمكن للمفيد أن يروي عن محمّد بن إسماعيل من دون واسطة، لو كان المراد به هو محمّد بن إسماعيل بن بزيع، مضافاً إلىٰ أنّ محمّد بن الفضل- الذي روىٰ عنه محمّد بن إسماعيل مشترك بين

الثقة و غيرها «1».

و ظاهر بعض الروايات يدلّ علىٰ عدم وجوب المسح علىٰ مقدّم الرأس، و عدم اختصاص موضعه به:

منها: رواية حسين بن عبد اللّٰه، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يمسح رأسه من خلفه و عليه عمامة بإصبعه، أ يجزيه ذلك؟ فقال

نعم «2».

قال الشيخ (قدّس سرّه): لا يمتنع أن يدخل إصبعه من خلفه، و يمسح علىٰ مقدّمه «3».

أقول: هذا الحمل بعيد جدّاً فالأولىٰ حملها على التقيّة، مضافاً إلىٰ عدم كونها صحيحة من حيث السند «4».

و منها: رواية الحسين بن أبي العلاء، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المسح على الرأس؟ فقال

كأنّي أنظر إلىٰ عُكْنة في قفاء أبى يمرُّ يده عليها.

و سألته عن الوضوء بمسح الرأس مقدّمه و مؤخّره؟ فقال

كأنّي أنظر إلى عُكْنة في

______________________________

(1) انظر هداية المحدّثين: 249.

(2) تهذيب الأحكام 1: 90/ 240، الإستبصار 1: 60/ 179، وسائل الشيعة 1: 411، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 22، الحديث 4.

(3) تهذيب الأحكام 1: 91/ 240.

(4) انظر هداية المحدّثين: 194.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 461

رقبة أبي يمسح عليها «1».

و يمكن حملها علىٰ وجوب مسح جميع الرأس، فتكون مخالفة لضرورة فقه الإماميّة، فلا بدّ من حملها على التقيّة.

و منها: رواية أُخرى له أيضاً، قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

امسح الرأس علىٰ مقدّمه و مؤخّره «2».

و ظاهرها أيضاً وجوب مسح الجميع فلا بدّ من الحمل على التقيّة.

و منها: غير ذلك من الروايات الأُخر المحمولة على التقيّة أو المؤوّلة «3».

و بالجملة: فلا إشكال- كما لا خلاف في اختصاص موضع مسح الرأس بمقدّمه، و لا إشكال أيضاً في أنّ المراد بمقدّم الرأس، هو معناه العرفي الذي هو ربع الرأس تقريباً،

و عليه يكون أوسع من الناصية التي هي ما بين النَّزَعَتين من الشعر.

و قد يتوهّم: وجوب مسح خصوص الناصية «4» لبعض الروايات مثل رواية زرارة المتقدّمة في المسألة السابقة الدالّة علىٰ أنّه تمسح ببلّة يمناك ناصيتك «5»، و رواية حسين بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المتقدّمة، الدالّة علىٰ وجوب وضع الخمار عن الرأس في وضوء صلاة الصبح،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 91/ 242، الإستبصار 1: 61/ 180، وسائل الشيعة 1: 411، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 22، الحديث 5.

(2) تهذيب الأحكام 1: 62/ 170، وسائل الشيعة 1: 412، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 22، الحديث 6.

(3) الكافي 3: 72/ 11، وسائل الشيعة 1: 412، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 22، الحديث 7.

(4) الحدائق الناضرة 2: 254، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 361.

(5) تقدّم في الصفحة 453.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 462

و المسح بالناصية في سائر الصلوات «1».

و لكنّه لا يخفى أنّ الرواية الأُولىٰ مسوقة لبيان وجوب كون المسح ببلّة اليمنىٰ، لا وجوب كونه على الناصية، و علىٰ تقدير كونها في مقام البيان من هذه الجهة أيضاً، لا يمكن الأخذ بظاهرها الدالّ علىٰ وجوب مسح مجموع الناصية، كما هو ظاهر، و الرواية الثانية علىٰ خلاف مطلوبهم أدلّ؛ لأنّ ظاهرها أنّ المسح على الناصية، إنّما هو فيما اقتضت الضرورة، و الكُلفة الحاصلة بإلقاء الخمار تعذّر المسح علىٰ ما فوقها، فظاهرها أنّ الموضع الأصلي هو مسح ما فوق الناصية، و لذا ذكرنا سابقاً: أنّ مفاد هذه الرواية وجوب المسح علىٰ ما فوقها على الرجال أو استحبابه «2»، كما لا يخفى.

فالروايتان أجنبيّتان عن الدلالة علىٰ مسح خصوص الناصية، فلا يصحّ أن يقيّد

بهما إطلاق أدلّة وجوب المسح علىٰ مقدّم الرأس.

و أضعف من ذلك تفسير الناصية بالمقدّم- كما حكاه صاحب «الحدائق» عن بعض معاصريه «3» لظهور أنّها- بحسب اللغة أخصّ من مقدّم الرأس، و التمسّك لذلك بالروايتين فيه ما عرفت، بل الرواية الثانية صريحة في خلاف ذلك.

الحكم الثاني: وجوب المسح بنداوة الوضوء
اشارة

يجب أن يكون المسح بنداوة الوضوء، و لا يجوز استئناف ماء جديد، و هذه المسألة من المسائل المهمّة التي وقع الخلاف فيها بين المسلمين العامّة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 452 453.

(2) تقدّم في الصفحة 457.

(3) الحدائق الناضرة 2: 254 257.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 463

و الخاصّة، فإنّ المحكيّ «1» عن أهل الخلاف: أنّهم أوجبوا المسح بماء جديد «2» إلّا مالك، فإنّه حكم باستحباب ذلك و جواز غيره «3».

و لكن المشهور- بل المجمع عليه بين الشيعة خلاف ذلك «4»؛ و أنّه لا يجوز المسح بماء جديد. نعم قد نُسب إلى ابن الجُنَيد الخلاف «5».

أدلّة لزوم المسح بنداوة الوضوء

و لكن الأخبار الواردة عن العترة الطاهرة- صلوات اللّٰه عليهم أجمعين مستفيضة بل متواترة كلّها تدلّ علىٰ لزوم المسح بنداوة الوضوء:

منها: ما في غير واحد من الأخبار البيانيّة من التصريح: بأنّه (عليه السّلام) مسح رأسه ببلّة يده، أو بفضل يديه، أو ببلل كفّه، أو بغيرها من العبارات، فإنّ ذكر هذه الخصوصيّة يدلّ علىٰ كونها مقصودة للرواة؛ بحيث كانوا بصدد بيانها، بل في بعضها وقع التصريح بأنّه «لم يُحدث لهما يعني لمسح الرأس و القدمين ماءً جديداً» «6».

و لكن يمكن أن يقال: إنّ ذكر هذه الخصوصيّة في مقابل الفتوىٰ بوجوب

______________________________

(1) الخلاف 1: 80، المسألة 22، جواهر الكلام 2: 181.

(2) سنن الترمذي 1: 26، بداية المجتهد 1: 13، المغني، ابن قدامة 1: 117، الشرح الكبير، ذيل المغني 1: 138، المجموع 1: 401.

(3) الخلاف 1: 80، المسألة 28.

(4) الانتصار: 19 20، الخلاف 1: 80 81، ذكرى الشيعة 2: 138، جامع المقاصد 1: 222، جواهر الكلام 2: 181.

(5) المعتبر 1: 147، مختلف الشيعة 1: 128، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 364 365.

(6) وسائل الشيعة

1: 392، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 464

كونه بماء جديد، لا يدلّ إلّا علىٰ مجرّد جواز كون المسح بنداوة الوضوء و عدم لزوم استئناف ماء جديد، و أمّا تعيّن ذلك- كما هو المطلوب فلا يستفاد منها أصلًا.

و التمسّك لإثبات التعيّن «1» بقوله (عليه السّلام) في ذيل بعض هذه الروايات

إنّ هذا وضوء لا يقبل اللّٰه الصلاة إلّا به «2»

، قد عرفت ما فيه سابقاً: من أنّ الصدوق ذكرها في «الفقيه» في ذيل رواية أُخرى؛ حيث قال فيها: قال الصادق (عليه السّلام)

إنّه ما كان وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلّا مرّة مرّة، و توضّأ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) مرّة مرّة فقال: هذا وضوء لا يقبل اللّٰه الصلاة إلّا به «3»

، و حينئذٍ فالمشار إليه بكلمة «هذا» هو الوضوء مرّة مرّة، فلا ربط لها بالمقام.

و منها: ما في خبر زرارة من أنّ أبا جعفر (عليه السّلام) قال

إنّ اللّٰه وتر يحبّ الوتر، فقد يُجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه، و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلّة يمناك ناصيتك، و ما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنىٰ، و تمسح ببلّة يسارك ظهر قدمك اليسرىٰ «4»

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 464

الحديث.

و أنت خبير: بأنّ المستفاد من هذه الرواية جواز المسح ببلّة اليد؛ لأنّ التعبير بكلمة «يُجزيك» يدلّ علىٰ كفاية هذا الأمر، و لا ينافي كفاية غيره لو لم نقل بظهوره في ذلك، خصوصاً مع التعبير:

بأنّ اللّٰه وتر يحب الوتر، الظاهر في مجرّد محبوبيّة ذلك، و خصوصاً مع وقوعه مقابلًا لفتوى العامّة بوجوب خلافه، كما هو ظاهر.

و منها: رواية علي بن يقطين المتقدّمة- المحكيّة عن «إرشاد المفيد»

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 367.

(2) وسائل الشيعة 1: 438، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 11.

(3) تقدّم في الصفحة 422.

(4) تقدّم في الصفحة 453، 459.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 465

المشتملة على الأمر بالمسح بنداوة الوضوء؛ حيث قال (عليه السّلام)

و امسح مقدّم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك «1».

فإنّ مجرّد البعث إلى المسح بنداوة الوضوء، و إن لم يكن ظاهراً في الوجوب- علىٰ ما تقدّم فلا يصحّ أن يقيّد به إطلاق الآية الشريفة، الدالّة علىٰ مجرّد وجوب المسح ببعض الرأس؛ من غير تقييد بكونه بنداوة الوضوء، إلّا أنّ قوله في الصدر: «توضّأ كما أمر اللّٰه تعالىٰ» ظاهر في أنّ الوضوء المأمور به من اللّٰه تعالىٰ، عبارة عمّا بيّنه (عليه السّلام) بقوله بعد ذلك، فغيره لا يكون مأموراً به أصلًا، إلّا أنّك عرفت أنّ سند الرواية مخدوش «2».

و منها: صحيحة عمر بن أُذينة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المتضمّنة لقصّة وضوء النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) لما اسري به إلى السماء، و فيها: «ثمّ أوحى اللّٰه إليه: أن اغسل وجهك، فإنّك تنظر إلىٰ عظمتي، ثمّ اغسل ذراعيك اليمنىٰ و اليسرى، فإنّك تلقىٰ بيدك كلامي، ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء» «3»، و قوله (عليه السّلام): «امسح» و إن كان مجرّد بعث لا ينافي الاستحباب، إلّا أنّ قرينة السياق تقتضي الحمل على الوجوب، كما هو ظاهر.

و منها: رواية خلف بن حمّاد،

عمن أخبره، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت له: الرجل ينسىٰ مسح رأسه و هو في الصلاة؟ قال

إن كان في لحيته بلل فليمسح به.

قلت: فإن لم يكن له لحية؟ قال

يمسح من حاجبيه أو أشفار عينيه «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 459.

(2) تقدّم في الصفحة 460.

(3) الكافي 3: 485/ 1، وسائل الشيعة 1: 390، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 5.

(4) تهذيب الأحكام 1: 59/ 165، الإستبصار 1: 59/ 175، وسائل الشيعة 1: 407، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 466

و هذه الرواية- مضافاً إلىٰ كونها مخدوشة من حيث السند «1» لا تدلّ علىٰ تعيّن ذلك؛ لاحتمال أن يكون وجوب المسح ببلل اللحية لكونه في الصلاة؛ إذ- حينئذٍ لا يكون قادراً على المسح بالماء الجديد نوعاً، كما هو واضح.

و منها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: «و يكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك فتمسح به مقدّم رأسك» «2».

و دلالتها على المدّعىٰ ممنوعة، كما هو ظاهر.

و منها: رواية زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في الرجل ينسىٰ مسح رأسه حتّى دخل في الصلاة؟ قال

إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه و رجليه، فلْيفعل ذلك و لْيصلِّ «3»

الحديث.

و دلالتها على المطلوب أيضاً ممنوعة.

و منها: رواية مالك بن أعين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

من نسي مسح رأسه، ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه، فإن كان في لحيته بلل فلْيأخذ منه و لْيمسح رأسه، و إن لم يكن في لحيته بلل فلْينصرف وَ لْيُعد الوضوء «4».

______________________________

(1) رواها الشيخ الطوسي بإسناده،

عن سعد بن عبد اللّٰه، عن موسى بن جعفر بن وهب، عن الحسن بن علي الوشاء، عن خلف بن حمّاد، عمن أخبره. و الرواية مضافاً إلى إرسالها ضعيفة بموسى بن جعفر؛ فإنّه إمامي مجهول.

راجع رجال النجاشي: 406/ 1077، رجال الطوسي: 449/ 127، الفهرست: 162/ 717.

(2) الكافي 3: 34/ 3، تهذيب الأحكام 1: 101/ 263، وسائل الشيعة 1: 408، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 2.

(3) تهذيب الأحكام 2: 89/ 235، الإستبصار 1: 74/ 229، وسائل الشيعة 1: 408، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 3.

(4) تهذيب الأحكام 2: 201/ 788، وسائل الشيعة 1: 409، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 467

و دلالتها على المطلوب قويّة جدّاً.

و احتمال: كون الأمر بالإعادة لفوات الموالاة في صورة الجفاف «1».

مدفوع: بأنّ فوتها لا يدور مدار الجفاف، بل يمكن تحقّقها بدونه، كما يمكن العكس، بل هو الواقع غالباً في بلد المدينة و نظائرها من البلاد الحارّة.

و منها: مرسلة الصدوق، قال: قال الصادق (عليه السّلام)

إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه و علىٰ رجليك من بلّة وضوئك، فإن لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي ء، فخذ ما بقي منه في لحيتك، و امسح به رأسك و رجليك، و إن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك و أشفار عينيك، و امسح به رأسك و رجليك، فإن لم يبقَ من بِلّة وضوئك شي ء أعدت الوضوء «2».

و دلالتها أيضاً على المدّعىٰ واضحة؛ لأنّه لا مجال لهذه التكلّفات لو كان المسح بالماء الجديد جائزاً.

و الاحتمال المذكور في الرواية السابقة مدفوع بما تقدّم.

و الخدشة في سندها بأنّها مرسلة، مدفوعة: بأنّ هذا النحو من المرسلات،

التي أُسند مضمونها إلى الإمام (عليه السّلام) من غير إسناد إلى الرواية و النقل، لا يقصر عن المسندات، بل يكون هذا النحو شهادة بوثاقة الرواة الواقعين في طريقها؛ بحيث يكون الناقل مطمئنّاً بصدورها، و لذا أسندها إليه (عليه السّلام).

و توهّم: كون ثبوت الوثاقة عنده لا يُجدي لنا؛ لأنّه من الممكن أن لا يكون

______________________________

(1) انظر مستند الشيعة 2: 133، جواهر الكلام 2: 183، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 368.

(2) الفقيه 1: 36/ 134، وسائل الشيعة 1: 409، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 468

موثّقاً عندنا؛ لعثورنا على الجرح الذي لم يطّلع الناقل عليه «1».

مدفوع: بأنّ هذا الاحتمال لا يجري في مثل هذه الرواية، التي يكون ناقلها مثل الصدوق الذي كان قريب العهد بزمان الأئمّة (عليهم السّلام)، و لم يكن علمه بحال الرواة مستنداً إلى الاجتهاد المحتمل للخطإ.

مضافاً إلىٰ أنّ توثيق الصدوق لا يقصر عن توثيق النجاشي و غيره من أئمّة علم الرجال.

و بالجملة: فالظاهر أنّ رفع اليد عن مثل هذه الرواية- للمناقشة في سندها بالإرسال لا يجوز أصلًا.

و منها: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في رجل نسي مسح رأسه. قال

فليمسح.

قال: لم يذكره حتّى دخل في الصلاة؟ قال

فليمسح رأسه من بلل لحيته «2».

و دلالتها على المدّعىٰ ممنوعة، كما هو ظاهر.

و لكنّه قد عرفت في صدر المسألة: أنّ هذا الحكم يكون كالضروري بين الإماميّة؛ بحيث لا يحتاج إلىٰ إقامة الدليل عليه «3».

حول الروايات الدالّة علىٰ لزوم كون المسح بماء جديد

و لكن قد وردت هنا روايات تدلّ علىٰ لزوم كون المسح بماء جديد، و لكنّها مؤوّلة أو محمولة على التقيّة

______________________________

(1) مقباس الهداية 1: 360، مستمسك العروة الوثقىٰ 11: 211، مصباح الاصول

2: 519- 520.

(2) الفقيه 1: 36/ 135، وسائل الشيعة 1: 410، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 9.

(3) تقدّم في الصفحة 463.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 469

منها: رواية أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام)؛ قلت: أمسح بما على يدي من الندى رأسي؟ قال

لا، بل تضع يدك في الماء ثمّ تمسح «1».

و منها: رواية معمّر بن خلّاد، قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام): أ يجزي الرجل أن يمسح قدميه بفضل رأسه؟ فقال برأسه

لا.

فقلت: أ بماء جديد؟ فقال برأسه

نعم «2».

و وجّهها في «الوافي» بأنّ إيماءه (عليه السّلام) برأسه نهيٌ لمعمّر بن خلاد عن هذا السؤال؛ لئلّا يسمعه المخالفون الحاضرون في المجلس، فإنّهم كانوا كثيراً ما يحضرون مجالسهم (عليهم السّلام)، فظنّ معمّر أنّه (عليه السّلام) نهاه عن المسح ببقيّة البلل، فقال: أ بماء جديد؟ فسمعه الحاضرون، فقال برأسه

نعم

، و مثل هذا يقع في المحاورات كثيراً «3».

و منها: رواية جعفر بن عمارة بن أبي عمارة، قال: سألت جعفر بن محمّد (عليهما السّلام): أمسح رأسي ببلل يدي؟ قال

خذ لرأسك ماءً جديداً «4».

قال الشيخ (قدّس سرّه): الوجه فيه التقيّة؛ لأنّ رواته رجال العامّة و الزيديّة «5».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 59/ 164، الإستبصار 1: 59/ 174، وسائل الشيعة 1: 408، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 4.

(2) تهذيب الأحكام 1: 58/ 163، الإستبصار 1: 58/ 173، وسائل الشيعة 1: 409، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 5.

(3) الوافي 6: 291.

(4) تهذيب الأحكام 1: 59/ 166، وسائل الشيعة 1: 409، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 6.

(5) رواها الشيخ الطوسي بإسناده، عن أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة،

عن فضل بن يوسف، عن محمّد بن عكاشة، عن جعفر بن أبي عمارة.

و أحمد بن محمّد بن سعيد بن عقدة من الزيديّة و الباقي من رجال العامّة.

تهذيب الأحكام 1: 59/ 166، رجال النجاشي: 94/ 233، الفهرست: 28/ 76.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 470

و منها: رواية أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في رجل نسي أن يمسح على رأسه، فذكر و هو في الصلاة؟ فقال

إن كان استيقن ذلك، انصرف فمسح على رأسه و علىٰ رجليه، و استقبل الصلاة، و إن شكّ فلم يدرِ مسح أو لم يمسح، فلْيتناول من لحيته إن كانت مبتلّة، و لْيمسح علىٰ رأسه، و إن كان أمامه ماء فليتناول منه فليمسح به علىٰ رأسه «1».

و هذه الرواية- مضافاً إلىٰ كونها مخدوشة من حيث السند «2» غير ظاهرة الدلالة علىٰ جواز المسح بالماء الجديد؛ لاحتمال كون المراد بقوله: «انصرف فمسح علىٰ رأسه» هو الانصراف ثمّ التوضّي ثانياً، و على كلا التقديرين يعارضها الأخبار المتقدّمة، الدالّة علىٰ عدم وجوب التوضّي ثانياً و عدم وجوب الانصراف لأجل المسح، بل يكفي المسح ببلّة اليد ثمّ اللحية ثمّ الحاجبين و أشفار العينين «3».

ثمّ إنّ ذيل الرواية- الظاهر في وجوب المسح في صورة الشكّ فيه مخالف لصريح أخبار التجاوز و الفراغ الواردة في الوضوء «4»، مضافاً إلىٰ مخالفته

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 2: 201/ 787، وسائل الشيعة 1: 471، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42، الحديث 8.

(2) رواها الشيخ الطوسي بإسناده، عن الحسين بن سعيد، عن محمّد بن سنان، عن ابن مسكان، عن أبي بصير. و الرواية ضعيفة بمحمّد بن سنان.

راجع رجال النجاشي: 328/ 888، اختيار معرفة الرجال: 322/ 977، و 507/ 980.

(3) تقدّم

في الصفحة 466، 467.

(4) راجع وسائل الشيعة 1: 469، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 42.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 471

لفتاوي الأصحاب أيضاً، إلّا أن يحمل الأمر فيها على الاستحباب.

و كيف كان، فقد عرفت: أنّ هذا الحكم صار من الوضوح؛ بحيث لا يحتاج إلىٰ تكلّف إقامة الدليل عليه، فالأخبار الظاهرة في خلافه لا بدّ من حملها على التقيّة لو لم تقبل التأويل.

الحكم الثالث: اختصاص الماسح باليد

لا يجوز المسح بما عدا اليد مطلقاً؛ لقيام الإجماع- بل الضرورة علىٰ ذلك «1».

و قد وقع الخلاف بعد ذلك في أنّه هل يجب أن يكون بباطن الكفّ، أو يجوز بظاهره أيضاً و بالذراع مثلًا؟ و على التقديرين هل يجب أن يكون باليد اليُمنىٰ، أو يجوز باليسرى أيضاً؟

و غير خفيّ أنّ الآية الشريفة «2» مطلقة من هذه الجهات، و لا دلالة فيها علىٰ آلة المسح بوجه؛ و لو بعد تقييدها بكون المسح ببقيّة بلل الوضوء؛ إذ يمكن أخذ البلل بشي ء آخر، ثم إمراره على الرأس؛ بحيث يتأثّر بسببه.

و دعوى: عدم إمكان الأخذ بإطلاق الآية؛ لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن عقلًا، و لا يمكن الالتزام بإهمالها أيضاً، فلا بدّ من الالتزام بأنّ تعيين آلة المسح موكول إلىٰ ما هو المعهود المتعارف فلا يحتاج معرفتها إلىٰ بيان خارجي «3».

مدفوعة: بأنّ مثل هذا المورد من الموارد التي وقع فيها الخلط بين التخصيص و التقييد، فإنّ ما هو المستهجن في باب التخصيص- الذي يكون

______________________________

(1) الحدائق الناضرة 2: 287، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 370.

(2) المائدة (5): 6.

(3) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 370.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 472

المقصود فيه إخراج بعض الأفراد عن حكم العامّ إنّما هو إخراج أكثر الأفراد؛ سواء كان الإخراج واحداً أو متعدّداً.

و أمّا

باب التقييد فمدار الاستهجان فيه علىٰ كثرة المقيّدات؛ بحيث بلغت من الكثرة حدّا موجباً للاستهجان بنظر العقل، و أمّا إذا كان المقيّد واحداً، فلا قبح فيه و لو كانت الأفراد الخارجة بسببه أكثر من مصاديق الطبيعة المقيّدة، بل و لو بقي منها واحد.

و السرّ فيه ما عرفت: من أنّ الحكم في باب المطلق، إنّما تعلّق بنفس الطبيعة، و لا نظر فيه إلى الأفراد أصلًا، فكثرة الأفراد الخارجة بسبب التقييد و عدمها لا تصير موجبة للاستهجان و عدمه؛ أ لا ترى أنّه لو قال: أعتق رقبة، ثمّ قال: لا تعتق رقبة كافرة، لا يكون ذلك مستهجناً بوجه؛ و لو فرض قلّة أفراد الرقبة المؤمنة بالإضافة إلى الكافرة. نعم ربما يقبح ذلك لو قيّد بقيود كثيرة كما عرفت.

و في المقام نقول: إنّ التقييد بلزوم كون المسح باليد تقييد واحد لا قبح فيه أصلًا، كما أنّ لزوم التقييد بكون المسح ببقيّة بلل الوضوء، لا يوجب قبح غيره من التقييدات و لو لم يبلغ من الكثرة حدّ الاستهجان.

و ممّا ذكرنا من وقوع الخلط بين البابين في بعض الموارد ظهر: أنّ دعوى انصراف إطلاق الآية إلى الأفراد المتعارفة، و هو المسح بباطن الكفّ «1».

مندفعة: لأنّ تعارف الأفراد و عدمه لا ارتباط له بباب الإطلاق الذي يكون متعلَّق الحكم فيه هو نفس الطبيعة، بل الوجه في دعوى الانصراف هو ادّعاء الانصراف إلىٰ بعض القيود، فلو كان القيد علىٰ نحو يوجب انصراف الطبيعة المطلقة إلى الطبيعة المقيّدة، لصحّ دعوى الانصراف، و إلّا فمجرّد

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 370 371.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 473

ترجيح بعض الأفراد على البعض الآخر بالتعارف و عدمه، لا يوجب صحّة دعواه، كما هو

واضح.

و لا يخفىٰ أنّ ادّعاء تحقّق هذا النحو من الانصراف في المقام مشكل، فالآية الشريفة- مع قطع النظر عن الإجماع يكون مقتضىٰ إطلاقها كفاية المسح بأيّة آلة كانت، و لكن الإجماع قام علىٰ وجوب المسح باليد «1»، فإطلاقها بالنسبة إلىٰ أجزاء اليد من الكفّ و الزند و الذراع باقٍ علىٰ حاله، كما أنّه لا دليل علىٰ تقييدها باليد اليمنىٰ أيضاً، و قوله (عليه السّلام) في صحيحة زرارة

و تمسح ببلّة يمناك ناصيتك

، لا يدلّ على الوجوب كما عرفت «2». فالأقوىٰ- كما هو المشهور «3» كفاية المسح باليسرى أيضاً.

ثمّ إنّه لو تعذّر المسح بباطن الكفّ- لمرض و شبهه فلا إشكال- بناءً علىٰ ما ذكرنا في وجوب المسح بباقي أجزاء اليد من غير ترتيب و ترجيح لظاهر الكفّ على الذراع.

و أمّا بناءً علىٰ لزومه في صورة الاختيار فيشكل بقاء المسح علىٰ وجوبه، إلّا أن يقال بانصراف الآية إلىٰ ما هو المتعارف، و هو يختلف باختلاف الأشخاص، فالمتعارف في حقّ القادر المسح بباطن الكفّ، و في حقّ العاجز عنه المسح بظاهره أو بالذراع، و في حقّ العاجز عن المسح بالكفّ رأساً هو المسح بالذراع. و التمسّك بالاستصحاب أو بقاعدة الميسور «4» مدفوع بما تقدّم.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 417.

(2) تقدّم في الصفحة 464.

(3) الحدائق الناضرة 2: 287، انظر جواهر الكلام 2: 184، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 376 377، مستمسك العروة الوثقىٰ 2: 371 372.

(4) جواهر الكلام 2: 185 186، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 375.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 474

و هل يتعيّن عليه حين العجز عن المسح بالباطن المسح بالظاهر أو يكفي بالذراع؟ وجهان:

لا دليل على الأوّل أصلًا، فالأقوى بناءً علىٰ هذا القول التخيير أيضاً كما لا يخفىٰ.

ثمّ

إنّ المتفاهم عرفاً من الأمر بمسح الرأس ببلل الوضوء، وجوب إيصاله إليه و تأثّره به، فيعتبر في اليد أن تكون مشتملة على رطوبة مُسرية كانت من بقيّة بلل الوضوء؛ لأنّ التعبير الواقع في الأخبار هو المسح بالبلّة، و لا يصدق ذلك مع عدم التأثّر بها، و هذا التعبير يغاير التعبير بالمسح باليد المبتلّة، فإنّه يمكن المناقشة فيه: بعدم دلالته علىٰ لزوم إيصالها إليه؛ و إن كانت مدفوعة: بكون المتفاهم عرفاً منه أيضاً ذلك، كما هو واضح.

و حيث اعتبر أن تكون الرطوبة من بقيّة بلل الوضوء، فلو امتزجت برطوبة خارجيّة غالبة بحيث انتفىٰ صدق بلّة الوضوء، فلا شبهة في عدم كفاية المسح بها ما لم تستهلك في الرطوبة الأصليّة، و حينئذٍ فلا يجوز المسح بعد الغسلة الثالثة التي ليست من الوضوء، و كذا المسح بالبلّة الباقية في اليد، بعد غسلها بطريق الارتماس فيما إذا نوى الغسل بإدخالها فيه أو بالمكْث في الماء، و أمّا لو نوىٰ غسلها بإخراجها من الماء فلا إشكال في الجواز أصلًا.

ثمّ إنّه حيث اعتبر إيصال بلّة الوضوء إلى الرأس و تأثّره بها، فلا يجوز المسح إلّا بعد تنشيف المحلّ لو كان رطباً، و إلّا يلزم أن يكون المسح بغير بلّة الوضوء.

ثمّ إنّه لو كانت البلّة الباقية كثيرة بحيث توجب غسل المحلّ عرفاً، فهل تجوز نيّة المسح به؛ بأن يكون المقصود تحقّقه في ضمن الغسل أو لا؟

الظاهر العدم لأنّ الغسل و المسح مفهومان متضادّان، فمع تحقّق أحدهما يمتنع تحقّق الآخر، فتدبّر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 475

الحكم الرابع: أنّه لو جفّ ما علىٰ يديه أخذ من لحيته
اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «و لو جفّ ما علىٰ يديه أخذ من لحيته أو أشفار عينيه» «1».

أقول: ينبغي أن يُتكلّم أوّلًا: في أنّ

جواز الأخذ من اللحية أو من أشفار العينين، مشروط بجفاف ما علىٰ يديه، أو أنّ المعتبر المسح بنداوة الوضوء و بلله؛ سواء كانت في اليد أو في سائر مواضع الوضوء، و لا يكون ترجيح لبلّة اليد على غيرها من البلَل الموجودة في بقيّة المواضع؟

فنقول: مقتضىٰ إطلاق الآية الشريفة- و لو بعد تقييدها بنداوة الوضوء جواز المسح بالنداوة أيّة نداوة كانت.

و دعوى الانصراف إلىٰ خصوص النداوة الباقية في اليد «2»، ممنوعة جدّاً.

و أضعف منها تأييد هذه الدعوى بلزوم كون الآلة هي اليد «3»؛ إذ لا منافاة بين تعيّن اليد للآليّة، و بين جواز أخذ البلل من سائر المواضع ثم المسح باليد، كما هو ظاهر.

حول الأخبار الواردة في المقام

و مع قطع النظر عن إطلاق الآية لا يكون في البين ما يستفاد منه الإطلاق من الأخبار؛ لإمكان المناقشة في إطلاقها؛ لأنّ منها

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 13.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 382.

(3) انظر نفس المصدر.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 476

ما عن أبي إسحاق، عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)- في عهده إلى محمّد بن أبي بكر لمّا ولّاه مصر من قوله

و انظر إلى الوضوء، فإنّه من تمام الصلاة: تمضمض ثلاث مرّات، و استنشق ثلاثاً، و اغسل وجهك، ثمّ يدك اليمنىٰ، ثمّ اليسرى، ثمّ امسح رأسك و رجليك، فإنّي رأيت رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) يصنع ذلك، و اعلم أنّ الوضوء نصف الإيمان «1».

فإنّ الظاهر أنّ المقصود من قوله: «امسح رأسك و رجليك»، هو بيان وجوب مسح الرجلين كالرأس، فلا تكون بصدد البيان من سائر الجهات.

و منها: ما رواه علي بن الحسين الموسوي المرتضىٰ في «رسالة المحكم و المتشابه»، نقلًا من «تفسير النعماني» بإسناده المذكور في

آخر «الوسائل» «2» عن إسماعيل بن جابر، عن الصادق، عن آبائه، عن أمير المؤمنين (عليهم السّلام) في حديث، قال

و المحكم من القرآن ممّا تأويله في تنزيله، مثل قوله تعالىٰ يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرٰافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، و هذا من المحكم الذي تأويله في تنزيله؛ لا يحتاج تأويله إلىٰ أكثر من التنزيل.

ثمّ قال

و أمّا حدود الوضوء فغسل الوجه و اليدين، و مسح الرأس و الرجلين، و ما يتعلّق بها و يتّصل سُنّة واجبة علىٰ من عرفها و قدر علىٰ فعلها «3».

______________________________

(1) أمالي الطوسي: 29، وسائل الشيعة 1: 397، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 19.

(2) خاتمة وسائل الشيعة 30: 144/ 52.

(3) وسائل الشيعة 1: 399، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 23.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 477

و هذه الرواية- مضافاً إلىٰ كونها مخدوشة من حيث السند محتملة لأن يكون المقصود بها بيان حدود الوضوء في مقابل الأُمور الخارجة عنها، كالمضمضة و الاستنشاق و نحوهما، و لا يكون لها إطلاق بالنسبة إلىٰ كيفيّة الغسل و المسح و سائر الأُمور المتعلّقة بهما أصلًا.

و منها: رواية علي بن يقطين المتقدّمة المشتملة على قوله (عليه السّلام)

و امسح مقدّم رأسك و ظاهر قدميك من فضل نداوة وضوئك، فقد زال ما كنّا نخاف عليك «1».

و أنت خبير: بأنّ المقصود منها بيان كيفيّة الوضوء على النحو المعروف بين الإماميّة؛ في مقابل الوضوء المتعارف بين العامّة، و الحكم بوجوبه على النحو الأوّل لزوال التقيّة، فلا تعرّض فيها لهذه الجهة.

و منها: غيرها من الأخبار غير الخالية من المناقشة في إطلاقها، كصدر مرسلة الصدوق الآتية «2».

و

لكن بعد ثبوت إطلاق الآية كما عرفت لا حاجة إلىٰ شي ء منها، فلا بدّ في رفع اليد عن إطلاقها من إقامة دليل على التقييد.

الأخبار المقيّدة لإطلاق الآية

و نقول: ما يمكن أن يكون مقيداً لإطلاق الآية عدّةٌ من الأخبار:

منها: الأخبار البيانيّة المشتملة أكثرها علىٰ أنّ الإمام (عليه السّلام) مسح ببقيّة بلل يده «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 459 و 465.

(2) يأتي في الصفحة 481.

(3) انظر وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 478

و لا يخفىٰ أنّه لا يستفاد منها تعيّن ذلك؛ لاحتمال أن يكون المسح ببلل اليد لكونه أحد أفراد الواجب، و هو المسح ببلل الوضوء مطلقاً، مضافاً إلىٰ أنّه لا حاجة إلى الأخذ من اللحية و نحوها بعد وجود بلّة اليد.

و منها: صحيحة زرارة، قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إنّ اللّٰه وِتْر يحبّ الوتر، فقد يُجزيك من الوضوء ثلاث غرفات: واحدة للوجه و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلّة يمناك ناصيتك «1»

الحديث.

و دلالتها علىٰ وجوب المسح ببلّة اليمين مبنيّة علىٰ أن يكون قوله (عليه السّلام): «و تمسح»، عطفاً علىٰ قوله: «يُجزيك»، فلا يكون من تتمّة الحكم المذكور في الصدر، بل هو حكم مستقلّ، و أمّا إذا كان عطفاً علىٰ فاعل «يُجزيك»؛ بحيث يكون مؤوّلًا بالمصدر، فيكون متفرّعاً علىٰ كفاية ثلاث غرفات، و من الواضح أنّه غير واجب، بل هو أقلّ مراتب الإجزاء، فلا يدلّ علىٰ عدم كفاية غيره.

و بالجملة: يكون المقصود- حينئذٍ كفاية المسح بالبلّة و عدم الاحتياج إلى الزائد عن ثلاث غرفات. و قد عرفت أنّه لا يدلّ علىٰ وجوب المسح بالبلّة، فضلًا عن لزوم كونها من اليد، و لا ترجيح للاحتمال الأوّل؛ لو لم نقل بترجيح الثاني لكونه

أظهر.

مضافاً إلىٰ أنّه على الأوّل أيضاً تمكن المناقشة في تقييدها للآية الشريفة، و وجهها ما عرفت: من أنّ الأمر إنّما يدلّ علىٰ نفس البعث «2»، و لا يكون ظاهراً في الوجوب، خصوصاً مع قيام الدليل- و هو الإطلاق علىٰ خلافه.

و منها: صحيحة عمر بن أُذينة المتقدّمة «3»، المشتملة علىٰ وحي اللّٰه

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 453، 464، 473.

(2) تقدّم في الصفحة 458، 465.

(3) تقدّمت في الصفحة 465.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 479

تعالىٰ إلىٰ نبيّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بقوله

اغسل وجهك ..

إلىٰ أن قال

ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء.

و لكن يحتمل أن يكون ذكر القيد لأجل جريان العادة بالمسح ببلل اليد؛ لعدم الاحتياج نوعاً إلى الأخذ من اللحية و سائر المواضع، كما هو ظاهر.

و منها: مرسلة خلف بن حمّاد- المتقدّمة «1» عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: قلت له: الرجل ينسىٰ مسح رأسه و هو في الصلاة؟ قال

إن كان في لحيته بلل فليمسح به.

قلت: فإن لم يكن له لحية؟ قال

يمسح من حاجبيه و أشفار عينيه.

و هذه الرواية- مضافاً إلىٰ ضعف بعض رواتها «2»، و إلى الإرسال في سندها مخدوشة من حيث الدلالة؛ لأنّه لا يظهر منها أنّ جواز الأخذ من اللحية مشروط بصورة النسيان، الملازمة لجفاف رطوبة اليد نوعاً، بل حيث إنّ الراوي فرض هذه الصورة أجابه (عليه السّلام) بالمسح ببلل اللحية، و لا دلالة في ذلك على الاختصاص بهذه الصورة.

و يؤيّده ما في ذيل الرواية: من أنّه يمسح من حاجبيه فيما إذا لم يكن له لحية، مع أنّه لم يقل أحد: بأنّ جواز الأخذ من الحاجب مشروط بعدم اللحية أو جفاف

بلّتها.

و منها: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إذا ذكرت و أنت في صلاتك أنّك قد تركت شيئاً من وضوئك ..

إلىٰ أن قال

و يكفيك من مسح رأسك أن تأخذ من لحيتك بللها إذا نسيت أن تمسح رأسك، فتمسح به مقدّم

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 465.

(2) و هو موسى بن جعفر بن وهب، فإنّه إمامي مجهول. راجع ما تقدّم في الصفحة 466، الهامش 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 480

رأسك «1».

و هذه الرواية أظهر ما في الباب؛ من حيث الدلالة علىٰ أنّ جواز الأخذ من اللحية- و سائر المواضع مشروط بجفاف اليد المتحقّق نوعاً في صورة نسيان المسح؛ لأنّه لو كان الأخذ من اللحية غير مشروط بصورة النسيان، لما كان وجه لفرض هذه الصورة، خصوصاً مع تكراره ثانياً و إلقائه بنحو القضيّة الشرطيّة؛ فإنّها و إن لم يكن لها مفهوم- كما حقّقناه في الأُصول «2» إلّا أنّ ظهورها في مدخليّة الشرط في ترتّب الجزاء ممّا لا إشكال فيه.

فالإنصاف: تماميّة الرواية من حيث السند و الدلالة.

و منها: رواية زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في الرجل ينسىٰ مسح رأسه حتّى دخل في الصلاة. قال

إن كان في لحيته بلل بقدر ما يمسح رأسه و رجليه، فليفعل ذلك و ليُصلِّ «3»

الحديث.

و يرد على الاستدلال بها ما أوردناه على المرسلة المتقدّمة.

و منها: رواية مالك بن أعيَن، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

من نسي مسح رأسه ثمّ ذكر أنّه لم يمسح رأسه، فإن كان في لحيته بلل فليأخذ منه و لْيمسح رأسه، و إن لم يكن في لحيته بلل فلينصرف و لْيُعِد الوضوء «4».

______________________________

(1) الكافي 3: 34/ 3، تهذيب الأحكام 1: 101/ 263،

وسائل الشيعة 1: 408، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 2.

(2) انظر مناهج الوصول 2: 182 187، تهذيب الأُصول 1: 428 431.

(3) تهذيب الأحكام 1: 89/ 235، الإستبصار 1: 74/ 229، وسائل الشيعة 1: 408، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 3.

(4) تهذيب الأحكام 2: 201/ 788، وسائل الشيعة 1: 409، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 7، و تقدّم في الصفحة 466.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 481

و هذه الرواية- مضافاً إلىٰ كونها ضعيفة؛ لضعف مالك بن أعيَن غير ظاهرة الدلالة؛ لأنّ فرض النسيان و إن وقع في كلام الإمام (عليه السّلام)، إلّا أنّ مدخليّته في الحكم- بحيث كان معلّقاً عليه غير معلومة.

نعم يمكن أن يُستشعر منه ذلك، فيصير مؤيّداً لصحيحة الحلبي المتقدّمة «1».

و منها: مرسلة الصدوق قال:

قال الصادق (عليه السّلام)

إن نسيت مسح رأسك فامسح عليه و علىٰ رجليك من بلّة وضوئك، فإن لم يكن بقي في يدك من نداوة وضوئك شي ء، فخذ ما بقي منه في لحيتك، و امسح به رأسك و رجليك، و إن لم يكن لك لحية فخذ من حاجبيك و أشفار عينيك، و امسح به رأسك و رجليك، و إن لم يبقَ من بِلّة وضوئك شي ء أعدت الوضوء «2».

و هي و إن كانت ظاهرة في اشتراط جواز الأخذ من اللحية بعدم بقاء النداوة في اليد، إلّا أنّ ظهورها في الترتيب بين الأخذ من اللحية و الأخذ من الحاجبين، و اشتراط الأخذ منهما بعدمها، مع أنّك عرفت أنّه مخالف للإجماع «3»، يوجب وهْن الظهور في الجملة الأُولىٰ، و عدم جواز استفادة الترتيب بين اليد و اللحية أيضاً لاتّحاد السياق.

و لكنّه لا يخفى أنّ صحيحة الحلبي المتقدّمة، المعتضدة

بروايتي

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 479.

(2) الفقيه 1: 36/ 134، وسائل الشيعة 1: 409 410، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 8.

(3) تقدّم في الصفحة 480.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 482

عمر بن أُذينة «1» و مالك بن أعيَن «2» و كثير من الأخبار البيانيّة «3» المشتملة علىٰ ذكر هذه الخصوصيّة صالحة لأن يقيّد بها إطلاق الآية الشريفة، فالأقوى- حينئذٍ عدم جواز الأخذ من اللحية و سائر المواضع مع بقاء النداوة في اليد، كما أنّ الأحوط أيضاً ذلك.

رجع إلىٰ أصل الفرع

إذا عرفت ذلك فلنرجع إلى الفرع المتقدّم الذي ذكره المحقّق في «الشرائع» «4».

فنقول: لا إشكال في جواز الأخذ من اللحية و الحاجبين و أشفار العينين؛ فيما إذا جفّ ما علىٰ يديه من الرطوبة، و كثير من الأخبار المتقدّمة دالّ عليه. و لا ترتيب بين اللحية و غيرها.

كما أنّه لا شُبهة في عدم اختصاص جواز الأخذ بما ذكر.

بل المراد جواز الأخذ من كلّ موضع من مواضع الوضوء إذا كان مشتملًا على النداوة و لو لم يكن شعراً، و ذكر اللحية و نظائرها إنّما هو لكونها محلّاً لاجتماع الماء نوعاً؛ إذ هو الذي يمكن بقاء رطوبته مع جفاف اليد؛ لأنّ سائر الأعضاء- غير اللحية و نظائرها لا ترجيح لها على اليد من حيث بقاء الرطوبة فيها دونها، بل بقاؤها في اليد حين إرادة المسح أكثر من بقائها عليها، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ هذا الحكم في اللحية غير المسترسلة ممّا لا إشكال فيه.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 465.

(2) تقدّم في الصفحة 466.

(3) راجع وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15.

(4) تقدّم في الصفحة 475.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 483

في أخذ الماء من اللحية المسترسلة

و أمّا في المسترسل من اللحية، فقد يقال بعدم جواز الأخذ من المقدار الخارج منها من حدّ الوجه؛ نظراً إلىٰ أنّ المراد من نداوة الوضوء هي النداوة الباقية علىٰ محلّ الوضوء؛ ضرورة أنّ النداوة المنفصلة من الوجه الواقعة في الثوب- مثلًا لا يجوز المسح بها اتّفاقاً، و المقدار الخارج من اللحية من حدود الوجه المعتبرة في الوضوء نظير الثوب، فلا يجوز المسح بالنداوة الباقية فيه «1».

و أنت خبير: بأنّه لا مجال لهذا القول لو قلنا باستحباب غسل ذلك المقدار أيضاً، و أمّا لو قلنا بالعدم

فالظاهر- أيضاً الفرق بين الثوب و اللحية؛ لثبوت العلقة فيها دونه، مضافاً إلىٰ أنّ ظاهر الأخبار المتقدّمة «2» جواز الأخذ من اللحية مطلقاً؛ من غير تقييد بالمقدار الواقع منها في حدّ الوجه.

و دعوى: أنّ قوله (عليه السّلام) في مرسلة الصدوق المتقدّمة

امسح عليه و على رجليك من بلّة وضوئك «3»

، صالح لأن يصير قرينة علىٰ تقييد اللحية الواقعة فيها بالمقدار المذكور «4».

مدفوعة: بإمكان العكس أيضاً، فإنّ إطلاق اللحية يمكن أن يصير قرينة علىٰ خلاف ما هو ظاهر بلّة الوضوء.

______________________________

(1) انظر مستند الشيعة 2: 136 137.

(2) تقدّم في الصفحة 465 467.

(3) تقدّم في الصفحة 466.

(4) انظر مستند الشيعة 2: 137، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 382.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 484

و بالجملة: فلا بدّ من رفع اليد: إمّا عن عموم اللحية، و إمّا من ظاهر بلّة الوضوء، و الظاهر أنّ الأهون هو الثاني؛ لأنّ تقييد اللحية بذلك المقدار- الذي هو في مقابل مجموعها قليل نوعاً بعيد جدّاً، كما هو غير خفيّ.

ثمّ إنّه لو قلنا بجواز الأخذ من اللحية و لو من المقدار الخارج منها من حدّ الوجه- كما عرفت أنّه الظاهر فليس لازم ذلك القول بجواز الأخذ من سائر المواضع، التي حكم العقل بوجوب غسلها من باب المقدّمة العلميّة كمقدار من الناصية مثلًا؛ لإمكان الفرق بينها و بين اللحية؛ بأنّ الرطوبة الباقية في اللحية، إنّما هي من بقايا الماء الذي اجري على الوجه الذي هو محلّ الوضوء، بخلاف الرطوبة الباقية على الناصية- مثلًا فإنّها من بقايا الماء الذي لم يكن مستعملًا في غسل الوجه، كما هو ظاهر.

ثمّ إنّ ظاهر كلام المحقّق المتقدّم «1» هو جواز الأخذ من اللحية و غيرها عند جفاف اليد مطلقاً، من

دون فرق بين ما إذا كان الجفاف بسبب نسيان المسح أو حرارة الهواء، أو كان حاصلًا عن ترك المسح فوراً عمداً؛ بحيث كان الجفاف ناشئاً عن إرادة و اختيار، مع أنّ أكثر الروايات المتقدّمة «2» تدلّ على الجواز عند النسيان.

و الحقّ أن يقال: إنّ العمدة في هذا المقام- على ما عرفت هي صحيحة الحلبي المتقدّمة «3» المشتملة على الجملة الشرطيّة التي شرطها هو نسيان المسح، و حينئذٍ فإن ثبت المفهوم للقضيّة الشرطيّة فلازمه هو الاختصاص

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 475.

(2) تقدّم في الصفحة 465 467.

(3) تقدّم في الصفحة 466.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 485

بتلك الصورة، فلو جفّ ما على اليد اختياراً أو بسبب آخر غير النسيان كحرارة الهواء و نحوها، فلا يجوز الأخذ من اللحية؛ لأنّ معنى المفهوم- كما مرّ سابقاً «1» هو كون الشرط علّة منحصرة لترتّب الجزاء؛ بحيث ينتفي بانتفائها.

و إن لم يثبت المفهوم- كما هو الحقّ فلازمه القول بأنّ جواز الأخذ من اللحية مشروط بوجود سبب؛ لأنّ ظاهر القضيّة الشرطيّة مدخليّة الشرط و سببيّته للجزاء، و لكن لا علىٰ نحو الانحصار، فمدلولها دخالة النسيان في الجواز؛ بمعنى أنّ الجواز لا يكون مجرّداً عن السبب؛ بحيث لم يكن مستنداً إلىٰ شي ء، و لكنّه لا ينفي مدخليّة شي ء آخر و سببيّته أيضاً للجواز، كما أنّه لا يثبت ذلك، ففيما عدا هذا السبب، يكون مقتضىٰ إطلاق الآية الشريفة جواز الأخذ عند حصول كلّ سبب.

نعم في خصوص ما إذا حصل الجفاف عن إرادة و اختيار، يكون مقتضى الرواية عدم الجواز. و أمّا فيما إذا كان له سبب غير النسيان، فمقتضىٰ إطلاق الآية الجواز و إن لم يستفد حكمه من الرواية نفياً و لا إثباتاً،

فتدبّر جيّداً.

الحكم الخامس: وجوب الاستئناف عند جفاف الأعضاء
اشارة

لو لم تبقَ نداوة الوضوء يجب عليه الاستئناف و الإعادة. و الوجه فيه: مضافاً إلىٰ دلالة غير واحد من الأخبار المتقدّمة على الوجوب، ما دلّ علىٰ لزوم كون المسح ببقيّة بلل الوضوء؛ لتوقّف امتثاله في المقام على الاستئناف، لكونه قادراً علىٰ تحصيل ذلك الشرط. هذا إذا أمكنه المسح بالنداوة بعد الاستئناف.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 25 26.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 486

حكم من تعذّر عليه المسح ببلّة الوضوء

و أمّا لو لم يمكن ذلك كما لو فرض حرارة مقتضية لجفاف يده و سائر أعضائه؛ بحيث يتعذّر عليه المسح ببلّة الوضوء.

فهل يجب عليه المسح بماء خارجيّ، أو يمسح بلا رطوبة، أو يسقط عنه المسح، أو أصل الوضوء و ينتقل فرضه إلى التيمّم، أو يجب عليه حفظ ماء وضوئه و المسح به؟ وجوه.

ربما يقال: بأنّ أضعف هذه الوجوه هو سقوط الوضوء و الانتقال إلى التيمّم؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ أنّه لم يظهر القول به من أحد، كما ادّعاه صاحب «الجواهر» (قدّس سرّه) «1» يدلّ عليه: أنّ مشروعيّة التيمّم، إنّما هي فيما إذا لم يتمكّن من الطهارة المائيّة و لو ببعض مراتبها الناقصة؛ لظهور أدلّته في ذلك، مضافاً إلىٰ شهادة التتبّع في الأحكام الشرعيّة في الموارد المختلفة؛ مثل مسألة الأقطع، و من وضع علىٰ إصبعه مرارة- كما في رواية عبد الأعلىٰ المعروفة «2» و غيرها من مواضع الجبيرة.

و يضعف سقوط المسح: بأنّ الوضوء لا يتبعّض، بل المستفاد من رواية عبد الأعلىٰ و قاعدة الميسور وجوبُ الوضوء الناقص عليه؛ بمعنى عدم سقوط المسح بمجرّد تعذّر المسح بالنداوة، بل الساقط إنّما هو خصوصيّة كونه بنداوة الوضوء، فيبقىٰ أصل المسح علىٰ حاله، كما استفيد ذلك من تلك الرواية، الدالّة علىٰ ظهور حكم هذه الموارد و استفادته من

الآية الشريفة الدالّة علىٰ

______________________________

(1) جواهر الكلام 2: 194.

(2) الكافي 3: 33/ 4، تهذيب الأحكام 1: 363/ 1097، الإستبصار 1: 77/ 240، وسائل الشيعة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 487

أنّه مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «1».

و هل يتعيّن عليه المسح بنداوة خارجيّة، أم يُجزيه المسح بيده الجافّة؟

وجهان، و الأوّل أقوى؛ لأنّ الواجب إيصال البلّة المقيّدة بكونها من الوضوء، فبعد تعذّر القيد يبقىٰ أصل المسح بالنداوة علىٰ حاله «2».

أقول: التمسّك برواية عبد الأعلىٰ و التعدّي عن موردها يوجب اختلال الفقه و خروجه عن مجراه؛ لأنّه مستلزم لأحكام لا يمكن أن يلتزم بها فقيه أصلًا، أ ترى جواز غسل اليد إلى الزند- مثلًا فيما لو لم يكن له ماء إلّا ما هو كافٍ لغسل هذا المقدار؛ تمسّكاً بأنّ الواجب هو غسل مجموع أجزاء اليد، فمع تعذّره يبقىٰ غسل المقدار الميسور علىٰ حاله، و غير ذلك من الأحكام الكثيرة التي لا يقول بها أحد.

مضافاً إلىٰ أنّ التمسّك بلا حرج في مورد الرواية إنّما هو لنفي وجوب المسح على البشرة، لا لوجوب المسح على المرارة أيضاً.

و بالجملة: فالظاهر عدم جواز الاستدلال بمثل هذه الرواية.

كما أنّ وضوء الأقطع لا يصير شاهداً على المقام؛ لما عرفت سابقاً: من أنّ التحديد في اليد إنّما وقع في طرف المرفق «3»، فلا حدّ لها من الجانب الآخر.

هذا فيمن قطعت يده. و أمّا مقطوع الرّجْل فالدليل الوارد فيه لا يكون ظاهراً في وضوئه.

بل قد عرفت: أنّ المحتمل قويّاً كون المقصود فيه هو الغسل «4»،

______________________________

(1) الحجّ (22): 78.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 387 389.

(3) تقدّم في الصفحة 433.

(4) تقدّم في الصفحة 434.

كتاب الطهارة

(تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 488

فلا ربط له بالمقام.

و أمّا قاعدة الميسور فهي أجنبيّة عن مثل المقام، كما مرّ سابقاً عند التكلّم فيها «1».

فالأقوى بمقتضى القواعد هو سقوط الوضوء و انتقال فرضه إلى التيمّم. هذا مع قطع النظر عن إطلاق الآية.

و أمّا مع ملاحظته فالواجب عليه المسح بالماء الخارجي.

توضيحه: أنّ الدليل الدالّ علىٰ لزوم كون المسح بنداوة الوضوء، ليس بلسان الشرطيّة حتّى يقال: بأنّ ظاهره اعتبارها في الوضوء مطلقاً، فمع التعذّر يسقط وجوبه، بل إنّما ورد بلسان الأمر و البعث، كما في صحاح الحلبي و زرارة و ابن أُذينة المتقدّمة «2»، و الأمر و إن كان المقصود به الإرشاد و الهداية، إلّا أنّه لا يخرج عن البعث و التحريك، و من المعلوم اشتراطه بالقدرة على المبعوث إليه، فالقدر المتيقّن من تقييد الآية بالنداوة الباقية في محالّ الوضوء، إنّما هو صورة التمكّن منه؛ إذ الأدلّة المقيّدة لا تدلّ علىٰ أزيد من ذلك، و البعث الوارد فيها لا يكون متوجّهاً إلى العموم؛ حتّى يقال بأنّ المعتبر فيه قدرة النوع لا العموم، بل بعث شخصيّ متوجّه إلى النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) كما في صحيحة ابن أُذينة أو إلى الراوي، و خصوصيّة المخاطب و إن كانت ملغاة بنظر العرف، إلّا أنّ الحكم بالاشتراك إنّما هو في خصوص هذا المقدار، الذي دلّ عليه ذلك البعث الشخصي، و هو صورة التمكّن منه، و أمّا في غيرها فإطلاق الآية بحاله.

فالأقوى بالنظر إليها لزوم المسح بالماء الجديد و إن كان الأحوط ضمّ التيمّم أيضاً.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 302.

(2) تقدّم في الصفحة 466، و 464، و 465.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 489

الحكم السادس: الأفضل مسح الرأس مقبلًا

ذكر المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع»

«أنّ الأفضل مسح الرأس مُقبلًا، و يكره مُدبراً على الأشبه» «1».

و الدليلُ علىٰ جواز مسح الرأس مُقْبلًا و مُدْبراً، إطلاقُ الآية الشريفة الدالّة علىٰ وجوب مسح الرأس؛ و لو بعد تقييد الممسوح بكونه مقدّم الرأس، و الماسح بكونه يداً مشتملة على النداوة الباقية في محالّ الوضوء.

و كذا يدلّ عليه خصوص صحيحة حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

لا بأس بمسح الوضوء مُقْبلًا و مُدْبراً «2».

و لكن يوهن الاستدلال بها ما روي بهذا الإسناد عن حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

لا بأس بمسح القدمين مُقبلًا و مُدبراً «3»

؛ لأنّه يحتمل قويّاً اتّحاد الروايتين و كذا الراويين؛ و إن أسند الرواية الأُولىٰ في «الوسائل» إلىٰ حمّاد بن عيسىٰ «4»؛ لاحتمال وقوع الاشتباه من النسّاخ.

و لكن هذا الاحتمال بمجرّده لا يوجب إمكان رفع اليد عن الرواية الصحيحة.

إلّا أنّ الذي يوهن الاستدلال بالرواية هو اشتهار الفتوى بوجوب مسح

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 14.

(2) تهذيب الأحكام 1: 58/ 161، الإستبصار 1: 57/ 169، وسائل الشيعة 1: 406، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 20، الحديث 1.

(3) تهذيب الأحكام 1: 83/ 217، وسائل الشيعة 1: 406، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 20، الحديث 2.

(4) وسائل الشيعة 1: 108 (الطبع الحجري).

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 490

الرأس مقبلًا بين قدماء الأصحاب، كالمرتضىٰ «1» و الشيخ (قدّس سرّهما) «2» و قد حُكي «3» عن «الخلاف» دعوى الإجماع «4»، و عن «الانتصار» نسبته إلى الأكثر، فإنّه لو كانت الرواية تامّة الدلالة على الإطلاق، فكيف يمكن الفتوى بخلافها مع كونها بمرأى منهم، إلّا أنّه لا يخفى أنّ ذلك لا يوجب الوهن في التمسّك بإطلاق الآية؛ إذ هذه الشهرة

لا تكون كاشفة عن وجود نصّ صالح لتقييد الآية؛ لأنّ مستند فتاويهم: إمّا دعوى الانصراف، و إمّا الأخذ بما هو المتيقّن الراجع إلى الاحتياط، و مع عدم تماميّة شي ء من الوجهين عندنا لا مجال لرفع اليد عن إطلاق الآية، فالأقوى جواز المسح مقبلًا و مدبراً.

و منه يظهر: عدم ثبوت أفضليّة الأوّل بالنسبة إلى الثاني و إن كان ذلك أحوط.

الحكم السابع: عدم إجزاء الغسل في موضع المسح

لو غسل موضع المسح لا يكون ذلك مجزياً. و الوجه فيه ما تقدّمت إليه الإشارة: من أنّ الغسل و المسح بنظر العرف ماهيّتان متغايرتان «5»، و لا يتحقّق أحدهما بالآخر؛ بحيث يجتمعان في مصداق واحد، فبعد كون الواجب عليه هو مسح الرأس لا غسله، لا يُجزي الثاني عن الأوّل. نعم لا ينافي ذلك حصول الغسل في بعض الصور تبعاً للمسح، كما لو فرض وفور بلّة الماسح؛ بحيث يتحقّق- بإمراره على الرأس مسحه و يجري الماء عليه الغسلُ؛ لأنّ المحذور إنّما هو

______________________________

(1) الانتصار: 19.

(2) الخلاف 1: 83، المسألة 31.

(3) جواهر الكلام 2: 195.

(4) الخلاف 1: 83.

(5) تقدّم في الصفحة 475.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 491

في الاكتفاء بالغسل بدل المسح، لا في حصوله بعده. نعم لا بدّ من قصد الامتثال بخصوص المسح، كما هو غير خفيّ.

الحكم الثامن: جواز المسح على الشعر المختصّ بالمقدّم

ذكر المحقّق (قدّس سرّه) ما هو لفظه «و يجوز المسح على الشعر المختصّ بالمقدّم و على البشرة، و لو جَمع عليه شعراً من غيره و مسح عليه لم يَجُزْ، و كذا لو مسح على العمامة أو غيرها ممّا يستر موضع المسح» «1».

أقول: أمّا جواز المسح على البشرة فواضح، و أمّا جوازه على الشعر المختصّ بالمقدّم فلما تقدّمت الإشارة إليه في مسألة غسل الوجه من أنّ المتفاهم منه عند العرف ليس إلّا غسل ظاهر اللحية في المواضع التي تكون البشرة مستورة، بخلاف غسل اليدين، فإنّهما لأجل عدم نوعيّة اشتمالهما على الشعر الساتر للبشرة، لا يفهم العرف من الأمر بغسلهما إلّا وجوب غسل خصوص البشرة، و لذا ذكرنا أنّه لا يُكتفى بغسل الشعر عن غسلها «2»، و نظير الوجه يجري في مسح الرأس، كما أنّ مسح الرجلين نظير غسل اليدين،

مع أنّه هنا خصوصيّة زائدة، و هي أنّ اعتبار المسح خصوصاً بالنداوة الباقية في محالّ الوضوء، ربما لا يناسب وجوب المسح على البشرة مع تعارف اشتمالها على الشعر.

و أمّا اختصاص الجواز بالشعر المختصّ بالمقدّم فلاعتبار كون المسح علىٰ مقدّم الرأس كما عرفت «3»، و غاية مدلول الأدلّة قيام الشعر مقام البشرة و عدم

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 14.

(2) تقدّم في الصفحة 442.

(3) تقدّم في الصفحة 458.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 492

وجوب المسح عليها، و من المعلوم اختصاصه بالشعر الذي يعدّ تبعاً لمقدّم الرأس، فلو جمع عليه شعراً من غيره أو ممّا استرسل منه، و مسح عليه لم يَجُزْ.

نعم لا يبعد جواز المسح على الشعر النابت فوق مقدّم الرأس المتدلّي عليه أو النابت حواليه الساتر له بمقتضى الخلْقة؛ لكونه يعدّ تبعاً للمقدّم بنظر العرف.

ثمّ إنّه هل يجوز تخليل الشعر و إيصال الماء إلى البشرة؟ يمكن أن يقال بالعدم؛ نظراً إلىٰ صحيحة زرارة المتقدّمة في غسل الوجه، الدالّة علىٰ أنّ كلّ ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه «1»؛ نظراً إلىٰ أنّ التعبير باللام يشعر بعدم الجواز.

و يدفعه:- مضافاً إلىٰ أنّ الصدوق (قدّس سرّه) رواها مشتملة علىٰ ذكر كلمة «علىٰ» بدل اللام «2» المشعرة بجواز غيره أنّ تلك الرواية واردة في خصوص الغسل، كما يدلّ عليه قوله: «فليس للعباد أن يغسلوه»، و كذا قوله في الذيل: «و لكن يجري عليه الماء»، فالتمسّك بها لحكم المقام غير صحيح.

و أمّا عدم جواز المسح على الحائل- كالعمامة و القلنسوة و المقنعة فوجهه واضح؛ لاعتبار كون المسح على الرأس.

و ما ورد ممّا يدلّ علىٰ جواز المسح على الحنّاء «3»، مضافاً إلىٰ كونه معارضاً بغيره ممّا يدلّ على العدم

«4»، مردود بإعراض الأصحاب عنه و عدم وجود العامل به.

و هاهنا فروع يظهر حكمها بالتأمّل فيما ذكرنا.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 426.

(2) الفقيه 1: 28/ 88.

(3) راجع وسائل الشيعة 1: 455، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 37.

(4) راجع وسائل الشيعة 1: 455، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 37، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 493

الفرض الخامس: مسح الرجلين
اشارة

و هذه هي المسألة المعروفة التي وقع الاختلاف فيها بين المسلمين: فالإماميّة كافّة قائلون بوجوب مسح الرّجْلين كالرأس «1»، و ذهب جمهور المخالفين إلىٰ وجوب غسلهما كالوجه و اليدين «2».

حول دلالة الآية علىٰ وجوب المسح

و يدلّ علىٰ صحّة مذهبنا قوله تعالىٰ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ الآية «3»:

أمّا لو كان «أَرْجُلِكُمْ» مجروراً معطوفاً علىٰ رؤوسكم المجرور بالباء فواضح؛ لأنّ احتمال كونه معطوفاً علىٰ وجوهكم و كون الجرّ بسبب المجاورة، مدفوع بالوجوه التي ذكرها السيّد في «الانتصار»

______________________________

(1) الانتصار: 20 21، المعتبر 1: 148، تذكرة الفقهاء 1: 168، مدارك الأحكام 1: 215، جواهر الكلام 2: 206.

(2) انظر تذكرة الفقهاء 1: 169 170، أحكام القرآن 2: 345، المبسوط، السرخسي 1: 8، بداية المجتهد 1: 15 16، التفسير الكبير 11 12: 161 162، المجموع 1: 417.

(3) المائدة (5): 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 494

1 منها: أنّ الأعراب بالمجاورة شاذّ نادر؛ ورد في مواضع لا يلحق بها غيرها بغير خلاف بين أهل اللغة، و لا يجوز حمل كتاب اللّٰه على الشذوذ الذي ليس بمعهود و لا مألوف.

2 و منها: أنّ الأعراب بالمجاورة عند من أجازه إنّما يكون مع فَقْد حرف العطف، و أيُّ مجاورة عند وجود الحائل؟! 3 و منها: أنّ الأعراب بالمجاورة إنّما استعمل في الموضع الذي ترتفع فيه الشبهة لا في مثل المقام.

4 و منها: أنّ محصّلي أهل النحو و محقّقيهم أنكروا الإعراب بالمجاورة في جميع المواضع.

و بالجملة: لا شبهة في ظهور الآية في وجوب مسح الرجلين لو كان «أرجلِكم» مقروءة بالجرّ «1».

و أمّا علىٰ قراءة النصب فلا إشكال أيضاً؛ لكونه معطوفاً علىٰ محلّ قوله «بِرُؤُسِكُمْ»؛ لأنّ محلّه منصوب؛ لكونه مفعولًا لقوله «امْسَحُوا»، و إضافة الباء إنّما

هي لإفادة التبعيض- كما تقدّم «2» و إلّا فمادّة مسح متعدّية بنفسها، و يمكن أن يكون عطفاً علىٰ محلّ نفس «رؤوسكم» لكونه منصوباً أيضاً. و الثمرة بين الوجهين الأخيرين تظهر فيما بعد من وجوب مسح الجميع أو كفاية التبعيض.

و كيف كان، فالظاهر بمقتضى انقضاء الجملة الأُولى التي أُمر فيها بالغسل، و بطلان حكمها باستئناف الجملة الثانية، هو كون «أرجلِكم» معطوفاً علىٰ ما يجب مسحه، و هو الرؤوس، لا على الوجوه التي أُمر بغسلها.

و دعوى: أنّ تأخير الأرجل عن مسح الرأس إنّما هو لأجل ملاحظة

______________________________

(1) الانتصار: 21 22.

(2) تقدّم في الصفحة 447 448.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 495

الترتيب الواجب في الوضوء فلا ينافي ذلك وجوب غسلها «1».

مدفوعة: بعدم استفادة الترتيب من الآية الشريفة أصلًا؛ لوقوع العطف فيها بالواو، و هي لا تدلّ على الترتيب.

ثمّ إنّه لو نوقش في استظهار ذلك من الآية الشريفة، فلا أقلّ من تساوي الاحتمالين بلا ترجيح لأحدهما على الآخر؛ إذ لا ترجيح للعطف على الوجوه أصلًا، و حينئذٍ تصير الآية مجملة من حيث الدلالة علىٰ مسح الأرجل أو غسلها، فلا بدّ من مرجّح خارجي، و ما يعتمدون عليه في ذلك ليس بصالح له.

فالآية الشريفة- و لو بملاحظة الأخبار التي يستفاد منها ذلك التي بالغ في كثرتها السيّد (قدّس سرّه) في «الانتصار»؛ حيث قال: إنّه أكثر عدداً من الرمل و الحصىٰ «2» دليل علىٰ مذهب الإماميّة. فأصل المسألة عندنا بلا إشكال.

الكلام في مقدار الممسوح من الرجْل عرضاً
اشارة

نعم ربما يقع الإشكال من حيث مقدار الممسوح؛ و أنّه هل يجب مسح مجموع القدمين- ظاهرهما و باطنهما أو يجب مسح خصوص الظاهر فقط؟

مقتضى النصوص الكثيرة «3» التي لعلّها تبلغ حدّ التواتر هو الثاني.

و ما ورد في بعض الأخبار

من مسح مجموعهما «4»، فمضافاً إلىٰ ضعف سنده محمول على التقيّة لأنّه مذهب من يرى المسح من العامّة و يقول باستيعاب

______________________________

(1) الجامع لأحكام القرآن 6: 92 93.

(2) الانتصار: 25.

(3) انظر وسائل الشيعة 1: 412 و 418، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23 و 24.

(4) وسائل الشيعة 1: 415، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 6 و 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 496

الرّجْل كما نقله الشيخ (قدّس سرّه) في «التهذيب» «1».

ثمّ إنّه بعد اختصاص الوجوب بمسح الظاهر فقط، فهل يجب استيعابه، أو يكفي مسمّاه عرضاً؟

ظاهر الآية الشريفة هو الثاني؛ بناءً علىٰ قراءة «أرجلِكم» مجروراً معطوفاً علىٰ رؤوسكم؛ لما عرفت من كون الباء بمعنى التبعيض.

و أمّا بناءً علىٰ قراءة النصب، فإن كان عطفاً علىٰ مجموع الجارّ و المجرور فالظاهر وجوب الاستيعاب، كما هو المستفاد بالنسبة إلىٰ غسل الوجه و اليدين، و إن كان عطفاً علىٰ محلّ المجرور فقط فالظاهر أيضاً كفاية التبعيض. هذا ما تقتضيه الآية الشريفة.

حول الأخبار الواردة في المقام

و أمّا الأخبار فما يمكن أن يُستَدلّ بها لوجوب الاستيعاب طائفة:

منها: صحيحة زرارة الواردة في حكاية أبي جعفر (عليه السّلام) وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و فيها: أنّه (عليه السّلام)

مسح مقدّم رأسه و ظهر قدميه ببلّة يساره و بقيّة بلّة يمناه «2».

و لكن الظاهر أنّ المقصود من هذه الجملة، هو وقوع المسح ببلّة الوضوء في قبال المسح بالماء الجديد، فلا يستفاد منها مسح مجموع الظهر. و يؤيّده: أنّ مسح مقدّم الرأس علىٰ وجه الاستيعاب لا يكون واجباً، كما عرفت «3».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 92/ 245.

(2) الكافي 3: 25/ 4، الفقيه 1: 24/ 74، وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء،

الباب 15، الحديث 2.

(3) تقدّم في الصفحة 445.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 497

و منها: ذيل تلك الصحيحة المشتملة علىٰ قول أبي جعفر (عليه السّلام) و فيها

تمسح ببِلّة يُمناك ناصيتك، و ما بقي من بلّة يمينك ظهر قدمك اليمنى، و تمسح ببِلّة يسارك ظهر قدمك اليسرى.

و يرد عليه ما عرفت: من عدم الدلالة؛ لأنّها مسوقة لبيان حكم آخر «1». و يؤيّده أنّ مسح مجموع الناصية ليس بواجب، كما مرّ.

و منها: صحيحة زرارة و بكير الواردة في حكاية أبي جعفر (عليه السّلام) وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) و فيها

أنّه (عليه السّلام) مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه لم يُحدث لهما ماءً جديداً «2».

و يرد على الاستدلال بها ما عرفت: من عدم الدلالة؛ و كونها مسوقة لبيان حكم آخر «3».

و منها: صحيحة البزنطي قال: سألت أبا الحسن الرضا (عليه السّلام) عن المسح على القدمين، كيف هو؟ فوضع كفّه علىٰ أصابعه فمسحها إلى الكعبين إلىٰ ظاهر القدم. فقلت جُعلت فداك لو أنّ رجلًا قال بإصبعين من أصابعه هكذا إلى الكعبين؟ قال

لا إلّا بكفّه كلّها «4».

و دلالتها على المقام ممنوعة؛ لأنّ التأمّل فيها يعطي أنّ النظر إنّما هو إلى

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 454.

(2) الكافي 3: 25/ 5، تهذيب الأحكام 1: 76/ 191، وسائل الشيعة 1: 389، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3.

(3) تقدّم في الصفحة 449.

(4) قرب الإسناد: 368/ 1318، الكافي 3: 30/ 6، تهذيب الأحكام 1: 64/ 179، و 91/ 243، الاستبصار 1: 62/ 184، وسائل الشيعة 1: 417، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 24، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 498

آلة المسح، لا

مقدار الممسوح الذي هو مورد النزاع هنا، و حينئذٍ فالواجب طرح الرواية؛ لعدم وجود قائل بوجوب كون الآلة هو مجموع الكفّ؛ حتّى الصدوق القائل بوجوب مسح مقدار الكفّ «1»، فإنّ ظاهره وجوب مسح هذا المقدار و لو حصل بإصبع واحدة فتدبّر.

و منها: رواية عبد الأعلى [1] قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): عثرت فانقطع ظفري، فجعلت علىٰ إصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال

يُعرف هذا و أشباهه من كتاب اللّٰه عزّ و جلّ، قال اللّٰه تعالىٰ مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» امسح عليه «3»

______________________________

[1] و قد صرّح الكليني في موضع أنّ هذا الرجل هو عبد الأعلى بن أعين «4» و وثّقه المفيد (قدّس سرّه) «5». بهذا العنوان، [المقرر دام ظلّه].

و تقريب دلالتها: أنّه لو لا وجوب مسح مجموع ظهر القدم، لما كان للأمر بالمسح علىٰ ما وضع عليه المرارة- مستشهداً بآية نفي الحرج وجه، كما هو غير خفيّ.

و لكن ذلك مبني علىٰ أن يكون الظفر المنقطع عن إصبعه هو ظفر إصبع الرجل؛ إذ لو كان المراد به هو ظفر أصابع اليد لكانت الرواية أجنبيّة عن

______________________________

(1) الفقيه 1: 28/ ذيل الحديث 88، انظر جواهر الكلام 2: 213، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 399.

(2) الحجّ (22): 78.

(3) الكافي 3: 33/ 4، تهذيب الأحكام 1: 363/ 1097، الإستبصار 1: 77/ 240، وسائل الشيعة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.

(4) الكافي 5: 334/ 1.

(5) جوابات أهل الموصل، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 9: 39، تنقيح المقال 2: 132/ السطر 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 499

المقام، و حينئذٍ نمنع دلالة الرواية على الأوّل؛ إذ من المحتمل هو الثاني، و جملة «عثرت»

لا تنافيه؛ لأنّه بمعنى السقوط على الوجه، و هو قد يوجب انقطاع ظفر اليد أيضاً، كما هو غير خفيّ «1».

و نظيرها موثّقة عمّار، قال: سُئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل ينقطع ظفره، هل يجوز له أن يجعل عليه علكاً؟ قال

لا، و لا يجعل إلّا ما يقدر علىٰ أخذه عنه عند الوضوء، و لا يجعل عليه إلّا ما يصل إليه الماء «2».

فإنّها أيضاً محتملة لما ذكرنا سابقاً، و يؤيّده هنا قوله

و لا يجعل عليه ..

إلىٰ آخره، فإنّ وصول الماء إنّما يعتبر في الغسل دون المسح.

و من جميع ما ذكرنا ظهر: أنّه ليس هنا شي ء يمكن الاستدلال به لوجوب الاستيعاب.

و أمّا ما يدلّ علىٰ أنّ الواجب إنّما هو المسح ببعض القدمين كالرأس فجملة من الأخبار:

منها: ما ورد في الأخبار الكثيرة: من أنّ الإمام (عليه السّلام) لم يدخل يده تحت الشراك «3»، أو لم يستبطن الشراكين «4».

______________________________

(1) لا ينبغي الارتياب في ظهور عبارة السؤال في كون المراد بالظفر هو ظفر إصبع الرجل و على تقدير عدم الظهور يكفي في صلاحية الرواية للاستدلال مجرّد ترك الاستفصال من الإمام (عليه السّلام)، كما هو غير خفيّ، [المقرر دام ظلّه].

(2) تهذيب الأحكام 1: 425/ 1352، الإستبصار 1: 78/ 241، وسائل الشيعة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 6.

(3) الكافي 3: 31/ 11، تهذيب الأحكام 1: 90/ 237، وسائل الشيعة 1: 414، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 3 و 4.

(4) انظر وسائل الشيعة 1: 415، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 8، و 418، الباب 24، الحديث 6، و 460، الباب 38، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 500

و دلالتها علىٰ

عدم وجوب الاستيعاب من جانب العرض، مبنيّة علىٰ أن يكون وضعه بحيث يستر بعض الأصابع، و أمّا لو كان ساتراً لما هو خارج عن حدّ المسح طولًا، كما إذا كان ساتراً للمفصل، فهي لا تدلّ علىٰ نفي وجوب الاستيعاب، كما أنّه لو كان ساتراً لظهر القدم ممّا هو داخل في الحدّ طولًا، تصير هذه الأخبار دليلًا علىٰ عدم وجوب استيعاب ذلك الحدّ من طرف الطول أيضاً.

و منها: صحيحة زرارة و بكير المتقدّمة «1» في مسح الرأس، المشتملة علىٰ أنّه إذا مسح بشي ء من رأسه، أو بشي ء من قدميه ما بين الكعبين إلىٰ أطراف الأصابع، فقد أجزأه، و دلالتها علىٰ كفاية المسح ببعض القدمين ظاهرة.

و منها: صحيحة أُخرى لزرارة المتقدّمة «2» الواردة في كيفيّة استفادة مسح بعض الرأس و الرجلين من الكتاب.

و دلالتها علىٰ كفاية المسح ببعض الأرجل واضحة أيضاً.

و لو نوقش فيها: بعدم كونها مسوقة لبيان هذه الجهة؛ لأنّ إطلاقها وارد مورد حكم آخر.

فنقول: هذه الرواية- من حيث ورودها تفسيراً للآية الشريفة يستفاد منها أنّ كلمة الباء المفيدة للتبعيض لا تنحصر بالرؤوس، بل الأرجل أيضاً كذلك، فهي إمّا أن تكون مجرورة معطوفة على الرؤوس، أو منصوبة معطوفة علىٰ محلّ نفس المجرور.

و على التقديرين يستفاد الاكتفاء بالبعض، لا من نفس الرواية ليناقش فيها بما ذكر، بل من الآية بضميمة الرواية الواردة في تفسيرها.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 449.

(2) تقدّم في الصفحة 448.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 501

و قد عرفت مراراً: أنّ الآية إنّما تكون في مقام البيان من جميع الجهات «1»، فهي الحجّة في المقام من دون معارض؛ لعدم صلاحيّة الأخبار المتقدّمة للمعارضة؛ لعدم تماميّة دلالتها علىٰ وجوب الاستيعاب.

و منها: غير ذلك من الأخبار التي

لا حاجة إلى نقلها بعد دلالة الآية الشريفة علىٰ أنّ الأرجل مثل الرؤوس في وجوب المسح بالبعض، فتدبّر.

هذا كلّه من جهة العرض.

حول مقدار الممسوح طولًا و أدلّته
اشارة

و أمّا من ناحية الطول: فهل الواجب الابتداء من رؤوس الأصابع و الانتهاء إلى الكعبين، أو يكفي المسمّى، كما في جانب العرض علىٰ ما عرفت «2»؟

قولان: و قد ادُّعي الإجماع على الأوّل «3»، و في المحكيّ «4» عن «الحدائق»: أنّه نقل عن الشهيد (قدّس سرّه) في «الذكرى» احتمال عدم الوجوب «5»، و به جزم المحدّث الكاشاني في محكيّ «المفاتيح» «6»، و استظهره صاحب «الحدائق» «7».

و كيف كان، فلا بدّ من ملاحظة مستند المسألة

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 403، 450، 457.

(2) تقدّم في الصفحة 496، 499.

(3) الانتصار: 27 28، الخلاف 1: 92 93، تذكرة الفقهاء 1: 170، رياض المسائل 1: 237، جواهر الكلام 2: 210.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 405.

(5) ذكرى الشيعة 2: 153.

(6) مفاتيح الشرائع 1: 44، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 405.

(7) الحدائق الناضرة 2: 291 294.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 502

فنقول: أمّا الآية الشريفة فقد عرفت اختلاف قراءة الأرجل من جهة الجرّ و النصب «1»، فلو كانت الأرجل منصوبة معطوفة علىٰ محلّ الجارّ و المجرور؛ بحيث كان مقتضاه هو امسحوا أرجلكم، فلا إشكال في استفادة الاستيعاب منها؛ لأنّ المقتضي للتبعيض هي كلمة الباء المنتفية علىٰ هذا الاحتمال، نظير الوجه و اليدين علىٰ ما عرفت من دلالة الآية بظاهرها علىٰ وجوب استيعاب غسلهما، و لا ينافي ذلك ما تقدّم في المسألة السابقة: من كفاية المسمّى من المسح علىٰ ظهر القدم عرضاً «2»، فإنّ خروج جهة العرض لا يوجب عدم الدلالة على الاستيعاب في جانب الطول.

و بالجملة: فمقتضىٰ هذه القراءة الاستيعاب

طولًا.

و أمّا لو كانت القراءة بالجرّ أو بالنصب عطفاً علىٰ محلّ المجرور فقط، فالظاهر كفاية المسمّى في جانب الطول أيضاً؛ سواء قلنا بكون الغاية غاية للمسح أو للممسوح:

أمّا على الثاني فواضح؛ لأنّ مقتضىٰ هذين الاحتمالين، هو كون الأرجل كالرؤوس مدخولة لكلمة الباء، التي أظهر معانيها في المقام هو كونها بمعنى «من» التبعيضيّة علىٰ ما تقدّم في مسألة مسح الرأس «3» فلو كانت غاية للممسوح، يصير مقتضاها وجوب المسح بشي ء من هذا المقدار المحدود بالكعبين، و حينئذٍ فإطلاقها يوجب الاكتفاء بالمسمّى في جانب الطول كالعرض، علىٰ ما هو واضح غير خفيّ.

و أمّا لو كانت غاية للمسح، فلأنّ مقتضىٰ ذلك هو وجوب انتهاء المسح إلى

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 493 494.

(2) تقدّم في الصفحة 496، 499.

(3) تقدّم في الصفحة 445.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 503

الكعبين، و هو لا ينافي عدم وجوب الاستيعاب؛ إذ يمكن المسح من الموضع القريب إلى الكعبين منتهياً إليهما؛ إذ المفروض أنّ الواجب هو المسح ببعض الأرجل، غاية الأمر أنّه يجب انتهاؤه إليهما، و هو يتحقّق في المثال المذكور؛ إذ لم يقع التحديد من الطرفين حتّى يكون ظاهره وجوب مسح مجموع ذلك مبتدئاً من طرف و منتهياً إلى الطرف الآخر، بل التحديد إنّما وقع في طرف الانتهاء فقط.

و بالجملة: كون الكعبين غاية للمسح لا يستلزم الاستيعاب الموجب للشروع من رؤوس الأصابع، كما هو ظاهر.

هذا ما تقتضيه الدقّة في الآية الشريفة؛ مع قطع النظر عن التفسير الوارد من أهل البيت، الذين هم العارفون بالكتاب و الراسخون في العلم العالمون بتأويله و تنزيله.

و أمّا مع ملاحظته فنقول:

في دلالة الأخبار على المقام

مقتضىٰ صحيحة زرارة و بكير و الصحيحة الأُخرىٰ لزرارة المتقدّمتين «1»، هو كون الأرجل كالرؤوس في كونها

مدخولة لكلمة الباء المفيدة للتبعيض، فاحتمال كونها منصوبة معطوفة علىٰ مجموع الجارّ و المجرور يندفع بذلك.

نعم لا يستفاد من ذلك خصوص الخفض أو النصب معطوفاً علىٰ محلّ المجرور فقط.

و لكن لا يترتّب علىٰ هذا المعنىٰ ثمرة؛ لما عرفت: من أنّ مقتضىٰ كلّ منهما هو عدم وجوب الاستيعاب «2».

______________________________

(1) تقدّم تخريجه في الصفحة 449، 448.

(2) تقدّم في الصفحة 502.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 504

مضافاً إلىٰ دلالة صحيحة زرارة و بكير علىٰ كون الكعبين غاية للممسوح؛ و ذلك لأنّ التعبير بكلمة «إلىٰ» إنّما وقع في طرف الأصابع، فلو كانت غاية للمسح لا يجوز التعبير بها في طرف الأصابع في مقام التفسير، فوقوعه دليل علىٰ كونها غاية للممسوح. و قد عرفت أنّه بناءً عليه لا خفاء في كفاية المسمّى في جانب الطول أيضاً «1».

و مما ذكرنا يظهر: أنّ ما أفاده في «المصباح»: من أنّ كون كلمة «الباء» في الآية للتبعيض، لا ينافي ظهورها في الاستيعاب من حيث الطول؛ لأنّ معناها علىٰ هذا التقدير: فامسحوا من أرجلكم من رؤوس الأصابع إلى الكعبين، و هذه العبارة ظاهرة أيضاً في وجوب الاستيعاب طولًا «2».

لا يتمّ أصلًا؛ لما عرفت: من أنّ التحديد لم يقع من الطرفين «3» حتّى يكون ظاهراً في الاستيعاب، بل إنّما وقع من طرف واحد، و الانتهاء إليه يتحقّق في مثل المثال الذي ذكرنا، من دون استلزام للاستيعاب.

ثمّ إنّه قد استشكل في دلالة صحيحة زرارة و بكير المتقدّمة المشتملة علىٰ أنّه إذا مسح بشي ء من قدميه ما بين الكعبين إلىٰ أطراف الأصابع فقد أجزأه علىٰ كفاية المسمّى: بأنّ ذلك مبني علىٰ أن تكون كلمة «ما» بدلًا من القدمين، و أمّا لو كانت بدلًا من شي ء، أو خبراً

لمبتدإ محذوف، و هو الضمير الراجع إلى الشي ء، فظاهرها- حينئذٍ وجوب مسح مجموع ذلك المقدار، كما هو واضح «4».

و أنت خبير: بأنّ احتمال كونه بدلًا من القدمين، هو أقرب الاحتمالات

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 502.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 408.

(3) تقدّم في الصفحة 503.

(4) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 259، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 409.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 505

بنظر العرف، فالترجيح معه، و قد عرفت أنّه بناءً عليه لا دلالة لها على الاستيعاب، بل ظاهرها العدم.

ثمّ إنّه في «المصباح» بعد ما حكم بقوّة الاحتمال الذي رجّحناه ذكر: أنّ وقوع الرواية تفسيراً للآية و تفريعاً علىٰ ظاهرها، يضعّف سائر الاحتمالات، و يقوّي احتمال كونه بدلًا من شي ء «1».

و أنت خبير: بأنّ ذلك مبني علىٰ ما ذكره: من استفادة الاستيعاب من الآية و لو كانت كلمة الباء للتبعيض «2»، و قد عرفت فساده و أنّ الآية تدلّ علىٰ كفاية المسمّى، و حينئذٍ فإجمال الرواية- علىٰ تقديره يرتفع بها؛ إذ بعد دلالة الآية علىٰ نفي وجوب الاستيعاب لا مجال لغير الاحتمال الذي رجّحناه، فإجمال الآية- من حيث دخول الباء على الأرجل- يرتفع بهذه الرواية و بصحيحة زرارة المتقدّمة المصرّحة بالتبعيض «3»، و إجمال هذه الرواية- من جهة هذه الاحتمالات يرتفع بالآية الشريفة الدالّة علىٰ كفاية المسمّى علىٰ تقدير دخول الباء على الأرجل، كما هو واضح.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ مفاد إطلاق الآية- بضميمة الرواية هو كفاية المسمّى مطلقاً عرضاً و طولًا.

ثمّ إنّه قد استُدلّ للمشهور بجملة من الأخبار «4»:

منها: رواية عمر بن أُذَيْنة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المتقدّمة «5»، الواردة في

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 409.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 410.

(3) تقدّم

في الصفحة 448.

(4) مصباح الفقيه، الطهارة 2: 410 411.

(5) تقدّمت في الصفحة 465.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 506

حكاية المعراج المشتملة علىٰ قوله تعالىٰ لنبيّه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم): «ثمّ امسح رأسك بفضل ما بقي في يدك من الماء و رجليك إلىٰ كعبيك».

و لكن لا يخفى أنّ الغرض من هذه الرواية و نظائرها، إنّما تعلّق ببيان لزوم كون المسح بنداوة الوضوء في مقابل العامّة القائلين بلزوم المسح بالماء الجديد «1»، و لو سلّم تعلّق الغرض ببيان الخصوصيّات فاللازم في الرواية- مضافاً إلىٰ تقييد مسح الرأس الظاهر في الاستيعاب بمسح مقدّمه، لا كلّه، بل بعضه كما عرفت «2» أن يقال برفع اليد عن ظهورها في الرجلين؛ في وجوب مسحهما جميعاً ظاهراً و باطناً؛ لعدم وجوب مسح الباطن قطعاً كما عرفت «3»، ثمّ رفع اليد عن ظهورها في وجوب مسح مجموع الظهر بعد تقييدها به؛ لما عرفت من كفاية المسمّى عرضاً بلا شبهة «4». و كذلك يجب رفع اليد عن ظهورها في وجوب الابتداء من رؤوس الأصابع و الانتهاء إلى الكعبين؛ لما سيأتي من جواز مسح الرجلين مُدبراً و مقبلًا «5».

و مع ذلك كلّه كيف يمكن رفع اليد عن ظهور الآية بسبب هذه الرواية؟! و منها: ما في رواية بكير و زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، المشتملة علىٰ حكايته وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) من أنّه

مسح رأسه و قدميه إلى الكعبين بفضل كفّيه لم يجدّد ماءً «6».

______________________________

(1) راجع ما تقدّم في الصفحة 462 463.

(2) انظر ما تقدّم في الصفحة 457.

(3) تقدّم في الصفحة 495.

(4) تقدّم في الصفحة 496.

(5) يأتي في الصفحة 517.

(6) تقدّم في الصفحة 449.

كتاب

الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 507

و يرد عليه ما عرفت: من أنّها مسوقة لبيان أنّه مسح بنداوة وضوئه «1»، و الدليل عليه قوله: «مسح رأسه»، مع أنّ الاستيعاب فيه لا يكون واجباً بالاتّفاق.

و منها: رواية الأعمش الدالّة علىٰ أنّ «الوضوء الذي أمر اللّٰه به في كتابه الناطق: غسل الوجه و اليدين إلى المرفقين، و مسح الرأس و القدمين إلى الكعبين» «2».

و دلالتها علىٰ ما ذكروه ممنوعة.

و منها: رواية علي بن عيسى الإربلي، عن علي بن إبراهيم في كتابه عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) الواردة في تعليم جبرائيل (عليه السّلام) الوضوء له (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) المشتملة علىٰ أنّ «الوضوء على الوجه و اليدين من المرفق، و مسح الرأس و الرجلين إلى الكعبين» «3».

و هي- مع أنّها مرسلة ممنوعة الدلالة.

و نظيرها رواية عيسى بن المستفاد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام)

أنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) قال لعلي و خديجة لمّا أسلما: إنّ جبرائيل عندي يدعوكما إلى الإسلام ..

إلىٰ أن قال

و إسباغ الوضوء على المكاره: الوجه و اليدين و الذراعين و مسح الرأس و مسح الرجلين إلى الكعبين

الحديث «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 497، 506.

(2) الخصال: 603/ 9، وسائل الشيعة 1: 397، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 18.

(3) كشف الغمّة 1: 88، وسائل الشيعة 1: 399، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 24.

(4) وسائل الشيعة 1: 400، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 25.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 508

و منها: ما رواه الكليني عن يونس، قال: أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه السّلام) بمنى

يمسح ظهر القدمين من أعلى القدم إلى الكعب، و من الكعب إلىٰ أعلى القدم، و يقول

الأمر في مسح الرجلين موسّع؛ من شاء مسح مُقبلًا و من شاء مسح مُدبراً، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء اللّٰه «1».

و لكنّها- مضافاً إلىٰ كونها مرسلة لا دلالة لها علىٰ وجوب الاستيعاب، فلعلّه (عليه السّلام) كان يعمل بالاستحباب، و غرض الراوي إنّما تعلّق ببيان أنّه مسح مُقبلًا و مُدبراً، فلا يرتبط بالمقام.

و كيف كان، فليس هنا ما يدلّ علىٰ لزوم الاستيعاب حتّى يقيّد به إطلاق الآية الشريفة.

و لكن ذهاب جُلّ العلماء- بل كلّهم إلىٰ زمان الشهيد الذي احتمل عدم الوجوب في «الذكرى» «2» إلىٰ وجوب الاستيعاب «3» يمنعنا عن التمسّك بإطلاق الآية، فاللازم و الأحوط مراعاة فتوى المشهور.

ثمّ إنّه بقي هنا أُمور يجب التنبيه عليها:
التنبيه الأوّل: في معنى الكعبين
اشارة

إنّ المراد بالكعبين، هل قُبّتا القدمين، و هما العظمان الناتئان في وسط القدم، كما هو المشهور بين الإماميّة- علىٰ ما هو ظاهر كلماتهم أو العظمان

______________________________

(1) قرب الإسناد: 306/ 1200، الكافي 3: 31/ 7، تهذيب الأحكام 1: 57/ 160، و 65/ 183، الاستبصار 1: 58/ 170، وسائل الشيعة 1: 407، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 20، الحديث 3.

(2) ذكرى الشيعة 2: 153.

(3) راجع ما تقدّم في الصفحة 501.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 509

الناتئان عن يمين الساق و شماله، كما هو مذهب الجمهور «1»، أو المفصل بين الساق و القدم، كما هو ظاهر عبارة العلّامة في محكيّ «المختلف»، و قد نزّل كلمات العلماء و معاقد إجماعاتهم عليه، و قال: «و في عبارة العلماء اشتباه علىٰ غير المحصّل» «2»، أو العظم المائل إلى الاستدارة الواقع في ملتقى الساق و القدم، و له زائدتان في أعلاه يدخلان في حفرتي قصبة الساق،

و زائدتان في أسفله يدخلان في حفرتي العقب، و هو نأتي في وسط ظهر القدم يعني وسطه العرضي و لكن نتؤه غير ظاهر بحسّ البصر، كما اختاره الشيخ البهائي (قدّس سرّه) في «أربعينه»، و نزّل كلام العلّامة عليه «3»؛ لأنّه قد يعبّر عنه بالمفصل لمجاورته له، أو من قبيل تسمية الحالّ باسم المحلّ، و هو الذي في أرجل الغنم و البقر، و بحث عنه علماء التشريح؟ وجوه و أقوال:

و الظاهر إطلاق الكعب علىٰ كلّ واحد منها.

و يمكن أن يقال: إنّ إطلاقه علىٰ غير ما اختاره العلّامة، إنّما هو باعتبار معناه الوصفي، و هو الارتفاع و النشوز، كما يقال: «كعب ثدي الجارية إذا علا» «4».

و عن ابن الأثير في «نهايته»: «و كلّ شي ء ارتفع فهو كعب» «5»، و المحكيّ عن «الصحاح» أنّه قال: «كعوب الرمح: النواشز في أطراف الأنابيب» «6»، و أمّا إطلاقه على المفصل فهو الذي ذكره في «القاموس» على ما هو المحكيّ عنه

______________________________

(1) المغني، ابن قدامة 1: 124، المجموع 1: 421.

(2) مختلف الشيعة 1: 125.

(3) الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 129 130.

(4) انظر المعتبر 1: 151، مدارك الأحكام 1: 220، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 414.

(5) مدارك الأحكام 1: 220، النهاية، ابن الأثير 4: 179.

(6) الصحاح 1: 213.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 510

فقال: «الكعب كلّ مفصل للعظام» «1»، و حكىٰ في «الأربعين» «2» عن الفخر الرازي في «تفسيره الكبير» أنّه قال: و المفصل يسمّىٰ كعباً «3».

و مع وجود هذا الاختلاف و التردّد، لا بدّ من ملاحظة الأخبار الواردة في بيان الكعبين، فنقول:

منها: صحيحة زرارة و بكير المتقدّمة «4»، و فيها: قلنا: أين الكعبان؟ قال

هاهنا يعني المفصل دون عظم الساق.

فقلنا: هذا ما هو؟

فقال

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 510

هذا من عظم الساق، و الكعب أسفل من ذلك

كما في الكافي «5»

أو عظم الساق

- كما في التهذيب «6» الحديث.

و الظاهر أنّ قوله

دون عظم الساق

وصف للمفصل، فيكون المراد: أنّ محلّ الكعبين هو المفصل الذي يقرب عظم الساق. و حينئذٍ فينطبق علىٰ ما ذكره البهائي، خصوصاً مع قوله في الذيل: «و الكعب أسفل من ذلك»، فإنّ المشار إليه بكلمة «ذلك»، هو عظم الساق الذي سأل الراويان عن أنّه ما هو، و حينئذٍ فأسفليّة الكعب منه لا تناسب العظم الناشز في ظهر القدم، و تعبيرهما في السؤال بكلمة «أين» الظاهرة في السؤال عن المحلّ ظاهر في أنّ محلّهما هو المفصل، لا أنّه هو نفس الكعب.

______________________________

(1) القاموس المحيط 1: 129.

(2) الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 125.

(3) التفسير الكبير 11: 162.

(4) تقدّم في الصفحة 449.

(5) الكافي 3: 26/ 5، وسائل الشيعة 1: 389، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3.

(6) تهذيب الأحكام 1: 76/ 191.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 511

فالرواية بظاهرها ناطقة بمقالة البهائي (قدّس سرّه).

و منها: حسنة ميسّر، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، في حكاية وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلىٰ قوله

ثمّ وضع يده على ظهر القدم، ثمّ قال: هذا هو الكعب، و قال: و أومأ بيده إلى الأسفل العُرقوب، ثمّ قال: إنّ هذا هو الظُّنْبوب «1».

و العُرقُوب- بالضمّ عصب غليظ فوق العقب، و الظاهر اتّصاله بعظم الساق، فيكون الغرض نفي ما يقوله الجمهور: من أنّه هو العظم الناشز

في آخر الساق. إلّا أنّ قوله: «وضع يده علىٰ ظهر القدم» محتمل لأن يكون محلّه هي القُبّة أو المفصل، و لا دلالة له علىٰ خصوص أحدهما إلّا أنّ حمل الكعب علىٰ نفس ظاهر القدم يُشعر بخلاف قول البهائي، كما لا يخفى.

و كيف كان، فالرواية مجملة من حيث احتمالها لأمرين.

هذا، و يمكن أن يستظهر من الأخبار الواردة في قطع رجل السارق- منضمّة بعضها إلىٰ بعض أنّ المراد بالمفصل هو المفصل الواقع في وسط القدم:

منها: رواية معاوية بن عمّار، قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

يقطع من السارق أربع أصابع و يترك الإبهام، و تُقطع الرِّجْل من المفصل و يترك العقب يطأ عليه «2».

و منها: ما رواه عن أبي جعفر (عليه السّلام) في حديث السرقة قال

و كان إذا قطع اليد قطعها دون المفصل، فإذا قطع الرِّجْل قطعها من الكعب. قال: و كان لا يرى أن يُعفىٰ عن شي ء من الحدود «3».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 75/ 190، وسائل الشيعة 1: 391، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 9.

(2) كتاب النوادر: 151/ 388، وسائل الشيعة 28: 254، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ السرقة، الباب 4، الحديث 7.

(3) الفقيه 4: 46/ 8، وسائل الشيعة 28: 254، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ السرقة، الباب 4، الحديث 8.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 512

و منها: رواية سماعة بن مهران، قال: قال: «إذا أخذ السارق قُطعت يده من وسط الكفّ، فإن عاد قطعت رجله من وسط القدم فإن عاد استُودع السجن، فإن سرق في السجن قتل» «1».

و منها: رواية إسحاق بن عمّار، عن أبي إبراهيم (عليه السّلام)، قال

تُقطع يد السارق و يُترك إبهامه و صدر راحته، و

تُقطع رجله و يترك له عقبه يمشي عليها «2».

فإنّ الجمع بين هذه الروايات المختلفة بحسب الظاهر حيث إنّ مفاد الاولىٰ هو القطع من المفصل، و مفاد الثانية هو القطع من الكعب، و مدلول الثالثة هو القطع من وسط القدم، و الأخيرة هو القطع بمقدار يمكن له المشي على الباقي، يقتضي أن يكون المراد بالكعب هو المفصل، و بالمفصل هو الواقع في وسط القدم، فالمراد بالكعب هو وسط القدم، كما هو المشهور بينهم.

و بالجملة: فانعقاد الإجماع بين الإماميّة علىٰ أنّ المقدار الذي يجب قطعه من رجل السارق، هو الذي يمكن له المشي على الباقي، و دلالة الرواية على إطلاق الكعب و المفصل عليه، يدلّ علىٰ أنّ المراد بالكعب هي ما في وسط القدم من القُبّة، و بالمفصل هو الواقع في وسطه أيضاً؛ إذ لو قُطعت من المفصل بين الساق و القدم لا يمكن له المشي على الباقي، كما هو واضح، و حينئذٍ فيرتفع البعد عن أن يكون المراد بالمفصل- في صحيحة الأخوين الواردة في المقام هو

______________________________

(1) الكافي 7: 223/ 8، تهذيب الأحكام 10: 103/ 400، وسائل الشيعة 28: 252، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ السرقة، الباب 4، الحديث 3.

(2) الكافي 7: 224/ 13، علل الشرائع: 537/ 5، وسائل الشيعة 28: 252، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب حدّ السرقة، الباب 4، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 513

المفصل الواقع في وسط القدم، بل لا بدّ- بملاحظة هذه الروايات من حملها علىٰ ذلك، و حينئذٍ فيكون المراد من قوله: «دون عظم الساق» هو غير عظم الساق فلا ينافي الحمل على المفصل بهذا المعنىٰ.

كما أنّه بذلك يرتفع إجمال رواية ميسر أيضاً؛ إذ لا بدّ من

حملها علىٰ كون المراد بظهر القدم هو وسطه.

و يمكن أن يناقش في استفادة هذا المعنىٰ من أخبار السرقة: بأنّ المراد بالقدم هو الذي يكون العقب جزءاً منه، فحدّه من رؤوس الأصابع إلىٰ آخر العقب، و حينئذٍ فيمكن أن يكون المراد بالمفصل هو المفصل بين الساق و القدم، كما هو الظاهر منه عند الإطلاق؛ إذ هو واقع في وسط القدم تقريباً. و يؤيّده: ما في أكثرها من أنّه «يُترك له العقب»، فإنّه لو قطع من قُبّة القدم يبقىٰ له أزيد من العقب.

و بالجملة: فلو كان المفصل الواقع في الوسط منحصراً بالقُبّة، لكان اللازم بملاحظة وجوب القطع من الوسط- كما في رواية سماعة حمله عليه؛ و القول: بأنّه المراد بالكعب، و لكن حيث إنّه يمكن توصيف المفصل بين الساق و القدم بوقوعه في وسط القدم، فأيّ مانع من أن تكون رواية معاوية قرينة علىٰ أنّ المراد بوسط القدم- الواقع في رواية سماعة هو الذي ينطبق على هذا المفصل؟! هذا مضافاً إلىٰ أنّه لو سُلّم كون مدلول أخبار السرقة، هو إطلاق الكعب على المفصل الواقع في وسط القدم؛ أي قبّته، و لكن ذلك لا يوجب أن يكون المراد به في المقام أيضاً ذلك؛ إذ لا ملازمة بين المقامين.

و الذي يمكن أن يقال: إنّ إطلاق «الكعب» إنّما هو بملاحظة معناه الوصفي، و هو الارتفاع و النشوز، و ما حُكي عن بعض اللغويّين من إطلاقه علىٰ

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 514

كلّ مفصل للعظام «1»، فالظاهر أيضاً أنّ إطلاقه عليه بملاحظة الارتفاع الحاصل للعظام عند التقائها، كما نراه بالعيان، فإنّ المفصل حيث يكون مجمعاً للعظمين فصاعداً، فلا محالة يكون مرتفعاً عن سائر أجزاء العظم، و حينئذٍ فالمَفصل من

حيث إنّه مَفصل لا يطلق عليه الكعب، بل بملاحظة النشوز و النتوء المتحقّق عنده.

و يؤيّده ما تقدّم من المحكيّ عن «الصحاح» «2»، فإنّ ظاهره أنّ الكعب يطلق على النواشز في أطراف الأنابيب، لا نفس الأنابيب التي هي المفاصل.

نعم إطلاقه على العظم المائل إلى الاستدارة، الواقع في ملتقى الساق و القدم- و هو الذي يلعب به الصبيان في غير عظم الإنسان ممّا لا مجال لإنكاره.

فالأمر- حينئذٍ يدور بين ما ذكره المشهور- علىٰ ما هو ظاهر عبائرهم، بل صريحها و بين ما ذكره البهائي «3».

فنقول: الخبر المتقدّم الدالّ علىٰ أنّ الكعب هو ظهر القدم، و كذا غيره من الأخبار الدالّة علىٰ ذلك، يعيّن مقالة المشهور؛ لعدم كون ذلك العظم في ظهر القدم؛ و إن سلّمنا اتّصافه بوقوعه في وسط القدم.

مضافاً إلىٰ أنّه لو سُلّم الإجمال فوجوب المسح إلى الكعبين- الذي دلّت عليه الآية الشريفة «4» يتحقّق امتثاله بالمسح إلىٰ قبّة القدم؛ لأنّه مسح إلى الكعب.

______________________________

(1) القاموس المحيط 1: 129.

(2) تقدّم في الصفحة 509.

(3) الأربعون حديثاً، الشيخ البهائي: 129 130.

(4) المائدة (5): 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 515

و إلى أنّ ظاهر كلمات الأصحاب و معاقد إجماعاتهم- بل صريحها هو كون الكعب هي القبّة «1».

و العجب من العلّامة (قدّس سرّه) كيف نزّل عباراتهم علىٰ مقالته «2» مع صراحة بعضها- بل أكثرها في خلافه؟! فالأقوى ما ذكره المشهور و إن كان الأحوط خلافه، فتدبّر جيّداً.

تتمةٌ: في دخول الكعبين في الممسوح

هل الكعبان داخلان في المسافة، فيجب مسحهما، أو لا؟ وجهان، بل قولان «3».

ظاهر الآية الشريفة هو الثاني؛ سواء فرض كونهما غاية للمسح أو للممسوح.

و الوجه فيه: خروج الغاية عن المغيّا، كما عرفت في غسل اليدين «4».

و وقوع الكعب بداية للمسح في رواية يونس

المتقدّمة قال: «أخبرني من رأى أبا الحسن (عليه السّلام) بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب و من الكعب إلى أعلى القدم» «5» لا يدلّ على كونه داخلًا فيما يجب مسحه؛ لأنّ

______________________________

(1) المقنعة: 44، تهذيب الأحكام 1: 74/ ذيل الحديث 118، المعتبر 1: 148، المختصر النافع: 6، منتهى المطلب 1: 64/ السطر 12 13، التنقيح الرائع 1: 83، ذكرى الشيعة 2: 149، الروضة البهيّة 1: 326.

(2) تقدّم في الصفحة 509.

(3) المعتبر 1: 152، منتهى المطلب 1: 64، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 2: 421.

(4) تقدّم في الصفحة 428.

(5) تقدّم في الصفحة 508.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 516

التعبير بكلمة «من» لا يدلّ علىٰ دخول مدخولها، بل يصدق مع الخروج أيضاً، كما يظهر بمراجعة المحاورات العرفيّة.

و بالجملة: فالرواية أجنبيّة عن الدلالة علىٰ دخول الكعب في المسافة.

مضافاً إلىٰ أنّ ما في خبر الأخوين المتقدّم من قوله (عليه السّلام)

فإذا مسحت بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلىٰ أطراف أصابعك «1».

يدلّ علىٰ خروجهما؛ لأنّ ظاهره كون المسافة هي ما بين الحدّين لأنفسهما، و قد عرفت أنّ ظاهر هذه الرواية كون الكعبين في الآية الشريفة غاية للممسوح «2»؛ لأنّ التعبير بكلمة «إلى» إنّما وقع في طرف الأصابع، و معه لا يبقى إشكال في خروجهما، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه يمكن أن يقال: إنّ مرسلة يونس المتقدّمة أجنبيّة عن الدلالة علىٰ وجوب مسح الكعب؛ و لو قلنا بكون مدخول كلمة «من» داخلًا في المسافة.

توضيحه: أنّ المراد بأعلى القدم ليس رؤوس الأصابع- كما ربما يتوهّم «3» بل المراد به هو أعلاه حقيقة، و هو ما فوق قبّة القدم من المفصل بينه و بين الساق؛ لأنّ إطلاقه علىٰ رؤوس الأصابع ممّا

لا وجه له، و حينئذٍ فالمراد بقوله: «يمسح ظهر قدميه» ليس أنّ الإمام (عليه السّلام) مسح في وضوئه كذلك، بل المراد به أنّه فعل كذلك؛ تنبيهاً علىٰ أنّ أمر مسح الرّجْل موسّع لا في

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 449.

(2) تقدّم في الصفحة 503 504.

(3) انظر جواهر الكلام 2: 220، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 421.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 517

وضوئه، بل في مقام التعليم، و حينئذٍ فلا تكون الرواية مسوقة لبيان المسح في الوضوء؛ من حيث الشروع من الكعب إلىٰ أعلى القدم و بالعكس، بل كان ذلك للإشارة إلىٰ موسّعيّة أمر مسح الرّجْل.

و من هنا يستكشف أنّ المراد بالكعب هي قُبّة القدم؛ ضرورة أنّه لو كان هو المفصل، لم يكن تغاير بينه و بين أعلى القدم بمعناه الحقيقي؛ لأنّ المراد به هو المفصل أيضاً، فافهم و اغتنم.

التنبيه الثاني: جواز النكس في مسح القدمين

إنّه يجوز المسح منكوساً. و الوجه فيه: إطلاق الآية الشريفة الدالّة علىٰ أنّ الواجب هو مسح المقدار المحدود بالكعبين؛ لما عرفت من أنّ كلمة «إلىٰ» في الآية الشريفة تدلّ علىٰ غاية الممسوح- بملاحظة رواية الأخوين المتقدّمة «1» لو سلّمنا ظهورها في نفسها في كونها غاية للمسح، و لنا أن ننكر ذلك، و نقول بمنع هذا الظهور، بل الآية- و لو مع قطع النظر عن الرواية أيضاً ظاهرة في ذلك، كما يشهد به ملاحظة الاستعمالات العرفيّة، و حينئذٍ فإطلاقها يقتضي جواز المسح منكوساً؛ بأن يمسح من الكعب إلى رؤوس الأصابع، و كذا بعضه مُقْبلًا و بعضه مُدْبراً.

و يدلّ علىٰ جوازه منكوساً- مضافاً إلىٰ ذلك قوله (عليه السّلام)- في صحيحة حمّاد المتقدّمة «2» في مسح الرأس

لا بأس بمسح الوضوء مُقْبلًا و مُدْبراً

، و في خبر آخر له أيضاً

لا بأس بمسح القدمين مُقبلًا و مُدبراً «3».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 449.

(2) تقدّمت في الصفحة 489.

(3) تقدّم في الصفحة 489.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 518

و ظاهرهما هو التخيير بين إيقاعه بتمامه مُقبلًا و بين إيقاعه كذلك مُدبراً، لا الجمع بينهما في مسح واحد.

و تؤيّده: مرسلة يونس المتقدّمة «1»، و فيها: أنّه يقول

الأمر في مسح الرِّجْلين موسّع؛ من شاء مسح مُقبلًا، و من شاء مسح مُدبراً، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء اللّٰه تعالىٰ.

و لكن لا دليل علىٰ تقييد إطلاق الآية بغير هذه الصورة، فالأقوى الجواز مطلقاً؛ و إن كان الأحوط ترك التبعيض.

التنبيه الثالث: في الترتيب بين الرجلين
اشارة

إنّه- على الأشهر «2» ليس بين الرجلين ترتيب.

و الدليل عليه إطلاق خصوص الآية الشريفة الآمرة بمسح الأرجل من دون تعرّض للترتيب، و ليس هنا إطلاق يمكن الاستناد إليه غيره؛ و ذلك لأنّ الأخبار البيانيّة «3» كلّها مسوقة لبيان جهة أُخرى، كانت معركة للآراء بين العامّة و الخاصّة، و ليست واردة لبيان هذه الجهة حتّى يجوز الأخذ بإطلاقها كما يظهر بالتأمّل فيها، بل في بعضها إشعار بثبوت الترتيب بين الرّجْلين أيضاً.

و بالجملة: فدعوى: أنّ خلوّها عن التعرّض لهذه الخصوصيّة علىٰ كثرتها و تعرّضها لسائر الخصوصيّات قرينة علىٰ عدم كون هذه الخصوصيّة

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 508.

(2) المعتبر 1: 155 156، مختلف الشيعة 1: 130، ذكرى الشيعة 2: 155، مدارك الأحكام 1: 222، جواهر الكلام 2: 226 227، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 425.

(3) راجع وسائل الشيعة 1: 387، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 519

ملحوظة عندهم «1».

ممنوعة جدّاً؛ لما عرفت من عدم كونها مسوقة لبيان هذه الجهة- كما يظهر لمن راجعها فليس في البين إلّا إطلاق

الآية الشريفة المقابل للتقييد، فنقول:

الاستدلال بالأخبار على الترتيب بين الرجلين

هنا روايات يمكن تقييد الإطلاق بها:

منها و هي أظهرها: صحيحة محمّد بن مسلم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: ذكر المسح، فقال

امسح علىٰ مقدّم رأسك، و امسح على القدمين، و ابدأ بالشِّقّ الأيمن «2».

و منها: صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السّلام)

تابع بين الوضوء كما قال اللّٰه عزّ و جلّ؛ ابدأ بالوجه، ثمّ باليدين، ثمّ امسح الرأس و الرجلين، و لا تُقدِّمنَّ شيئاً بين يدي شي ء تخالف ما أُمرت به، فإن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه و أعد على الذراع، و إن مسحت الرِّجْل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرِّجل، ثمّ أعد على الرجل؛ ابدأ بما بدأ اللّٰه عزّ و جلّ به «3».

فإنّ قوله (عليه السّلام)

تابع بين الوضوء

حكم كلّي بالنسبة إلىٰ جميع أجزائه.

فقوله (عليه السّلام)

ابدأ بالوجه ..

إلىٰ آخره إنّما هو مذكور علىٰ سبيل

______________________________

(1) جواهر الكلام 2: 227، مصباح الفقيه، الطهارة 2: 425 426.

(2) الكافي 3: 29/ 2، وسائل الشيعة 1: 418، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 25، الحديث 1.

(3) الكافي 3: 34/ 5، الفقيه 1: 28/ 89، تهذيب الأحكام 1: 97/ 251، الإستبصار 1: 73/ 223، وسائل الشيعة 1: 448، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 520

المثال، فلا دلالة له على انحصار الترتيب بما ذكر، و الدليل عليه ما ذكره (عليه السّلام) في الذيل من قوله

إن مسحت الرِّجْل قبل الرأس ..

إلىٰ آخره، فإنّ مقتضاه وجوب تقديم مسح الرأس على الرجلين، مع أنّ قوله (عليه السّلام)

ثمّ امسح الرأس و الرجلين

لا دلالة له علىٰ ذلك، كما هو ظاهر.

و منها: رواية أبي هريرة: «أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه

و آله و سلّم) كان إذا توضّأ بدأ بميامنه» «1» و لكنّها- مضافاً إلىٰ كونها ضعيفة السند «2» ممنوعة الدلالة، فإنّها حكاية لفعله (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و هو أعمّ من الوجوب، كما هو واضح.

و منها: رواية محمّد بن عبيد اللّٰه بن أبي رافع- و كان كاتب أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه كان يقول

إذا توضّأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمنى- باليمين قبل الشمال من جسده «3».

و لكنّها ضعيفة السند «4».

و منها: ما رواه في «الاحتجاج» عن محمّد بن عبد اللّٰه بن جعفر الحِمْيري، عن صاحب الزمان- عجّل اللّٰه تعالىٰ فرجه الشريف: أنّه كتب إليه يسأله عن

______________________________

(1) أمالي الطوسي: 386/ 844، وسائل الشيعة 1: 449، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 3.

(2) رواها الحسن بن محمّد الطوسي في مجالسه، عن أبيه، عن محمّد بن محمّد بن مخلد، عن أبي عمرو، عن يحيى بن أبي طالب، عن عبد الرحمن بن علقمة، عن عبد اللّٰه بن المبارك، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زياد، عن أبي هريرة.

(3) رجال النجاشي: 7، وسائل الشيعة 1: 449، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 4.

(4) رواها أحمد بن علي بن العبّاس النجاشي، عن أبي الحسن التميمي، عن أحمد بن محمّد بن سعيد، عن علي بن القاسم البجلي، عن علي بن إبراهيم بن المعلّى، عن عمر بن محمّد بن عمر بن علي بن الحسين، عن عبد الرحمن بن محمّد بن عبيد اللّٰه بن أبي رافع.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 521

المسح على الرجلين بأيّهما يبدأ باليمين أو يمسح عليهما جميعاً معاً؟

فأجاب (عليه السّلام)

يمسح عليهما جميعاً معاً، فإن بدأ بإحداهما قبل الأُخرىٰ فلا يبدأ إلّا

باليمين «1».

و منها: رواية الحلبي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال: «إذا نسي الرجل أن يغسل يمينه، فغسل شماله و مسح رأسه و رجليه، فذكر بعد ذلك غسل يمينه و شماله و مسح رأسه و رجليه، و إن كان إنّما نسي شماله فلْيغسل الشمال، و لا يعيد علىٰ ما كان توضّأ. و قال: أتبع وضوءك بعضه بعضاً» «2».

فإنّ ذيلها يستفاد منه حكم كلّي بالنسبة إلىٰ جميع أجزاء الوضوء و إن كان موردها غسل اليدين.

و بالجملة: فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال في دلالة هذه الروايات على اعتبار الترتيب؛ و عدم جواز تقديم اليسرىٰ على اليمنىٰ.

نعم مقتضىٰ إطلاق أكثرها تعيّن تقديم اليمنىٰ على اليسرىٰ، و لكنّه مقيّد بما إذا أراد البدأة بإحداهما علىٰ ما يقتضيه التوقيع المتقدّم.

و حينئذٍ فرفع اليد عن إطلاق الآية الشريفة بسبب هذه الروايات- التي بعضها صريح في وجوب الترتيب، كصحيحة محمّد بن مسلم «3» ممّا لا إشكال فيه.

و دعوى الشهرة علىٰ خلافه «4» ممّا لا تسمع، خصوصاً بعد دعوى

______________________________

(1) الاحتجاج 2: 589 590، وسائل الشيعة 1: 450، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 5.

(2) الكافي 3: 34/ 4، تهذيب الأحكام 1: 99/ 259، الإستبصار 1: 74/ 228، وسائل الشيعة 1: 452، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 35، الحديث 9.

(3) تقدّم في الصفحة 519.

(4) انظر جواهر الكلام 2: 229.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 522

الشيخ (قدّس سرّه) في «الخلاف» الإجماع على وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء كلها «1»، فالأقوى و الأحوط مراعاة الترتيب، فتدبّر.

حول كفاية مسح الرجلين بيد واحدة

ثمّ إنّه هل يجب أن يكون مسح الرجلين بكلتا اليدين؛ بأن يمسح كلّ واحدة منهما بغير ما يمسح به الأُخرى، أو يكفي مسحهما بيد واحدة؟

و على

التقدير الأوّل هل يعتبر أن يكون مسح الرّجْل اليمنىٰ باليد اليمنىٰ و الرّجل اليسرى باليد اليسرى، أو يكفي العكس أيضاً؟ وجوه:

مقتضىٰ إطلاق الآية الشريفة- بعد تقييدها بلزوم كون المسح ببلّة الوضوء، و كون الآلة هي اليد، كما عرفت «2» هو كفاية المسح باليد مطلقاً؛ بلا اعتبار قيد آخر، فيجوز مسحهما بيد واحدة، و ليس هنا ما يمكن أن يستفاد منه التقييد إلّا صحيحة زرارة المتقدّمة «3»، الواردة في حكاية أبي جعفر وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و فيها

و مسح مقدّم رأسه و ظهر قدميه ببلّة يساره و بقيّة بلّة يمناه.

و فيها أيضاً أنّه قال أبو جعفر (عليه السّلام)

إنّ اللّٰه وِتْر يُحبّ الوِتْر، فقد يُجزيك من الوضوء ثلاث غُرفات: واحدة للوجه، و اثنتان للذراعين، و تمسح ببلّة يُمناك ناصيتك، و ما بقي من بلّة يمينك ظَهْر قدمك اليمنى، و تمسح ببلّة يسارك ظَهْر قدمك اليسرى

الحديث.

و دلالة قوله: «و مسح مقدّم رأسه ..» إلىٰ آخره علىٰ المطلوب ممنوعة؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ أنّ غاية مدلوله: أنّه (عليه السّلام) مسح رجليه بكلتا

______________________________

(1) الخلاف 1: 95 96، المسألة 42.

(2) تقدّم في الصفحة 471.

(3) تقدّم في الصفحة 453، 464، 473، 478، 497.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 523

يديه، و لا دلالة فيه علىٰ أنّه مسح الرّجل اليمنىٰ باليد اليمنىٰ و اليسرى باليسرى أنّه مسوق لبيان كفاية البِلّة في مقابل القول باعتبار الماء الجديد، كما هو ظاهر.

و أمّا قول أبي جعفر (عليه السّلام) فدلالته على التقييد مبنيّة علىٰ أن يكون قوله

و تمسح ببلّة يُمناك ..

إلىٰ آخره جملة مستقلّة غير مرتبطة بسابقها، و أمّا لو كان منصوباً معطوفاً علىٰ فاعل «يجزيك»؛ بحيث كان متفرّعاً

علىٰ كفاية ثلاث غُرفات- كما أنّ دعواه غير بعيدة فلا دلالة على المقام؛ لأنّ مفاده- حينئذٍ مجرّد كفاية ثلاث غرفات و المسح بالبلّة و عدم لزوم الماء الجديد، و لا نظر له إلىٰ آلة المسح.

و على الأوّل أيضاً يمكن منع جواز تقييد الآية به؛ لأنّ اعتبار اليُمنىٰ في مسح الرأس- مضافاً إلىٰ ظهوره في وجوب مسح الناصية بأجمعها ربما يُوهن التمسّك به في مسح الرّجل أيضاً.

و بالجملة: فرفع اليد عن إطلاق الآية بسبب هذه الرواية في غاية الإشكال، فالظاهر- حينئذٍ هو الوجه الأخير و إن كان الأحوط هو الأوّل.

التنبيه الرابع: حكم من قطع بعض مواضع مسحه

إذا قُطع بعض موضع المسح يجب عليه المسح علىٰ ما بقي، و الوجه فيه ما عرفت: من أنّ التحديد في الآية إنّما وقع من طرف الكعب فقط، لا من الطرفين «1»، فإذا قطع بعض موضع المسح فالقدرة علىٰ مسح الرّجل إلى الكعب- المأمور به في الآية الشريفة باقية بعد، فيجب عليه مسح المقدار الباقي.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 503.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 524

التنبيه الخامس: في حكم مقطوع الرِّجل من الكعب

لو قطع من الكعب: فتارة يكون من ابتدائه، و أُخرى من فوقه.

ففي الأوّل: إن قلنا بدخوله في المحدود و وجوب مسحه أيضاً، فحكمه حكم ما لو قطع ممّا دون الكعب بلا إشكال، و إن قلنا بخروجه عنه و عدم وجوب مسحه فحكمه حكم الفرض الآتي.

و في الثاني مقتضى القواعد سقوط الوضوء و انتقال الفرض إلى التيمّم، و ليس المقام من قبيل أقطع اليد الذي حكمنا فيه سابقاً بسقوط غسل اليد بالنسبة إليه «1»؛ لأنّه هنا يكون قادراً على التيمّم الكامل، بخلاف أقطع اليد الذي دار أمره بين الوضوء الناقص و التيمّم كذلك، كما هو غير خفيّ، و رواية رفاعة المتقدّمة الواردة في أقطع اليد و الرّجل «2» ظاهرها ما إذا بقي من موضع الغسل و المسح شي ء، و لذا سُئل فيها عن حكم موضع القطع، و قد تقدّم.

و توهّم: أنّ العجز عن امتثال الأمر بمسح الأرجل لا يوجب سقوط الأمر بغسل الوجه و اليدين و مسح الرأس لأنّ هنا أوامر متعدّدة «3».

مدفوع: بمنع ذلك؛ و أنّ هذه الأوامر مسوقة لبيان كيفيّة الوضوء، و لا يكون كلّ واحد منها أمراً مستقلا، مضافاً إلىٰ أنّ لازم ذلك الاكتفاء بغسل الوجه فقط فيما إذا لم يقدر إلّا عليه، مع أنّه لا يلتزم به

أحد، و التمسّك بقاعدة الميسور قد عرفت ما فيه «4».

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 438.

(2) تقدّم في الصفحة 433.

(3) انظر مستند الشيعة 2: 143.

(4) تقدّم في الصفحة 302.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 525

و بالجملة: فالقاعدة تقتضي سقوط الوضوء بعد العجز عنه، و انتقال الفرض إلى التيمّم، إلّا أنّ الظاهر أنّه لا خلاف في وجوب الوضوء، و قد حُكي عن جماعة نقل الإجماع عليه «1»، و الأحوط الجمع بينهما.

التنبيه السادس: في وجوب المسح على البشرة
اشارة

إنّ الواجب هو المسح علىٰ بشرة القدم، و لا يجوز علىٰ حائل من خُفّ أو غيره إلّا في مورد التقيّة أو الضرورة؛ لما عرفت- فيما تقدّم من أنّ الأرجل حيث لا تكون بحسب النوع ذات شعر كثير كالوجه و الرأس، فالمتبادر عند العرف من وجوب المسح عليها، هو المسح علىٰ نفس البشرة، بخلافهما «2»، و حينئذٍ فلو فرض كون الشعر بحيث يمنع عن وصول الماء إليها، فلا بدّ من إزالته أو المسح على الموضع الخالي منه.

و لكن مقتضىٰ عموم صحيحة زرارة المتقدّمة كفاية المسح عليه؛ حيث قال: قلت له: أ رأيت ما كان تحت الشعر؟ قال

كلّ ما أحاط به الشعر فليس للعباد أن يغسلوه، و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء «3».

و قد عرفت- فيما سبق أنّ العدول في الجواب عن خصوص المورد، و التعبير بكلمة «كلّ»، دليل علىٰ عدم اختصاص الحكم المذكور في الجواب به و شموله لجميع مواضع الوضوء «4»، فالرواية بعمومها تدلّ علىٰ عدم وجوب

______________________________

(1) جواهر الكلام 2: 230.

(2) تقدّم في الصفحة 491.

(3) تهذيب الأحكام 1: 364/ 1106، وسائل الشيعة 1: 476، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 46، الحديث 2.

(4) تقدّم في الصفحة 22.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص:

526

البحث عمّا أحاط به الشعر و كفاية غسل الظاهر أو مسحه. هذا في الشعر.

و أمّا في غير الشعر ممّا يكون حائلًا كالخُفّ أو غيره، فلا إشكال في عدم جواز المسح عليه، و لا يختصّ ذلك بالأرجل؛ لوضوح أنّه لا يجوز المسح على الحائل في الرأس أيضاً، و ما ورد من جواز المسح على الحِنّاء «1» متروك أو مؤوّل.

في جواز المسح على النعلين
اشارة

و كيف كان، فقد ورد في الأخبار: جواز المسح على النعلين؛ و عدم وجوب استبطان الشراكين و إدخال الأصابع تحتهما «2».

و لكن وقع الكلام في أنّ المسح على الشراك، هل يقوم مقام المسح على المقدار المستور به، أو أنّه يكفي لمثل هذا الشخص المسح إلى حدّ الشراك، و لا يجب عليه أزيد من ذلك المقدار؛ لا على البشرة، و لا على الشراك، أو أنّ عدم وجوب الاستبطان، إنّما هو لكون معقد الشراك خارجاً عن موضع المسح، فلا يكون ذلك مستثنى من الحائل الذي لا يجوز المسح عليه؟ وجوه، أجودها الأخير؛ لما عرفت: من أنّ الكعب هي قبّة القدم، و أنّ الظاهر خروجه عن المسافة التي يجب مسحها، و المعلوم أنّ معقد الشراك خارج عن موضع المسح، فكما لا يجب الاستبطان لا يجب المسح على الشراك أيضاً. هذا هو مقتضى القاعدة.

و أمّا الروايات الواردة في هذا المقام:

فمنها: صحيحة الأخوين المتقدّمة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، أنّه قال في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 359/ 1079 و 1081، الاستبصار 1: 75/ 232 و 233، وسائل الشيعة 1: 455 456، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 37، الحديث 3 و 4.

(2) الفقيه 1: 27/ 86، تهذيب الأحكام 1: 64/ 182، وسائل الشيعة 1: 414، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث

4، و 460، الباب 38، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 527

المسح

تمسح على النعلين، و لا تدخل يدك تحت الشِّراك، و إذا مسحت بشي ء من رأسك، أو بشي ء من قدميك ما بين كعبيك إلىٰ أطراف أصابعك- الأصابع فقد أجزأك «1».

و المراد بالمسح على النعلين ليس المسح على الشراك، و إلّا لكان ذلك منافياً للذيل المسوق لبيان حدّ المسح في القدمين؛ و أنّه ما بين الكعبين إلىٰ أطراف الأصابع؛ لما عرفت من أنّ الكعب هي قبّة القدم «2»، و ما بينه و بين الأصابع الذي هو حدّ المسح ليس معقد الشراك، فوجوب المسح عليه يُنافي التحديد بذلك المقدار، كما هو واضح.

و نظيرها رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

توضّأ عليٌّ؛ فغسل وجهه و ذراعيه، ثمّ مسح علىٰ رأسه و علىٰ نعليه، و لم يدخل يده تحت الشِّراك «3».

و منها: صحيحة أُخرى للأخوين أيضاً طويلة، و فيها: أنّه- يعني أبا جعفر (عليه السّلام) قال

و لا يدخل أصابعه تحت الشِّراك.

ثمّ قال

إنّ اللّٰه تعالىٰ يقول يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذٰا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلٰاةِ ..

إلىٰ آخر الآية. ثمّ قال

فإذا مسح بشي ء من رأسه، أو بشي ء من قدميه بين الكعبين إلىٰ أطراف الأصابع، فقد أجزأه «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 90/ 237، وسائل الشيعة 1: 414، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 4.

(2) تقدّم في الصفحة 508.

(3) الكافي 3: 31/ 11، وسائل الشيعة 1: 414، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 23، الحديث 3.

(4) الكافي 3: 25/ 5، وسائل الشيعة 1: 388، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 528

فإنّ ظاهرها وجوب مسح ذلك المقدار من نفس

القدم، فيصير قرينة علىٰ أنّ المراد بالمسح على النعلين- في الخبرين المتقدّمين ليس المسح على الشراك، بل المراد المسح في حال كونه من النعلين.

و يمكن أن يقال باتّحاد الرواية الاولىٰ مع هذه الرواية، الخالية عن المسح على النعلين، و كون إحداهما منقولة بالمعنى، و حينئذٍ فينحصر ما يدلّ علىٰ ذلك بالرواية الثانية، و هي غير نقيّة السند «1»، فالظاهر عدم وجوب المسح علىٰ ظاهر الشراك، و كون معقده خارجاً عن المسافة.

نعم لو فُسّر الكعب بالمفصل، أو قيل بدخوله في المسافة، لكان للإشكال مجال، و لكنّه خلاف التحقيق، كما عرفت «2».

______________________________

(1) رواها الكليني، عن الحسين بن محمّد، عن معلّى بن محمّد، عن الوشاء، عن أبان بن زرارة. و الرواية غير نقية السند بمعلّى بن محمّد الذي قال النجاشي فيه: إنّه مضطرب الحديث و المذهب و كتبه قريبة.

راجع رجال النجاشي: 418/ 1117، رجال العلّامة الحلّي: 259/ 2، الوجيزة، المجلسي: 324، تنقيح المقال 3: 233/ 1202.

(2) تقدّم في الصفحة 515، 517.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 529

التقيّة و حكمها
اشارة

و حيث جرىٰ في الكلام ذكر التقية، و استثناء صورتها من عدم جواز المسح على الحائل، فلا بأس ببيان موضوعها و حكمها بنحو الإطلاق؛ و تفصيل القول في هذا المقام لكثرة الفوائد و الآثار المترتّبة عليها، فنقول:

انقسامات التقيّة

التقيّة لها إضافة إلىٰ فاعلها المسمّى بالمتّقي، و إضافة إلى الشخص الذي يُتّقىٰ عنه، و إضافة إلى الشي ء الذي يُتّقىٰ فيه، و تنقسم بملاحظة الإضافات الثلاثة إلى تقسيمات:

أمّا بملاحظة فاعلها المسمّى بالمتّقي، فتنقسم إلىٰ أنّ المتّقي: قد يكون نبيّاً، و قد يكون وصي نبي، و قد يكون غيرهما من الرعيّة.

و لا يترتّب علىٰ بيان حكم هذه الأقسام- من حيث جواز التقيّة على النبيّ و عدمه و كذا على الإمام كثير فائدة.

و أمّا بملاحظة من يُتّقىٰ عنه: فتارة يكون ذلك الشخص من الكفّار، و أُخرى من الفرق المنتحلين للإسلام، و ثالثة من المسلمين.

و على التقدير الثالث: قد يكون سلطاناً، و قد يكون مرجعاً للفتوىٰ، و قد

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 530

يكون من العوامّ و من الرعيّة.

و الفرض الأوّل و الأخير من هذه الفروض الثلاثة يجري فيما لو كان شيعيّاً إماميّاً، فإنّه قد يتّفق أن يرى السلطان الإمامي المصلحة في اتّفاق الأُمّة؛ و الأخذ بفتاوى مراجع أهل التسنّن، فتتحقّق التقيّة عنه- حينئذٍ في فعل أو ترك أو خصوصيّة عمل مثلًا، كما أنّ التقيّة ربما تتحقّق بالنسبة إلىٰ عوامّ الشيعة، المعتقدين لما هو خلاف الحقّ و فتاوي مراجعهم، و من هنا يعرف أنّ التقيّة عن عوامّ العامّة و إظهار موافقتهم، قد يكون فيما أخذوه من مراجعهم، و قد يكون فيما يعتقدونه و لو كان مخالفاً لفتاوي مراجعهم.

و أمّا بملاحظة الشي ء الذي يُتّقىٰ فيه: فتارة يكون في الدماء، و

أُخرى في غيرها من الأُمور الكثيرة و الأشياء غير العديدة.

ثمّ إنّ التقيّة قد تشتمل على الخوف، و قد لا تكون كذلك، بل المقصود بها مجرّد المداراة مع من يُتّقىٰ عنه. و على الأوّل: قد يكون الخوف عن الضرر على نفسه أو من يتعلّق به، و قد يكون عن الضرر علىٰ غيره من المسلمين، و قد يكون عن الضرر على الإسلام.

في حدود جريان التقيّة

إذا عرفت ذلك فنقول: هل التقيّة تجري في جميع الأشياء أو لا؟

قد يقال بالعموم فيما لو كانت التقيّة لخوف الضرر؛ نظراً إلى الأدلّة العامّة الجارية في المقام «1» و في غيره، مثل حديث نفي الضرر «2»، و دليل نفي

______________________________

(1) وسائل الشيعة 16: 349، كتاب الأمر و النهي، أبواب فعل المعروف، الباب 24، و: 357، الباب 25، الحديث 2.

(2) وسائل الشيعة 18: 32، كتاب التجارة، أبواب الخيار، الباب 17، الحديث 3 و 4 و 5، و 25: 399، كتاب الشفعة، الباب 5، الحديث 1، و: 427، كتاب إحياء الموات، الباب 12، الحديث 1 و 3 و 4 و 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 531

الحرج «1»، و حديث الرفع المشتمل علىٰ رفع ما اضطُرّوا إليه «2».

أقول: أمّا حديث نفي الضرر فقد ذكرنا في الأُصول: أنّه ليس ناظراً إلى الأحكام المجعولة الشرعيّة و نافياً للأحكام الضرريّة، بل إنّما هو حكم سياسي إسلاميّ صدر من النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) بما أنّه حاكم و سلطان، كما يظهر بمراجعة مورده و التأمّل فيه، و تحقيقه في موضعه «3».

و أمّا الآخران- و هما دليل نفي الحرج و حديث الرفع فهما و إن كانا حاكمين على الأدلّة الأوّليّة المتكفّلة لبيان الأحكام الواقعيّة إلّا أنّ التمسّك بهما

في نفي الحكم في جميع موارد الحرج و الاضطرار في غاية الإشكال؛ ضرورة أنّ المراد بالحرج و الاضطرار هو العرفي منهما.

و حينئذٍ فهل يرىٰ أحد ارتفاع حرمة إيقاع الناس في الضلالة و ترويج الباطل- مثلًا بمجرّد حرج ضعيف أو اضطرار خفيف، و كذا ارتفاع حرمة ما يترتّب عليه في الشريعة القتل أو الرجم، كالزنا بالمحارم أو المحصنات بمجرّد دوران الأمر بينه و بين أداء مال يسير، أو تحمّل مشقّة يسيرة، و نحو ذلك من الأمثلة التي لا يمكن الالتزام فيها بارتفاع أحكامها بمجرّد ذلك، و حينئذٍ فلا بدّ من ملاحظة الأمرين اللذين دار الأمر بينهما و ترجيح الأهمّ منهما.

فظهر: أنّ التمسّك بالدليلين المذكورين لجريان التقيّة في جميع الموارد،

______________________________

(1) المائدة (5): 6، الحجّ (22): 78.

(2) الاختصاص: 31، التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

(3) بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر، الإمام الخميني (قدّس سرّه): 113 114.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 532

محلّ نظر بل منع، كما أنّ الاستناد إلى العمومات الواردة في التقيّة- مثل قوله

التقيّة في كلّ شي ء «1»

غير جائز؛ لأنّها و إن كانت بلسان العموم، إلّا أنّها بنظر العرف منصرفة عن مثل الموارد المقدّمة.

التقيّة في شرب المسكر و المسح على الخُفّين

و كيف كان، فقد اختلفت الأخبار في جواز التقيّة في بعض الأشياء، مثل شرب المسكر و المسح على الخُفّين، فمقتضىٰ طائفة منها أنّه لا تقيّة فيه:

مثل صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): في المسح على الخُفّين تقيّة؟ فقال

ثلاث لا أتّقي فيهنّ أحداً: شرب المسكر و المسح على الخُفّين و متعة الحجّ.

قال زرارة: و لم يقل: الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً» «2».

و رواية

سعيد بن يسار، قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

ليس في شرب النبيذ تقيّة «3».

و رواية حنّان قال: سمعت رجلًا يقول لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما تقول في النبيذ، فإنّ أبا مريم يشربه، و يزعم أنّك أمرته بشربه؟ فقال

معاذ اللّٰه أن أكون أمرته بشرب مسكر، و اللّٰه إنّه لشي ء ما اتّقيت فيه سلطاناً و لا غيره، قال

______________________________

(1) المحاسن: 259/ 308 309، الكافي 2: 220/ 18، وسائل الشيعة 16: 349، كتاب الأمر و النهي، أبواب فعل المعروف، الباب 24، و: 357، الباب 25، الحديث 2.

(2) الكافي 3: 32/ 2، الفقيه 1: 30/ 95، تهذيب الأحكام 1: 362/ 1093، الإستبصار 1: 76/ 237، وسائل الشيعة 1: 457، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 38، الحديث 1، و 16: 215، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 5.

(3) الكافي 6: 414/ 11، تهذيب الأحكام 9: 114/ 494، وسائل الشيعة 25: 351، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 22، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 533

رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) كلّ مسكر حرام، و ما أسكر كثيره فقليله حرام «1».

و رواية أبي (ابن) عمر الأعجمي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث أنّه قال

لا دين لمن لا تقيّة له، و التقيّة في كلّ شي ء إلّا في النبيذ و المسح على الخُفّين «2».

و غير ذلك من الأخبار الظاهرة في ذلك.

و بإزائها أخبار أُخر يُستفاد منها ثبوت التقيّة في المذكورات أيضاً:

منها: رواية سُلَيم بن قيس الهلالي، قال: خطب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فقال

قد عَمِلتِ الولاة قبلي أعمالًا خالفوا فيها رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) متعمّدين

لخلافه، و لو حملتُ الناس علىٰ تركها لتفرّق عنّي جندي أ رأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم (عليه السّلام)، فرددته إلى الموضع الذي كان فيه ..

إلىٰ أن قال

و حرّمتُ المسح على الخُفّين، و حَددتُ على النبيذ، و أمرتُ بإحلال المتعتين، و أمرت بالتكبير على الجنائز خمس تكبيرات، و ألزمتُ الناس الجهر ب بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ ..

إلىٰ أن قال

إذن لتفرّقوا عنّي

الحديث «3».

و ظاهره أنّه (عليه السّلام) كان يتّقي في الحكم بعدم جواز المسح على الخُفّين و بإحلال المتعتين و بحرمة النبيذ.

و منها: رواية أبي الورد، قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): إنّ أبا ظبيان حدّثني: أنّه رأى عليّاً (عليه السّلام) أراق الماء، ثمّ مسح على الخُفّين. فقال

كذب أبو ظبيان، أما

______________________________

(1) الكافي 6: 410/ 12، وسائل الشيعة 25: 351، كتاب الأطعمة و الأشربة، أبواب الأشربة المحرّمة، الباب 22، الحديث 3.

(2) المحاسن: 259/ 309، الكافي 2: 217/ 2، الخصال: 22/ 79، وسائل الشيعة 16: 215، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 3.

(3) الكافي 8: 59/ 21، وسائل الشيعة 1: 458، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 38، الحديث 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 534

بلغك قول عليّ (عليه السّلام) فيكم: سبق الكتاب الخفّين.

فقلت: فهل فيهما رخصة؟ فقال

لا، إلّا من عدوّ تتّقيه، أو ثلج تخاف علىٰ رجليك «1».

و منها: رواية درست بن أبي منصور، قال: كنت عند أبي الحسن موسى (عليه السّلام) و عنده الكُمَيْت بن زيد، فقال للكُمَيْت

أنت الذي تقول:

فالآن صرتُ إلىٰ أُميّة و الأُمور لها مصاير

إلىٰ أن قال: إنّ التقيّة تجوز في شرب الخمر «2».

و الجمع بين الطائفتين أن يقال: إنّ المراد بعدم التقيّة فيما ذكر، ليس كونه مستثنى من

عمومات التقيّة حتّى يُنافي الطائفة الثانية، بل المراد أنّه لا موقع للتقيّة فيه غالباً؛ لعدم وجوب شرب الخمر و المسح على الخُفّين عندهم؛ حتّى يكون تركهما مخالفاً لطريقهم، و أمّا متعة الحجّ فيمكن الإتيان بها من دون التفاتهم؛ لأنّهم- أيضاً إذا دخلوا مكّة يطوفون و يسعون، و عمرة التمتّع لا تزيد عليهما، و النيّة أمر قلبي لا يطّلع عليه الناس، و التقصير أيضاً يمكن إخفاؤه عنهم؛ إذ هو يتحقّق بمجرّد نتف شعرة واحدة أو قصّ ظفر واحد.

و يمكن أن يكون وجه الجمع: هو أنّ الأئمّة (عليهم السّلام) كانوا لا يتّقون في المذكورات؛ لكون الفتوى بحرمة النبيذ و المسح على الخُفّين و جواز متعة الحجّ معروفاً عنهم؛ بحيث يعرفه خلفاء الجور منهم، و ذلك لا يوجب عدم تقيّة الشيعة فيه أيضاً، و يؤيّد هذا الوجه ما في ذيل صحيحة زرارة المتقدّمة من قوله: و لم يقل: «الواجب عليكم أن لا تتّقوا فيهنّ أحداً».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 362/ 1092، الإستبصار 1: 76/ 236، وسائل الشيعة 1: 458، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 38، الحديث 5.

(2) اختيار معرفة الرجال: 207/ 364، وسائل الشيعة 16: 216، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 535

و كيف كان، فرفع اليد عن عمومات دليل الحرج، و حديث الرفع، و عمومات التقيّة، و خصوص الروايات المتقدّمة، الدالّة علىٰ جريان التقيّة في الأُمور المذكورة- بمجرّد تلك الروايات الدالّة علىٰ عدم جريانها فيها القابلة للتوجيه بما ذكر في غاية الإشكال، خصوصاً بعد مساعدة الاعتبار علىٰ أنّه لو دار الأمر بين القتل، و مجرّد شرب النبيذ أو المسح على الخُفّين، لكان الترجيح مع الثاني، بل هو المتعيّن.

و يؤيّده: أنّه

لم يظهر من أحد الفتوىٰ بوجوب ترك التقيّة فيما ذكر.

فالأقوىٰ جريان عمومات التقيّة بالإضافة إليه أيضاً.

التقيّة في الدماء و في سبّ الأئمة (عليهم السّلام)

و أمّا الدماء فلا إشكال- كما أنّه لا خلاف في عدم التقيّة فيها «1»، كما أنّه لا إشكال في ثبوتها في سبّ الأئمّة (عليهم السّلام)؛ فيما إذا لم يستلزم إضلال الناس و تزلزل أركان المذهب، كما إذا وقع من رئيس الشيعة و مرجعهم مثلًا، و إلّا فلا يجوز، بل الترجيح مع مدّ الرقاب، كما ظهر وجهه ممّا تقدّم.

و أمّا التبرّي منهم (عليهم السّلام) و إظهار البراءة، فقد ورد فيه روايات مختلفة، و قد جمعها في «الوسائل» في الباب التاسع و العشرين من أبواب كتاب الأمر بالمعروف «2»، و عمدة ما يدلّ على الجواز رواية مسعدة بن صدقة، قال: قيل له: إنّ الناس يروون: أنّ علياً (عليه السّلام) قال علىٰ منبر الكوفة: أيّها الناس إنّكم ستُدعون إلىٰ سبّي فسبّوني، ثمّ تُدْعَون إلى البراءة منّي فلا تبرّؤوا منّي. فقال

ما أكثر ما

______________________________

(1) السرائر 2: 25، منتهى المطلب 2: 994/ السطر 11، مجمع الفائدة و البرهان 7: 550، رياض المسائل 1: 510/ السطر 16، مستند الشيعة 14: 194، جواهر الكلام 22: 169.

(2) وسائل الشيعة 16: 225، كتاب الأمر و النهي، الباب 29.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 536

يكذب الناس علىٰ عليّ (عليه السّلام)، ثمّ قال: إنّما قال: إنّكم ستُدعون إلى سبّي فسبّوني، ثمّ تُدعون إلى البراءة منّي و إنّي لَعلى دين محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، و لم يقل: و لا تبرءوا منّي.

فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ فقال

و اللّٰه ما ذلك عليه، و ما له إلّا ما مضى عليه عمّار بن ياسر؛

حيث أكرهه أهل مكّة وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ، فأنزل اللّٰه عزّ و جلّ فيه إِلّٰا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمٰانِ «1» فقال له النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) عندها: يا عمّار إنْ عادوا فعُدْ، فقد أنزل اللّٰه عذرك، و أمرك أن تعود إن عادوا «2».

و لا يخفىٰ أنّ مسعدة و إن كان عامّياً «3»، إلّا أنّ روايته موثوق بها، بل قيل إنّ رواياته أصحّ من روايات جميل بن درّاج «4»، و عليه فالسند غير قابل للمناقشة.

و أمّا الدلالة: فلا يخفى أنّ المراد بقوله (عليه السّلام)

ثمّ تُدعون إلى البراءة منّي و إنّي لعلى دين محمّد صلّى اللّٰه عليه و آله

، ليس النهي عن التبرّي عنه، و إلّا لما كان ما حكاه السائل عن الناس كذباً عليه (عليه السّلام)، بل المراد أنّه لا تضرّ براءتكم بالنسبة إلىّ؛ لأنّي على دين محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فيستفاد منه الجواز، و لذا استفاد السائل ذلك، فسأل عن اختيار القتل دون البراءة.

هذا، و يستفاد من قوله: «و اللّٰه ما ذلك عليه و ما له إلّا ما مضى ..» إلى آخره وجوب البراءة عند دوران الأمر بينها و بين القتل، لا مجرّد الجواز، و لا ثبوت التخيير، كما يشهد بذلك وجوب المضيّ على ما مضى عليه عمّار الذي أمره

______________________________

(1) النحل (16): 106.

(2) قرب الإسناد: 8، الكافي 2: 219/ 10، وسائل الشيعة 16: 225، كتاب الأمر و النهي، الباب 29، الحديث 2.

(3) انظر رجال الطوسي: 137، معجم رجال الحديث 18: 137 139.

(4) تنقيح المقال 3: 212/ السطر 15.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 537

اللّٰه تعالى بالعود إن عادوا.

و بالجملة: فمدلول هذه الرواية- ككثير

من الروايات الظاهرة في الجواز هو وجوب البراءة و حرمة تركها.

و بإزاء هذه الأخبار روايات أُخر ظاهرة- بل صريحة في حرمة التبرّي و وجوب مدّ الرقاب «1»، و لكن كلّها مخدوشة من حيث السند، و لا يمكن رفع اليد بسببها عن عمومات التقيّة، و خصوص الأخبار المجوّزة للتبرّي، خصوصاً في هذا الحكم الذي يرجع إلىٰ تجويز قتل النفوس بل إيجابه، فالأقوى بمقتضىٰ ما عرفت جواز التبرّي- بل وجوبه عند الدوران بينه و بين القتل.

نعم قد يكون ذلك مستلزماً لتزلزل أركان المذهب و إضلال الشيعة، فلا يجوز كما عرفت.

حول تعلّق الوجوب بالتقية بعنوانها

ثمّ إنّ التقيّة هل تعلّق الوجوب بها بعنوانها، أو أنّ الواجب إنّما هي العناوين الأُخر، كترك إلقاء النفس في الهَلَكة و غيره من العناوين؟

و التحقيق أن يقال: إنّ التأمّل و التتبّع في الأخبار الواردة في التقيّة، يقضي بأنّ هنا عناوين ثلاثة لا ربط لأحدها بالآخر؛ لا من حيث الموضوع الذي هو نفس تلك العناوين، و لا من حيث الحكم كما يجي ء:

الأوّل: عنوان الاضطرار الذي يجوّز ترك الواجبات و فعل المحرّمات، و قد أُطلق التقيّة عليه في مثل قوله (عليه السّلام)

التقيّة في كلّ شي ء يضطرّ إليه

______________________________

(1) وسائل الشيعة 16: 228، كتاب الأمر و النهي، الباب 29، الحديث 8 و 9 و 10، و: 232، الباب 30، الحديث 21.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 538

ابن آدم «1»

، و الحكم في هذه الصورة يدور مدار الاضطرار الذي هو معنىً عرفي، و لا إشكال في عدم وجوب الإتيان بما يرفع به الاضطرار، بل الظاهر مجرّد الجواز و الإباحة، كما هو ظاهر حديث الرفع «2» و قوله (عليه السّلام)

ما من شي ء إلّا أحلّه اللّٰه لمن اضطُرّ إليه «3».

الثاني: عنوان التقيّة الذي

ورد فيه: أنّه

لا دين لمن لا تقيّة له «4»

و أنّ تاركها أسوء حالًا من النُّصّاب «5» بل الكُفّار.

و المراد به: هو كتمان المذهب و إخفاؤه عن العامّة، و يقابله عنوان الإذاعة و الإشاعة، و لا إشكال في وجوبه و إن لم يكن في البين خوف الضرر أصلًا.

كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة؛ التي منها رواية هشام بن سالم و غيره، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): في قول اللّٰه عزّ و جلّ أُولٰئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمٰا صَبَرُوا «6» قال

بما صبروا على التقيّة

، وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ قال

______________________________

(1) المحاسن: 259/ 308، الكافي 2: 220/ 18، وسائل الشيعة 16: 214، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 2.

(2) الاختصاص: 31، التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

(3) كتاب النوادر: 75/ 161، وسائل الشيعة 23: 228، كتاب الأيمان، الباب 12، الحديث 18.

(4) الكافي 2: 217/ 2، وسائل الشيعة 16: 210، كتاب الأمر و النهي، الباب 24، الحديث 23، 24، و: 215، الباب 25، الحديث 3.

(5) تفسير الإمام العسكري (عليه السّلام): 175/ 84، الاحتجاج 1: 557، وسائل الشيعة 16: 229، كتاب الأمر و النهي، الباب 29، الحديث 11.

(6) القصص (28): 54.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 539

الحسنة التقيّة، و السيّئة الإذاعة «1».

فإنّ جعل التقيّة الحسنة مقابلة للسيّئة، ظاهر في وجوبها، كما أنّ جعل التقيّة في مقابل الإذاعة، ظاهر في كون المراد بها هو كتمان المذهب، كما يشهد به التعبير عنه في بعض الأخبار بالخباء «2»، الذي هو بمعنى الستر و الإخفاء.

و أصرح من هذه الرواية في كون المراد بالتقيّة هو كتم الدين و

إخفاءه عن غير أهله رواية معلّىٰ بن خُنَيْس، قال:

قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

يا معلّى اكتم أمرنا و لا تُذعه، فإنّه من كتم أمرنا و لم يذعه أعزّه اللّٰه به في الدنيا، و جعله نوراً بين عينيه في الآخرة يقوده إلى الجنّة. يا مُعلّىٰ من أذاع أمرنا و لم يكتمه أذلّه اللّٰه به في الدنيا، و نزع النور من بين عينيه في الآخرة، و جعله ظلمة تقوده إلى النار. يا معلّىٰ إنّ التقيّة من ديني و دين آبائي، و لا دين لمن لا تقيّة له «3»

الحديث.

فإنّ التعليل لوجوب الكتم بكون التقيّة من ديني و دين آبائي صريح في كون المراد بها هو الكتمان و إخفاء المذهب.

الثالث: عنوان المداراة مع غير أهل المذهب و حسن المعاشرة معهم؛ بحضور جماعاتهم و تشييع جنائزهم و غير ذلك، و قد ورد في الأخبار الكثيرة «4»

______________________________

(1) الكافي 2: 172/ 1، وسائل الشيعة 16: 203، كتاب الأمر و النهي، الباب 24، الحديث 1.

(2) معاني الأخبار: 162/ 1، وسائل الشيعة 16: 207، كتاب الأمر و النهي، الباب 24، الحديث 15، و: 219، الباب 26، الحديث 2.

(3) الكافي 2: 177/ 8، وسائل الشيعة 16: 236، كتاب الأمر و النهي، الباب 32، الحديث 6.

(4) انظر وسائل الشيعة 16: 219، كتاب الأمر و النهي، الباب 26، الحديث 2 و 3.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 540

التحريض و الترغيب عليه. و هذا غير عنوان التقيّة التي قد عرفت وجوبه.

و بالجملة: فالغرض بيان أنّ هنا عناوين مختلفة، كما أنّ أحكامها- أيضاً كذلك، كما عرفت.

ثمّ إنّ التقيّة- بمعنى كتم الدين و إخفائه عن غير أهله هل تكون واجبة، أو أنّ الإذاعة التي هي في مقابلها محرّمة؟ ظاهر

بعض الروايات مثل رواية هشام بن سالم المتقدّمة ثبوت كلا الأمرين؛ بمعنى وجوب التقية و حرمة الإذاعة معاً.

و لكن الظاهر أحد الأمرين؛ لأنّه مع البعث إلى التقيّة لا حاجة إلى الزجر عن ضدّها، و كذا العكس. نعم لا سبيل لنا إلىٰ إثبات شي ء منهما.

و تظهر الثمرة فيما إذا عمل علىٰ خلاف التقيّة، كما إذا سجد في الصلاة على التربة الحسينية:

فعلى القول بوجوب التقيّة لا وجه لبطلان سجوده المستلزم لبطلان صلاته؛ لأنّ فعله كان متّحداً مع عنوان الإذاعة، و هي على هذا التقدير غير محرّمة، و وجوب التقيّة لا يستلزم حرمة نقيضها، فضلًا عن ضدّها، كما حقّق في محلّه «1».

و أمّا على القول بحرمة الإذاعة فصحّة عبادته و فسادها- في الفرض المزبور تبتني على النزاع المعروف في الأُصول، و هو جواز اجتماع الأمر و النهي و عدمه:

فعلى القول بالجواز- كما هو مقتضى التحقيق «2» لا وجه لبطلان العبادة،

______________________________

(1) انظر مناهج الوصول 2: 9، تهذيب الأُصول 1: 287.

(2) انظر مناهج الوصول 2: 128 131، تهذيب الأُصول 1: 391.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 541

كما في الصلاة في الدار المغصوبة.

و على القول بالامتناع فالعبادة فاسدة؛ بناء علىٰ ترجيح جانب النهي. و التفصيل يطلب من محلّه «1».

حكم العمل المخالف للتقيّة
اشارة

لو خالف التقيّة في محلّ وجوبها، فهل يوجب ذلك بطلان العمل الذي ترك فيه التقيّة مطلقاً، أو لا يوجب ذلك مطلقاً، أو يفصّل بين ما إذا كان تركها بإيجاد فعل مخالف لها، و بين ما إذا كان تركها بترك فعل موافق لها؟ وجوه.

كلام الشيخ الأعظم في المقام

ظاهر الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) في «رسالة التقيّة» هو الوجه الأخير، و قال في تحقيقه ما ملخّصه:

إنّ نفس ترك التقيّة- في جزء العمل، أو في شرطه، أو في مانعه لا يوجب بنفسه إلّا مجرّد استحقاق العقوبة، فإن لزم من ذلك ما يوجب بطلان العمل بمقتضى القواعد بطل، و إلّا فلا.

فمن مواضع البطلان السجودُ على التُّربة الحسينيّة مع اقتضاء التقيّة تركه، فإنّ السجود يقع منهيّاً عنه فيفسد، فتفسد الصلاة.

و من مواضع عدم البطلان ترك التكفير في الصلاة، فإنّه و إن حرم لا يوجب البطلان؛ لأنّ وجوبه من جهة التقيّة، لا يوجب كونه معتبراً في الصلاة لتبطل بتركه.

و توهّم: أنّ الشارع أمر بالعمل علىٰ وجه التقيّة.

______________________________

(1) مناهج الوصول 2: 123، تهذيب الأُصول 1: 387 388.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 542

مدفوع: بأنّ تعلّق الأمر بذلك العمل المقيّد، ليس من حيث كونه مقيّداً بذلك الوجه، بل من حيث نفس الفعل الخارجي، نظير تحريم الصلاة المشتملة على محرّم خارجي.

إن قلت: إذا كان إيجاب الشي ء تقيّة لا يجعله معتبراً في العبادة حال التقيّة، لزم الحكم بصحّة وضوء من ترك المسح على الخُفّين، مع أنّ الظاهر عدم الخلاف في بطلانه.

قلت: ليس الحكم بالبطلان في المثال من جهة ترك ما وجب بالتقيّة، بل لأنّ المسح على الخُفّين متضمّن لأصل المسح الواجب في الوضوء؛ مع إلغاء قيد مماسّيّة الماسح للممسوح، كما في المسح على الجبيرة فالتقيّة إنّما أوجبت إلغاء

قيد المباشرة، و أمّا صورة المسح و لو مع الحائل فواجبة واقعاً- لا من حيث التقيّة فالإخلال بها يوجب بطلان الوضوء بنقص جزء منه.

و الدليل على انحلال المسح: قول الإمام (عليه السّلام) في رواية عبد الأعلىٰ

إنّ هذا و أشباهه يُعرف من كتاب اللّٰه، امسح عليه «1».

فإنّ معرفة ذلك منه لا تستقيم إلّا بأن يقال: إنّ المسح الواجب في الوضوء ينحلّ إلىٰ صورة المسح و مباشرة الماسح للممسوح، و لمّا سقط قيد المباشرة تعيّن المسح من دونها.

و كذلك الكلام في غسل الرجلين تقيّة، فإنّها إنّما أوجبت سقوط الخصوصيّة المائزة بين الغسل و المسح، و أمّا إيصال الرطوبة إلى الممسوح فهو واجب لا من حيث التقيّة، فالإخلال به موجب لترك جزء من الوضوء «2». انتهىٰ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 464، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 39، الحديث 5.

(2) رسائل فقهية، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 96 98.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 543

أقول: و يرد علىٰ ما ذكره (قدّس سرّه)- في وجه البطلان فيما إذا خالف التقيّة بإيجاد فعل مخالف لها، كالسجدة على التربة الحسينيّة ما عرفت: من أنّ وجوب التقيّة- كما هو في المفروض في المقام لا يستلزم حرمة نقيضها، فضلًا عن ضدّها الذي هو الإذاعة، و السجدة على التربة إنّما تكون متّحدة مع الإذاعة غير المحرّمة- على الفرض فلا وجه لحرمة سجوده المستلزمة- عقلًا لفساده، مضافاً إلىٰ أنّه لو فرض حرمة الإذاعة، فلا وجه لبطلان عبادته- أيضاً بناء على القول بجواز اجتماع الأمر و النهي و صحّة الصلاة في الدار المغصوبة، كما يقتضيه التحقيق «1».

و بالجملة: فالحكم بالبطلان في هذه الصورة ممّا لا يتمّ؛ سواء قلنا بوجوب التقيّة، أو بحرمة الإذاعة.

و أمّا ما أجاب

به عمّا أورده علىٰ نفسه بقوله: «إن قلت ..» ففيه: أنّه لا يستفاد من الأمر بمسح الرّجْل الواجب في الوضوء إلّا شي ء واحد، و لا يكون ذلك عند العرف متضمّناً لأمرين؛ بحيث لو فرض العجز عن أحدهما لوجب عليه الآخر.

و التمسّك لذلك برواية عبد الأعلىٰ قد عرفت ما فيه: من أنّ استفادة هذا المعنىٰ منها توجب اختلال الفقه، و قد ذكرنا بعض الشواهد على ذلك في بعض المباحث السابقة، فراجع «2».

و الوجه في دفع ذلك الإيراد أن يقال:

إنّ بطلان الوضوء في المثال المفروض ليس للإخلال بما وجب بالتقيّة،

______________________________

(1) انظر مناهج الوصول 2: 128، تهذيب الأُصول 1: 391.

(2) تقدّم في الصفحة 487.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 544

بل لكونه تاركاً للمسح رأساً؛ لأنّ المفروض أنّه لم يمسح لا علىٰ رجليه و لا على الخُفّين، فبطلان الوضوء بسبب نقص جزء منه.

و أمّا لو فُرض أنّه ترك المسح على الخُفّين الواجب تقيّة، و لكن مسح علىٰ رجليه، فلا وجه لبطلان وضوئه.

و ادّعاء عدم الخلاف فيه ممنوع جدّاً.

و قد ظهر من جميع ما ذكرنا: أنّ الأقوىٰ بمقتضى القواعد صحّة العمل الذي ترك فيه التقيّة مطلقاً؛ سواء كان ذلك في الفعل أو الترك.

و لكن ربما يستظهر من بعض الروايات البطلان بترك التقيّة، و هي رواية داود الرّقّي الطويلة- التي نقلها في «الوسائل» في الباب الثاني و الثلاثين من أبواب الوضوء عن كتاب «رجال الكشي» و فيها: أنّ الإمام (عليه السّلام) أجاب عمّن سأله عن عدّة الطهارة بقوله

ثلاثاً ثلاثاً مَن نقص عنه فلا صلاة له «1».

فإنّ نفي الصلاة عمّن نقص عمّا ذكره- الواجب تقيّة صريح في أنّ ترك التقيّة يوجب بطلان العمل.

و لكن الرواية- مضافاً إلىٰ ضعف سندها «2»

تُمكن الخدشة في دلالتها: بأنّ هذا التعبير إنّما وقع تأكيداً و اهتماماً؛ لئلّا يعمل السائل علىٰ خلافه، فيُقتل علىٰ يد عدوّه الذي كان مراقباً لوضوئه؛ ليكشف من هذا الطريق مذهبه، فلا يدلّ ذلك على البطلان بمجرّد ترك التقيّة؛ و إيقاع العمل مخالفاً لها، كما لا يخفى.

______________________________

(1) اختيار معرفة الرجال: 312/ 564، وسائل الشيعة 1: 443، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 32، الحديث 2.

(2) رواها الكشي، عن حمدويه و إبراهيم، عن محمّد بن إسماعيل الرازي، عن أحمد بن سليمان، عن داود الرقّي. و الرواية ضعيفة لجهالة أحمد بن سليمان.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 545

حكم العمل الموافق للتقيّة
اشارة

لو عمل علىٰ وفق التقيّة: أمّا بالإتيان بما يكون تركه علىٰ خلافها، كالتكتّف في الصلاة، و إمّا بترك ما يكون فعله على خلافها، كالوقوف بعرفة في اليوم التاسع الذي كان يوم العيد عندهم، فهل يوجب ذلك بطلان العمل أم لا؟

و تفصيل الكلام في هذا المقام، يتوقّف على التكلّم في كلّ واحد من العناوين الثلاثة المتقدّمة بخصوصها «1».

فالكلام في مقامات ثلاثة:
المقام الأوّل: فيما لو اضطُرّ إلى الإتيان بأمر زائد

عن أجزاء العمل، أو إلىٰ ترك شي ء منها، و عمل على وفق الاضطرار.

و نقول: لو علم اختصاص دليل اعتبار المتروك جزءاً أو شرطاً، أو المأتيّ به مانعاً بحال الاختيار، فلا إشكال في صحّة العمل و موافقته للمأمور به، و أمّا لو كان ظاهره الإطلاق بالنسبة إلىٰ حالتي الاختيار و الاضطرار، فلا بدّ- في الحكم بصحّة العمل من قيام دليل عامّ أو خاصّ علىٰ نفي اعتباره في صورة الاضطرار. و ممّا يمكن أن يستفاد منه ذلك- بنحو العموم حديث الرفع المشتمل علىٰ رفع ما اضطُرّوا إليه «2»؛ بناءً علىٰ أن يكون المراد هو رفع جميع الآثار.

توضيحه: أنّ الرفع قد أُضيف في الحديث إلى نفس الأُمور المذكورة فيه- من الخطأ و النسيان و ما اضطُرّوا إليه و غيرها و حيث إنّه ممّا يعلم بخلافه، فلا بدّ من أن يكون في البين ادّعاء مصحّح لهذه الإضافة.

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 537 539.

(2) الاختصاص: 31، التوحيد: 353/ 24، الخصال: 417/ 9، وسائل الشيعة 15: 369، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس، الباب 56، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 546

و حينئذٍ فقد يقال: إنّ المراد رفع خصوص المؤاخذة «1».

و قد يقال: إنّ المراد رفع الأثر الظاهر في كلّ واحد من التسعة «2».

و قد يقال: إنّ المراد رفع جميع الآثار «3».

و الظاهر هو

الأخير؛ لأنّه- مضافاً إلىٰ أنّ رفع المؤاخذة التي هي من الأُمور التكوينيّة، خلاف ظاهر الرواية؛ لأنّها مسوقة لبيان رفع تلك الأُمور تشريعاً نقول: إنّ ذلك يستلزم ادّعاءين:

أحدهما: كون المؤاخذة بمنزلة جميع الآثار.

ثانيهما: كون انتفاء الجميع بمنزلة انتفاء نفس الشي ء.

و هذا- مع كونه بعيداً في نفسه خلاف ما هو المتفاهم بنظر العرف، و قد ذكر في محلّه شواهد أُخر على عدم اختصاص المرفوع بالمؤاخذة «4».

و أمّا رفع الأثر الظاهر فيرد عليه ما عرفت: من استلزامه لادّعائين، و هذا بخلاف رفع جميع الآثار، فإنّه لا يفتقر إلّا إلى ادّعاء واحد، و هو كون خُلُوّ الشي ء من الأثر بمنزلة انتفائه بنفسه، و حينئذٍ فجميع الآثار المترتّبة على المضطرّ إليه- مع قطع النظر عن الاضطرار مرفوع في هذه الصورة، و هذا لا فرق فيه بين أن يكون أمراً وجوديّاً كالتكتّف في الصلاة، أو أمراً عدميّاً كترك الوقوف بعرفة في اليوم التاسع. فأثر التكتّف فيها المترتّب عليه في صورة الاختيار- و هو إبطاله للصلاة مرفوع في صورة الاضطرار إليه، و كذا الأثر المترتّب علىٰ ترك الوقوف بعرفة في ذلك اليوم.

______________________________

(1) انظر فرائد الأُصول 1: 320 و 321.

(2) فرائد الأُصول 1: 220، انظر كفاية الأُصول: 387.

(3) انظر فرائد الأُصول 1: 220، درر الفوائد، المحقّق الحائري 2: 443.

(4) انظر فرائد الأُصول 1: 321.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 547

و توهّم: الاختصاص بالأوّل؛ لأنّ معنى الرفع هو تنزيل الموجود منزلة المعدوم، لا تنزيل المعدوم منزلة الموجود؛ لأنّ الثاني يسمّىٰ وضعاً لا رفعاً، فإذا نذر أن يشرب من ماء دجلة- مثلًا فاضطُرّ إلى العدم فمقتضى القاعدة وجوب الكفّارة عليه لعدم شمول حديث الرفع له فلا بدّ في المقام من التفصيل بين الأُمور الوجوديّة

و العدميّة «1».

مدفوع: بمنع ذلك، فإنّ معنى الرفع و إن كان ذلك، إلّا أنّه يمكن أن يكون للتروك و الأعدام وجود اعتباري مصحّح لترتيب الأثر عليه، و لذا يترتّب علىٰ ترك الشرب في المثال وجوب الكفّارة، مع أنّ العدم لا يعقل أن يكون مؤثّراً في إيجاب شي ء أو تحريمه، و ليس ذلك إلّا لكفاية وجوده الاعتباري، و بهذا الاعتبار يمكن إسناد الرفع إليه أيضاً.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ المرفوع إنّما هو عنوان ما اضطُرّوا إليه، و لا يكون الملحوظ مصاديقه التي يكون بعضها وجوديّاً و بعضها عدميّاً، بل لا يخطر بالبال عند السماع كما لا يخفى.

فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ مقتضىٰ حديث الرفع عدم بطلان العمل بالاضطرار إلى ترك ما اعتبر وجوده، أو إلىٰ فعل ما اعتبر عدمه.

و يدلّ علىٰ ذلك- أيضاً بعض الروايات الواردة في الاضطرار، مثل رواية إسماعيل الجُعفي و مُعمَّر بن يحيىٰ بن سالم و محمّد بن مسلم و زرارة، قالوا: سمعنا أبا جعفر (عليه السّلام) يقول

التقيّة في كل شي ء يُضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّٰه «2».

فإنّ المراد بحلّيّة الشي ء الذي اضطُرّ إليه، ليس خصوص الحلّيّة التي

______________________________

(1) فوائد الأُصول (تقريرات المحقّق النائيني) الكاظمي 3: 353.

(2) المحاسن: 259/ 308، الكافي 2: 220/ 18، وسائل الشيعة 16: 214، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 548

هي من الأحكام التكليفيّة، فإنّ موارد الاختلاف في ذلك كانت قليلة جدّاً، فإنّ العامّة- أيضاً قائلون بحرمة أكثر المحرّمات النفسيّة التكليفيّة. نعم قد ذهبوا إلىٰ حلّيّة مثل شرب النبيذ الذي كان محرّماً عندنا و بعض الأشياء الأُخر.

بل المراد بها الأعمّ من الحلّيّة الوضعيّة- التي هي بمعنى الإنفاذ و الإمضاء نظير قوله

تعالىٰ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «1»، في مقابل الحرمة- التي هي بمعنى الممنوعيّة و المحروميّة الثابتة في التكليفيّات و الوضعيّات معاً، و حينئذٍ فمفاد الرواية إمضاء الأعمال الصادرة الموافقة لهم، الفاقدة لجزء أو شرط فيما إذا اضطُرّ إلى الإتيان بها، و لو حمل علىٰ خصوص الحلّيّة التكليفيّة لكان لازمه تخصيص الرواية بخصوص المحرّمات النفسيّة التكليفيّة، و هو بعيد عن سياق الرواية كما لا يخفى.

ثمّ الظاهر أنّ عنوان الاضطرار أخصّ من عنوان الضرورة الواردة في مثل رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

التقيّة في كلّ ضرورة و صاحبها أعلم بها حين تنزل به «2»

، فإنّه لا يصدق فيما لو خاف- من ترك الشي ء الذي اضطُرّ إليه حدوث ضرر على الغير الذي لا يتعلّق به، فإنّه لو دار الأمر بين شرب الخمر و بين أخذ مال من الشخص الذي لا يرتبط به، لا يقال: إنّه مضطرّ إلى الشرب، بخلاف الضرورة التي مرجعها إلىٰ لزوم مراعاة الأمر الضروري، فلو ترتّب علىٰ ترك الشرب حدوث أمر كان لازم المراعاة عند المسلمين، كالتفرقة بينهم- مثلًا فلا بأس بشربه و إن لم يصدق عليه عنوان الاضطرار، بل قد يجب في بعض الموارد، كما هو غير خفيّ.

______________________________

(1) البقرة (2): 275.

(2) الكافي 2: 219/ 13، وسائل الشيعة 16: 214، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 549

المقام الثاني: في حكم التقيّة بمعنى كتم الدين و إخفائه من حيث الإجزاء و عدمه.

فنقول: ظاهر أكثر الروايات الواردة في هذا المقام- أيضاً الإجزاء و عدم وجوب الإعادة أو القضاء:

منها: الروايات الواردة في استثناء المسح على الخُفّين و متعة الحجّ من عموم التقيّة، و أنّه (عليه السّلام) قال

لا أتّقي فيهما أحداً «1».

فإنّ المراد من نفي الاتّقاء فيهما ليس أنّه لا يأتي

بهما أصلًا؛ بحيث لو دار الأمر- مثلًا بين مدّ الرقبة و المسح على الخُفّين أو ترك متعة الحجّ، لكان يختار الشقّ الأوّل، و لا يأتي بهما، فإنّه بعيد جدّاً، بل المراد عدم الاكتفاء بهما في مقام امتثال الأمر بالصلاة المشروطة بالوضوء و الأمر بالحجّ.

و حينئذٍ فاستثناؤهما دليل علىٰ جواز الاكتفاء بالعمل الصادر تقيّة في غيرهما، و هو المطلوب.

و منها: رواية مَسْعَدة بن صَدَقة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث

أنّ المؤمن إذا أظهر الإيمان، ثمّ ظهر منه ما يدلّ علىٰ نقضه، خرج ممّا وصف و أظهر، و كان له ناقضاً، إلّا أن يدّعي أنّه إنّما عمل ذلك تقيّةً، و مع ذلك ينظر فيه، فإن كان ليس ممّا يمكن أن تكون التقيّة في مثله لم يقبل منه ذلك؛ لأنّ للتقية مواضع، من أزالها عن مواضعها لم تستقم له، و تفسير ما يتّقىٰ، مثل أن يكون قوم سوء ظاهر حكمهم و فعلهم علىٰ غير حكم الحقّ و فعله، فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة ممّا لا يؤدّي إلى الفساد في الدين فإنّه جائز «2».

______________________________

(1) الكافي 3: 32/ 2، وسائل الشيعة 16: 216، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 5.

(2) الكافي 2: 168/ 1، وسائل الشيعة 16: 216، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 550

فإنّ المراد بالجواز أعمّ من الجواز بمعنى الإباحة؛ لما عرفت من نُدرة موارد الاختلاف فيها، و لا وجه لتخصيصها بها مع أنّ سياقها يأبىٰ عنه.

و منها: ما رواه المرتضىٰ في «رسالة المحكم و المتشابه» نقلًا من «تفسير النعماني» بإسناده عن علي (عليه السّلام)، قال

و أمّا الرُّخصة التي صاحبها فيها بالخيار فإنّ

اللّٰه نهى المؤمن أن يتّخذ الكافر وليّاً، ثمّ منّ عليه بإطلاق الرُّخصة له عند التقيّة في الظاهر؛ أن يصوم بصيامه، و يُفطر بإفطاره، و يُصلّي بصلاته، و يعمل بعمله، و يُظهر له استعمال ذلك موسّعاً عليه فيه، و عليه أن يدين اللّٰه تعالىٰ في الباطن بخلاف ما يظهر لمن يخافه من المخالفين المستولين على الأُمّة، قال اللّٰه تعالىٰ لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ الآية «1»» الحديث

«2». فإنّ ظاهره صحّة الصوم بصيامهم و الصلاة بصلاتهم و العمل بعملهم. هذا، و لكن سند الرواية ضعيف.

و منها: ما رواه في «روضة الكافي» بإسناده عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رسالة طويلة إلىٰ أصحابه، و فيها

ديّنوا فيما بينكم و بينهم- إذا أنتم جالستموهم و خالطتموهم و نازعتموهم الكلام بالتقيّة التي أمركم اللّٰه أن تأخذوا بها فيما بينكم و بينهم

الحديث «3».

فإنّ التديّن بالتقيّة المأمور به في الرواية، لا يكون عبارة عن مجرّد إيقاع صورة العمل موافقاً لهم؛ تحفّظاً عن اطّلاعهم علىٰ ما يجب إخفاؤه و كتمه، بل

______________________________

(1) آل عمران (3): 28.

(2) المحكم و المتشابه: 36، وسائل الشيعة 1: 107، كتاب الطهارة، أبواب مقدّمة العبادات، الباب 25، الحديث 1.

(3) الكافي 8: 2/ 1، وسائل الشيعة 16: 207، كتاب الأمر و النهي، الباب 24، الحديث 14.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 551

المراد به التديّن بها واقعاً؛ بمعنى أنّ للّٰه على الناس الأخذ بالدين الحقيقي فيما بينه و بينهم، و الأخذ بالدين الظاهري الذي كان عليه العامّة فيما بينهم و بين العامّة، فالخبر كالصريح في إجزاء العمل الصادر تقيّة عن المأمور به الواقعي، إلّا أنّ سنده لا يخلو عن خدشة.

و منها: رواية سفيان بن سعيد قال: سمعت أبا عبد

اللّٰه (عليه السّلام) يقول

عليك بالتقيّة ..

إلىٰ أن قال

يا سفيان من استعمل التقيّة في دين اللّٰه فقد تسنّم الذِّروة العليا

الحديث «1».

فإنّ استعمال التقيّة في دين اللّٰه عبارة عن إيقاع العمل العبادي موافقاً لهم، لا مجرّد إيقاع الصورة، فيستفاد منه أنّ العمل الصادر تقيّة كان من دين اللّٰه، غاية الأمر أنّه قد استعمل فيه التقيّة، و كونه كذلك مساوق للصحّة و الإجزاء، كما هو ظاهر.

و منها: الروايات الواردة في أنّه ما عُبد اللّٰه بشي ء أحبّ من الخباء، مثل صحيحة هشام الكندي قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول

إيّاكم أن تعملوا عملًا نُعيَّر به، فإنّ ولد السوء يُعيَّر والده بعمله، كونوا لمن انقطعتم إليه زيناً، و لا تكونوا علينا شَيْناً، صلّوا في عشائرهم و عودوا مرضاهم و اشهدوا جنائزهم، و لا يسبقونكم إلىٰ شي ء من الخير فأنتم أولىٰ به منهم، و اللّٰه ما عُبِد اللّٰه بشي ء أحبّ إليه من الخباء.

قلت: و ما الخباء؟ قال

التقيّة «2».

فإنّ نفس التقيّة بما هي لا تكون عبادة، بل المراد العمل الصادر تقيّة، كما

______________________________

(1) معاني الأخبار: 385/ 20، وسائل الشيعة 16: 208، كتاب الأمر و النهي، الباب 24، الحديث 17.

(2) الكافي 2: 219/ 11، وسائل الشيعة 16: 219، كتاب الأمر و النهي، الباب 26، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 552

يدلّ عليه الروايات الدالّة علىٰ أنّه تعالىٰ يحبّ أن يُعبد في السرّ، كما يحبّ أن يُعبد في العلانية، فمضمونها أنّ العبادة التي استعمل فيها التقيّة تكون محبوبة عند اللّٰه تعالىٰ، و لو لم تكن صحيحة- بل كانت صورة عبادة لم يكن وجه لكونها محبوبة، كما هو واضح.

فتلخّص من جميع ذلك: أنّ التأمّل في الروايات المختلفة- الواردة

في هذا الباب يقضي بكون العمل الصادر تقيّة صحيحاً و محبوباً عند اللّٰه تعالى و أنّه من دينه.

المقام الثالث: في حكم التقيّة بمعنى المداراة مع العامّة

و حسن المعاشرة معهم.

لا يخفى أنّه لو قلنا بجواز الدخول معهم اختياراً في الصلاة- كما ربما يستفاد استحبابه من الأخبار فلا يكون- حينئذٍ وجه لبطلانها؛ لأنّه بعد الدخول إمّا أن يكون مضطرّاً إلى الموافقة لهم في العبادة، و إمّا أن يجب عليه التقيّة؛ بمعنى كتم الدين و إخفائه، و قد عرفت أنّ الحكم في المقامين هي الصحّة و الإجزاء، فلا حاجة- حينئذٍ إلىٰ إقامة دليل علىٰ إثبات الإجزاء في المقام. نعم لا بأس بذكر بعض الأخبار، الواردة في الصلاة خلف من لا يُقتدى به، الظاهرة في تأكّد استحبابها و صحّتها، و قد جمعها في «الوسائل» في الباب الخامس أو السادس من أبواب صلاة الجماعة «1»:

منها: صحيحة حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال

من صلّىٰ معهم في الصفّ الأوّل، كان كمن صلّىٰ مع رسول اللّٰه صلّى اللّٰه عليه و آله في الصفّ الأوّل «2».

______________________________

(1) وسائل الشيعة 8: 299 305، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5 و 6.

(2) الفقيه 1: 250/ 1126، أمالي الصدوق: 300/ 14، وسائل الشيعة 8: 299، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 553

و منها: رواية حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

يحسب لك إذا دخلت معهم- و إن كنت لا تقتدي بهم مثل ما يحسب لك إذا كنت مع من تقتدي به «1».

و منها: ما رواه علي بن جعفر (عليه السّلام) في كتابه، عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، قال

صلّىٰ حسن و حسين (عليهما

السّلام) خلف مروان و نحن نصلّي معهم «2».

و منها: غير ذلك من الأخبار المذكورة في ذلك الباب.

و دلالتها على الصحّة و الإجزاء ممّا لا ريب فيه، بل بعضها صريح في ذلك.

نعم ظاهر بعض الأخبار- المذكورة في الباب السادس بطلان الصلاة معهم و لزوم الإتيان بها قبلها أو بعدها، مثل ما رواه إبراهيم بن علي المرافقي و عمر بن ربيع، عن جعفر بن محمّد (عليه السّلام) في حديث: «أنّه سأل عن الإمام: إن لم أكن أثق به، أُصلّي خلفه و أقرأ؟ قال

لا صلِّ قبله أو بعده

، قيل له: أ فأُصلّي خلفه و أجعلها تطوّعاً؟ قال

لو قُبل التطوّع لقبلت الفريضة، و لكن اجعلها سُبحة «3».

و لكن سندها- كغيرها من الأخبار الظاهرة في بطلان الصلاة معهم في غاية الضعف «4»، فلا يقاوم الأخبار الكثيرة الظاهرة في الصحّة، الخالية عن

______________________________

(1) الكافي 3: 373/ 9، الفقيه 1: 251/ 1127، تهذيب الأحكام 3: 265/ 752، وسائل الشيعة 8: 299، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5، الحديث 3.

(2) مسائل عليّ بن جعفر (عليه السّلام): 144/ 173، وسائل الشيعة 8: 301، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5، الحديث 9.

(3) تهذيب الأحكام 3: 33/ 120، وسائل الشيعة 8: 303، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 6، الحديث 5.

(4) رواها الشيخ الطوسي بإسناده، عن ابن عقدة، عن أحمد بن محمّد بن يحيى الخازني (الخازمي)، عن الحسن بن الحسين (الحسين بن الحسن)، عن إبراهيم بن علي المرافقي و عمر بن الربيع. و السند ضعيف لجهالة أحمد بن محمّد بن يحيى الخازني.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 554

الخَدْشة من حيث السند أيضاً.

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذُكر بين أن تكون التقيّة

موجبة لترك جزء أو شرط أو لفعل مانع.

و لا فرق في الجزء بين أن يكون رُكناً أو غيره، كما أنّه لا فرق بين الصلاة و غيرها من العبادات فإنّ الأئمة (عليهم السّلام) كانوا يحجّون معهم في أكثر الأعوام، مع أنّ تعيين أوّل الشهر و يوم عرفة كان بيد العامّة؛ لكونهم مصدراً للأُمور و سلطاناً على الناس ظاهراً، و لم يعهد من أحد منهم المخالفة معهم في الباطن مع الموافقة في الظاهر؛ إذ لو كان ذلك لنقل مع توفّر الدواعي عليه، و كذلك لم يُعهد منهم إفتاء مواليهم بوجوب الإعادة أو القضاء، و ليس ذلك إلّا لكون العمل الصادر تقيّة صحيحاً واقعاً و لو كان فاقداً لبعض الأركان.

و دعوىٰ: أنّه لعلّه كان عدم الإعادة أو القضاء، لأجل علمهم بمطابقة حكم قضاة العامّة و تعيينهم أوّل الشهر للواقع.

مدفوعة: بضرورة خلافها، فإنّه كيف يمكن ادّعاء ذلك في السنين الكثيرة البالغة مائتين أو أزيد.

ثمّ إنّه لا ينافي ما ذكرنا- من عدم وجوب الإعادة و القضاء ما ورد في بعض الأخبار: من أنّه (عليه السّلام) أفطر يوماً يعلم أنّه من شهر رمضان تقيّة، و قال

إفطاري يوماً و قضاؤه أيسر عليّ من أن يُضرب عُنُقي «1»

؛ حيث إنّ ظاهره وجوب القضاء مع الإفطار تقيّة.

______________________________

(1) الكافي 4: 83/ 7، وسائل الشيعة 10: 132، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 555

وجه عدم المنافاة: أنّ ما ذكرنا إنّما هو فيما لو أوجد أصل العمل، غاية الأمر مخالفته للواقع من حيث الكيفيّة، و أمّا لو صارت التقيّة سبباً لترك العمل رأساً، فلا دليل علىٰ عدم وجوب الإعادة أو القضاء، كما هو الحال في

جميع موارد الاضطرار، فإنّ الحكم بالإجزاء و الصحّة إنّما هو فيما لو صدر منه أصل العمل، و لكن اضطُرّ إلىٰ إيجاده موافقاً لهم، و أما لو صار موجباً لتركه فلا يستفاد من أدلّته عدم وجوبهما كما لا يخفى.

حول ثبوت موضوعات الخارجية بحكم القضاة من العامة

ثمّ إنّه هل يكون حكم قضاتهم و تعيينهم لأوّل الشهر- مثلًا حجّة شرعيّة على الشيعة- أيضاً في زمان التقيّة؛ بحيث يترتّب عليه جميع الآثار ما لم ينكشف الخلاف، فلا فرق- حينئذٍ بينه و بين حكم قضاة الشيعة و مراجعهم الذي يكون حجّة عند الشكّ، فلا يجب القضاء في اليوم الذي شُكّ في كونه عيداً؛ إذا حكم واحد منهم بأنّه يوم العيد؛ و لو كان مقتضى الاستصحاب العدم و وجوب القضاء مع الإفطار للتقيّة، أو لا؟ وجهان.

ربما يُستفاد من بعض الأخبار- الواردة في الإفطار تقيّةً الأوّلُ، مثل ما رواه الصدوق بإسناده عن عيسىٰ أنّه قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في اليوم الذي يشكّ فيه فقال

يا غلام اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا؟

فذهب ثمّ عاد، فقال

لا، فدعا بالغداء فتغدّينا معه «1».

و دلالته علىٰ ذلك مبنيّة علىٰ أن لا يكون الراوي و الغلام ممّن يتّقي عنهما، فإنّه- حينئذٍ لا وجه للإفطار- مع عدم الاضطرار إلّا لكون صيام السلطان

______________________________

(1) الفقيه 2: 79/ 352، وسائل الشيعة 10: 131، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 556

و إفطاره حجّة شرعيّة عند الشكّ لجميع الناس، و أمّا لو كان أحدهما ممّن يتّقي عنه فلا تصير الرواية دليلًا علىٰ ذلك؛ لأنّه لا منافاة بين الإفطار- لئلّا يظهر الحال و بين وجوب القضاء، كما لا يخفى.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه

موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)؛ ص: 556

و مثل ما رواه أبو الجارود، قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام): إنّا شككنا سنة في عام من تلك الأعوام في الأضحىٰ، و كان بعض أصحابنا يضحّي؟ فقال

الفطر يوم يفطر الناس، و الأضحىٰ يوم يضحّي الناس، و الصوم يوم يصوم الناس «1».

و دلالته على المطلب واضحة؛ لأنّ مفاده أنّ الفطر عند الشكّ يوم يفطر الناس، فإفطارهم حجّة شرعيّة. نعم لا بدّ من تقييده بصورة الشكّ لو فرض إطلاقه و شموله لصورة العلم أيضاً.

و لكن سند الرواية ضعيف «2»، فلا يجوز الاعتماد عليه في هذا الحكم المخالف للأصل، فلو اقتضت التقيّة الإفطار في اليوم الذي شكّ في كونه عيداً، يجب قضاؤه عملًا بالاستصحاب.

حول اعتبار عدم المندوحة في التقية
اشارة

ثمّ إنّه هل يعتبر في جواز التقيّة- و إجزاء العمل الصادر كذلك- عدم المندوحة أم لا؟ وجهان.

و التحقيق أن يقال: إنّه لا شبهة في أنّه لا يتحقّق عنوان الاضطرار إلّا فيما إذا لم يكن له مندوحة أصلًا؛ ضرورة أنّه مع ثبوتها لا يصدق عنوان الاضطرار

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 4: 317/ 966، وسائل الشيعة 10: 133، كتاب الصوم، أبواب ما يمسك عنه الصائم، الباب 57، الحديث 7.

(2) الرواية ضعيفة بأبي الجارود زياد بن منذر. راجع رجال النجاشي: 170/ 448، اختيار معرفة الرجال: 229، الفهرست: 72 73.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 557

المساوق للابدّيّة، فمن كان متمكّناً من ترك شرب الخمر- بشرب مائع آخر مشابه له في الأوصاف لا يكون مضطرّاً إلىٰ شرب الخمر أصلًا، فارتكابه في مثل الصورة ارتكاب للمحرّم بلا إشكال، و كذلك من يكون

متمكّناً من ترك الصلاة مع العامّة- بأن يصلّي في بيته مُغلقاً عليه الباب لا يكون مضطرّاً إلى الصلاة معهم، بل نقول: إنّه لا يتحقّق الاضطرار على الصلاة و غيرها من الأفعال العباديّة المشروطة بالنيّة إلّا في بعض الموارد؛ ضرورة أنّ غايته الاضطرار إلىٰ إيجاد صورة العمل، و لا يتصوّر الاضطرار عليها مع نيّة العبادة.

نعم فيما إذا ضاق الوقت و لم يسع إلّا لمقدار صلاة واحدة- مثلًا يتحقّق- حينئذٍ الاضطرار إلى الصلاة الموافقة لهم؛ لأنّ المفروض وجوبها عليه مضيّقاً و عدم تمكّنه من المخالفة لهم، و أمّا في سعة الوقت التي يمكن معها تأخير الصلاة إلى زمان آخر، فلا يكون فيه إلزام من الشارع إلىٰ نيّة الصلاة، و دفع الضرر الذي يخاف عليه، لا يتوقّف إلّا علىٰ مجرّد إيقاع الصورة موافقة لهم.

و بالجملة: فتحقّق عنوان الاضطرار- الوارد في حديث الرفع و بعض الأخبار المتقدّمة، مثل قوله (عليه السّلام)

التقيّة في كلّ شي ء يُضطَرّ إليه ابنُ آدم «1»

إنّما هو فيما إذا لم يكن بُدّ إلّا من العمل علىٰ وفق الاضطرار، و مع ثبوت المندوحة لا يتحقّق اللّابدّيّة و الاضطرار.

و لكن الأخبار الكثيرة الواردة في التقيّة قد عرفت أنّها لا تنحصر بذلك، بل يستفاد منها الجواز فيما يكون أوسع من هذا العنوان، و هو عنوان كتم السرّ و المداراة مع الناس.

و التأمّل في الأخبار الواردة فيما عدا الاضطرار، يقضي بالجواز و الإجزاء

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 537 538.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 558

في صورتي وجود المندوحة و عدمها؛ لاشتمالها على تحريض الناس و ترغيبهم إلى الصلاة في عشائرهم «1»، و أنّ من صلّىٰ معهم كمن صلّىٰ خلف رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) «2»،

و أنّ المصلّي معهم كالشاهر سيفه في سبيل اللّٰه «3»، و غير ذلك من الأخبار التي تقدّم بعضها.

ثمّ إنّه لا شبهة فيما ذكرنا: من عدم الفرق بين صورة وجود المندوحة و عدمها في التقيّة- بمعنى كتمان السرّ و المداراة لو أُريد بعدم المندوحة: عدمُ التمكّن من العمل علىٰ طبق الواقع في جميع الوقت المضروب لذلك العمل؛ ضرورة أنّ حملَ الأخبار الكثيرة- الظاهرة في الصحّة و الإجزاء على ما لو لم تكن له مندوحة بهذا المعنىٰ، حملٌ على فرض نادر، بل لا وجه له أصلًا، بعد وضوح كون المفروض فيها، هي صورة كون الشيعة مختارين في الصلاة معهم و عدمها.

و أمّا لو أُريد بعدم المندوحة: عدمُها حين العمل بسبب تبديل موضوع التقيّة بموضوع الأمن؛ كأن يكون في مساجدهم، و لا يمكن له العمل على طبق الواقع إلّا بالخروج منها مع إمكانه، فالظاهر- أيضاً عدم اعتباره؛ للأخبار الواردة في تحريض الناس و ترغيبهم إلى الصلاة معهم «4»، الظاهرة في جوازها و لو بالخروج من البيوت إلى المساجد لأجلها، بل قد عرفت أنّ فيها ما يدلّ علىٰ أفضليّة ذلك بالإضافة إلى الصلاة لا معهم.

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة 16: 219، كتاب الأمر و النهي، الباب 26، الحديث 2.

(2) انظر وسائل الشيعة 8: 299، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5، الحديث 1 و 4.

(3) تهذيب الأحكام 3: 277/ 809، انظر وسائل الشيعة 8: 301، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5، الحديث 7.

(4) انظر وسائل الشيعة 8: 299، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 5.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 559

حول كلام الشيخ في المقام

و لكن ظاهر الشيخ (قدّس سرّه) في «رسالة التقية» وجوب مراعاة عدم المندوحة في الجزء من الزمان

الذي يوقع فيه الفعل؛ استناداً إلىٰ بعض ما يدلّ بظاهره عليه من الأخبار «1».

مثل رواية إبراهيم بن شيبة، قال: كتبت إلىٰ أبي جعفر الثاني (عليه السّلام) أسأله عن الصلاة خلف من يتولّىٰ أمير المؤمنين و هو يرىٰ المسح على الخُفّين، أو خلف من يحرّم المسح على الخُفّين و هو يمسح؟

فكتب (عليه السّلام)

إن جامعك و إيّاهم موضع فلم تجد بُدّاً من الصلاة، فأذّن لنفسك و أقم، فإن سبقك إلى القراءة فسبّح «2».

فإنّ ظاهرها اعتبار تعذّر ترك الصلاة معهم.

و نحوها في ذلك ما عن «الفقه الرضوي» «3» و ما عن «دعائم الإسلام» «4».

هذا، و لكن لا يجوز الاعتماد علىٰ شي ء منها لضعف سندها، مضافاً إلىٰ إمكان المناقشة في دلالة بعضها: بأنّ الكلام في الصلاة مع العامّة التي تجوز اختياراً بمقتضى الأخبار المتقدّمة، لا الصلاة مع بعض الشيعة الذي يكون قوله مخالفاً للحقّ، أو بعض العامّة الذي يعمل علىٰ خلاف المشهور بينهم، فإنّ الصلاة

______________________________

(1) رسائل فقهيّة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 86.

(2) تهذيب الأحكام 3: 276/ 807، وسائل الشيعة 8: 363، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 33، الحديث 2.

(3) الفقه المنسوب للإمام الرضا (عليه السّلام): 144 145، مستدرك الوسائل 6: 481، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 29، الحديث 1.

(4) دعائم الإسلام 1: 151، بحار الأنوار 85: 110.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 560

معهما لا تجوز إلّا مع الاضطرار، المتوقّف علىٰ عدم المندوحة أصلًا.

و بالجملة: لا يجوز رفع اليد عن الأخبار الكثيرة- الظاهرة في أنّه لا يعتبر عدم المندوحة بسبب هذه الأخبار التي هي مخدوشة من حيث السند و الدلالة معاً.

و أمّا لو أُريد بعدم المندوحة: عدمها بمعنى عدم التمكّن حين العمل من الإتيان به

موافقاً للواقع، كما إذا تمكّن- عند إرادة التكفير للتقيّة من الفصل بين يديه؛ بأن لا يضع بطن إحداهما علىٰ ظهر الأُخرى، بل يقارب بينهما، و كما إذا تمكّن من صبّه الماء من الكفّ إلى المرفق، لكنّه ينوي الغسل عند رجوعه من المرفق إلى الكفّ، و نظيره نيّة الغسل في الغسلة الثانية و الثالثة دون الاولىٰ، فظاهر الشيخ (قدّس سرّه) وجوب ذلك و عدم جواز العمل تقيّة، بل ذكر أنّه ممّا لا خلاف فيه «1».

و يؤيّده: أنّ الكتمان و كذا المداراة يتحقّقان بهذا النحو من التعمية، إلّا أنّ مفاد الأخبار في ذلك مختلف، فيستفاد من بعضها: أنّه لا يعتبر عدم المندوحة بهذا المعنىٰ أيضاً، مثل بعض الروايات الواردة في الوضوء تقيّة، و أنّه يجب في حالها ثلاثاً ثلاثاً، كرواية داود الرّقّي المشتملة على قول أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) لداود بن زربي، بعد أن سأله عن عدّة الطهارة

ثلاثاً ثلاثاً من نقص عنه فلا صلاة له «2»

، فإنّ الحكمَ بذلك؛ من دون تعرّض لنيّة الوضوء بالغسلتين الأخيرتين؛ حتّى يكون عمله مطابقاً للواقع، شاهدٌ علىٰ أنّه لا يُعتبر عدم المندوحة بالمعنى المذكور.

______________________________

(1) رسائل فقهيّة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 23: 85.

(2) اختيار معرفة الرجال: 312/ 564، وسائل الشيعة 1: 443، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 32، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 561

و كذا رواية محمّد بن الفضل المشتملة علىٰ قصّة علي بن يقطين «1»، و فيها: أنّه (عليه السّلام) أمره بغسل الوجه ثلاثاً، و غسل اليدين إلى المرفقين ثلاثاً، و مسح جميع الرأس و ظاهر الأُذُنين و باطنهما، و غسل الرجلين ثلاثاً، مع أنّ المندوحة متحقّقة في الجميع، فإنّه يمكن له أن ينوي المسح علىٰ

خصوص مقدّم الرأس، و أن يغسل الرجلين بنحو لا ينافي المسح عليهما.

هذا مضافاً إلىٰ أنّ الأخبار العامّة الواردة في التقيّة، الآمرة بالحضور في جماعاتهم و الصلاة معهم، خالية عن التعرّض لذكر هذه الحيل الشرعيّة.

هذا، و يظهر من بعض الأخبار- الواردة في الصلاة خلف من لا يُقتدى به وجوبُ القراءة للنفس، مثل رواية علي بن يقطين قال: سألت أبا الحسن (عليه السّلام) عن الرجل يصلّي خلف من لا يُقتدى بصلاته و الإمام يجهر بالقراءة؟ قال

اقرأ لنفسك، و إن لم تسمع نفسك فلا بأس «2»

، و رواية محمّد بن أبي حمزة، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

يُجزيك إذا كنت معهم من القراءة مثل حديث النفس «3».

فإنّ ظاهرهما وجوب القراءة في الصلاة معهم و إن بلغت إلى مرتبة حديث النفس، الذي لا يكون بقراءة أصلًا.

______________________________

(1) الإرشاد، ضمن مصنّفات الشيخ المفيد 11، الجزء الثاني: 228، وسائل الشيعة 1: 444، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 32، الحديث 3.

(2) تهذيب الأحكام 3: 36/ 129، الإستبصار 1: 430/ 1663، وسائل الشيعة 8: 363، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 33، الحديث 1.

(3) الكافي 3: 315/ 16، الفقيه 1: 260/ 1185، تهذيب الأحكام 3: 36/ 128، الإستبصار 1: 430/ 1662، وسائل الشيعة 8: 364، كتاب الصلاة، أبواب صلاة الجماعة، الباب 33، الحديث 4.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 562

هذا، و الجمع بينهما يقتضي إمّا الحمل على استحباب القراءة، أو القول باختصاص الوجوب بها؛ لأنّ الحكم باعتبار عدم المندوحة بهذا المعنىٰ- مضافاً إلىٰ أنّه خلاف ظواهر الأخبار الواردة في التقيّة نقض لغرض تشريعها، فإنّ العوامّ لا يمكن لهم- بحسب النوع أن يعملوا علىٰ طبق الواقع بإعمال هذه الحيل،

فيريدون إعمالها، فربما يقعون في المخاطرة لأجل عدم العلم بكيفيّتها، كما لا يخفى.

فالظاهر أنّه لا يعتبر عدم المندوحة بهذا المعنىٰ أيضاً.

تنبيه: في ظرف التقية بمعنى كتمان الأمر

لا يذهب عليك أنّ التقيّة بمعنى كتمان السرّ أو مداراتهم- بالحضور في مجامعهم و الصلاة معهم إنّما هي في الزمان الذي كانت الأُمور بأيديهم، و كان لهم السلطنة و الإمارة على الناس؛ بحيث لا تقدر الشيعة علىٰ مخالفتهم؛ لخوف الضرر المالي أو البدني أو غيرهما.

و أمّا لو فرض العكس أو كان لكلّ منهما حكومة مستقلّة- كما في هذه الأزمنة بالنسبة إلىٰ أمصارنا فالظاهر عدم جريان تلك الآثار، بل لا وجه للتقيّة أصلًا. نعم قد يتّفق ذلك إذا سافر بعض الشيعة إلىٰ بلادهم، كما في هذه الأزمنة حيث يسافرون من جميع بلادهم إلىٰ مملكة الحجاز؛ لإقامة مراسم الحجّ في مكّة، فإنّه بالنسبة إليهم يتحقّق موضوع التقيّة، و يترتّب جميع الآثار المتقدّمة، كما هو واضح.

و الدليل علىٰ ما ذكرنا- مضافاً إلىٰ أنّ أدلّة التقيّة كلّها ناظرة إلى مثل زمان الأئمة (عليهم السّلام)، الذي كان مخالفوهم مصادر للأوامر و غاصبين للخلافة التي هي حقّهم، و قلّدها رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) عليّاً و من بعده الأئمّة من ولده- صلوات اللّٰه عليه و عليهم أجمعين ما ورد في بعض الروايات: من أنّ أبا جعفر (عليه السّلام) قال

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 563

خالطوهم بالبرّانيّة و خالفوهم بالجوّانيّة إذا كانت الإمْرة صبيانيّة «1».

فإنّ ظاهره كون وجوب المخالطة معلّقاً علىٰ كون الإمْرة و السلطنة صبيانيّة و علىٰ يد غير أهلها، فينتفي بانتفائه، و أمّا ما ورد في بعض الأخبار من تحديد التقيّة إلىٰ قيام القائم- عجّل اللّٰه تعالىٰ فرجه الشريف «2» فالظاهر أنّ المراد

به انتفاء موضوع التقية رأساً في كلّ زمان و مكان، فلا ينافي ما ذكرنا من عدم التقيّة بالإضافة إلىٰ مثل بلادنا، كما لا يخفى.

تتمّة: في ترتّب الأثر على المأتيّ به تقيّةً

لو زال السبب المسوّغ لإيقاع العمل علىٰ غير وجهه، و ارتفعت التقيّة، فهل يترتّب على العمل الصادر حالها الآثار المترتّبة على العمل الصحيح و لو بعد ارتفاعها «3»، أو أنّ ذلك إنّما يدور مدار الاضطرار و التقيّة، فيرتفع بارتفاعها، فلا تجوز الصلاة اختياراً مع الوضوء الصادر تقيّة «4»، و كذا لا يجوز ترتيب الأثر على النكاح أو الطلاق الواقعين كذلك؟

وجهان، بل قولان، أقواهما الأوّل؛ لأنّ الظاهر من الأدلّة كون العمل الصادر تقيّة و مخالفاً للواقع، متّصفاً بالصحّة و ماضياً كالعمل المطابق له، فإنّ

______________________________

(1) الكافي 2: 220/ 20، وسائل الشيعة 16: 219، كتاب الأمر و النهي، الباب 26، الحديث 3.

(2) كمال الدين: 371/ 5، كفاية الأثر: 270، إعلام الورى: 408، وسائل الشيعة 16: 211، كتاب الأمر و النهي، الباب 24، الحديث 26.

(3) مختلف الشيعة 1: 137، ذكرى الشيعة 2: 161، الدروس الشرعيّة 1: 92، جواهر الكلام 2: 422.

(4) المبسوط 1: 22، المعتبر 1: 154، تذكرة الفقهاء 1: 174.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 564

قوله (عليه السّلام)

التقيّة في كلّ شي ء يُضطرّ إليه ابن آدم فقد أحلّه اللّٰه «1»

، مرجعه إلىٰ أنّ اللّٰه تعالىٰ قد أمضىٰ كلّ عمل صادر عن اضطرار، فالوضوء الواقع تقيّة صحيح، و معنى صحّته تأثيره في رفع الحدث و إباحة الصلاة، و كذا البيع و النكاح و الطلاق الواقعة تقيّة، يترتّب عليها آثار كلّ منها من النقل و الانتقال و الزوجيّة و البينونة و تأثيرها في ذلك و إن كان في خصوص حال الاضطرار؛ إلّا أنّه لا يكون

محدوداً به؛ لعدم الدليل على كون ارتفاعه موجباً لرفعها بعد وقوعها صحيحة، و كذا قوله (عليه السّلام) في بعض الروايات

فكلّ شي ء يعمل المؤمن بينهم لمكان التقيّة؛ ممّا لا يؤدّي إلى فساد في الدين، فإنّه جائز «2»

، ظاهر في جواز جميع الأفعال الصادرة تقيّة، و قد عرفت أنّ المراد بالجواز ليس خصوص الجواز التكليفي، بل الأعمّ منه و من الوضعي.

و بالجملة: فظاهرهما صحّة الأعمال الصادرة تقيّة؛ بمعنى أنّ الوضوء كذلك يؤثّر في رفع الحدث، فتكون الصلاة واجدة لشرطها؛ أي الطهارة، لا أنّه تجوز الصلاة مع عدمها في صورة الاضطرار، و كذلك النكاح و الطلاق، فإنّ جوازهما عند الاضطرار إلىٰ إيقاعهما علىٰ غير وجههما، يرجع إلىٰ تأثيرهما في الزوجيّة و البينونة واقعاً، لا أنّه يجوز وطؤها مع الاضطرار و إن لم تكن زوجة، أو أنّه يحرم و إن كانت باقية على الزوجيّة، و حينئذٍ فتكون هذه الأدلّة، حاكمة على الأدلّة الواردة في كيفيّة الوضوء الصحيح و النكاح و الطلاق الصحيحين، كما هو واضح. فالأقوىٰ هو الوجه الأوّل.

و لنختم بذلك الكلام في مباحث التقيّة، و نرجع إلى سائر مباحث الوضوء.

______________________________

(1) تقدّم في الصفحة 547.

(2) الكافي 2: 168/ 1، وسائل الشيعة 16: 216، كتاب الأمر و النهي، الباب 25، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 565

اعتبار الترتيب في الوضوء

اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «الترتيب واجب في الوضوء يبدأ غسل الوجه قبل اليمنىٰ، و اليسرى بعدها، و مسح الرأس ثالثاً، و الرجلين أخيراً، فلو خالف أعاد الوضوء عمداً كان أو نسياناً إن كان قد جفّ الوضوء، و إن كان البلل باقياً أعاد علىٰ ما يحصل معه الترتيب» «1».

أقول: يدلّ علىٰ وجوب الترتيب بهذه الكيفيّة الإجماع «2» و السنّة

«3»، و ظاهر الشهيد (قدّس سرّه) في «الذكرى» دلالة الآية عليه «4» أيضاً؛ حيث قال: «الواجب السادس: الترتيب عند علمائنا؛ لأنّه تعالىٰ غيّى الغسلَ بالمرافق و المسحَ بالكعبين، و هو يُعطي الترتيب، و إنّ الفاء في فَاغْسِلُوا يفيد الترتيب قطعاً بين إرادة القيام و بين غسل الوجه، فتجب البَدْأة بغسل الوجه قضية للفاء، و كلّ من قال بوجوب البدأة به قال بالترتيب بين باقي الأعضاء» «5».

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 14.

(2) الخلاف 1: 95 96، المعتبر 1: 154، تذكرة الفقهاء 1: 185، جواهر الكلام 2: 246، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 5.

(3) وسائل الشيعة 1: 448، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 1.

(4) المائدة (5): 6.

(5) ذكرى الشيعة 2: 161.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 566

أقول: لم أفهم أنّ جعل المرافق غاية لغسل الأيدي و الكعبين غاية لمسح الأرجل كيف يعطي الترتيب و أيّ ارتباط بين الأمرين، و أمّا الفاء في قوله تعالى فَاغْسِلُوا فإنّه و إن كان يفيد الترتيب، إلّا أنّ مفاده الترتيب بين إرادة القيام و غسل الوجه، و مورد الكلام هو الترتيب بين غسل الوجه و بين باقي الأعضاء؛ أ لا ترى أنّه لو قيل: جاء زيد فعمرو و بكر، يستفاد منه أنّ مجي ء عمرو متأخّر عن مجي ء زيد، لا أنّه متقدّم علىٰ مجي ء بكر، كما لا يخفى «1».

و بالجملة: فدلالة الآية على اعتبار الترتيب محلّ نظر، بل منع.

و لكن عرفت أنّ الإجماع و السُّنّة متوافقان عليه. هذا في أصل اعتبار الترتيب.

و أمّا الإعادة في صورة المخالفة، فظاهر عبارة «الشرائع» المتقدّمة التفصيل- في صورتي العمد و النسيان بين ما لو كان قد جفّ الوضوء، فتجب إعادته، و بين ما لو كان البلل

باقياً، فتجب الإعادة علىٰ ما يحصل معه الترتيب.

حول كلام العلّامة في المقام

و المحكيّ عن العلّامة (قدّس سرّه) في «التحرير»: أنّ هذا التفصيل إنّما هو في خصوص صورة النسيان، و أمّا في صورة العمد فتجب إعادة الوضوء مطلقاً «2».

و ربما يوجّه تارة: بأنّه مبنيّ على مختاره في الموالاة من أنّها عبارة عن

______________________________

(1) لا يخفى أنّ المقدار الّذي استفاده الشهيد من الآية هو تأخّر غسل الوجه عن إرادة القيام و وجوب البدأة به، و أمّا الترتيب بينه و بين سائر الأعضاء، فقد استُدلّ عليه بعدم القول بالفصل و أنّ كلّ من قال بوجوب البدأة به قال بالترتيب بينه و بين سائر الأعضاء. [المقرر دام ظلّه].

(2) تحرير الأحكام 1: 10/ السطر 25، جواهر الكلام 2: 250، انظر مصباح الفقيه، الطهارة 3: 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 567

المتابعة مع الاختيار، و مراعاة الجفاف مع الاضطرار.

و أُخرى: بأنّه يدلّ عليه مفهوم موثّقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)

إن نسيت فغسلت ذراعيك قبل وجهك فأعد غسل وجهك، ثمّ اغسل ذراعيك بعد الوجه «1»

فإنّ مفهومها: أنّه إن لم تنسَ فلا تُعد غسل وجهك، فحينئذٍ إمّا أن يكون المرادُ البناءَ مع عدم الإعادة، و هو خلاف الإجماع، فليس إلّا الاستئناف «2».

و في كلا التوجيهين نظر:

أمّا الأوّل: فلأنّ مخالفة الترتيب ربما لا تنافي المتابعة المعتبرة مع الاختيار؛ أ لا ترى أنّه لو بدأ بغسل الأيدي ثمّ غسل الوجه ثمّ غسل الأيدي، لخالف الترتيب مع ثبوت التتابع، كما هو واضح.

و أمّا الثاني:- فمضافاً إلى منع المفهوم، لا سيّما في مثل المقام نقول: إنّ المنطوق إنّما يدلّ علىٰ وجوب الإعادة و الاستئناف، فكيف يكون الحكم في المفهوم- أيضاً هو وجوب الإعادة، مع أنّه مخالف

له في الإيجاب و السلب.

و التحقيق في توجيه ما ذكره العلّامة (قدّس سرّه) أن يقال: إنّ العامد مع التفاته إلى اعتبار الترتيب في الوضوء، لا يتمشّى منه قصد القربة و تحقّق الامتثال بالوضوء الخالي من الترتيب، فعند المخالفة مع الالتفات يستكشف أنّه لا يكون قاصداً للامتثال أصلًا، و عليه فيكون بطلان الوضوء مستنداً إليه، و يجب عليه الاستئناف و إن كان بدونه يحصل الترتيب؛ لبطلان ما أتى به من الأفعال بسبب خُلُوّه عن قصد القُربة.

______________________________

(1) الكافي 3: 35/ 6، تهذيب الأحكام 1: 99/ 258، الإستبصار 1: 74/ 227، وسائل الشيعة 1: 452، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 35، الحديث 8.

(2) مصباح الفقيه، الطهارة 3: 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 568

حول وجوب الاستئناف لو خالف الترتيب

و كيف كان، فلو خالف الترتيب؛ فقدّم ما حقّه التأخير و أخّر ما حقّه التقديم، فلا إشكال في وجوب الإتيان بالمتأخّر ثانياً؛ لخروجه عن محلّه بسبب التقديم.

و في وجوب الإتيان بالمتقدّم ثانياً- أيضاً لو أتى به أوّلًا وجهان. فلو غسل يده اليسرىٰ قبل اليمنىٰ ثمّ غسلها، فهل تجب عليه إعادة غسل اليمنىٰ أيضاً أو لا؟ المشهور هو الثاني «1»، بل في المحكيّ عن «الجواهر» أنّه قال: لم أجد فيه خلافاً «2».

و العبارة المحكيّة عن الصدوق «3» تُشعر بالتخيير؛ حيث اقتصر علىٰ مجرّد نقل الأخبار المتعارضة، و لم يرجّح بعضها على البعض الآخر «4».

و كيف كان، فالمستفاد من الأخبار الكثيرة وجوب إعادة المتقدّم أيضاً:

منها: صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام)، أنّه قال بعد بيان وجوب الترتيب بين أعضاء الوضوء

إن غسلت الذراع قبل الوجه فابدأ بالوجه و أعد على الذراع، و إن مسحت الرّجْل قبل الرأس فامسح على الرأس قبل الرجل ثمّ أعد

على الرِّجل؛ ابدأ بما بدأ اللّٰه عزّ و جلّ «5».

______________________________

(1) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 3: 7.

(2) جواهر الكلام 2: 248.

(3) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 306 307، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 8.

(4) الفقيه 1: 29/ 90.

(5) الكافي 3: 34/ 5، الفقيه 1: 28/ 89، تهذيب الأحكام 1: 97/ 251، وسائل الشيعة 1: 449، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 1.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 569

فإنّ المراد بغسل الذراع قبل الوجه هو وقوعه قبل غسل الوجه حقيقة؛ بمعنى أنّه قد غسل الوجه- أيضاً متأخّراً عن غسل الذراع، و التعبير بالبدأة بالوجه لا ينافي ذلك، فإنّ الغرض منه هو بيان أنّ المعتبر في الوضوء أن يبدأ بالوجه قبل سائر الأعضاء حقيقة، لا مجرّد وقوعه قبل غسل الذراع حتّى يقال: إنّ إعادة غسل الذراع توجب تحقّق القبليّة «1»، و يؤيّده الأخبار الكثيرة الواردة فيمن بدأ في السعي بالمرْوة دون الصفا، فإنّه قد حكم فيها بوجوب طرح المقدار الذي سعىٰ و البدأة بالصفا «2»، فلو كان المراد من البدأة هي مجرّد القبليّة، لما كان وجه لبطلان جميع الأشواط، كما لا يخفى.

و بالجملة فدلالة الرواية علىٰ وجوب إعادة المتقدّم ممّا لا مجال للمناقشة فيها.

و منها: ذيل موثّقة أبي بصير المتقدّمة؛ حيث قال (عليه السّلام)

إن بدأت بذراعك الأيسر قبل الأيمن، فأعد علىٰ غسل الأيمن ثمّ اغسل اليسار «3».

فإنّ التعبير بالإعادة ظاهر في أنّه غسل الأيمن أوّلًا، و قد حكم بوجوب غسله ثانياً.

و منها غير ذلك من الأخبار الظاهرة في ذلك.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 3: 11.

(2) الكافي 4: 437/ 5، تهذيب الأحكام 5: 151/ 495، و 153/ 503، و 472/ 1659، الاستبصار 2: 240/ 836، وسائل الشيعة 13:

487، كتاب الحجّ، أبواب السعي، الباب 10، الحديث 1 و 2 و 3.

(3) تقدّم في الصفحة 567.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 570

أدلّة عدم وجوب الاستئناف

و في مقابل هذه الأخبار بعض الأخبار التي يُستفاد منها عدم الوجوب، مثل موثّقة ابن أبي يعفور، المحكيّة عن «مستطرفات السرائر» عن كتاب «النوادر» لأحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

إذا بدأت بيسارك قبل يمينك و مسحت رأسك و رجليك، ثمّ استيقنت بعد أنّك بدأت بها، غسلت يسارك ثمّ مسحت رأسك و رجليك «1».

و مثلها رواية منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)- في حديث تقديم السعي على الطواف قال

أ لا ترى أنّك إذا غسلت شمالك قبل يمينك، كان عليك أن تعيد علىٰ شمالك «2».

و يمكن المناقشة في هذه الرواية بعدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، و لكنّه مع ذلك يجب رفع اليد عن ظاهر الطائفة الأُولىٰ؛ لكون الموثقة نصّاً في عدم وجوب إعادة غسل اليمين، و مع فرض عدم إمكان الحمل فيها و ثبوت المكافأة، فلا إشكال في ترجيح الموثّقة عليها؛ لكونها موافقة لفتوى المشهور، بل الكلّ- كما عرفت من «الجواهر» فتصير الطائفة الأُولىٰ ساقطة عن الاعتبار باعتبار إعراض الأصحاب عنها.

______________________________

(1) المستطرفات، ضمن السرائر 3: 553 554، وسائل الشيعة 1: 454، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 35، الحديث 14.

(2) تهذيب الأحكام 5: 129/ 427، وسائل الشيعة 1: 451، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 35، الحديث 6.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 571

فرع: في نيّة الوضوء الارتماسي

لو ارتمس في الماء الجاري فنوى الوضوء؛ بأن نوىٰ غسل الوجه أوّلًا، ثمّ نوىٰ غسل اليمنىٰ ثمّ اليسرىٰ، ثمّ مسح رأسه و رجليه، يصحّ وضوؤه؛ لأنّ صيرورة كل واحد من الغسلات غسلًا وضوئيّاً يتوقّف على النيّة، و المفروض أنّه نوىٰ أوّلًا غسل الوجه ثم سائر الأعضاء على الترتيب

المعتبر في الوضوء، و لا يلزم أن يكون جرى الماء علىٰ غير نسق واحد، و كان لجرياناته المتعاقبة امتياز عرفيّ- كما في «المصباح» «1» فإنّه يكفي في حصول التغاير مجرّد نيّة الوضوء به، و لا يلزم أن يكون هنا غسلات متعدّدة ممتازة، فإنّ الغسل الواحد الممتدّ، يمكن أن يقع بعض أجزائه غسلًا للوضوء بسبب النيّة، كالخطّ الواحد كذلك. هذا في الماء الجاري.

و أمّا الواقف فكذلك- أيضاً بشرط حصول تحريك كلّ عضو عند إرادة غسله؛ بحيث يجري الماء من الأعلى إلى الأسفل؛ لصدق تحقّق الغسل كذلك عليه.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 3: 13.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 573

اعتبار الموالاة

اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «الموالاة واجبة، و هي أن يغسل كلّ عضو قبل أن يجفّ ما تقدّمه. و قيل: بل هي المتابعة بين الأعضاء مع الاختيار و مراعاة الجفاف مع الاضطرار» «1».

أقول: مقتضى الآية الشريفة الواردة في الباب «2» عدم وجوب الموالاة؛ لأنّ العطف وقع فيها بالواو.

و أمّا غيرها من سائر الأدلّة فليس فيها ما يدلّ على اعتبار الموالاة بعنوانها.

المراد من الموالاة في الأخبار

نعم الظاهر اتّفاقهم علىٰ وجوبها في الجملة «3» على اختلاف في المراد منها، فلا بدّ من ملاحظة الأخبار الواردة في هذا المقام التي هي المستند، فنقول:

منها:- و هي العمدة موثّقة أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام)

إذا

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 14.

(2) المائدة (5): 6.

(3) جواهر الكلام 2: 252، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 309، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 14.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 574

توضّأتَ بعض وضوئك، فعرضت لك حاجة حتّى يبس وضوؤك فأعد وضوئك، فإنّ الوضوء لا يتبعّض «1».

و التقييد بقوله: «حتّى يبس» ظاهر في عدم وجوب الإعادة لو انقضت الحاجة قبل أن ييبس الوضوء، بل يبني عليه، فظاهره أنّ الملاك هو حصول الجفاف و عدمه، و به يفسّر إطلاق العلّة المذكورة في الذيل الظاهرة في أنّ الملاك هو التبعّض؛ سواء حصل الجفاف أم لا؛ إذ الأخذ به يوجب أن يكون ذكر الغاية لغواً، فالمراد بالتبعّض المنفي في الوضوء هو الجفاف و اليَبْس.

و منها: رواية حكم بن حكيم، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل نسي من الوضوء الذراع و الرأس؟ قال

يعيد الوضوء إنّ الوضوء يتبع بعضه بعضاً «2».

و المراد بالمتابعة هنا هي الموالاة؛ ضرورة أنّه لو كان المراد بها الترتيب لما صحّ أن يقع

علّة لإعادة الوضوء؛ إذ الترتيب يحصل بدونه، كما هو واضح، و حينئذٍ تصير الرواية- بضميمة الإجماع علىٰ أنّ الموالاة في حقّ الناسي هو عدم الجفاف «3» قرينة علىٰ أنّ المراد بالعلّة المذكورة في الرواية المتقدّمة- و هي أنّ الوضوء لا يبعض هو هذا المعنىٰ.

نعم وقع مثل هذا التعليل في بعض الأخبار الواردة في بيان اعتبار

______________________________

(1) الكافي 3: 35/ 7، علل الشرائع: 289 290، تهذيب الأحكام 1: 87/ 230، و 98/ 255، الاستبصار 1: 72/ 220، وسائل الشيعة 1: 446، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 33، الحديث 2.

(2) الكافي 3: 35/ 9، علل الشرائع: 289/ 1، وسائل الشيعة 1: 448، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 33، الحديث 6.

(3) انظر مصباح الفقيه، الطهارة 3: 16 17.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 575

الترتيب «1»، و لكنّه لا يوجب أن يكون المراد به في هذه الرواية- أيضاً هو الترتيب. نعم يمكن أن يقال: إنّ السؤال في الرواية إنّما وقع عن حيثيّة مخالفة الترتيب، فكيف يمكن أن يكون المراد بالمتابعة هي الموالاة مع أنّها لم تكن مورداً للسؤال، إلّا إذا حُمل علىٰ ما إذا حصل الجفاف، و هو ممّا يدلّ عليه السؤال أصلًا.

نعم يقع الإشكال- حينئذٍ في وجوب إعادة الوضوء الظاهر في وجوب إعادته من رأس مع أنّ مخالفة الترتيب لا توجب إلّا الإعادة من حيث أخطأ.

و لكنّه يندفع: بأنّ الظاهر و إن كان ذلك، إلّا أنّه يحمل عليه بقرينة سائر الروايات، أو يقال: إنّه قد وقع مثل هذا التعبير في بعض الروايات الواردة في الترتيب، و هو يُشعر بجواز التعبير عن إعادة الوضوء من حيث أخطأ بإعادة الوضوء، فتدبّر.

و كيف كان، فالظاهر أنّ الرواية لا ارتباط لها

بمسألة الموالاة؛ لما عرفت، مضافاً إلىٰ أنّ التعبير عن الموالاة بالمتابعة- مع أنّها لغة لا تناسبها لا يوجد في الروايات أصلًا، خصوصاً مع ملاحظة كثرة التعبير فيها عن الترتيب بالمتابعة، و هذه كلّها قرينة علىٰ أنّ المراد بالرواية هي الترتيب.

فالعمدة في إثبات اعتبار الموالاة هي رواية أبي بصير المتقدّمة.

و هل مقتضاها كون البطلان منوطاً بالجفاف مطلقاً؛ من دون فرق بين أن يكون مسبّباً عن التأخير، أو عن أمر آخر، بل لو أتى بالأفعال متتابعة و حصل الجفاف في الأثناء لشي ء من العوارض، تجب إعادة الوضوء، أو أنّ مدلولها إناطة البطلان بالإخلال بالمتابعة؛ سواء حصل الجفاف أم لا، أو أنّ مفادها هو اعتبار

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة 1: 448، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 34، الحديث 1، و: 452، الباب 35، الحديث 9.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 576

الأمرين في البطلان، فلا يبطل إلّا إذا أخلّ بالمتابعة و حصل الجفاف معاً، فالمعتبر- بناءً عليه في صحّة الوضوء أحد الأمرين على سبيل منع الخُلُوّ: إمّا المتابعة العرفيّة، و إمّا عدم الجفاف؟ وجوه.

قد يقال بالأوّل؛ نظراً إلىٰ أنّ قوله (عليه السّلام)

فعرضت لك حاجة «1»

، يكون المراد منه مجرّد كون عروض الحاجة موجباً لتحقّق اليبس فيتحقّق المسبّب الذي يوجب الإخلال بالوضوء «2»، و لكن التعليل بنفي التبعّض- الظاهر في اعتبار المتابعة و عدم الفصل لا يناسب ذلك؛ لما عرفت من أنّه قد يتحقّق اليَبْس مع ثبوت المتابعة، و قد لا يتحقّق الجفاف مع الإخلال بها، فتعليل بطلان الوضوء بسبب الجفاف باعتبار المتابعة في الوضوء، ممّا لا مناسبة فيه أصلًا.

و قد يقال بالثاني؛ نظراً إلىٰ أنّ قوله (عليه السّلام)

فعرضت لك حاجة

، كناية عن التأخير الموجب لفوات المتابعة «3»، و

التعليل يقتضي كون البطلان مستنداً إلى التأخير فقط؛ لعدم مدخليّة الجفاف وجوداً و عدماً في مقتضى التعليل، كما لا يخفى. هذا و لكن مقتضىٰ هذا الوجه إلغاء قوله (عليه السّلام)

حتّى يبس وضوؤك

بحيث لم يكن له مدخليّة أصلًا، و هو خلاف ظاهر الرواية.

فالإنصاف: أنّ ظاهرها مدخليّة التأخير الذي كنّىٰ عنه بعروض الحاجة و الجفاف معاً؛ بحيث لا تجب إعادة الوضوء مع انتفاء واحد منهما، و هو الموافق لما حكي «4» عن الصدوقين «5»، بل المحكيّ عن طهارة الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) أنّه قال

______________________________

(1) وسائل الشيعة 1: 446، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 33، الحديث 2.

(2) جواهر الكلام 2: 255 256، انظر مستمسك العروة الوثقىٰ 2: 453.

(3) انظر المبسوط 1: 23، مفتاح الكرامة 1: 264/ السطر 5.

(4) المقنع: 16، الفقيه 1: 35.

(5) جواهر الكلام 2: 253، انظر الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 313.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 577

«لم نعثر علىٰ مصرّح بخلافه» «1»، و يؤيّده أخبار جواز أخذ الماء من اللحية للمسح فيما لو ذكر نسيانه في الصلاة «2»، فتدبّر.

ثمّ إنّ الظاهر من قوله (عليه السّلام)

حتّى يبس وضوؤك

، و إن كان هو اعتبار يَبْس محالّ الوضوء التي يجب غسلها، إلّا أنّه يستفاد من الأخبار- الدالّة على جواز أخذ الماء من اللحية للمسح الشاملة بإطلاقها لما إذا أخذ من اللحية المسترسلة: أنّه لا يبطل الوضوء إذا جفّ ما علىٰ محالّ الوضوء من النداوة و الرطوبة، و لكن كان الماء في اللحية باقياً، فالعبرة- حينئذٍ بجفاف محالّ الوضوء و ما يعدّ من توابعها بنظر العرف؛ و إن لم يجب غسله شرعاً.

فرع: في نذر التوالي في الوضوء

لو نذر التوالي؛ بمعنى التتابع في الوضوء أو نذر الوضوء المتوالي، فقد قيل بانعقاد

نذره و حرمة مخالفته «3»، و في بطلان الوضوء إذا أخلّ بالموالاة خلاف، و عن صاحب «المدارك» (قدّس سرّه) التفصيل بين الصورتين و البطلان في الثاني دون الأوّل «4».

أقول: أمّا انعقاد النذر و حرمة مخالفته، فغاية ما يمكن أن يقال في وجهه هو ما ذكره في «المصباح»: من أنّه لا شبهة في رُجحانها و لو

______________________________

(1) الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 313.

(2) انظر وسائل الشيعة 1: 407 409، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 21، الحديث 1 و 2 و 3 و 7.

(3) جواهر الكلام 2: 263، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 36.

(4) مدارك الأحكام 1: 230 231، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 331.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 578

لحسن الاحتياط؛ خروجاً من شبهة الخلاف، فضلًا عن رجحان المسارعة و الاستباق إلى الطاعة «1».

و لا يخفىٰ ما فيه؛ لأنّ رجحان الاحتياط لا يسري إلى العمل بحيث يصير راجحاً؛ أ لا ترى أنّه إذا دار الأمر في الخمر- مثلًا بين كونه موجوداً في هذا الإناء أو الإناء الآخر، فلا إشكال في وجوب الاحتياط بترك كلا الإناءين، إلّا أنّ ذلك لا يوجب كون ترك شرب الماء- الموجود في واحد من الإناءين راجحاً ذاتاً، فإنّ مرجع وجوب الاحتياط إلىٰ حكم العقل بتنجّز التكليف علىٰ كلّ تقدير، فيجب ترك كلا الإناءين؛ لئلّا يقع في محذور مخالفة التكليف.

و المقام- أيضاً كذلك، فإنّ الخروج من شبهة الخلاف و الأخذ بالاحتياط، لا يوجب صيرورة العمل راجحاً و مستحبّاً، كما هو ظاهر.

و أمّا رجحان المسارعة و الاستباق فلا يوجب ما ذكر؛ لأنّ المسارعة المستحسنة إنّما هي المسارعة إلى سبب المغفرة، و الاستباق الراجح إنّما هو الاستباق إلى الخيرات، و من المعلوم أنّ

سبب المغفرة و الخير إنّما هو الوضوء بتمامه، لا أجزاؤه و أفعاله، فمفاد الآيات هو استحباب السرعة إلى الوضوء في قبال تأخيره إلىٰ وقت آخر، و لا دلالة فيها على التسريع و الاستباق إلىٰ إتمام الوضوء بعد الشروع فيه، فتدبّر.

و بالجملة: فإثبات صحّة النَّذر و حرمة مخالفته بما ذكر في غاية الإشكال، فلا يبعد أن يقال بعدم انعقاده، و علىٰ تقديره فلا إشكال في صحّة الوضوء إذا أخلّ بالمتابعة؛ لأنّ الأمر النذري إنّما تعلّق بعنوان الوفاء بالنذر،

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 3: 36.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 579

و لا يكاد يسري من متعلّقه إلىٰ شي ء آخر، و الأمر الوضوئي إنّما تعلّق بعنوان الوضوء و مخالفة الأوّل بترك المتابعة و عدم رعاية الوفاء لا ربط لها بالوضوء أصلًا.

و ما يتوهّم: من حرمة ترك المتابعة، فيكون المأتيّ به محرّماً فيبطل «1».

ففيه: أنّه ليس في البين تكليف تحريمي أصلًا، و على تقديره فالمحرّم إنّما هو ترك الوفاء بالنَّذْر، لا ترك المتابعة. و علىٰ تقدير التسليم فحرمة ترك المتابعة لا تسري إلى الوضوء بوجه، كما هو واضح.

و بالجملة: فالإشكال في صحّة الوضوء- على تقدير صحّة النذر و انعقاده ممّا لا ينبغي الإصغاء إليه.

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 3: 36.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 581

الفرض و السنّة في الغسلات

اشارة

قال المحقّق (قدّس سرّه) في «الشرائع» «الفرض في الغسلات مرّة واحدة، و الثانية سُنّة، و الثالثة بِدْعة» «1».

أقول: لا خلاف و لا إشكال في كون الفرض هو غسل كلّ عضو بتمامه مرّة واحدة؛ و لو حصل ذلك بغرفات متعدّدة.

و أمّا استحباب الغسلة الثانية فقد نُسب إلى المشهور «2»، و حكي عن غير واحد من قدماء الأصحاب دعوى الإجماع عليه «3».

و المحكيّ عن جماعة

هو القول بجواز الغسلة الثانية و عدم الأجر عليها «4»، بل حكي عن بعضهم القول بكون الثانية بدْعة- أيضاً كالثالثة «5».

______________________________

(1) شرائع الإسلام 1: 15.

(2) الحدائق الناضرة 2: 319، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 38.

(3) مدارك الأحكام 1: 231، مفتاح الكرامة 1: 273/ السطر 23، انظر مستند الشيعة 2: 181 182، جواهر الكلام 2: 266، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 333، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 38.

(4) انظر الفقيه 1: 29/ 92، مدارك الأحكام 1: 233، مفتاح الكرامة 1: 273/ السطر الأخير، و 274، جواهر الكلام 2: 269.

(5) الخلاف 1: 87، المسألة 38، الحدائق الناضرة 2: 319 320، انظر جواهر الكلام 2: 269 و 274.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 582

و منشأ الاختلاف هو اختلاف الأخبار الواردة في هذا الباب بحسب الظاهر، فلا بدّ من نقلها ليظهر الحال، فنقول:

في أدلّة كون الوضوء مرّة واحدة

أمّا ما يدلّ منها علىٰ أنّ الوضوء مرّة واحدة فكثيرة:

منها: ما رواه ميسر عن أبي جعفر (عليه السّلام)، قال

الوضوء واحد، و وصف الكعب في ظهر القدم «1»

و روى الحسين بن سعيد مثله، إلّا أنّه قال

واحدة واحدة.

و منها: رواية يونس بن عمّار قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الوضوء للصلاة، فقال

مرّة مرّة هو «2».

و منها: رواية عبد الكريم- يعني ابن عمرو قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الوضوء، فقال

ما كان وضوء علي (عليه السّلام) إلّا مرّة مرّة «3».

و هذه الرواية و نظائرها لها ظهور قويّ في عدم استحباب الغسلة الثانية؛ إذ من البعيد أن تكون مستحبّة مع مداومة علي (عليه السّلام) علىٰ تركها، كما هو ظاهر الرواية.

و دعوىٰ: أنّ تركها يحتمل أن يكون لرعاية مستحبّ أهمّ؛ و لو مثل

الاستباق و المسارعة إلىٰ غايات الوضوء، كما هو الشأن في جميع المستحبّات المتزاحمة،

______________________________

(1) الكافي 3: 26/ 7، تهذيب الأحكام 1: 75/ 189، و: 80/ 205، الاستبصار 1: 69/ 210، وسائل الشيعة 1: 435، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 1.

(2) الكافي 3: 26/ 6، تهذيب الأحكام 1: 80/ 206، الإستبصار 1: 69/ 211، وسائل الشيعة 1: 437، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 6.

(3) الكافي 3: 27/ 9، تهذيب الأحكام 1: 80/ 207، الإستبصار 1: 70/ 212، وسائل الشيعة 1: 437، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 7.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 583

التي كانوا يتركونها لتفضيل الأرجح عليها «1».

مدفوعة: بأنّ ذلك لا يناسب مع ما حكي عنهم (عليهم السّلام) من الإتيان بمستحبّات الوضوء كثيراً، مع أنّ ذلك لا يتلاءم مع المداومة على الترك.

كما أنّ دعوى: كون ذلك حكاية للفعل و بياناً للعمل، و ترك التثنية في مقام العمل لا يدلّ علىٰ عدم رجحانها «2».

مدفوعة: بوقوع هذه الحكاية جواباً عن السؤال عن كيفيّة الوضوء، فلا بدّ من الأخذ بظاهرها بلحاظ هذه الحيثيّة، كما لا يخفى.

و منها: رواية حمّاد بن عثمان قال: كنت قاعداً عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، فدعا بماء فملأ به كفّه، فعمّ به وجهه، ثمّ ملأ كفّه، فعمّ به يده اليمنىٰ، ثمّ ملأ كفّه، فعمّ به يده اليسرىٰ، ثمّ مسح علىٰ رأسه و رجله، و قال

هذا وضوء من لم يُحدث حدثاً؛ يعني به التعدّي في الوضوء «3».

و منها: مرسلة الصدوق قال: قال الصادق (عليه السّلام)

و اللّٰه ما كان وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) إلّا مرّة مرّة «4».

و منها: مرسلته الأُخرى، قال: و

توضّأ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) مرّة مرّة، فقال

هذا وضوء لا يقبل اللّٰه الصلاة إلّا به «5».

______________________________

(1) مصباح الفقيه، الطهارة 3: 44.

(2) نفس المصدر.

(3) الكافي 3: 27/ 8، وسائل الشيعة 1: 437، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 8.

(4) الفقيه 1: 25/ 76، الإستبصار 1: 70/ 212، وسائل الشيعة 1: 438، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 10.

(5) الفقيه 1: 25/ 76، وسائل الشيعة 1: 438، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 11.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 584

و يؤيّد مضمون هذه الأخبار- بل يدلّ عليه مضافاً إلى الآية الشريفة «1» الآمرة بغسل الوجوه و الأيدي و مسح الرؤوس و الأرجل الظاهرة في أنّ الواجب هو إيجاد الغسل و المسح، و من المعلوم أنّهما يتحقّقان بأوّل مصداق وجد منهما، فلا يبقى مجال للأمر بعده حتّى يؤتىٰ بالغسلة الثانية بداعيه الأخبار الواردة في الوضوءات البيانيّة، فإنّها تدلّ علىٰ أنّه (عليه السّلام) غسل الوجه بغرفة واحدة و اليدين بغرفتين؛ من دون أن يكرّر الغسل أصلًا و حينئذٍ فرفع اليد عن ظهور الأخبار المتقدّمة يحتاج إلىٰ ظهور أقوى منه، فنقول:

حول أدلّة استحباب الغسلة الثانية

ما يتوهّم أن يكون معارضاً للأخبار المتقدّمة إنّما هو روايات ظاهرها أنّ الغسلة الثانية ليست كالغسلة الثالثة في كونها بدعة:

منها: رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الوضوء، قال

اعلم أنّ الفضل في واحدة، و من زاد على اثنتين لم يوجر «2».

و هذه الرواية لا تدلّ على استحباب الثانية؛ بدعوىٰ: أنّه (عليه السّلام) رتّب الحكم بعدم الأجر علىٰ من زاد على اثنتين، فيدلّ علىٰ أنّ من اقتصر عليهما يؤجر كذلك؛ لأنّه من المحتمل أن يكون المراد

نفي ترتّب الأجر على مجموع الوضوء في صورة الزيادة عليهما، بخلاف ما إذا اقتصر على اثنتين، فإنّه يوجر علىٰ أصل الوضوء، و ليس فيه- حينئذٍ دلالة علىٰ أنّه يوجر على الغسلة الثانية، كما لا يخفى.

______________________________

(1) المائدة (5): 6.

(2) المستطرفات، ضمن السرائر: 3/ 553، وسائل الشيعة 1: 441، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 27.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 585

و منها: رواية معاوية بن وهب، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الوضوء، فقال

مثنى مثنى «1».

و مثلها ما رواه صفوان عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

الوضوء مثنى مثنى «2».

و ظاهرهما لزوم الاثنتين، و عدم كفاية الاقتصار على الغسلة الواحدة، مع أنّه خلاف الإجماع قطعاً، فاللازم رفع اليد عن ظاهرهما، و حينئذٍ فيتساوى احتمال كون المراد استحباب الغسلة الثانية، و احتمال كون المراد مجرّد الجواز، و لا ترجيح لأحد الاحتمالين على الآخر، و لا يكون لهما ظهور أصلًا، فضلًا عن صلاحيّتهما للمعارضة مع الأخبار المتقدّمة و تقدّمهما عليها، كما هو ظاهر.

و منها: رواية عبد اللّٰه بن بكير عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

من لم يستيقن أنّ واحدة من الوضوء تُجزيه لم يوجر على الثنتين «3».

بدعوىٰ أنّ مفهومها: ثبوت الأجر و ترتّبه علىٰ الثنتين بالنسبة إلىٰ من استيقن كفاية الواحدة و إجزاءها «4».

و لكنّه لا يذهب عليك أنّ المفهوم هو سلب عدم الأجر على الثنتين؛ لأنّه عبارة عن نفي الحكم الثابت في المنطوق إيجاباً أو سلباً، فالمعنىٰ- حينئذٍ أنّ المستيقن ليس كغيره في عدم الأجر على الثنتين، فلا ينافي أنّ الأجر بالنسبة

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 80/ 208، الإستبصار 1: 70/ 213، وسائل الشيعة 1: 441، كتاب الطهارة، أبواب

الوضوء، الباب 31، الحديث 28.

(2) تهذيب الأحكام 1: 80/ 209، الإستبصار 1: 70/ 214، وسائل الشيعة 1: 442، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 29.

(3) تهذيب الأحكام 1: 81/ 213، الإستبصار 1: 71/ 218، وسائل الشيعة 1: 436، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 4.

(4) جواهر الكلام 2: 267.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 586

إليه كان مترتّباً على الاولىٰ فقط.

و منها: رواية زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

الوضوء مثنى مثنى من زاد لم يوجر عليه.

و حكىٰ لنا وضوء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم)، فغسل وجهه مرّة واحدة، و ذراعيه مرّة واحدة، و مسح رأسه بفضل وضوئه و رجليه «1».

و يحتمل أن يكون الضمير في قوله (عليه السّلام)

لم يوجر عليه

راجعاً إلى نفس الوضوء، فمفاده- حينئذٍ ثبوت الأجر في صورة الاقتصار على الاثنتين، أمّا كونه مترتّباً علىٰ كلتيهما فلا، بل ذيله قرينة على الخلاف.

فظهر ممّا ذكرنا: أنّه لا ينهض شي ء من هذه الأخبار لإثبات استحباب الغسلة الثانية؛ حتّى يعارض الأخبار المتقدّمة الظاهرة في عدم استحبابها، فينبغي حملها علىٰ مجرّد الجواز، كما يدلّ عليه الأخبار الكثيرة:

مثل رواية ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، قال

الوضوء واحدة فرض، و اثنتان لا يوجر، و الثالث بدعة «2».

و مرسلة الصدوق قال: قال الصادق (عليه السّلام)

من توضّأ مرّتين لم يوجر «3».

و رواية داود الرّقّي الطويلة، قال: دخلت علىٰ أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام)، فقلت له: جُعلتُ فداك كم عدّة الطهارة؟ فقال

ما أوجبه اللّٰه فواحدة، و أضاف إليها رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) واحدة؛ لضعف الناس «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 80/ 210،

الإستبصار 1: 70/ 215، وسائل الشيعة 1: 436، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 5.

(2) تهذيب الأحكام 1: 81/ 212، الإستبصار 1: 71/ 217، وسائل الشيعة 1: 436، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 3.

(3) الفقيه 1: 26/ 83، وسائل الشيعة 1: 438، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 14.

(4) اختيار معرفة الرجال: 312/ 564، وسائل الشيعة 1: 443، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 32، الحديث 2.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 587

و غيرها من الأخبار الدالّة علىٰ أنّ الغسلة الثانية إنّما شُرّعت لضعف الناس، أو وضعها رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله و سلّم) لهم، أو أنّها إسباغ، و أنّه لا يترتّب عليها الأجر أصلًا.

فالأقوىٰ- حينئذٍ هو القول بعدم استحباب الغسلة الثانية؛ وفاقاً للصدوق «1» و الكليني (قدّس سرّهما) «2» بل نسب الصدوق القول بالجواز إلى دين الإمامية، كما حكي عنه «3».

و أمّا الغسلة الثالثة: فلا إشكال في كونها بدعة، و يترتّب عليها الإثم، كما هو مقتضىٰ كثير من الأخبار، و قد تقدّم بعضها.

و في بطلان الوضوء بها إشكال، و مقتضى القاعدة التفصيل بين العامد و غيره؛ بالحكم بالبطلان في الثاني دون الأوّل، فإنّ العامد القاصد لامتثال الأمر الوضوئي مع علمه بأنّ الغسلة الثالثة لا تكون مشروعة، لا يعقل أن يقصد بها المشروعيّة؛ و يجعلها جزءاً للوضوء.

و من هنا نقول: إنّه لا معنى للحرمة التشريعيّة؛ لو كان معنى التشريع راجعاً إلى البناء علىٰ أنّ العمل الفلاني مشروع؛ مع العلم بعدم كونه كذلك؛ لاستحالة هذا البناء مع الالتفات إلىٰ خلافه.

نعم لو كان معناها راجعاً إلىٰ إظهار ما ليس من الدين بعنوان أنّه منه، و إلقائه بين الناس بهذا العنوان، فهذا

يرجع إلى البدعة المحرّمة.

و كيف كان، فلا وجه لبطلان وضوء العامد القاصد للامتثال بإتيان الغسلة

______________________________

(1) انظر مفتاح الكرامة 1: 274/ السطر 1 4، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 47.

(2) نفس المصدر.

(3) انظر أمالي الصدوق: 510 و 514، مفتاح الكرامة 1: 274/ السطر 1 4، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 47.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 588

الثالثة أصلًا.

و دعوىٰ: تقيّد منويّة بذلك، فلا يتحقّق منه قصد امتثال الأمر المتعلّق بالوضوء «1».

مدفوعة: بما عرفت من أنّه- مع كونه قاصداً من أوّل الأمر للإتيان بالوضوء الصحيح لا يُعقل أن يتقيّد منويّة بذلك أصلًا، و هذا بخلاف الجاهل المقصّر أو القاصر، فإنّه يمكن أن يتحقّق منه قصد الامتثال بإتيان الوضوء المشتمل على الغسلة الثالثة؛ لجهله بعدم مشروعيّتها. هذا هو مقتضى القاعدة.

و أمّا الروايات:

فمنها: قوله (عليه السّلام)

من تعدّىٰ في الوضوء كان كناقضه «2».

و لا يبعد أن يقال: بأنّ المراد منه هو التعدّي في الوضوء بعنوان أنّه منه، فلا يشمل مثل العالم العامد. و المسألة مع ذلك لا تخلو عن الإشكال.

ليس في المسح تكرار

و الظاهر أنّه ممّا لا خلاف فيه، بل حكي عن غير واحد دعوى الإجماع عليه «3»، و لا ينافيه ما ورد في بعض الروايات المتقدّمة من قوله (عليه السّلام)

______________________________

(1) انظر جواهر الكلام 2: 279.

(2) علل الشرائع: 279/ 2، وسائل الشيعة 1: 440، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 31، الحديث 24.

(3) المعتبر 1: 160، منتهى المطلب 1: 71/ السطر 29، مدارك الأحكام 1: 235، مفتاح الكرامة 1: 275/ السطر 20، الطهارة، ضمن تراث الشيخ الأعظم 2: 346، مصباح الفقيه، الطهارة 3: 53.

كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، ص: 589

الوضوء مثنى مثنى «1»

الشامل بإطلاقه للغسل و المسح معاً؛ لأنّ الظاهر أنّ النظر

في مثله إلى العامّة القائلين بجواز الغسلة الثالثة «2»، و لا نظر له إلى المسح أصلًا.

و لكن هنا رواية ظاهرة في جواز المرّة الثانية بالنسبة إلى المسح أيضاً، و هي رواية الأعمش، عن جعفر بن محمّد (عليهما السّلام)، قال

هذه شرائع الدين لمن أراد أن يتمسّك بها و أراد اللّٰه هُداه، إسباغ الوضوء كما أمر اللّٰه في كتابه الناطق: غسل الوجه و اليدين إلى المرفقين، و مسح الرأس و القدمين إلى الكعبين مرّة مرّة، و مرّتان جائز

الحديث «3».

فإنّ الظاهر أنّ كلمة «مرّة مرّة» إنّما ترجع إلى الغسل و المسح؛ إذ إرجاعه إلىٰ خصوص الغسل مع توسّط المسح ممّا لا وجه له. و إذا ثبت ذلك يظهر أنّ كلمة «مرّتين» أيضاً ترجع إلىٰ كليهما.

هذا و لكن الرواية رواها في «الخصال» بإسناده عن الأعمش، و سند الصدوق إليه لا يكون صحيحاً.

______________________________

(1) تقدّمت في الصفحة 586.

(2) سنن الترمذي 1: 34، بداية المجتهد 1: 13، فتح الباري 1: 260.

(3) الخصال: 603/ 9، وسائل الشيعة 1: 397، كتاب الطهارة، أبواب الوضوء، الباب 15، الحديث 18.

________________________________________

خمينى، سيد روح اللّٰه موسوى، كتاب الطهارة (تقريرات، للإمام الخميني)، در يك جلد، مؤسسه تنظيم و نشر آثار امام خمينى قدس سره، ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.